أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

عبد العزيز كاظم البهادلي

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبد العزيز كاظم البهادلي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: ١٦٥

سيرة النبي وأهل البيت

وشرفك في قومك ، وأمانتك عندهم ، وحسن خلقك ، وصدق حديثك ، فقم إلىٰ عمومتك وقل لهم أن يخطبوني لك من أبي ، ولا تخف من كثرة المهر فهو عندي ، وأنا أقوم لك بالهدايا والمصانعات ، فسِرْ وأحسن الظنّ فيمن أحسن الظنّ بك (١).

فعندها وافق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج من عندها وذهب إلىٰ منزل عمّه أبي طالب وقد ملأ السرور وجهه ، فوجد أعمامه مجتمعين بانتظاره ، فلمحه عمّه أبو طالب قائلاً له : يا ابن أخي ، ما أعطتك خديجة ؟ أظنّها قد غمرتك في عطاياها ! قال : « يا عمّ لي إليك حاجة » ، قال أبو طالب عليه‌السلام : وما هي يا محمّد ؟ قال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تنهض أنت وأعمامي في هذه الساعة ، وتخطب لي السيدة خديجة ».

فقام أعمام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بزعامة أبي طالب عليه‌السلام متوجهين إلىٰ خويلد أبي خديجة عليها‌السلام لطلب يد كريمته إلىٰ ابنهم الأمين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى أثر ذلك اجتمعت وجوه قبيلة خديجة ، فتقدّم أبو طالب رافعاً صوته بهذه الكلمات :

الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذريّة إسماعيل ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكّام علىٰ الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه.

ثمّ إنّ ابن أخي محمّد بن عبدالله لا يُوزن برجلٍ من قريش إلّا رجح ، ولا يُقاس بأحدٍ إلّا عظم عنه ، وإن كان في المال قلّ فإنّ المال رزق حائل وظلّ زائل ، وله في خديجة رغبة ، ولها فيه رغبة ، وصداق ما سألتموه عاجله من مالي ، وله والله خطب عظيم ونبأ شائع (٢).

_____________

(١) بحار الأنوار ١٦ : ٩ و ٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠ ، الفقيه ٣ : ٢٥١ / ١١٩٨ باب الولي والشهود والخطبة والصداق.

٦١

وبعد أن انتهى أبو طالب من خطبته ، أجاب عمّها الأكبر عمرو بن أسد قائلاً : هو الفحل لا يقدع أنفه (١) ، ثمّ قام ابن عمّها ورقة بن نوفل خطيباً ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضّلنا علىٰ ما عددت ، فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا تنكر العشيرة فضلكم ، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم ، فاشهدوا علي معاشر قريش بأني قد زوّجتُ ابنةَ عمّي خديجة بنت خويلد من محمّد بن عبدالله ، علىٰ أربعمائة دينار.

ثمّ سكت ورقة ، وتكلّم أبو طالب ، وقال : قد أحببت أن يشركك عمّها ، فقال عمّها : اشهدوا عليّ يا معشر قريش أنّي قد أنكحت محمّد بن عبدالله ، خديجة بنت خويلد ، وشهد عليّ بذلك صناديد قريش.

وتذكر روايات السيرة انه سمع الناس مناديا ينادي من السماء : ان الله تعالىٰ قد زوّج بالطاهر الطاهرة وبالصادق الصادقة ثمّ رفع الحجاب ، وخرجت منه جوارٍ بأيديهم نثار ينثرنه علىٰ الناس ، وأمر الباري عزّوجلّ جبريل أن يرسل الطيب علىٰ الناس علىٰ البرّ والفاجر ، فكان الرجل يقول لصاحبه : من أين لك هذا الطّيب ؟ فيقول : هذا من طيب خديجة ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

ثمّ نهض الناس إلىٰ منازلهم ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحفّه بنو هاشم إلىٰ منزل أبي طالب وهو كالقمر يتوسّط النجوم ، فاجتمعت نساء قريش ونسوان بني عبد المطلب وبني هاشم في دار السيدة خديجة واُقيمت مجالس الفرح والسرور.

_____________

(١) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٧٢ ـ مؤسّسة عزّ الدين ـ ١٤٠٦ ه.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ١٩ و ٧٧.

