البراهين القاطعة - ج ٤

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٤

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-548-224-0
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥١١

وأنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن أن توزن ، فكيف إذا زالت وتلاشت ، بل المراد به العدل الثابت في كلّ شيء ؛ ولذا ذكر بلفظ الجمع ، وإلاّ فالميزان المشهور واحد (١).

وقيل : هو الإدراك فميزان الألوان البصر ، والأصوات السمع ، والطعوم الذوق وكذا سائر الحواسّ ، وميزان المعقولات العقل (٢).

وأجيب : بأنّه تعالى يزن صحائف الأعمال.

وقيل : بل تجعل الحسنات أجساما نورانيّة والسيّئات أجساما ظلمانيّة. وأمّا لفظ الجمع فللاستعظام.

وقيل : لكلّ مكلّف ميزان ، وإنّما الميزان الكبير واحد ؛ إظهارا لجلالة الأمر فيه وعظم المقام (٣).

وأمّا الصراط فقد ورد في الحديث الصحيح : « أنّه جسر ممدود على متن جهنّم يرده الأوّلون والآخرون ، أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ». (٤)

ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كلّ أحد النار على ما قال الله تعالى : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها ) (٥).

وأنكرها القاضي عبد الجبّار وكثير من المعتزلة ؛ زعما منهم أنّه لا يمكن الخطور عليه ، ولو أمكن ففيه تعذيب ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة قطعا ، قالوا : بل المراد به طريق الجنّة المشار إليه بقوله تعالى : ( سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ) (٦)

__________________

(١) حكاه التفتازاني عنهم في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٢) حكاه التفتازاني أيضا في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢١.

(٣) حكاهما التفتازاني في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢١.

(٤) « الكافي » ٨ : ٣١٢ ، ح ٤٨٦ ؛ « تفسير القمّي » ١ : ٢٩ ؛ « الأمالي » للصدوق : ١٤٩ ، المجلس ٣٣ ، ح ٤.

(٥) مريم (١٩) : ٧١.

(٦) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) : ٥.

٣٠١

وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى : ( فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ ) (١) ، (٢).

وقيل : المراد الأدلّة الواضحة. وقيل : العبادات كالصلاة والزكاة ونحوهما. وقيل :

الأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها ، كأنّه يمرّ عليها ويطول المرور بكثرتها ويقصر بقلّتها (٣).

والجواب : أنّ إمكان العبور ظاهر كالمشي على الماء والطيران في الهواء ، غايته مخالفة العادة ثمّ الله تعالى يسهّل الطريق على من أراد كما جاء في الحديث : « إنّ منهم من هو كالبرق الخاطف ، ومنهم من هو كالريح الهابّة ، ومنهم من هو كالجواد ، ومنهم من تخور رجلاه وتتعلّق يداه ، ومنهم من يخرّ على وجهه » (٤).

وأمّا الحساب ، فقد قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا (٦).

وأمّا تطاير الكتب فقد قال الله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) (٧) ، وقوله تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) (٨) ) (٩).

وصل : هذا الاعتقاد من أصول الدين ، ومنكره من الكافرين.

__________________

(١) الصافّات (٣٧) : ٢٣.

(٢) حكاه عنهم التفتازاني في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢٠.

(٣) حكى الأقوال الثلاثة التفتازاني في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢٠.

(٤) نقله التفتازاني في « شرح المقاصد » ٥ : ١٢٠.

(٥) آل عمران (٣) : ١٩٩.

(٦) « محاسبة النفس » : ١٣.

(٧) الانشقاق (٨٤) : ٧ ـ ٨.

(٨) الإسراء (١٧) : ١٣.

(٩) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٨٢ ـ ٣٩٢.

٣٠٢

الفصل الثالث : في بيان أحوال النار وأهلها

وفيه أمور :

منها : أحوال الناس عند العبور على الصراط. فقد ورد أنّه جسر جهنّم أدقّ من الشعر ، وأحدّ من السيف ، وأنّ الناس يمرّون عليه ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرّ حبوا ، ومنهم من يمرّ مشيا ، ومنهم من يمرّ متعلّقا قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا (١).

