أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

عبد العزيز كاظم البهادلي

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبد العزيز كاظم البهادلي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: ١٦٥

سيرة النبي وأهل البيت

عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ) (١). والذكر هنا علي عليه‌السلام ، والاُنثىٰ هنّ الفواطم ، وفاطمة بنت أسد منهنّ (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها وبعد وفاتها : « رحمك الله يا اُمّي ، كنتِ اُمي بعد اُمّي ، تجوعين وتشبعيني ، وتعرين وتكسوني ، وتمنعين نفسك من أطيب الطعام وتطعميني ، تريدين بذلك وجه الله عزّوجلّ والدار الاُخرىٰ » (٣).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « نزل جبرئيل علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد ، إن ربّك يقرئك السلام ويقول : إنّي قد حرّمْت النّار علىٰ ... وحجرٌ كفلك ، ... وأمّا حجر كفلك فحجر أبي طالب » ، وفي رواية ابن فضال : « وفاطمة بنت أسد » (٤).

زواجها من أبي طالب عليهما‌السلام :

لمّا كانت السيدة فاطمة بنت أسد ابنة عمّ عبد مناف (أبي طالب) وكانت تتمتّع بصفات جليلة جعلتها من فضليات النساء الهاشميات ، لذا بزغت في عصرها شمساً في سماء الكمال تتنقّل في أبراجه ، فهي ذات شرف عظيم ، وحسب عريق ، وكرم محتد ، ومكارم أخلاق ، وذكاء قلب ، ورجاحة عقل ، وطهارة نفس ، وجمال ذاتٍ ، وفضيلةِ صفات ، فلا غرو أن اختارها مؤمن

_____________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١ ـ ١٩٥.

(٢) الأمالي / الطوسي : ٤٧١ / ١٠٣١ المجلس (١٦).

(٣) المعجم الأوسط / الطبراني ١ : ٦٧ ما روي عن شيخه أحمد بن حماد بن زغبة.

(٤) الكافي ١ : ٤٤٦ / ٢١ باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووفاته من كتاب الحجة ، إيمان أبي طالب / فخّار ابن معد الموسوي : ٥٥.

٤١

قريش ولم يستبدل بها سواها مدّة حياته ، ولم يذكر التاريخ أن أبا طالب قد تزوّج بغيرها في وقتها بل حتىٰ وفاتها ، فقد تقدّم أبو طالب لعمّه أسد طالباً يد كريمته فاطمة مرتجلاً هذه الكلمات :

الحمد لله ربّ العالمين ، ربّ العرش العظيم والمقام الكريم والمشعر والحطيم ، الذي اصطفانا أعلاماً وسادة وعرفاء خلصاء ، وقادة وحجبة بهاليل ، أطهاراً من الخنا والريب والأذىٰ والعيب ، وأقام لنا المشاعر ، وفضّلنا علىٰ العشائر ، نخب إبراهيم وصفوته وزرع إسماعيل ، وبعد فقد تزوّجتُ فاطمة بنت أسد ، وسقتُ المهر ، وأنفذتُ الأمر ، فاسألوه واشهدوا.

فقال عمّه أسد : زوّجناك (فاطمة) ورضينا بك ، ثمّ أوْلَمَ أبو طالب سبعة أيام متوالية ينحر فيها الجزور.

وقد أجاد الشاعر اُميّة بن أبي السلط في بائيته واصفاً عرس أبي طالب عليه‌السلام :

أغمرنا عرس أبي طالب

وكان عرساً لين الجانبِ

إقراؤه الضيف بأقطارها

من رجل خف ومن راكبِ

فنازلون سبعة أحصيت

أيامها للرجل الحاسبِ (١)

هذا وقد مرّت بشارة جبرئيل عليه‌السلام للحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن عمّه (أبا طالب) وزوجته السيدة فاطمة بنت أسد عليهما‌السلام من أهل الجنّة ، جدير بالذكر أنه وردت أحاديث كثيرة في فضل زوجها أبي طالب عليه‌السلام لا مجال لايرادها ونكتفي بالاشارة السريعة إلىٰ اليسير منها :

عن الأصبغ بن نباتة رضي‌الله‌عنه قال سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : « والله ما عبد

_____________

(١) شيخ الأبطح أبو طالب / السيد محمّد علي شرف الدين : ٢٤.

٤٢

أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ » قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال عليه‌السلام : « كانوا يُصلُّون إلىٰ البيت علىٰ دين إبراهيم عليه‌السلام ، متمسّكين به » (١).

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام في من طعنوا بأبي طالب عليه‌السلام من أوغاد بني أُمية وأشياعهم : « كذبوا والله ... إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفّة ميزان ، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب علىٰ إيمانهم » (٢).