٦٢

ثمّ إنّ خديجة قالت لابن عمها ورقة بن نوفل : يا ابن عمّ ، خذ هذه الأموال وأعطها محمّداً ، وقل له إن هذه الأموال هدية له وهي ملكه يتصرّف بها كيف يشاء ! وعند ذلك أولم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحر جزوراً وقيل جزورين ، وأطعم الناس ، وعندها فرح بنو هاشم فرحاً شديداً ومنهم عمّه أبو طالب حيث قال : الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ، ودفع الغموم ، وكانت تلك الوليمة أول وليمة يولمها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبعد تهيئة بيت الزواج ومستلزماته جاءت عمّات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتمع السادات والأكابر ، ثمّ أقبل أبو طالب وبنو هاشم وفي وسطهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أعمامه وعليه ثياب من قباطي مصر وعمامة حمراء وعبيد بني هاشم بأيديهم الشموع والمصابيح ، فلما وصلوا دار خديجة دخل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكأنه القمر في تمامه وأعمامه محدقون به كأنهم أُسود الثرىٰ في أحسن زينة يكبّرون الله ويحمدونه ، فدخلوا جميعاً إلىٰ دارها ، وجلس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في المجلس الذي هيئ له ونوره قد علا نور المصابيح ، فذهلت النساء مما رأين من حسنه وجماله ، ثمّ بعدها تهيّأت النساء لاستقبال السيدة خديجة ، فخرجت تحفّها نساء بني هاشم ، وأنشدت صفية بنت عبد المطّلب :

جاء السرور مع الفرح

ومضى النحوس مع الترح

أنوارنا قد أقبلت

والحال فيها قد نجح

بمحمّد المذكور في

كل المفاوز والبطح

لو أن يوازن أحمد

بالخلق كلّهم رجح

ولقد بدا من فضله

لقريش أمر قد وضح

ثمّ السعود لأحمد

والسعد عنه ما برح

بخديجة بنت الكمال

وبحر نايلها طفح

٦٣

يا حسنها في حليها

والحلم منها ما برح (١)

ثمّ أوقفنها بين يدي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ بعد ذلك أجلسوها مع عريسها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخرج الجميع عنها وانفرد العريسان في أحسن حال وأرخىٰ بال.

وأقام أبو طالب لأهل مكّة وليمة عظيمة ولمدّة ثلاثة أيام حضرها الحاضر والبادي ، وكان من الذين جاءوا ليباركوا العريسين بعرسهما أُم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرضاعة السيدة حليمة السعدية ، ثمّ لتعود ومعها أربعون رأساً من الغنم هبة وهديّة من عروس ولدها الكريمة إعظاماً لها لأنّها أرضعت زوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهنا تندّت عينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتفقّد اُمه سيدة الاُمهات ـ آمنة ـ بين الحاضرات في عرسه ولكن دون جدوىٰ ! وإذا باليد اللطيفة الرقيقة تأسو الجرح القديم في حنان غامر حيث انه يجد فى عروسه المباركة عوضاً جميلاً عما قاساه من طول الحرمان ، وكان عمره الشريف خمساً وعشرين سنة ، أمّا عمرها فقد قيل إنه أربعون سنة ، وتذكر روايات اُخرىٰ أن عمرها كان ثمان وعشرين سنة ، وليس ذلك علىٰ قدر من الأهمّية (٢) ؛ لأن الإرادة الإلٰهيّة شاءت أن تكون السيدة خديجة قرينة للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصبح أم المؤمنين الاُولىٰ ، وهي فضيلة سبقت بها نساء الأولين والآخرين !

قال ابن شهرآشوب : « روى البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما ، والسيد المرتضىٰ في كتابه الشافي وأبو جعفر في التلخيص : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوّج بها

_____________

(١) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢٤٨ (فارسي).

(٢) قال الاربلي عن ابن حماد : انّ عمرها ثمان وعشرون ، وأيّده صاحب البحار نقلاً عن ابن عباس ١٦ : ١٢ ، ومثله ذكر البلاذري في أنساب الأشراف ١ : ١٠٨.

٦٤

وكانت عذراء » (١).

وقد ذكر ابن هشام وغيره ، أنّ السيدة أُم المؤمنين خديجة كانت قد تزوّجت في الجاهلية من أبي هالة التميمي ، ثمّ مات أبو هالة وقد ولدت له السيدة خديجة الصحابي الجليل (هند) (٢) راوي حديث صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولادتها الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام :

لقد أثمرت شجرة النبوّة ، وأذنَ الله لدوحة الرسول أن تمتدّ فروعها وتستطيل آفاقها بميلاد فاطمة في أجيال هذه الاُمّة ، لقد ولدت فاطمة عليها‌السلام في مكّة المكرمة في جمادى الآخرة يوم العشرين منه بعد البعثة بخمس سنين (٣) ، فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته الحبيبة بالفرح وسمّاها فاطمة عليها‌السلام (٤).

فكانت صلوات الله عليها تحمل روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته وأخلاقه ، وهي الوارث والشبيه ، إذ لم يكن في الدنيا أحد يماثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في صفته وشمائله كفاطمة.

