أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

عبد العزيز كاظم البهادلي

أمّهات المعصومين عليهم السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبد العزيز كاظم البهادلي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-08-0
الصفحات: ١٦٥

سيرة النبي وأهل البيت

للهجرة المباركة وفي المدينة المنوّرة ، غمر بيت الرسالة الطاهر موج من السرور والبهجة احتفاءً بمولد الباقر عليه‌السلام.

لقد استأثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بتحديد اسم هذا المولود الكريم ولقبه ، كما ورد في رواية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه حين أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : « يُوشك أن تبقىٰ حتىٰ تلقىٰ ولداً لي من الحسين يُقال له ـ محمّد ـ يبقر علم الدين بقرا ، فإذا لقيته فاقرئه منّي السلام ! » (١).

وبناءً علىٰ ذلك فأنّ لقب (الباقر) يعني : المتبحّر بالعلم والمستخرج لغوامضه ولبابه وأسراره والمحيط بفنونه.

محنتها في كربلاء :

لقد كتب علىٰ أُم الإمام الباقر عليه‌السلام فاطمة بنت الإمام الحسن السبط عليه‌السلام بعد ولادة الإمام الباقر عليه‌السلام بنحو أربع سنين أن تعيش مأساة كربلاء بكل تفاصيلها ، إذ كانت عليها‌السلام ضمن الركب المقدّس من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي خرج من المدينة المنوّرة علىٰ أثر ما حصل بعد هلاك طاغية الزمان معاوية بن أبي سفيان ومجيء ابنه اللعين الفاجر إلىٰ السلطة. وهكذا شاهدت في طريقها كل ما شاهده الحسين عليه‌السلام وصولاً إلىٰ كربلاء ، وعاشت تلك اللحظات التي ثقلت وامتدّت كأنها الزمان كلّه ، ورأت مصرع عمّها الحسين ومصارع بقية الشهداء من أهلها عليهم‌السلام وأصحابهم الأطهار ، ثم عانت بعد ذلك ما عانته سائر حرم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من السبي والاضطهاد ، كل ذلك وهي ترىٰ زوجها العظيم السجّاد عليه‌السلام عليلاً ومكبّلاً بالقيود أسيراً إلىٰ بغي من بغايا آل أمية.

_____________

(١) الإرشاد / المفيد ٢ : ١٥٩ ، ط مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢١

ولا شكّ في أن هذه المأساة قد تركت آثارها علىٰ حياة تلك البطلة المجاهدة ، ولا بدّ وأن تكون قد استلهمت من تلك الواقعة وشخوصها الجهادية المنقطعة النظير ، بل هي الوتر في كل الدهور ، أعظم العبر والدروس في كيفية الدفاع عن الحقّ والاستماتة حتىٰ النفس الأخير في سبيل العقيدة والمبدأ.

فضائلها وكراماتها عليها‌السلام :

امتازت هذه السيدة الجليلة بخصائص وكرامات شأنها شأن تلك السلسلة الذهبية من مطهّرات الأرحام. ومن الأمور الدالّة علىٰ ذلك ، ما قاله الإمام الصادق عليه‌السلام في حقّها : قال : « كانت ممن آمنت واتّقت وأحسنت والله يحبّ المحسنين » (١).

ووصفها عليه‌السلام ذات يوم بقوله : « كانت صدّيقة لم يُدرَك في آل الحسن مثلها » (٢).

وقال ولدها الإمام الباقر عليه‌السلام : « كانت أُمّي قاعدة عند جدار فتصدّع الجدار ، وسمعنا هدّة شديدة فقالت بيدها : لا وحقّ المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أذن الله لك في السقوط ، فبقيَ معلّقاً في الجوّ حتىٰ جازته ، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار » (٣).

وإذا ما أُضيف إلىٰ هذا سمات البيت الذي تعهدها بالتربية منذ نعومة أظفارها ، وأي معلم قام بهذا ، سنجد البيت بيت آل محمّد والمعلم سبط

_____________

(١) تواريخ النبي والآل / محمّد تقي التستري : ٩٠.

(٢) دعوات الراوندي : ٦٨ / ١٦٥ ، بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٥ / ١٤.

(٣) الكافي / الكليني ١ : ٤٦٩ / ١ ، باب مولد الإمام الباقر عليه‌السلام.

١٢٢

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا غرو إذن أن تسمو تلك النفس الطاهرة في حسبها ونسبها وأصلها وأرومتها إلىٰ المقام الذي تكون فيه زوجة لمن هو زين العابدين وأُماً لمن هو باقر لعلوم الأولين والآخرين.

وفاتها عليها‌السلام :

لا شكّ أن يوم وفاتها عليها‌السلام كان ثقيلاً علىٰ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وحزيناً علىٰ سائر المؤمنين ، ومن المؤسف أن ما وصلنا من كتب التاريخ قد أغفل تسجيل هذا اليوم الحزين ، وإن كان المظنون تسجيله فيما فقد من تراث الشيعة وحُرق وتُلف لأسباب سياسية وطائفية التهمت مكتبات شيعية برمّتها.