أولادها :

طالب ، وعقيل ، وجعفر ، وعلي ، وجمانة ، وفاختة (أُم هاني) وزاد بعضهم بنت اُخرىٰ وهي ريطة ، ولما كان هاشم بن عبد مناف جدّ هؤلاء الأولاد جميعاً لأبيهم وأُمهم معاً لأن أبا طالب ابن عمّ فاطمة بنت أسد ؛ لذا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام واُخوته أول هاشمي ولده هاشم مرتين (٣).

ولادتها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

قال يزيد بن قعنب : كنت جالساً مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزىٰ بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد عليها‌السلام أُم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت حاملة به لتسعة أشهر ، وقد أخذها الطلق فقالت : ربِّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب ، وإني مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وإنه بنىٰ البيت العتيق ، فبحقّ الذي بنىٰ هذا البيت ، وبحقّ المولود الذي في بطني ،

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق : ١٧٤ / ٣٢.

(٢) شيخ الأبطح أبو طالب / السيد محمد علي شرف الدين : ٨٨.

(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٢ / باب مولد أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٤٣

لمّا يسّرت عليّ ولادتي.

قال يزيد بن قعنب : فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ، والتزق الحائط ، فرمنا أن ينفتح الباب لنا قفل الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك أمر من أمر الله عزّوجلّ.

ثمّ خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثمّ قالت : إنّي فُضِّلتُ علىٰ من تقدّمني من النساء لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله عزّوجلّ سرّاً في موضع لا يحبّ أن يعبد الله فيه إلّا اضطراراً ، وإن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنياً ، وإني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنّة ... (١).

وأنشد شاعر لبنان الأكبر ـ بولس سلامة ـ في ملحمته الكبرىٰ واصفاً تلك الكرامة الإلهية لهذه المخدرة الجليلة :

حرّة لزمها المخاض فلاذت

بستار البيت العتيق الوطيد

لا نساء ولا قوابل حفّت

بابنة المجد والعلىٰ والجود

وإذا نجمة من الاُفق لاحت

تطعن الليل بالشعاع الجديد

تبسم المسجد الحرام حبوراً

وتنادت أحجاره للنشيد

هالت الاُم صرخة جال فيها

بعض شيء من همهمات الأسود

أسد سمت ابنها كأبيها

لبدة الجد اُهديت للحفيد

بل علياً ندعوه قال أبوه

فاستفز السماء للتأكيد (٢)

_____________

(١) بحار الأنوار ٣٥ : ٨ / ١١.

(٢) المقتطف من كلّ فنّ / السيد طاهر حسن ملحم : ٣٤٥.

٤٤

وفاتها وما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في تجهيزها ودفنها عليها‌السلام :

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « لمّا ماتت امّي فاطمة بنت أسد بن هاشم عليها‌السلام كفّنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قميصه ، وكبّر عليها سبعين تكبيرة ، ونزل في قبرها ، فجعل يومي في نواحي القبر كأنه يوسعه ويسوي عليها ، وخرج من قبرها وعيناه تذرفان بالدموع ، وحثا في قبرها ، فلما ذهب قال له عمر : يا رسول الله ، رأيتك فعلت علىٰ هذه المرأة شيئاً لم تفعله علىٰ أحد ؟! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عمر ، إن هذه المرأة كانت اُمي التي ولدتني ، إن أبا طالب كان يصنع الصنيع وتكون له المأدبة وكان يجمعنا علىٰ طعامه ، فكانت هذه المرأة تفضل منه كله نصيباً فأعود فيه ، وإن جبريل عليه‌السلام أخبرني عن ربّي عزّوجلّ أنها من أهل الجنّة ، وأخبرني جبريل أن الله تعالىٰ أمر سبعين ألفاً من الملائكة يصلُّون عليها » (١).

وسأل عمار بن ياسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : فداك أبي واُمي يا رسول الله ، لقد صلّيت عليها صلاة لم تصلِّ علىٰ أحد قبلها مثل تلك الصلاة ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا أبا اليقظان ، واهلُ ذلك هي منّي ، لقد كان لها من أبي طالب ولدٌ كثير ، ولقد كان خيرهم كثيراً ، وكان خيرنا قليلاً ، فكانت تشبعني وتجيعهم ، وتكسوني وتعريهم ، وتدهنني وتشعثهم » (٢).

_____________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ١١٦ / ٤٥٧٤ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ٣٥ : ٧٠ / ٤.

٤٥

وروىٰ ابن كثير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفّن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها وجزاها خيراً.