وأنّ من لم يعرف صراط الدنيا ـ وهو الإمام المفترض الطاعة ـ زلّت قدمه في الآخرة فتردّى في نار جهنّم (٢) ، وأنّه لم يجز عليه إلاّ من كان له ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

وأنّه لا يجوزه عبد بمظلمة (٤) : وأنّ عليه سبع محابس ، يسأل فيها عن شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والولاية ، وعن الصلاة والزكاة والحجّ والعمرة والمظالم (٥) إلى غير ذلك من الأحوال.

__________________

(١) « تفسير القمّي » ١ : ٤٢ ؛ « بحار الأنوار » ٨ : ٦٤ ، ح ١.

(٢) « معاني الأخبار » : ٣٢ ، باب معنى الصراط ، ح ١ ؛ « بحار الأنوار » ٢٤ : ١١ ، ح ٣.

(٣) « معاني الأخبار » : ٣٥ ـ ٣٦ ، باب معنى الصراط ، ح ٦ ؛ « بحار الأنوار » ٨ : ٦٦ ، ح ٤.

(٤) « عقاب الأعمال » : ٣٢١ ، باب عقاب من ظلم ، ح ٢.

(٥) « مجمع البيان » ١٠ : ٤٨٧ ، ذيل الآية ١٤ من سورة الفجر (٨٩) ؛ وعنه في « بحار الأنوار » ٨ : ٦٤.

٣٠٣

ومنها : شهادة الجوارح لقوله تعالى : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) الآية (١).

ومنها : تحقّق العقبات التي يكون لكلّ عقبة اسم خاصّ. فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها فرض وكان قد قصّر في ذلك الفرض حبس عندها وطولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج منه بعمل صالح قدّمه أو برحمة تناله نجا منها إلى عقبة أخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ويحبس عند كلّ عقبة فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم من جميعها انتهى إلى دار البقاء ، فيحيا حياة لا موت فيها أبدا ، وسعد سعادة لا شقاوة فيها أبدا ، وسكن جوار الله مع أنبياء الله وحججه والصدّيقين والشهداء والصالحين من عباده.

وإن حبس على عقبة فطولب بحقّ قصّر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه ولا أدركته من الله عزّ وجلّ رحمة زلّت به قدمه عن العقبة ، فهوى في جهنّم ـ نعوذ بالله منها ـ وهذه العقبات كلّها على الصراط.

اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده عليهم‌السلام فمن أتى بها نجا وجاز ، ومن لم يأت بها بقي فهوى ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) (٢).

واسم عقبة منها المرصاد ، ولا يجوزه ظلم ظالم. واسم عقبة منها الرحم. واسم عقبة منها الأمانة. واسم عقبة منها الصلاة. باسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يجلس عندها العبد فيسأل نجّانا (٣) ، الله منها.

ومنها : أحوال النار وأهلها كما قال الله تعالى : ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ

__________________

(١) النور (٢٤) : ٢٤.

(٢) الصافّات (٣٧) : ٢٤.

(٣) « بحار الأنوار » ٧ : ١٢٨ ، ح ١١.

٣٠٤

بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) (١).

وقال الله تعالى : ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) (٢).

وقال تعالى : ( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ ) (٣).

وقال تعالى : ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (٤). ( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٥).

وقال تعالى : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ ) (٦).

وقال تعالى : ( أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) (٧).

وقال تعالى : ( وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ * قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى ) (٨).

وقال تعالى : ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ) (٩).

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٢٩.

(٢) الحجّ (٢٢) : ١٩ ـ ٢٢.

(٣) المؤمنون (٢٣) : ١٠٤.

(٤) التوبة (٩) : ٤٩.

(٥) العنكبوت (٢٩) : ٥٥.

(٦) السجدة (٣٢) : ٢١.

(٧) الصافّات (٣٧) : ٦٢ ـ ٦٥.

(٨) المؤمن (٤٠) : ٤٩ ـ ٥٠.

(٩) الدخان (٤٤) : ٤٣ ـ ٤٨.