ومع عدم وجود ما يدلُّ علىٰ تحديد تاريخ وفاتها عليها‌السلام إلّا أنه يمكن القول بأنها لم تعش طويلاً بعد واقعة كربلاء ، حيث ذكروا بأن أولاد الإمام السجّاد عليه‌السلام بلغوا خمسة عشر ولداً ، ولم يذكروا لزين العابدين عليه‌السلام من فاطمة بنت الحسن عليهما‌السلام سوى الإمام الباقر عليه‌السلام ، وأما باقي أولاده فكلهم من أُمهات الأولاد (١) ، وفي هذا ما يشير إلىٰ رحيلها المبكر بعد شهادة خامس أصحاب الكساء عمّها السبط الإمام الحسين عليه‌السلام.

فسلام عليها يوم وُلدت ، ويوم قضت نحبها مجاهدة صابرة ، ويوم تُبعث بإذن الله في الحياة الأُخرىٰ راضية مرضية.

ثالثاً : أُم الإمام الصادق عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة فاطمة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر بن أبي قحافة

_____________

(١) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ١٥٥ ، باب ذكر أولاد علي بن الحسين عليهم‌السلام.

١٢٣

بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة (١) ، وتُعرف أيضاً باسم : قريبة (٢) ، وهي مخدّرة جليلة ، من ربّات العبادة والورع والزهد ، ومن فواضل نساء عصرها ، صاحبة الإيمان والاعتقاد بأهل البيت عليهم‌السلام سيّما وهي زوج باقر علوم الأولين والآخرين ، وأبو زوجها الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، وابنها ينبوع العلم ومعدن الحكمة جعفر بن محمّد الصادق الأمين.

أبوها : القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة (٣).

أُمّها : أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر (٤).

أُختها : للسيدة فاطمة أُخت معروفة بأُم حكيم زوجة إسحاق العريضي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سلام الله عليهم جميعا ، والتي أنجبت له القاسم وعُرفت فيما بعد بأُم القاسم ، والذي كان أميراً علىٰ اليمن ، وبهذا النسب يكون القاسم رضي‌الله‌عنه والصادق : ابنا خالة ، والقاسم هو والد داود بن القاسم المعروف بأبي هاشم الجعفري من أصحاب الإمام علي الهادي عليه‌السلام (٥).

كنيتها : أُمّ فروة (٦).

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٥ / ١٥.

(٢) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ٤ : ٢٩.

(٣) منتهى الآمال / عباس القمي ٢ : ٦٤٢.

(٤) دلائل الإمامة : ٢٤٨.

(٥) مروج الذهب / المسعودي ٤ : ٦٣ بتصرّف.

(٦) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.

١٢٤

زواجها من الإمام الباقر عليه‌السلام :

لقد كانت العلاقات بين الإمام السجّاد عليه‌السلام وبين القاسم بن محمد طيّبة ، فقد تأثّر القاسم بأخلاق أبيه ، وكان بينه وبين الإمام عليه‌السلام نسبة أبناء الخالة ، وأمّا محمد أبوه فقد كان من خوّاص أمير المؤمنين عليه‌السلام وخلّص أصحابه ، بل لقد ربّاه الإمام علي عليه‌السلام ، وأدّبه التربية الإسلامية الصحيحة ، وكان محمد رضي‌الله‌عنه من خيار رجالات الإسلام ، وقد ساعد علىٰ ذلك كون أمّه أسماء بنت عميس من النساء المواليات لأهل البيت عليهم‌السلام.

وهكذا ازدادت أُسرة آل القاسم بن محمّد رضي‌الله‌عنه شرفاً بالتقرّب إلىٰ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا في الواقع يمثل غاية فخر البكريين جميعاً فيما لو راموا الافتخار.

نعم .. بارك الله تعالىٰ في هذا الزواج السعيد ، وغمرت الزوجين ألطاف الله عزّوجلّ ، واحتفّ بيتهما الطاهر بدعاء الملائكة المقرّبين ، وجاء منهما من ملأ علمه الخافقين إمام الفقهاء الإمام الصادق عليه‌السلام الذي أقلّ ما قالوا بحقّه أنه : ذو علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الحكمة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات (١).

ولادتها الإمام الصادق عليه‌السلام :

وَلَدَتْ السيدة الجليلة فاطمة بنت القاسم رضوان الله عليها ، إمامنا الصادق عليه‌السلام في يوم الجمعة ، وقيل : الاثنين من اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل ، لسنة (٨٣) للهجرة المباركة ، في مدينة جدّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو اليوم الذي وُلد فيه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

_____________

(١) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٤٧.

١٢٥

أمّا تسميته بهذا الاسم ، فقد خصّه جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك حيث قال فيه : « إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسمّوه بالصادق » ! (١).