وروى ابن عباس رضي‌الله‌عنه نحو هذا وزاد ، فقالوا : ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه ! قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « انّه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنما ألبستها قميصي لتُكسىٰ من حلل الجنّة ، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « ان فاطمة بنت أسد ... سمعت رسول الله وهو يقول : ان الناس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا ، فقالت سلام الله عليها : واسوأتاه ! ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإني أسأل الله أن يبعثك كاسية. وسمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكر ضغطة القبر ، فقالت : واضعفاه ، فقال لها رسول الله : فاني أسأل الله أن يكفيك ذلك » (٢).

وذكر ابن دأب : أنّ فاطمة بنت أسد التي خاطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في لحدها وكفّنها في قميصه ولفّها في ردائه ، وضمن لها علىٰ الله أن لا تبلىٰ أكفانها ، وأن لا تبدي لها عورة ، ولا يسلّط عليها ملكي القبر ، وأثنىٰ عليها عند موتها ، وذكر حسن صنيعها به ، وتربيتها له وهو عند عمّه أبي طالب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّها : « ما نفعني نفعها أحد » (٣).

وقد روىٰ في حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا حفروا قبرها وبلغوا لحدها ، >

_____________

(١) أسد الغابة ٥ : ٥١٧.

(٢) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٣ / ٢.

(٣) الاختصاص / المفيد : ١٤٨.

٤٦

قام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فحفره بيده وأخرج ترابه ، ولمّا فرغ اضطجع فيه وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، الّٰلهُمَّ اغفر لاُمّي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجّتها ، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيِّك محمّد والأنبياء الذين من قبلي ، فانّك أرحم الراحمين » (١).

وفي إشارة إلىٰ عظمة تلك المرأة ومآلها الاُخروي ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بعد دفنها حيث أخبر الحاضرين بما آلت إليه وكيف كان مصيرها حيث الروح والريحان وجنّة نعيم : « إنّ الملائكة قد ملأت الأُفق ، وفتح لها باب من الجنّة ، ومُهّدَ لها مهاد الجنّة ، وبعث اليها بريحان من رياحين الجنّة ، فهي في روح وريحان وجنة نعيم ، وقبرها روضة من رياض الجنّة » (٢).

وكيف لا تكون كذلك ، وقد وردت بعض الفقرات في زيارتها تتجلّىٰ تلك المفاهيم بروعة وجلاء عالٍ :

« ... السلام علىٰ فاطمة بنت أسد الهاشمية ، السلام عليك أيتها الصديقة المرضية ، السلام عليك يا كافلة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيين ، السلام عليك يا والدة سيد الوصيين ، السلام عليك من ظهرت شفقتها علىٰ رسول الله خاتم النبيين ... السلام عليك يا من تربيتها لولي الله الأمين .... أشهد أنّك أحسنت الكفالة ، وأدّيت الأمانة ، واجتهدت في مرضاة الله ، وبالغت في حفظ رسول الله ، عارفة بحقّه ، مؤمنة بصدقه ، معترفةً بنبوته ، مستبصرة بنعمته ، كافلة بتربيته ، مشفقة علىٰ نفسه ، واقفة علىٰ خدمته ، مختارة رضاه ، أشهد

_____________

(١) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٤.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي ٣٥ : ٧١.

٤٧

أنّك مضيت علىٰ الإيمان والتمسّك بأشرف الأديان ، طاهرة ، زكية ، فرضي الله عنك وأرضاك ، وجعل الجنّة منزلك ومأواك » (١).

وكانت وفاة السيدة فاطمة بنت أسد في السنة الرابعة من الهجرة في المدينة المنوّرة حيث دُفنت في البقيع رضوان الله تعالىٰ عليها (٢) ، فسلام عليها يوم ولدت ، ويوم فارقت الدنيا راضية مرضية ، ويوم تبعث حيّة بجوار ربّ العالمين.

ثالثاً : أُم سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام

اسمها : هي السيدة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزىٰ بن قصي بن كلاب (٣).

أبوها : خويلد ، وهو الرجل الذي لا ينسىٰ له التاريخ ذلك الموقف النبيل حينما وقف في وجه تُبَّع ، ذلك الملك الطاغية الذي جاء من اليمن حاجاً لبيت الله الحرام ، ثمّ سوّلت له نفسه أن ينتزع الحجر الأسود ويأخذه معه إلىٰ اليمن ، فتصدّىٰ له خويلد وجماعة من أفراد عشيرته حتىٰ امتلأت نفسه بالرهبة والخوف من المغامرة بهذا الفعل المشين ، وقد ذكر أصحاب السير تلك القصة بتفاصيلها (٤).

جدّها : أسد بن عبد العزىٰ ، وقد كان واحداً من أعضاء حلف الفضول ،

_____________

(١) مصباح الزائر / ابن طاووس : ٥٨ ، زيارة السيدة فاطمة بنت أسد عليها‌السلام.

(٢) الأمالي / الطوسي : ١٦١ / ٢٦٧ المجلس السادس.