لقد غمرت البهجة والسرور بيت الأبوين ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والسيدة خديجة ، بمجيء فاطمة ؛ إذ انّها ملتقىٰ الحبّ بينهما ، وثمرة العلاقة الوديّة في

_____________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ١ : ١٣٨ باب ذكر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصل في أقرباءه وخُدّامه.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ ، معاني الأخبار / الصدوق : ٨٠.

(٣) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٧٩ / ١٨ ، الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ باب مولد الزهراء فاطمة عليها‌السلام.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الصدوق ٢ : ٤٦ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي سمّيتها فاطمة لأنّ الله عزّوجلّ فطمها وفطم من أحبّها من النار » ، ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٢٦.

٦٥

حياتهما ، وفرع النبوة الشامخ وظلّه المستطيل ، ومستودع نور النبوة المتقلّب في أصلاب الساجدين ، فحقّ لهذا البيت النبوي أن يزهو بمناغاة فاطمة ، ويمتلئ سروراً بابتساماتها المشرقة الوليدة ، لقد ولدت فاطمة ودرجت في بيت النبوة ، وترعرعت في ظلال الوحي ، ورضعت من لبن اُمّها خديجة حبّ الإيمان ومكارم الأخلاق وحنان خاتم الأنبياء والرسل (١) ، وقد وردت عدة روايات تشير إلىٰ عظمة البتول وهي جنين في بطن اُمّها خديجة عليها‌السلام (٢).

وفاتها عليها‌السلام :

لمّا رأت قريش أن الإسلام بدأ يتّسع ويزيد ، وأن أموال السيدة خديجة أصبحت كلّها في يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومساعده عمّه أبي طالب عليه‌السلام ووزيره ابن عمّه وتلميذه علي عليه‌السلام ، اجتمعت علىٰ مقاطعة ومنابذة بني هاشم رضوان الله عليهم والتضييق عليهم بمنعهم حضور الأسواق فلا يبايعونهم ولا يشارونهم ، ولا يقبلوا لهم صلحاً ولا تأخذهم بهم رأفة حتىٰ يسلّموا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله للقتل أو ترك الدعوة إلىٰ الله عزّوجلّ.

فحوصر بنو هاشم وبنو عبد المطلب في شعب أبي طالب ، وبقي المسلمون ثلاث سنوات متتالية حتىٰ جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً ، ونتيجة لذلك الحصار فقد مرضت السيدة خديجة الكبرىٰ مرضاً شديداً ، ودخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تجود بنفسها ووقف ينظر إليها والألم يعتصر قلبه الشريف ثمّ قال : « بالكُره منّي ما أرى ».

_____________

(١) الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام / مؤسسة البلاغ : ٢٠.

(٢) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٧ / ١٧ باب ولادة فاطمة عليها‌السلام.

٦٦

ولمّا توفّيت خديجة عليها‌السلام جعلت ابنتها الصدّيقة فاطمة عليه‌السلام تتعلّق بأبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تبكي بكاءً شديداً وتقول له : « أين اُمي ؟ أين اُمي ؟ » فنزل جبرئيل بالحال قائلاً لرسول الله : « قل لفاطمة : إنّ الله بنىٰ لاُمّك خديجة بيتاً في الجنّة من قصب (١) ، لا نصب فيه ولا صخب » (٢).

كانت وفاة السيدة أُم المؤمنين خديجة في اليوم العاشر من شهر رمضان ، وفي العام العاشر لمبعثه الشريف عن عمر ناهز الخامسة والستّين سنة ، وتزامنت وفاتها مع فقدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعامة الثانية له والمدافع الأوّل عنه وهو عمّه أبو طالب ، وكانت وفاته في اليوم السادس من شهر رمضان ، فسمّاه عام الحزن (٣) وكان ذلك قبل الهجرة المباركة بثلاث سنين. ثمّ أنّه لمّا جهّزها نزل بقبرها ، ودفنها في منطقة الحجون (٤) (وهو جبل بأعلىٰ مكّة محيط بها) بجنب قبر أُمّه آمنة عليهما‌السلام وقبور أهل بيتها وأرحامها ، وقد شرّف الله عزّوجلّ الحجون بها كما شرّف البقيع بأجساد أولادها أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وبهذا ورد الحديث الشريف الواصف عظمة مقبرة الحجون : « الحجون والبقيع يؤخذان

_____________

(١) القصب : الزبرجد الأخضر المرصّع بالياقوت الأحمر.

(٢) سيرة ابن إسحاق : ٢٤٣ باب وفاة خديجة بنت خويلد عليها‌السلام.

(٣) لما فقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كُلّاً من عمّه أبو طالب وزوجته الوفية خديجة شنأ المقام بمكّة ودخله حزن شديد وشكا ذلك إلىٰ جبرئيل عليه‌السلام فأوحىٰ الله عزّوجلّ إليه أن اخرج من القرية الظالم أهلها ، فليس لك بمكّة ناصر بعد أبي طالب وأمره بالهجرة. الكافي / الكليني ١ : ٤٤٠.