وهكذا حقّ لفاطمة بنت القاسم رضي الله عنها ، أن تفتخر علىٰ لداتها جميعاً بمولودها العظيم الذي غيّر مجرى التاريخ وأقام الإسلام علىٰ أصوله الأولىٰ وأسسه الثابتة التي أوشكت علىٰ الانهيار في ظل البلاطين الأُموي والعباسي.

كراماتها وفضائلها :

كانت السيدة فاطمة بنت القاسم من العارفات الصالحات ، وفي غاية الورع والتقىٰ ، ويكفيها فخراً ما ورد عن ولدها الصادق عليه‌السلام في حقّها : « كانت أُمّي ممن آمنت واتقت وأحسنت ، والله يحب المحسنين » (٢).

وفي إثبات الوصية للمسعودي : كانت السيدة ـ أُم فروة ـ فاطمة بنت القاسم من أتقىٰ نساء زمانها ! (٣). وفي منتهى الآمال : كانت أُم فروة رضي الله عنها في غاية الجلالة والكرامة بحيث كان يُقال لولدها الإمام الصادق عليه‌السلام ابن المكرّمة (٤).

عن عبد الأعلىٰ قال : رأيت أُم فروة تطوف بالكعبة عليها كساء ، متنكّرة ، فاستلمت الحجر بيدها اليسرىٰ ، فقال لها رجل ممّن يطوف : يا أمة الله أخطأتِ

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٣٢ / ٢٩.

(٢) الكافي ١ : ٤٧٢ / ١ باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام من كتاب الحجّة.

(٣) إثبات الوصيّة / المسعودي : ١٥٤.

(٤) منتهى الآمال ٢ : ١٩١.

١٢٦

السنّة ! فقالت : إِنّا لأغنياءٌ عن علمك (١).

وكانت رضي الله تعالىٰ عنها عالمة بالحديث مشغوفة بروايته عن أئمة الهدىٰ عليهم‌السلام ، ومن أحاديثها ما أخرجه بسنده عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أُمه فاطمة رضي الله عنها عن أبيه الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال لها : « يا أمّ فروة ، إنّي لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرّة ؛ لأنّا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر علىٰ ما نعلم من الثواب ، وهم يصبرون علىٰ ما لا يعلمون » (٢).

كما عدّها البرقي في رجاله من رواة أحاديث الإمام الصادق (٣).

وفاتها عليها‌السلام :

لم يذكر التاريخ وفاتها رضي الله عنها ، ولا شكّ أنه كان يوماً حزيناً على أهل البيت عليهم‌السلام والأسرة الهاشمية وإمامها الإمام الصادق عليه‌السلام ، وهم يودّعون سيدة من خيرة نساء زمانها ، وأفضلهن وأكرمهن عند الله درجة ، فسلام عليكِ يا زوجة باقر العلوم ، ويا أُم عظيم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أُستاذ العلماء وإمام الفقهاء الصادق عليه‌السلام ، وصلّى الله عليكِ يوم تزوّجت ، ويوم انجبت ، ويوم رحلت إلىٰ رحمة ربّك ورضوانه قريرة العين راضية بما أعدّ الله تعالىٰ لك من دار لا تفنىٰ ونعيم لا يبلىٰ ، ورحمة الله عليكِ وبركاته.

رابعاً : أُم الامام الكاظم عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة حميدة (٤) المصفّاة بنت صاعد الأندلسية ، ويقال : إنّها

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٦ : ٣٦٧ / ٩.

(٢) الكافي١ : ٤٧٢ / ١ ، باب مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام من كتاب الحجّة.

(٣) رجال البرقي : ٦٢ ، معجم رجال الحديث / السيد الخوئي ٢٣ : ١٧٩.

(٤) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ٣٠٧.

١٢٧

بربرية ، وقيل : إنّها روميّة. والأرجح أنّها أندلسية. وهي من النساء الأشراف الأعاظم ، وكانت تعدّ من التقيّات والورعات والثقات ، وقد اعتنى الإمام الصادق عليه‌السلام بتربيتها وتعليمها وتثقيفها حتىٰ صارت عالمة ، وفقيهة ومربّية ، عُهد إليها تعليم النساء وإرشادهن إلىٰ أحكام الإسلام وعقائده ومفاهيمه وأخلاقه (١).

لقبها : لؤلؤة (٢).

زواجها من الإمام الصادق عليه‌السلام :

روي عن عيسىٰ بن عبد الرحمٰن عن أبيه قال : دخل عكاشة بن محصن الأسدي علىٰ الإمام أبي جعفر الباقر ، وكان أبو عبد الله الصادق قائماً عنده ، فقال ابن محصن الأسدي للإمام الباقر عليه‌السلام : اَلّا تُزوّج أبا عبد الله الصادق فقد أدرك التزويج ؟ فقال الباقر عليه‌السلام وبين يديه صرّة مختومة : « سيجيء نخّاس من أهل البربر ينزل دار ميمون ، فنشتري له بهذه الصرّة جارية ».