(٣) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٢ نسب السيدة خديجة عليها‌السلام.

(٤) الروض الأنف / السهيلي ١ : ٢٧.

٤٨

ومن مؤسسيه والدعاة إليه ، والجدير ذكره أن حلف الفضول قد مدحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : « لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أُحِبّ أنّ لي به حمر النعم ، ولو أُدعىٰ به في الإسلام لأجبتُ » (١).

أُمّها : فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص ابن عامر بن لؤي.

جدّتها : هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن عمرو بن منقذ بن عمرو ابن معيص بن عامر بن لؤي (٢) ، وعلىٰ هذا فان السيدة خديجة نشأت وترعرعت في بيت من بيوتات قريش الكريمة الحسب والنسب ، فكان من أعرق وأعظم تلك البيوت نسباً وأعلاها حسباً ، لقد نبتت السيدة خديجة في بيت واسع الثراء ملتزم بالأخلاق العالية ، ومعروفاً بالتديّن ، والعفّة ، والبعد عن الانغماس في الملاهي والموبقات التي كانت بعض بيوتات قريش غارقة فيها.

كنيتها : اُم هند (٣).

ألقابها : الطاهرة (٤) ـ سيدة نساء قريش ـ سيدة نساء مكّة ـ سيدة نساء العالمين ، وقد ورد اللقب الأخير بخبر مرفوع (٥) والمقصود به : في زمانها ، وإلّا فإنّ ابنتها الزهراء البتول صلوات الله عليها هي سيدة نساء العالمين بلا منازع.

_____________

(١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٢٠.

(٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ نسب السيدة خديجة عليها‌السلام.

(٣) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ١٢ ، الإصابة ٤ : ٢٨٢ في ترجمة خديجة بنت خويلد عليه‌السلام.

(٤) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٣ هامش / ١.

(٥) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٢٨.

٤٩

فضلها وكرامتها :

كانت خديجة صدّيقة هذه الاُمة ، وأوّلها إيماناً بالله ، وتصديقاً بكتابه ، ومواساة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انفردت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدّة خمس وعشرين سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية ، ولو بقيت ما شاركتها فيه اُخرىٰ ، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه ، تقوّيه بمالها ، وتدافع عنه بكل ما لديها من قول وفعل ، وتعزّيه بما يفاجئه به الكفار في سبيل الله ، وكانت هي وعلي عليه‌السلام معه في غار حراء حين نزل عليه الوحي أوّل مرّة (١).

ومن العوامل الأساسية التي ثبتت دعائم الإسلام هي أموال السيدة خديجة ، فمنذ اليوم الأوّل لزواجها المبارك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفت السيدة خديجة بجنب زوجها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله موقف المدافع والمحامي ، ووضعت كل أموالها في تصرّفه لنصرة الرسالة المحمدية ، كما كانت توفّر له الملجأ والمأوىٰ والقلب الحنون ، ولذلك أوعزت إلىٰ ابن عمّها حين زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يعلن أمام الملأ : إنّ جميع ما تحت يدي خديجة من مال وعبيد ، قد وهبته لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يتصرّف به كيف يشاء. ولذا وقف ورقة بن نوفل بين زمزم والمقام ونادىٰ بأعلىٰ صوته قائلاً : يا معشر العرب ، إنّ خديجة وهبت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه بيمينها إجلالاً له وإعظاماً لمقامه ورغبة فيه.

ومنها : رأت السيدة خديجة ميله إلىٰ غلامها (زيد بن حارثة) قبل بعثته المباركة فوهبته له ، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد في السبق إلىٰ الإسلام.

_____________

(٤) عقيلة الوحي / السيد عبد الحسين شرف الدين : ٢٠.

٥٠

ومنها : وكما نقله الزهري : أنّ خديجة أنفقت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين ألفاً وأربعين ألفاً (١).

وذكر الزرقاني في شرح كلام القسطلاني : قال ابن إسحاق : كانت خديجة أوّل امرأة آمنت بالله ورسوله ، وصدقت بما جاء من الله عزّوجلّ ، ووازرته علىٰ أمره ، فخفّف الله بذلك عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان لا يسمع شيئاً يكرهه ولا تكذيب له فيحزنه إلّا فرّج الله ذلك عن رسوله بها إذا رجع إليها تثبّته وتخفّف عنه وتهّون عليه أمر الناس حتىٰ ماتت سلام الله عليها (٢).

تلتقي عن طريق جدها (عبد العزىٰ) مع جد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (عبد مناف) في الجد الرابع (قصي بن كلاب) وبهذا النسب تكون أقرب أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه نسباً ، باستثناء ابنة عمته أمّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.