(٤) يومئذ لم تكن قد شرعت صلاة الميت كما ذكر الاربلي في كشف الغمّة ١ : ٥١٣.

٦٧

بأطرافهما وينثران في الجنّة » (١).

ولذا ابَّنهما أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث ذكرها وذكر أباه أبا طالب عليه‌السلام منشداً :

أعَيْنَيَّ جودا بارك الله فيكما

علىٰ هالِكَينِ ما ترىٰ لهما مثلا

علىٰ سيّد البطحاء وابن رئيسها

وسيّدة النسوان أوّل من صلّىٰ

مهذّبة قد طيّب الله خيمها

مباركة والله ساق لها الفضلا

مصابهما أدجى لها الجو والهوا

فبتُّ أقاسي منهما الهمّ والثكلا

لقد نصرا في الله دين أحمد

علىٰ من بغىٰ في الدين قد رعيا إلّا (٢)

وهكذا قضت أمّ المؤمنين خديجة عليها‌السلام نحبها بعد جهاد مرير في خدمة الدين الحنيف ، وتركت من المآثر الخالدة ما تنوء به الجبال ، فهي المرأة التي آثرها الله عزّوجلّ بالدور العظيم في بناء الإسلام رمزاً للوفاء والمحبّة والايثار لزوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي أوّل امرأة صدقت به صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمنت به ، وبذلت مالها ونفسها ، وهان كل شيء عندها في سبيله ، مُطْلقةً كلمتها الأخيرة وهي علىٰ فراش الموت قائلة له وظلال الموت ترفرف عليها : (يا رسول الله ... إني قاصرة في حقّك فاعفني ، ولم أكن قد أدّيت حقّك ، إن كان لي شيء أطلبه منك فهو رضاك) (٣).

فسلامٌ عليك يا أُمّ المؤمنين يوم ولدت ويوم تبعثين ، وقد أسكنك الله في الجنة في بيت من قصب لا نصب فيه ولا صخب ، وعند زوجك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

_____________

(١) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٢٢١ / باب حُجُنْ.

(٢) منتهى الآمال / عباس القمي ١ : ١١٩.

(٣) بين يديّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله / د. السيد محمّد بحر العلوم ٢ : ٢٨.

٦٨

شفاعة الأوّلين والآخرين.

رابعاً : أُم السبطين الحسن والحسين عليهم‌السلام

أسماؤها وكناها وألقابها عليها‌السلام : هي فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين ، وبضعة المصطفىٰ ، وأُم أبيها ، وزوجة سيد الموحّدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأُم سيديّ شباب أهل الجنّة والتسعة المعصومين من ذرّية الحسين عليه‌السلام.

وقد ذكر الإمام الصادق عليه‌السلام تسعة أسماء لاُمّه فاطمة عليها‌السلام وهي : « فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحدّثة ، والزهراء » (١).

وهناك أسماء اُخرىٰ وردت في روايات اُخرىٰ وهي : الحرّة ، والسيدة ، والعذراء ، والحوراء ، ومريم الكبرىٰ ، والبتول (٢).

أما كناها فقد كانت تكنّىٰ بأُمّ أبيها ، وأُم السبطين ، وأُمّ الحسن ، وأُمّ الحسين ، وأُمّ الأئمة ، وغيرها (٣).

وأشهر ألقابها : سيدة نساء العالمين (٤) ، وسيدة نساء المؤمنين (٥) ، وسيدة نساء

_____________

(١) دلائل الإمامة / الطبري الإمامي : ٧٩ / ١٩ ، بحار الأنوار ٤٣ : ١٠ / ١.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ١٦ / ١٥ عن المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ١٣٣.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٨٠.

(٤) إحقاق الحقّ / القاضي التستري ١٠ : ٢٦ ، مستدرك الحاكم النيسابوري ٣ : ١٧٠ / ٤٧٤٠ ، عوالم السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام : ٨٨.

(٥) صحيح مسلم : ٩٩٥ / ٢٤٥٠ ، ط بيت الأفكار الدولية ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٠ / ٤٧٤٠.

٦٩

هذه الاُمة (١) ، وسيدة نساء أهل الجنة (٢).

شمائلها عليه‌السلام : كانت الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام تشبه أباها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلقاً وأخلاقاً ومنطقاً ، وقد جاء عن عائشة أنها قالت في وصفها : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وعن أُم سلمة ، قالت : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

وكانت الزهراء عليها‌السلام المثل الأعلىٰ للنساء في جميع صفات الكمال وفي كلّ الفضائل الإنسانية ، ومن هنا وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً بالحورية ، وسميت بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع من طلعتها.