فقال الأسدي : فأتىٰ لذلك ما أتىٰ ، فدخلنا علىٰ أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فقال : « ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم ؟ قد قدم فاذهبوا واشتروا بهذه الصرّة منه الجارية ».

قال الأسدي : فأتينا النخاس ، فقال : قد نفذ ما كان عندي إلّا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الاُخرىٰ. قلنا : فاخرجهما حتىٰ ننظر إليهما ، فأخرجهما فقلنا : بكم تبيعنا هذه الجارية المتماثلة ؟ قال : بسبعين ديناراً ، فقلنا له :

_____________

(١) الإمام موسىٰ الكاظم عليه‌السلام : ١٧ ، مؤسسة البلاغ.

(٢) في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد الأمين ٤ : ٨٠.

١٢٨

نشتريها منك بهذه الصرّة ما بلغتْ وما ندري ما فيها !

وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية فقال : فكّوا وزِنوا ؟ فقال النخاس : لا تفكّوا ، فأنها إن نقصت حبّة من سبعين ديناراً لم أبايعكم ! فقال الشيخ : زنوا ، وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير ، فإذا هي سبعون ديناراً لا تزيد ولا تنقص ، فأخذنا الجارية فأدخلناها علىٰ الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وأبو عبد الله الصادق قائم عنده ، فأخبرنا الإمام الباقر بما كان ، فحمد الله وأثنىٰ عليه ثمّ قال لها : « ما اسمك ؟ » قالت : حميدة ، فقال الإمام عليه‌السلام : « حميدة في الدنيا ، ومحمودة في الآخرة ، أخبريني عنك أبكر ، أم ثيب ؟ » ، قالت : بكر ، قال الإمام عليه‌السلام : « كيف ولا يقع في يد النخّاسين شيء إلّا أفسدوه ؟ ».

قالت : « كان يجيء فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة ، فيسلط الله عليه رجلاً أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتىٰ يقوم عنّي ... فقال : يا جعفر ، خذها إليك ، فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر عليه‌السلام » (١).

لقد تزوّجها إمامنا الصادق عليه‌السلام وعاشت في كنفه تنعم بالسعادة والبركة في ظلّ الإمامة الوارف ، تغترف من علم الإمام وتقواه ، وتتزيّن بحلمه وعلمه ، وتتعطّر بكماله وأدبه ، وتفرّدت من بين ضرّاتها بأُمومة إمامنا أبي الحسن الأول موسى الكاظم عليه‌السلام.

ولادتها الإمام الكاظم عليه‌السلام :

نعم ، لقد اقترن الإمام الصادق عليه‌السلام بتلك المخدّرة المباركة ، والتي شاءت

_____________

(١) عوالم الإمام الجواد عليه‌السلام : ٥٣٩ ، واُنظر : الكافي ١ : ٤٧٦ / ١ ، باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام من كتاب الحجّة ، وبحار الأنوار ٤٨ : ٥ / ٥.

١٢٩

الأقدار الإلٰهيّة أن تأتي بها من تلك الديار النائية مصفّاة كسبيكة الذهب ، وأن تنعم في ظلال الإمام الوارف. فكانت مأوىً ومهبطا لذريّتِه الطاهرة.

ومضت الأيّام والشهور ، وعمّت البشرىٰ بيت الإمام بولادة ابنهِ الكاظم عليهما‌السلام ، وذلك في منطقة الأبواء الواقعة بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة ، والتي توفّيت فيها جدّتهم الكبرىٰ سيّدة الاُمهات آمنة عليها‌السلام ، وكانت ولادة مولود السيّدة حميدة المصفّاة يوم الأحد المصادف لليوم السابع من شهر صفر المظفر سنة مائة وثمان وعشرين لهجرة الرسول المباركة.

وحينما بُشّر الإمام الصادق بمولوده السعيد حيث كان يتناول طعام الغداء مع جماعة من أصحابه ، تركهم وخفّ لاستقبال مولوده السعيد بفيض من الغبطة والسرور وهالة من الحبّ والحنان الأبوي الكريم.

ولم يقم بعدها طويلاً في منطقة الأبواء ، بل عاد إلىٰ المدينة المنوّرة ، وعلىٰ عادة أجداده الطاهرين عليهم‌السلام في استقبال ولادات أبنائهم ، فقد أوْلَم الإمام ، ودعا الناس ، واحتفىٰ بمولوده الكريم ، وأطعم ضيوفَه الكرام ثلاثة أيام. وقد توافد عليه الناس يهنّئونه بالمولود العظيم ، وهو لا يكتم مشاعر الفرح والاحتفاء بهذا المولود المبارك ويصرّح : « وددت أن ليس لي ولد غيره ، لئلّا يشركه في حبّي أحد » (١).