اتفقت الروايات علىٰ أنّ السيدة خديجة هي أوّل زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي في زمانها أفضل نساء قريش ومكّة في خَلقها وخُلقها وجميع مواهبها ، كما كانت أفضل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قاطبة ، وقد كانت سيدة حازمة ، شريفة ، لبيبة ، جليلة ، ديّنة ، كريمة ، وصدّيقة هذه الاُمة في شرف النسب ، وكرم المحتد ، وسؤدد القبيلة ، وعِزّ العشيرة ، والغنى الأوفر ، وكانت مثالاً للزوجة المخلصة الصالحة ، والمرأة الرزينة العاقلة ، ولا توجد شبيهة لها في نساء النبي علىٰ الاطلاق حيث عقلها الكبير ، وشخصيتها العظيمة.

وقد أدركت الجاهلية والإسلام ، وكان لها في كليهما مركزاً ممتازاً ، ولشدّة

_____________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٤.

(٢) شرح الزرقاني علىٰ المواهب اللدنية ١ : ٢٣٨.

٥١

عفافها وصيانتها سمّيت بالطاهرة (١) ، فجمعت بين المال والجمال والكمال ، فهذه الصفات إذا اجتمعت ـ وقلّما تجتمع ـ فانها تضفي علىٰ المرأة ألواناً من السمو والرفعة ، وعندما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يبشّر قومها بالإسلام ، فلا ينال منهم إلّا التكذيب ، فيرجع إلىٰ بيته حزيناً يائساً ، فتلقاه السيدة خديجة عليها‌السلام فتزيل حزنه ، وتهوّن عليه الأمر.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يودّها ، ويحترمها ، ويثني عليها ، ويفضلها علىٰ سائر نسائه ، بل علىٰ سائر النساء المؤمنات ، ويعظمها ، ويشاورها في أموره ، وقد صدّقته في دعوته ، وآمنت به ، وكانت تستقبل آلام الجهاد الذي خاضه وخاضته معه صابرة محتسبة ، لا ينبض لها عرق بلين أو تخوُّف ، بل تقطع قناطر الدموع والخطوب المشغولة في بسمة كبرياء ، لم يُعهد مثلها في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد كانت عليها‌السلام تستقبل العاصفة وشظاياها المشتعلة وتحوّلها إلىٰ بردٍ وسلامٍ علىٰ قلب زوجها الحبيب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهي أوّل امرأة صدّقت الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ودخلت الإسلام ، وقامت بخدمات جليلة حتىٰ آخر لحظة من حياتها المباركة ، وكان الحبّ والاحترام والعمل والتضحية لهذا الدين القويم ملء حياتها.

هذا ويمكن الحديث عن فضلها وكراماتها ضمن النقاط الآتية :

١ ـ السبق إلى الإسلام :

الثابت تاريخيّاً أنّ خديجة الكبرى عليها‌السلام أوّل امرأة دخلت الإسلام ، ولهذا عدّها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من سابقات النساء إلى الإيمان بقوله : « خديجة بنت خويلد

_____________

(١) مجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢١٨ ، تنقيح المقال / المامقاني ٣ : ٧٧.

٥٢

سابقة نساء العالمين إلىٰ الإيمان باللّه وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

وقد صرح أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الكرامة ، في فقرة من خطبته المسماة بالقاصعة إذ جاء فيها : « ... لم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة عليها‌السلام وأنا ثالثهما » (٢).

وهي أوّل امرأة صلّت لله عزّوجلّ ، وقد أجاد شاعر أهل البيت عليهم‌السلام في ملحمته المشهورة منشداً :

وأقام الرسول أول فرض

فاقتدت فيه أحسن الاقتداءِ

وهي كانت لكل ما يتجلّىٰ

من رسول الهدىٰ من الرُقباءِ

فترىٰ بالعيان ما لا تراه

من عظيم الآيات مقلة راءِ

٢ ـ حبّ الرسول لها :

إنها أحبّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ نفسه الشريفة ، فقد ورد عن عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكاد يخرج من البيت حتىٰ يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلّا عجوزاً ، فقد أبدلك الله خيراً منها ! فغضب حتى اهتزّ مُقدّم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت إذ كفر الناس ، وصدّقتني وكذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ

_____________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ٢٠٣ / ٤٨٤٦.

(٢) نهج البلاغة / تحقيق الدكتور صبحي الصالح / الخطبة القاصعة : ٩٤ ، ط جماعة المدرسين ، قم.

٥٣

حرمني أولاد النساء ». قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بسيئة أبداً. (١)

وعن عائشة أيضاً : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ذبح الشاة يقول : « أرسلوا إلىٰ أصدقاء خديجة » ، فذكرت له يوماً ، فقال : « اني لأحبّ حبيبها » (٢).