سئل الصادق عليه‌السلام عن سبب تسمية أُمه فاطمة بالزهراء ، فقال : « لأنها كانت إذا قامت في محرابها يزهر نورها لأهل السماء ، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض » (٥).

وعن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : « كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليه‌السلام في أول النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب الشمس كالكوكب الدرّي » (٦).

_____________

(١) المصدر السابق.

(٢) صحيح البخاري : ٧١٧ باب مناقب فاطمة عليها‌السلام ، ط بيت الأفكار الدولية ـ الرياض ، كشف الغمّة ١ : ٤٥٣.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠ / ٣٨٧٢.

(٤) كشف الغمّة / الاربلي ١ : ٤٧١.

(٥) معاني الأخبار / الصدوق : ٦٤ / ١٥.

(٦) بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ١٦ / ١٤.

٧٠

ولادتها :

المشهور بين علماء الإمامية أن الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام ولدت في يوم الجمعة العشرين من جمادى الآخرة من السنة الخامسة بعد البعثة النبوية المباركة ، وبعد الإسراء بثلاث سنين (١).

قال الشيخ المظفّر في دلائل الصدق : « ولدت بعد البعثة بإجماعنا ، واختاره الحاكم في المستدرك ، فإنّه عنون بقوله : (ذكر ما ثبت عندنا من أعقاب فاطمة وولادتها) ، ثمّ روى أنّها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يتعقّبه الذهبي » (٢).

وذكر أكثر علماء العامة : أنها عليها‌السلام ولدت قبل البعثة ، واختلفوا في تاريخ الولادة ؛ فقيل : ولدت وقريش تبني البيت الحرام ، قبل النبوة بخمس سنين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن خمس وثلاثين سنة (٣). وقيل : قبل المبعث بسبع سنين وستة أشهر (٤) ، وقيل : بعد المبعث بسنة واحدة. (٥)

الآيات النازلة في شأنها :

خصّ سبحانه وتعالىٰ أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم الصدّيقة فاطمة بآيات كثيرة

_____________

(١) راجع : الكافي ١ : ٤٥٧ / ١٠ ، كشف الغمّة ١ : ٤٤٩ ، مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧ ، دلائل الإمامة : ٧٩ / ١٨.

(٢) دلائل الصدق / المظفّر ٢ : ٢٩٠.

(٣) راجع : تذكرة الخواص : ٢٧٥ ، ذخائر العقبىٰ : ٥٣ ، الإصابة ٤ : ٣٧٧.

(٤) الثغور الباسمة / السيوطي : ١٥٨.

(٥) مستدرك الحاكم ٣ : ١٧٦ / ٤٧٦٠ ، الاستيعاب ٤ : ٣٧٤.

٧١

أجمع المسلمون علىٰ نزولها فيهم سلام الله عليهم اهتماماً منه سبحانه وتعالىٰ بشأنهم ، وإعظاماً لمقامهم السامي ، وترغيباً لغيرهم من المسلمين في السير علىٰ هداهم والاقتداء بهم لا سيما وهم الأسوة الحسنة ، وفيما يلي نشير إلىٰ بعض تلك الآيات :

منها : قوله تعالىٰ : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١). وقد أجمع جمهور المسلمين بل وحتى الخوارج علىٰ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدعُ للمباهلة من النساء إلّا الصدّيقة فاطمة الزهراء ، وكذا لم يدعُ إلّا زوجها وابنيها عليهم‌السلام (٢).

ومنها : قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣) ، وقد أخرج الطبري في تفسيره من طرق شتىٰ اختصاص هذه الآية برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام. (٤)

ومنها : قوله تعالىٰ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٥) ،

_____________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

(٢) راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ من باب فضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، سنن الترمذي ٥ : ٢٢٥ / ٢٩٩٩ ، تفسير الرازي ٤ : ٩٠ ، مسند أحمد ١ : ١٨٥ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٣ / ٤٧١٩ وسائر كتب التفسير والمناقب.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

(٤) تفسير الطبري ٢٢ : ١٠ ـ ١٣ ، واُنظر كذلك : المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٢ ، مسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٧٢ / ٤٧٤٨ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٥٢ / ٣٢٠٦.

(٥) سورة الشورىٰ : ٤٢ / ٢٣.

٧٢

أخرج أحمد والطبراني وابن أبي هاشم والحاكم عن ابن عباس في شأن نزول هذه الآية فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هم : علي وفاطمة والحسنان عليهم‌السلام » (١).