وقد حدّث أبو بصير بهذا الحدث السعيد قائلاً : كنت مع الإمام أبي عبد الله في السنة التي ولد فيها ابنه الكاظم ـ موسىٰ عليهما‌السلام ـ فلما نزلنا الأبواء وضع لنا أبو عبد الله الغداء ولأصحابه ، وأكثره وأطابه ، فبينما نتغدىٰ إذ أتاه رسول السيدة

_____________

(١) حياة الإمام الكاظم عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ١ : ٤٦.

١٣٠

حميدة أن الطلق قد ضربني ، وقد أمرتني أن لا أسبقك بابنك هذا. فقام الإمام أبو عبد الله عليه‌السلام فرحاً مسروراً ، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه ضاحكاً سنُّه ! فقلنا له : أضحك الله سنّك ، وأقرّ عينك ، ما صنعت حميدة ؟ فقال الإمام عليه‌السلام : « وهب الله لي غلاما ، وهو خير من برأ الله ، ولقد خبرتني عنه بأمر كنت أعلم به منها ».

قلت : جعلت فداك ، وما خبّرتْك عنه حميدة ؟ قال الإمام عليه‌السلام : « ذكرت أنّه لمّا وقع من بطنها وقع واضعا يديه علىٰ الأرض ، رافعاً رأسه إلىٰ السماء ، فأخبرتها : أن تلك أمارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمارة الإمام من بعده » (١).

فما أقدس وأعظم هذه المرأة التي كان بطنها الطاهر وعاءً لشخص الإمامة !

كراماتها :

إنّ للسيدة حميدة المصفاة كرامات كثيرة نذكر منها ما يلي :

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « حميدة في الدنيا ، ومحمودة في الآخرة » (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتىٰ أُديت إليّ كرامة من الله لي والحجّة من بعدي » (٣).

وهذه شهادة من المعصوم علىٰ عظمة هذه السيّدة المنيفة رضي الله عنها.

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٨ : ٢ / ٢.

(٢) الكافي ١ : ٤٧٧ / ١ باب مولد أبي الحسن موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام من كتاب الحجّة ، بحار الأنوار ٤٨ : ٥ / ٥.

(٣) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٢ من الباب المتقدّم.

١٣١

جدير بالذكر ، أنّ هذه المرأة الجليلة كانت رضي الله عنها من جملة أوصياء الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث أوصى إمامنا الصادق عليه‌السلام في ساعاته الأخيرة إلى جماعة كانت حميدة رضي الله عنها من جملتهم ، ولم يخصّ عليه‌السلام بوصيّته إمامنا الكاظم عليه‌السلام ، بل جعله ـ بعد إن دلّ على إمامته وأكّدها طيلة حياته الشريفة ـ من جملة الأوصياء ؛ حفاظاً علىٰ سلامته من بطش المنصور العباسي.

وقد تحقّقت نبوءة الإمام عليه‌السلام ؛ إذ أمر المنصور أبا أيوب النحوي أن يكتب إلى عامله في المدينة بشأن وصيّة الإمام الصادق عليه‌السلام ما هذا لفظه : « إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه ، قال : فرجع الجواب : أنّه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمد بن سليمان ، وعبدالله ، وموسى ، وحميدة » (١).

وفي خبر آخر أنّ المنصور قال بعد ورود الجواب : « ليس إلى قتل هؤلاء سبيل » (٢).

وفاتها عليها‌السلام :

لم يصل إلينا ذلك اليوم الموجع بفقد حميدة الخير ، حميدة الطهر والعفاف ، حميدة  الآل عليهم‌السلام محمودة السماء. ولكن من خلال ما مرّ في كراماتها وفضائلها ، يمكن القول بأنها كانت من النسوة المعمّرات ، لأنها أول امرأة يتزوّجها الإمام الصادق عليه‌السلام وفي سنّ مبكرة من عمره الشريف ، ولا يبعد أن يكون في السنة الخامسة عشرة من عمره الشريف أو نحو ذلك كما يفهم من لسان الرواية

_____________

(١) أصول الكافي ١ : ٣١٠ / ١٣ باب ٧١ من كتاب الحجّة.

(٢) أصول الكافي ١ : ٣١٠ / ١٤ من الباب السابق.

١٣٢

المتقدمة في زواجه من حميدة عليهما‌السلام. وهذا يعني أنها اقترنت بالإمام الصادق عليه‌السلام في حدود سنة ٩٨ من الهجرة الشريفة ، وبقيت معه في بيته إلىٰ حين رحيله عليه‌السلام إلىٰ جوار ربّه العزيز سنة ١٤٨ه ، وبهذا تكون قد عاشت مع الإمام الصادق عليه‌السلام زهاء خمسين عاماً. وعلى هذا تكون قد أدركت إمامة ولدها الكاظم عليه‌السلام وتوفّت في زمان إمامته رضي الله عنها.

فتحية إكبار وإجلال لك يا زوج الصادق العظيم واُم كاظم الغيظ الصابر المبتلىٰ ، وسلام عليك في أمسك ويومك وغدك.