ولهذا لم يتزوّج صلى‌الله‌عليه‌وآله غيرها في حياتها ، إكراماً لها ، وتعظيماً لشأنها عليها‌السلام.

٣ ـ كمالها وجلالها :

إنها من الكاملات علىٰ لسان المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأنها : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلّا أربع : مريم بنت عمران ، آسية بنت مزاحم ، خديجة بنت خويلد ، فاطمة بنت محمّد بن عبد الله » (٣).

ووصفها أبو طالب عليه‌السلام ذات يوم قائلاً : إنّ خديجة عليها‌السلام امرأة كاملة ميمونة خطبها ملوك العرب ، ورؤساؤهم ، وصناديد قريش ، وسادات بني هاشم ، وملوك اليمن ، وأكابر الطائف ، وبذلوا لها الأموال ، فلم ترغب في أحد منهم ، ورأت أنها أكبر منهم (٤).

٤ ـ تبشيرها بالجنّة :

إنها من المبشّرات بالجنّة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتىٰ جبريل فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه أدام ـ أو طعام أو شراب ـ فإذا هي أتتك فاقرأ عليها‌السلام من ربّها ، ومنّي ، وبشّرها ببيت في الجنّة

_____________

(١) اُسد الغابة ٥ : ٤٣٨ ، الإفصاح في الإمامة / المفيد : ٢١٧.

(٢) الإصابة / ابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٨٣ طبعة دار الفكر ـ بيروت.

(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ١٢٩.

(٤) بحار الأنوار / المجلسي ١٦ : ٥٦.

٥٤

من قصب (١) ، لا صخب فيه ولا نصب » (٢).

وبهذه الكرامات فإن التاريخ ليحني رأسه أمام عظمة أم المؤمنين خديجة عليها‌السلام ، ويقف أمامها خاشعاً مبهوتاً لدورها الإسلامي الكبير وتضحياتها الجمّة الجسيمة في سبيل العقيدة والمبدأ ، وها نحن نذكر اليسير مما يشير إلىٰ ذلك من خلال سيرتها وتاريخها.

تكامل المسيرة الإيمانية للسيدة خديجة عليها‌السلام :

لقد كان بيت السيدة خديجة من بيوتات قريش المعروفة بالعفّة والمحافظة وسموّ الأخلاق الفاضلة.

وحفظ لنا التاريخ أنّ قبيلتها هي القدوة والمثل الأعلىٰ في نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وحماية المستجير ، وتربّت السيدة خديجة منذ نعومة أظفارها علىٰ تلك السجايا الرفيعة ، وكانت مؤمنة بالله العظيم منذ أوّل لحظات حياتها ، ومرّت مسيرتها الإيمانية وتكاملت في مرحلتين :

الاُولىٰ : منذ نعومة أظفارها حتىٰ معرفتها بشخص محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تاجر بأموالها.

الثانية : زواجها منه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ بعثته المباركة.

أمّا المرحلة الاُولىٰ فقد اتّسمت بتظافر عنصرين هامّين لبناء إيمانها وهما :

١ ـ وجود بقايا الديانة الحنيفية الإبراهيمية التي غمرت الجزيرة والتي ورثتها مدينة مكّة المكرمة وقبيلة قريش بالذات حيث انهم ينحدرون من

_____________

(٤) القصب : الزبرجد الأخضر المُرصَّع بالياقوت الأحمر.

(٥) أسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٤٣٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ : ٣٥٤ ، الاصابة ٤ : ٢٨٢.

٥٥

سلالة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وولده إسماعيل الذبيح عليه‌السلام ، وكان لهذه التعاليم المباركة الأثر الواضح في بناء شخصيتها.

٢ ـ تطلّع السيدة خديجة بنفسها لبقايا الكتب المقدّسة كالتوراة والإنجيل ولو بشكل محدود.

تلك هي اللبنات الأوّلية لبناء إيمانها ، وقد ساعدها علىٰ ذلك ابن عمّها ورقة بن نوفل ، المعروف بالإيمان والأخلاق الفاضلة ، وهو أحد الرجال الأربعة الذين تنسّكوا واعتزلوا عبادة الأوثان وهجروا قومهم وتفرّقوا في البلدان يلتمسون الديانة الحقّة الخاتمة ، لأنّهم اطّلعوا من خلال متابعاتهم الكتب المقدّسة علىٰ قرب بعثة الخاتم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تأثّرت خديجة عليها‌السلام بشخصية ابن أخيها حكيم بن حزام الذي كان من ذوي الأموال الطائلة وأحد أعضاء دار الندوة البارزين في قريش.