ومنها : قوله تعالىٰ : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ) (٢) ، ذكر أغلب المفسرين أنّ شأن نزول هذه الآية كان بحقّ علي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام وفضّة ، وذلك لمّا مرض الحسن والحسين فنذروا سلام الله عليهم إن شفي الحسنان فإنهم يصومون ثلاثة أيام ، وبعد أن عوفيا شرعوا بالصيام ، وفي اليوم الأول من صيامهم طرق بابهم مسكين ، وفي اليوم الثاني يتيم ، وفي اليوم الثالث أسير ، فأعطوهم كل ما يملكون من طعام ، وكانوا لم يذوقوا إلّا الماء ، فأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرأىٰ ما نزل بهم من شدّة الحال ، فأنزل الله سورة ( هل أتىٰ ) بحقّهم عليهم‌السلام (٣).

كراماتها وخصائصها :

للزهراء البتول عليها‌السلام كرامات وفضائل كثيرة لا تحصىٰ ، وها نحن نكتفي بالنزر اليسير منها ، وهي :

انها بنت خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبنت سيدة الكمال أُم المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام ، وزوجة سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأُم إمامي الهدىٰ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فانظر إلىٰ أُسرتها تعرف مَن هي.

وإنها والفواطم أوّل النسوة المهاجرات برفقة علي عليه‌السلام إلىٰ المدينة ، وفيهم

_____________

(١) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٢٦.

(٢) سورة الدهر : ٧٦ / ٧.

(٣) اُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٥٣١ « ترجمة فضّة ».

٧٣

نزلت الآية الكريمة : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ) (١).

ولا أدري أية فضيلة أعظم من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها عليها‌السلام : « إنّ الله يغضب لغضبك ويرضىٰ لرضاك » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد نظر إليها وإلى زوجها وبنيها عليهم‌السلام : « أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم » (٣).

كما أنها عليها‌السلام أوّل امرأة تدخل الجنّة علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

وعن أُم سلمة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة عليها‌السلام : « ائتيني بزوجك وابنيك » ، فجاءت بهم : فألقىٰ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كساءً خيبرياً أصبناه من خيبر ، ثمّ رفع يديه فقال : « اللّهمَّ إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك وبركاتك علىٰ آل محمّد كما جعلتها علىٰ إبراهيم إنّك حميد مجيد » ، فرفعت الكساء لأدخل فجذبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يدي وقال : « لا يا أُمّ سلمة ، ولكنك علىٰ خير ». (٥)

وقال الإمام السبط الحسن عليه‌السلام : « رأيت أُمّي فاطمة عليها‌السلام قائمة في محرابها ليلة جمعة ، فلم تزل راكعة ساجدة حتىٰ انفجر عمود الصبح ، وسمعتها تدعو

_____________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٠.

(٢) أُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٥٢٢.

(٣) أُسد الغابة ٥ : ٥٢٢ ، مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٤٤٢ ، مستدرك الحاكم النيسابوري ٣ : ١٦١ / ٤٧١٣.

(٤) الفصول المهمّة / ابن الصباغ المالكي : ١٢٩ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٤ / ٤٧٢٣.

(٥) كنز العمال بهامش مسند أحمد ٥ : ٩٦.

٧٤

للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم ، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت : اُمّاه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت عليها‌السلام : يا بني الجار ثمّ الدار » (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لابن أعبد : « يا ابن أعبد ، ألا أخبرك عنّي وعن فاطمة ؟ كانت ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكرم أهله عليه ، وكانت زوجتي فَجَرّتْ بالرحىٰ حتىٰ أثّرت الرحىٰ بيدها ، واستقت بالقربة حتىٰ أثّرت القربة بنحرها ، وقَمّتْ البيت حتىٰ اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرر » (٢).

وكانت فاطمة عليها‌السلام إذا دخلت علىٰ النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، كما كانت تصنع هي به (٣). وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قدم من غزو أو سفر ، بدأ بالمسجد فصلّىٰ فيه ركعتين ، ثم قدم علىٰ فاطمة ، ثم يأتي أزواجه (٤). وأخرج الحاكم عن الصحابة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة عليها‌السلام ، وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة عليها‌السلام (٥).

وقال جابر الأنصاري : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام وعليها كساء من أجلّة الإبل ، وهي تطحن بيديها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « يا بنتاه تجرّعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة » فقالت : « الحمد لله علىٰ

_____________

(١) دلائل الإمامة : ١٥١ / ٦٥ ، علل الشرائع : ١٨١ / ١.

(٢) صفوة الصفوة / ابن قيم الجوزية ٢ : ٦.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٧.

(٤) الاستيعاب ٤ : ٣٧٦.

(٥) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٦٩ / ٤٧٣٩.

٧٥

نعمائه ، والشكر لله علىٰ آلائه » (١).