خامساً : أُم الإمام الرضا عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة نجمة (١) من أشراف العجم ، وهي جارية مولّدة ، حيث ولدت في ديار العرب ، ونشأت مع نسائهم وبناتهم ، وتأدّبت بآدابهم.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سكن ، وأروىٰ ، وسمانة ، وخيزران المرسية ، وشقراء ، وصقر ، وسكينة النوبيّة ، وشهد ، وسُلافة.

وروي أنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام سمّاها (تكتم) حين ملكها ، وهو آخر أسمائها قبل ولادة الإمام الرضا عليه‌السلام ، ولما ولدته عليه‌السلام سمّاها الإمام الكاظم عليه‌السلام (الطاهرة) (٢).

_____________

(١) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧.

(٢) راجع : الاختصاص / الشيخ المفيد : ١٩٧ ، كشف الغمّة٢ : ٢٦٧ ، فرق الشيعة / النوبختي : ٩٦ ، تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٢٠٧ ، بحار الأنوار ٤٩ : ٣ / ٣ و ٦ / ٧ ، و ٩ : ١٥ و ١٦ ، منتهَى الآمال / عباس القمي ٢ : ٤٠٥.

١٣٣

كنيتها : أُمّ البنين (١).

قصة مجيئها إلىٰ بيت الإمام الكاظم عليه‌السلام :

شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه المخدّرة الجليلة قرينة الإمام الكاظم عليه‌السلام ووعاءً لحمل شخص الإمام الرضا عليه‌السلام ، ولكن كيف وصلت هذه المرأة المباركة من ذلك المكان البعيد ؟

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن هشام بن أحمد قال : قال الإمام أبو الحسن الأوّل عليه‌السلام لي : « هل علمت أحداً من أهل المغرب قدم ؟ » قلت : لا. قال الإمام عليه‌السلام : « بلىٰ قد قدم رجل أحمر ، فانطلق بنا » ، وركب وركبنا معه حتى انتهينا إلىٰ الرجل ، فإذا رجل من أهل الغرب معه رقيق ، فقال الإمام له : « أعرض علينا ؟ » فعرض علينا تسع جواري ، ولكنّ الإمام أبوالحسن يقول : « لا حاجة لي فيها » ثمّ قال الإمام له : « أعرض علينا ؟ » قال النخاس : ما عندي شيء ؟ فقال الإمام : « بلى أعرض علينا ؟ » فقال النخاس : لا والله ما عندي إلّا جارية مريضة ، فقال له : ما عليك أن تعرضها ، فأبىٰ عليه ، ثمّ انصرف عليه‌السلام ، ثمّ أرسلني من الغد إليه ، فقال لي : « قل له كم غايتك فيها ؟ فإذا قال كذا وكذا ، فقل : قد أخذتها ». فأتيته فقال : ما أريد أن أنقصها من كذا ، فقلت : قد أخذتها ، وهو لك ، فقال : هي لك ، ولكن مَنْ الرجل الذي كان معك بالأمس ؟ فقلت : رجل من بني هاشم ، فقال : من أي بني هاشم ؟ فقلت : من نقبائهم ، فقال النخاس : أريد أكثر منه ؟ فقلت : ما عندي أكثر من هذا !

فقال النخاس : أخبرك عن هذه الوصيفة أني أشتريتها من أقصىٰ بلاد

_____________

(١) بحار الأنوار ٤٩ : ٦ / ٧.

١٣٤

المغرب ، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب ، فقالت : ما هي الوصيفة معك ؟ فقلت : اشتريتها لنفسي ، فقالت المرأة الكتابية : ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك ! إنّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده قليلاً حتىٰ تلد منه غلام يدين له شرق الأرض وغربها ! (١)

زواجها من الإمام الكاظم عليه‌السلام :

لمّا وصلت السيدة نجمة (تكتم) وصارت في كنف سيدتها حميدة المصفّاة ، ذكرت السيدة حميدة ما رأت فيها من كرامة وهيبة حيث رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لها : يا حميدة ، هبي نجمة لابنك موسىٰ ، فأنّه سيولد له منها خير أهل الأرض ، فوهبتها له (٢).

ولادتها الإمام الرضا عليه‌السلام :

مضت الأيام والشهور علىٰ زواج الإمام الكاظم عليه‌السلام بالسيدة تكتم ، وقد حملت بوليدها الرضا عليه‌السلام ، وكانت ترىٰ العجب العجاب من حملها المبارك وهو في بطنها ، حيث ذكرت الرواية عن السيدة تكتم ، قولها : لمّا حملتُ بابني (عليٌ) لم أشعر بالحمل ، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً من بطني فيفزعني ويهولني ، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً ، فلما وضعته وقع علىٰ الأرض واضعاً يديه علىٰ الأرض رافعاً رأسه إلىٰ السماء يحرّك شفتيه كأنّه يتكلّم ، فدخل عليّ أبوه موسى بن جعفر عليهما‌السلام فقال لي : « هنيئاً لك يا نجمة كرامة لك ».