وهكذا توفّرت لخديجة عليها‌السلام أسباب الرفعة والسمو المتوافرة في أسرتها من الإيمان وسداد الرأي. لقد أثرت أسرتها علىٰ مسيرتها الاجتماعية فصقلتها بمواصفات لطيفة ، ومن هذه المواصفات أنها لم تلهُ أبداً مع النساء اللاهيات ، فإن الشائع عن بعض بيوتات مكّة في الجاهلية أنها كثيراً ما كانت تقام فيها ليالي المرح واللهو والغناء. وكانت السيدة تمرّ علىٰ تلك البيوت وما فيها من مرح وغناء ولهو دون أن تطرق بابها يوماً أو تؤثّر علىٰ نفسيتها الطاهرة كقريناتها من بنات قريش !

وحفظ تاريخ مكّة تلك المنزلة العظيمة لهذه السيدة الجليلة ـ خديجة عليها‌السلام ـ حيث كانت نساء مكّة يذهبن إليها زائرات فتشملهن بكرمها وألطافها ، وكانت إذا خرجت إلىٰ البيت العتيق لتطوف به خرجن معها وأحطن بها فلا تلغو

٥٦

واحدة منهن ولا تتكلم إلّا بالجدّ وكُنّ حريصات أن لا يُسمِعن خديجة ما يؤذيها منهن من ألفاظ !

لقد امتازت قبيلة قريش بوجود عدد كبير من النساء الكريمات من ذوات العقل والفكر والأدب والأخلاق ، لكن السيدة خديجة حازت قصب السبق بعقلها وشرفها وطهارتها وترفّعها عن زبارج الحياة وزخرفها ، كانت تكرم الجميع وتصلهم بخيرها وبرّها حتىٰ غبطها أهل مكة لمكارم أخلاقها ، فمنحوها الألقاب والأوصاف الكريمة ما لم يمنحوها لأي امرأة اُخرىٰ ، فقد لقّبوها بالطاهرة ، ولقّبت كذلك بسيدة نساء قريش ، وسيدة نساء أهل مكّة ، لما لها من مكارم أخلاق وجمال وكمال.

وكانت السيدة خديجة دائمة الحديث مع ابن عمّها ورقة بن نوفل عن الرسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف سيُرسَل لهداية البشر ؟ كانت دائمة الأسئلة مع نفسها دائمة التفكير بذلك النبي المنتظر ! هل قرب زمان هذا النبي ؟ هل ستراه ؟ ومتىٰ ؟ (١) وهكذا خُتِمت المرحلة الاُولىٰ من حياتها الإيمانية ولم تسجد لصنم ، ولم تقدّم أيّ قربان ، ولا نذرت نذراً للأصنام.

أمّا المرحلة الثانية في حياة خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام فقد تسارعت بها مراتب الكمال حتىٰ وصلت إلىٰ منتهاه ، بعد اقترانها بالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة موضحاً إيمان السيدة خديجة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : ما زالت خديجة تعظّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتصدّق حديثه قبل البعثة وبعدها (٢). ولذلك

_____________

(١) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢١١ ـ ٢١٢ (فارسي)

(٢) الإصابة ٤ : ٢٨٢.

٥٧

عندما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تفاجأ ، بل أيّدته بكل ما تملك ، وصارت نفسها نفسه وروحها روحه ، وأصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدة لبناء الإسلام ، فهما بحقّ أبٌ للإسلام والمسلمين واُمٌّ للإسلام والمسلمين ، ولهذا منَّ الله عليها وقرنها بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظ في نسلها ذرّية الرسول المصطفىٰ ، فهي أُم آل البيت الكبرىٰ الذين كانوا نفحة من عطر شذاه وقبساً من سنا نوره ، إذ انحصرت في ابنتها الصدّيقة فاطمة عليها‌السلام نسبة كل منتسب إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأعظم بها من مفخرة ، وقد أجاد الشاعر في مدحها حيث قال :

طوبى لبنت خويلد قد أفلحت

فلها الخلود بعزّة وفخارِ

فاقت نساء العالمين بمجدها

هي أُمّ أُمّ العترة الأطهارِ

تجارة السيدة خديجة عليها‌السلام :

اشتهرت خديجة عليها‌السلام بتجارتها قبل زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعفافها المنقطع النظير في المجتمع القرشي يومذاك فإنها لم تتّخذ من التجارة ذريعة للاتصال بالرجال الأجانب ، وإنما اتّخذت لنفسها طرقا جادة بعيدة عن الأهواء والنوازع والرغبات ، فقد كانت تجارتها كثيرة ومتنوّعة ، ورغم هذا فانها لم تكن تتّصل بالتجّار ولم تشترك معهم في اجتماع خاص أو عام ، بل كان ينوب عنها في ذلك مواليها وعلى رأسهم مولاها المخلص ميسرة. وكانت تلقي إليهم الأوامر فينفّذونها ، وكانت عن طريق مواليها تستأجر الرجال وتضاربهم بشيء من المال تجعله لهم.