وعن أبي سعيد الخدري قال : أصبح علي بن أبي طالب عليه‌السلام ساغباً فقال : « يا فاطمة ، هل عندك شيء تغدينه ؟ » قالت : « لا والذي أكرم أبي بالنبوة ، وأكرمك بالوصية ، ما أصبح الغداة عندي شيء ، وما كان شيء أطعمناه من يومين إلاّ شيء كنت أُؤثرك به علىٰ نفسي وعلىٰ ابنيّ هذين الحسن والحسين عليهما‌السلام ». فقال علي عليه‌السلام : « يا فاطمة ، ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً ! » فقالت فاطمة عليها‌السلام : « يا أبا الحسن ، إنّي لأستحي من إلٰهي أن أكلّفك ما لا تقدر عليه » (٢).

وقالت أُم جعفر : إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت لأسماء بنت عميس : « يا أسماء ، إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء أنه يطرح علىٰ المرأة الثوب فيصفها ! » فقالت أسماء : يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة ؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ، ثمّ طرحت عليها ثوباً فقالت فاطمة عليها‌السلام : « ما أحسن هذا وأجمله ! ».

وتذكر أخبار السيرة أن الصديقة فاطمة عليها‌السلام أول امرأة غُطّيَ نعشها في الإسلام (٣) ، وهذه السُّنة للسيدة الصديقة الزهراء تمثّل غاية الحرص علىٰ الحشمة ورعاية الحجاب الشرعي ، وهي المثل الأعلىٰ الذي تقتدي به المرأة المسلمة في حياتها ومماتها من أجل حفظ كرامتها عن أنظار الآخرين.

_____________

(١) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٥٧١.

(٢) كشف الغمّة / الاربلي ١ : ٤٦٩ ، ذخائر العقبىٰ ٤٥ : ٤٦.

(٣) الاستيعاب / ابن عبد البر ٤ : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٧٦

خطوبتها عليها‌السلام :

روىٰ الخوارزمي بإسناده عن أُم المؤمنين أُم سلمة ، وسلمان المحمّدي رضي‌الله‌عنه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكلٌّ قالوا : أنّه لمّا أدركت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدرك النساء ، خطبها أكابر قريش من أهل السابقة والفضل في الإسلام والشرف والمال ، وكان كلّما ذكرها رجل من قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجهه ... قائلاً : « إنّ أمرها إلىٰ ربّها إن شاء أن يزوّجها زوّجها ! » (١).

وكان من ضمن الذين تقدّموا لخطبتها إلىٰ أبيها أبو بكر ، حيث خطبها فردّه النبي قائلاً : « أنتظر بها قضاء الله » ، ثمّ جاء عمر فخطبها إلىٰ أبيها فردّه النبي قائلاً له : « أنتظر بها قضاء الله » ، ثمّ جاء عثمان وعبد الرحمن بن عوف إلىٰ أبيها ، فابتدر عبد الرحمن بن عوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً له : يا رسول الله ، تزوّجني فاطمة ابنتك ، وقد بذلت لها من الصداق مائة ناقة محمّلة كلّها من قباطي مصر ، وعشرة آلاف دينار. ولم يكن يومئذ أغنىٰ وأيسر من عبد الرحمن بن عوف ، وتقدم بعده عثمان بخطبتها إلىٰ أبيها بمهرٍ أكثر من صاحبه عبد الرحمن ، فردهما رسول الله مردّدا قوله المشهور : « إنّي أنتظر بها قضاء الله » (٢).

جهازها عليها‌السلام ، وأثاث بيتها :

كان جهازها في غاية التواضع ، إذ تكوّن من قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، وعباءة بيضاء ـ قطوانية (٣) ، وسرير مُزّمل ( ملفوف ) بشريط

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٢٤.

(٢) إحقاق الحق ٤ : ٤٧٤ ، عن تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي.

(٣) قطوان : موضع بالكوفة تُعمل به عباءات العرائس البيضاء.

٧٧

من الخوص المفتول ، وقطيفة خيبرية ، وهي دثار له خمل ، وفراشين من خيش مصر (الكتان المعروف بمصر) حشو إحداهما ليف ، وحشو الآخر من صوف الغنم ، وأربع مرافق (متكئات) ، حشوها إذخر (نبات كالليف طيب الرائحة) ، وحصير هجري ، ونطع من أدم (بساط من جلد) وستر رقيق من صوف ، ورحىٰ يدوية (لطحن الشعير ...) ، ومخضب من نحاس (لعجن الدقيق ، أو لغسل الثياب) ، وسقاء من أدم (قربة صغيرة) ، وكيزان خزف جمع كوز : (إناء كبير لجمع الماء) ، وشن للماء (قربة صغيرة تستخدم لتبريد الماء) ، وجرّة خضراء ، وقعب (قدح خشبي) للبن ، وقربة ماء ، ومطهرة مزفّتة (إبريق ماء).