_____________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤ / ٤ باب ما جاء في أمّ الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام واسمها.

(٢) الاختصاص / المفيد : ١٩٦.

١٣٥

فناولته إيّاه في خرقة بيضاء ، فأذّن في أذنه اليمنىٰ ، وأقام في اليسرىٰ ، ودعا بماء الفرات فحنّكه به ، ثمّ ردّه إليّ وقال : « خذيه فإنه بقية الله في أرضه » (١).

عن محمّد بن زياد قال : سمعت الإمام موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام يقول لمّا ولد الرضا عليه‌السلام : « أن ابني هذا ولد مختونا طاهراً مطهّراً ، وليس من الأئمة أحدٌ يولد إلّا مختوناً طاهراً مطهراً » (٢).

وهنا عمّت الفرحة والبشرىٰ بولادة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وكان ذلك في المدينة المنورة في سنة ١٤٨ للهجرة المباركة المصادف ليوم الخميس لاحدىٰ عشرة ليلة خلون من شهر ذي القعدة الحرام ، وذلك بعد وفاة جدّه الإمام الصادق عليه‌السلام بخمس سنين (٣) ، ولقد أجاد الشاعر في مدحها وذرّيتها :

ألا أن خير الناس نفساً ووالداً

ورهطاً وأجداداً عليُّ المعظم

أتتنا به للعلم والحلم ثامناً

إماماً يؤدّي حجّة الله تكتم (٤)

كراماتها :

عند البحث والتنقيب في طيِّات كتب السيرة والتاريخ ، يعلم المتتبّع مدىٰ عظمة هذه السيدة ، وإليك جملة من الروايات المشيرة إلىٰ ذلك :

رُوي عن هارون أنّه قال : إنّ الإمام الكاظم عليه‌السلام عندما اشترىٰ السيدة

_____________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦ / ٢ باب في ذكر مولد الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ٢ : ٤٣٣ / ١٥.

(٣) الإرشاد ٢ : ٣٠٤.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣ / ٢ باب ما جاء في أُمّ الرضا علي بن موسىٰ عليه‌السلام واسمها.

١٣٦

(نجمة) جمع قوماً من أصحابه فقال لهم : « والله ما اشتريت هذه الأمة إلّا بأمر الله ووحيه ! »

فسُئِل عن ذلك ، فقال : « بينما أنا نائم ، إذ أتاني جدّي وأبي عليهما‌السلام ومعهما شُقَّة حرير فنشراها ، فإذا هي قميص وفيه صورة هذه الجارية ! فقال جدّي : يا موسىٰ ، ليكونن من هذه الجارية خير أهل الأرض من بعدك ، ثمّ أمراني أن اسمّيه عليّاً ، وقالا لي : إنّ الله تعالىٰ يظهر به العدل والرأفة ، طوبىٰ لمن صدّقه ، وويلٌ لمن عاداه وجحده وعانده » (١).

وكانت السيدة نجمة في غاية العبادة والتقىٰ ، وقد دلّت علىٰ ذلك الرواية الواردة عن أُم الإمام الكاظم عليه‌السلام (حميدة) حيث قالت عنها : إنّ نجمة لمّا ولدت الرضا عليه‌السلام كان يرتضع كثيراً ، وكان تامّ الخلقة ، فقالت : أعينوني بمرضعة ، فقيل لها : أَنقص الدر ؟ قالت : لا والله ما نقص ، ولكن عليَّ وردٌ من صلاتي وتسبيحي ، وقد نقص منذ ولدت (٢).

وبعد ، فقد كانت نجمة رضي الله عنها قرينة لنسمة من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الكاظم عليه‌السلام ، ووعاءً لبضعة من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الرضا عليه‌السلام.

وفاتها عليها‌السلام :

لم نعثر علىٰ تاريخ وفاة أُم الإمام الرضا عليه‌السلام في شيء مما وصل إلينا من كتب التاريخ ، بيد أنا نقدّر جهادها العظيم وصبرها في حياتها علىٰ المعاناة الكبرىٰ

_____________

(١) إثبات الوصية / المسعودي : ١٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٥ / ٧.

١٣٧

التي عاناها زوجها الحبيب في غيابات السجون وطوامير العتاة المردة من آل بني العباس ، وربما قد تكون قد أثرت تلك المحن والبلايا علىٰ هذه السيدة الجليلة فاختار لها الله عزّوجلّ دار الكرامة والمستقرّ الآمن ، فسلام عليها يوم ولدت ويوم حلّت معظمة في بيوت آل الله ، ويوم أرضعت وليداً من آل الله ، ويوم انتقلت إلىٰ رحمة الله.