ولم تشتهر تجارتها عليها‌السلام في أوساط مكّة فحسب ، بل في أوساط ديار العرب ، فكان للسيدة خديجة في كلّ ناحية عبيد ومواشي حتىٰ قيل : إنّ لها أكثر من ثمانين ألف جمل متفرّقة في أصقاع الجزيرة ، وقيل : إنها تمتلك مائة ألف جمل ،

٥٨

فكانت تصدّر البضائع من جزيرة العرب إلىٰ الأردن وفلسطين والشام والروم وفارس ، وتستورد الأقمشة والعسل والأواني النحاسية والأسلحة والأطعمة من تلك الأقاليم إلىٰ الحجاز ، فكانت تؤدّي خدمة اقتصادية لأهل مكّة ويثرب (١).

وكان أبو طالب عليه‌السلام يمارس التجارة لكنّه كبُر وضعف ، وفي يوم ما دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآه مهموماً فقال له : « يا عمّ ما لي أراك مهموما ! » ، فقال له أبو طالب عليه‌السلام : يا محمّد ، إني قد كبرت وضعفت عن التجارة ! فقال له محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذن يا عمّ ما هو الرأي ؟ » ، فقال أبو طالب عليه‌السلام : اعلم يا محمّد أن خديجة قد انتفع بمالها أكثر الناس ، وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ، فهل لك يا ابن أخي أن نمضي معاً ونسألها أن تعطيك مالاً فتتّجر به ! (٢) فرحّب بعرض عمّه أبي طالب ، وكانت السيدة خديجة قد بلغها أن محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله يمتاز بصدق الحديث وأداء الأمانة وسمو الأخلاق ، فلذا وافقت من فورها وأرسلت إليه ليخرج في تجارتها إلىٰ الشام ، فوافق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ ذلك ، ثمّ انها قد هيأت له ملابس السفر والتي كانت عبارة عن ثوبين من قباطي مصر ؛ جُبَّة عدنية وبُرْدَة يمانية ، وعمامة عراقية ، وخفّين من الأديم ، وقضيب خيزران ، فلبسها ، وعندها ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه البدر في ليلة تمامه.

ثمّ أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ودّع السيدة خديجة وركب راحلته وخرج معه خادمها ميسرة ، وبدأت رحلة التجارة التي قادها لأوّل مرّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ قدم الشام ،

_____________

(١) قديسة الإسلام / الحسيني الميلاني : ٣٣.

(٢) رياحين الشريعة / ذبيح الله محلاتي ٢ : ٢١٤ (فارسي).

٥٩

ثمّ باع واشترى ، وعادت القافلة واستقبلها أهل مكّة ، ونظرت السيدة خديجة إلىٰ جِمالها وقد أقبلت كالعرائس ، وكانت معتادة في كل مرّة أن يموت بعضها ويجرب بعضها إلّا تلك السفرة فإنها لم ينقص منها شيء !

فوقفت قبيلة قريش معجبين من تلك الجِمال ، فأخذوا يردّدون : إنّ هذا ما أفاده محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لخديجة من رحلته إلىٰ الشام ، فذهبت عقول قريش لهذه البركات.

وأخيراً حطّت القافلة ركاب جِمالها ، ففكّوا رحالها وعرضوا ما فيها من بضاعة وأموال ونفائس علىٰ خديجة ، وكانت عندهم جالسة خلف الستار ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس وسط الدار ، وميسرة يعرض عليها الأمتعة شيئاً فشيئاً ، فنظرت خديجة إلىٰ ما قد أدهشها فأخبرت أباها قائلة له : يا أبت هذا كلّه ببركة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله يا أبتاه إنه مبارك ميمون الغرّة ، فما ربحتُ ربحا أغنم وأعظم من سفرة محمّد هذه !

زواجها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لمّا رأت السيدة خديجة من مكارم أخلاق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبركاته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علىٰ بال بشر ! ، أحبته صلى‌الله‌عليه‌وآله حبّاً شديداً نابعاً من صفاء نفسها وقدسية قلبها ، وهنا فكّرت أن تتّخذه زوجاً وقريناً لها ، ولهذا استشارت ابن عمّها ورقة بن نوفل في ذلك ، فشجّعها علىٰ الزواج من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مبيّناً لها بأنه النبي المرتقب ، عندها طلبت خديجة عليها‌السلام من صديقتها نفيسة بنت أُمية أُخت يعلىٰ أن تفاتح محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزواج ، ثمّ وصل الأمر إلىٰ أن خاطبت خديجة عليها‌السلام محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بقولها : يا بن العم ، إنّي قد رغبت فيك لقرابتك منّي ،

٦٠