وقد جهّز الإمام علي عليه‌السلام لداره استقبالاً لفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقام بنثر داره الشريفة بالرمل اللين ، ونصب خشبة من حائط إلىٰ حائط لتعليق الثياب ، وهيّأ بعض الأمور الأخرىٰ مثل بسط إهاب (جلد) كبش ، ومخدة ليف ومنشفة وقربة ماء ومنخل وقدح لشرب الماء (١).

زواجها عليها‌السلام :

أمّا زواجها فقد وردت فيه عدة روايات ، منها رواية جابر رضوان الله عليه ، قال : لمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يزوّج فاطمة علياً ، قال له : « اخرج يا أبا الحسن إلىٰ المسجد ، فاني خارج في أثرك ، ومزوّجك بحضرة الناس ، وذاكر من فضلك ما تقرّ به عينك ».

قال : « فخرجت من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا ممتلئ فرحاً وسروراً ،

_____________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٢ : ١١٢ في المسابقة بالزهد والقناعة ، بتصرف.

٧٨

فاستقبلني أبو بكر وعمر فقالا : ما وراءك يا أبا الحسن ؟ فقلت : يزوّجني رسول الله فاطمة ، وأخبرني أن الله زوّجنيها ، وهذا رسول الله خارج في أثري ليذكر ذلك بحضرة الناس ، فدخلا معي المسجد ، فوالله ما توسّطناه حتىٰ لحق بنا رسول الله ، وإن وجهه ليتهلّل فرحاً وسروراً. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أين بلال ؟ فقال بلال : لبيك وسعديك يا رسول الله ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأين مقداد ، فلبّاه وقال : لبيك يا رسول الله ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأين سلمان ؟ فلبّاه وقال : لبيك يا رسول الله !

فلما مثلوا بين يديه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلقوا بأجمعكم إلىٰ جنبات المدينة ، واجمعوا المهاجرين والأنصار ، فانطلقوا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاقبل حتىٰ جلس علىٰ أعلىٰ درجة من المنبر ، فلما حشد المسجد بأهله قام صلى‌الله‌عليه‌وآله حامداً الله وأثنىٰ عليه ثمّ قال : الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع سلطانه ، المرهوب من عذابه وسطواته ، النافذ أمره في سمائه وأرضه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، وميّزهم بأحكامه ، وأعزّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سبباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، أوشج به الأرحام ، وألزم به الأنام ، فقال عزّ من قائل : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) (١) فأمر الله تعالىٰ يجري إلىٰ قضائه ، وقضاؤه يجري إلىٰ قدره ، ولكل قضاء قدر ، ولكل قدر أجل ، ولكل أجل كتاب ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢). ثمّ إن الله تعالىٰ أمرني أن اُزوّج فاطمة من علي بن أبي طالب ، فاشهدوا أني

_____________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٤.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٩.

٧٩

قد زوّجته علىٰ أربعمائة مثقال فضّة إن رضي بذلك عليٌّ ».

ثمّ دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله بطبق من بسر قال : « انتهبوا » ، فانهبنا ، ثمّ دخل علي عليه‌السلام فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجهه ثمّ قال : « إن الله عزّوجلّ أمرني أن اُزوّجك فاطمة علىٰ أربعمائة مثقال فضّة ، أرضيت بذلك ؟ ». قال علي عليه‌السلام : « قد رضيت بذلك يا رسول الله » ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « جمع الله شملكما ، وأعزّ جدكما ، وبارك عليكما ، وأخرج منكما كثيراً طيباً » (١).

وفي رواية ابن مردويه أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : « تكلم خطيباً لنفسك » ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الحمد لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنّة من يتّقيه ، وأنذر بالنار من يعصيه ، نحمده علىٰ قديم إحسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمّدا عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صلاة تزلفه وتحظيه ، وترفعه وتصطفيه ، والنكاح ما أمر به ويرضيه ، واجتماعنا مما قدره الله وأذن فيه ، وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجني ابنته فاطمة علىٰ خمسمائة درهم ، وقد رضيت فاسألوه وأشهدوا » (٢).

والجدير ذكره أنّ أهل البيت عليهم‌السلام التزموا بهذا المهر وصار سنّةً تحتدى حتى أن الإمام الجواد عليه‌السلام عندما تزوّج ابنة المأمون كان مهرها خمسمائة درهم رغم أن المأمون أنفق ملايين الدراهم ، وظلّ أهل البيت عليهم‌السلام ملتزمين بمهر جدّتهم

_____________

(١) ذخائر العقبىٰ / المحبّ الطبري : ٣١ ، ينابيع الموّدة / القندوزي الحنفي : ٢٠٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٣ : ٣٩٩ في تزويج فاطمة عليها‌السلام.

٨٠