قبرها رضي الله عنها :

وأمّا عن مكان قبر أمّ الإمام الرضا عليه‌السلام ، فهو في المدينة المنوّرة ، معلوم ومعروف ، إلّا أنّ الوهّابية البغيضة حاولت طمسه كما حاولت طمس قبور أولياء الله عليهم‌السلام في البقيع الشريف. ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١).

سادساً : أُم الامام الجواد عليه‌السلام

اسمها : هي السيدة خيزران (٢) ، والتي تُعدّ من أفضل نساء زمانها وأكثرهن ورعاً وتقوىً وعبادة وزهداً. ويرجع أصلها إلىٰ أهل بيت مارية القبطية زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي في كراماتها.

ومن أسمائها الأخرىٰ : سكن المريسية ، وسبيكة ، وريحانة ، ودرّة (٣).

_____________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧.

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة ١ : ٣٠٧ ، التهذيب / الطوسي ٦ : ٩.

(٣) راجع : فرق الشيعة / النوبختي : ١٠٠ ، كشف الغمّة ٢ : ٣٤٥ ، دلائل الإمامة : ٣٩٦ ، الإرشاد ٢ : ٣٥٦ ، الكافي ١ : ٤٩٢ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام من كتاب الحجّة ، في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ٤ : ١٦٢.

١٣٨

كنيتها : أُم الحسن (١).

زواجها من الإمام الرضا عليه‌السلام :

عاش الرضا عليه‌السلام وترعرع في كنف إمامة أبيه الكاظم عليه‌السلام حيث بيت النبوّة ، وموضع الرسالـة ، ومختـلف الملائكـة ، ومهبط الوحي ، (٢) واستمرّ ينعم في ظلّـه الوارف إلىٰ أن استدعاه الرشيد في بغداد ، فأوصىٰ له بوصاياه ، وأعطاه مواريث النبوة والإمامة ، ومن تلك الوصايا ؛ ما أوصاه بالزواج من تلك المخدّرة الجليلة (خيزران) حيث أخبره بجلالة أمرها وعظم شأنها ، كيف وهي ستكون زوجته وأم ولده حجّة الله علىٰ خلقه ، وفعلاً تزوّجها فغمرتهما الرحمة الإلهية.

ولادتها الإمام الجواد عليه‌السلام :

اقترن الإمام الرضا عليه‌السلام بهذه السيدة الجليلة ، وأثمر ذلك الاقتران عن بزوغ ثمرة طاهرة وفرع لتلك الشجرة المحمدية المباركة ، وامتداد لسلسلة أهل البيت عليهم‌السلام المطهّرة ، التي قال عنها جلّ ذكره : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ .... ) (٣).

وأما ولادته فقد روىٰ ابن شهرآشوب بسنده عن السيدة حكيمة بنت

_____________

(١) دلائل الإمامة : ٣٩٦.

(٢) مفاتيح الجنان : ٥٤٤.

(٣) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢٤ ـ ٢٥.

١٣٩

الإمام الكاظم عليه‌السلام أنها قالت : لمّا حضرت ولادة الخيزران أُم أبي جعفر عليه‌السلام دعاني الرضا عليه‌السلام فقال : « يا حكيمة أحضري ولادتها وادخلي وإياها والقابلة بيتاً » ، ووضع لنا مصباحاً وأغلق الباب علينا ، فلما أخذها الطلق طفئ المصباح وبين يديها طست ، فاغتمت بطفئ المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بَدَرَ أبو جعفر عليه‌السلام في الطست ، وإذا عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتىٰ أضاء البيت فأبصرناه ، فأخذته فوضعته في حجري ، ونزعت عنه ذلك الغشاء ، فجاء الرضا عليه‌السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ووضعه في المهد وقال لي : « يا حكيمة الزمي مهده ».

قالت : فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلىٰ السماء ، ثمّ نظر يمينه ويساره ، ثمّ قال : « أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » فقمت ذعرة فزعة ، فأتيت أبا الحسن عليه‌السلام فقلت له : لقد سمعت من هذا الصبي عجباً فقال : « وما ذاك ؟ » فأخبرته الخبر ، فقال : « يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر » (١).

أجل لقد كانت السيدة خيزران فَرِحَةٌ بهذا المولود ، وكان الإمام الرضا عليه‌السلام يشاطرها السرور ، فقد كان عليه‌السلام يناغيه طول ليلته في مهده (٢).

وأما زمان ولادته عليه‌السلام فقد اختلفت الروايات في ذلك ، فقيل : إنّ ولادته كانت في شهر رمضان المبارك لسبع عشرة ليلة مضت منه ، وقيل : في النصف منه كوقت ولادة جدّه الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام ، وذكرت رواية أخرىٰ أنّ ولادته كانت في شهر رجب الأصبّ ، في منتصفه ، أما ابن عيّاش فذكر أن ولادته كانت

_____________

(١) بحار الأنوار ٥٠ : ١٠ / ١٠.

(٢) عيون المعجزات : ١٢١.

١٤٠