٣٠٥

وقال تعالى : ( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (١).

وقال تعالى : ( وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ) ـ إلى أن قال : ـ ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) (٢).

وقال تعالى : ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) (٣).

وقال تعالى : ( كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ * نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) (٤).

وقال تعالى : ( سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ) (٥).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ جهنّم لها سبعة أبواب أطبق بعضها فوق بعض » (٦).

وعن ابن عبّاس : « إنّ الباب الأوّل جهنّم ، والثاني سعير ، والثالث سقر ، والرابع حميم (٧) ، والخامس لظى ، والسادس الحطمة ، والسابع الهاوية » (٨).

وعن الضحّاك : أعلاها فيه أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم في الدنيا ثمّ يخرجون ، والثاني فيه اليهود ، والثالث فيه النصارى ، والرابع فيه الصابئون ، والخامس

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) : ١٥.

(٢) الواقعة (٥٦) : ٤١ ـ ٤٤ و ٥١ ـ ٥٦.

(٣) المدّثّر (٧٤) : ٢٦ ـ ٣٠.

(٤) الهمزة (١٠٤) : ٤ ـ ٩.

(٥) المسد (١١١) : ٣.

(٦) « مجمع البيان » ٦ : ٣٣٨ ، ذيل الآية ٤٤ من سورة الحجر (١٥).

(٧) في المصدر « جحيم » بدل « حميم ».

(٨) « مجمع البيان » ٦ : ٣٣٨ ، ذيل الآية ٤٤ من سورة الحجر (١٥).

٣٠٦

فيه المجوس ، والسادس فيه مشركو العرب ، والسابع فيه المنافقون ؛ وذلك أنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار (١).

وعن الهروي قال : قلت للرضا عليه‌السلام : أخبرني عن الجنّة والنار أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال : « نعم ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دخل الجنّة ورأى النار لمّا عرج به إلى السماء ».

قال : فقلت له : فإنّ قوما يقولون : إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين فقال عليه‌السلام : « ما أولئك منّا ولا نحن منهم. من أنكر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذّبنا وليس من ولايتنا على شيء ، وخلّد في نار جهنّم. قال تعالى : ( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) » (٢).

وعن أحدهما : « إنّ أهل النار يموتون عطاشى ويدخلون جهنّم عطاشى ، فيرفع لهم قراباتهم من الجنّة فيقولون : أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله تعالى » (٣).

وفي السورة التوراتيّة : أنّ جهنّم سبع طبقات فيها نيران يأكل بعضها بعضا وفي كلّ منها سبعون ألف واد من النار ، وفي كلّ واد سبعون ألف شعب من النار. وفي كلّ شعب سبعون ألف مدينة من النار ، وفي كلّ مدينة سبعون ألف قصر ، وفي كلّ قصر سبعون ألف واد من النار ، وفي كلّ واد سبعون ألف بيت من النار ، وفي كلّ بيت سبعون ألف بئر من النار ، وفي كلّ بئر سبعون ألف تابوت من النار ، وفي كلّ تابوت سبعون ألف عقرب من النار ، وفي كلّ تابوت سبعون ألف شجرة من الزقّوم ، تحت

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) « بحار الأنوار » ٨ : ١١٩ ، ح ٦.

(٣) « تفسير العيّاشي » ٢ : ١٩ ، ذيل الآية ٤٦ من سورة الأعراف (٧) ؛ وعنه في « بحار الأنوار » ٨ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، ح ١٧.

٣٠٧

كلّ شجرة سبعون ألف قدر من النار ، مع كلّ قدر سبعون ألف وتد من النار ، ومع كلّ وتد سبعون ألف سلسلة من النار ، وفي كلّ سلسلة سبعون ألف ثعبان من النار طول كلّ ثعبان سبعون ألف ذراع ، وفي جوف كلّ ثعبان بحر من السمّ الأسود ، لكلّ عقرب سبعون ألف ذنب من النار ، طول كلّ ذنب سبعون ألف ذراع ، في كلّ ذنب سبعون ألف فقار ، وفي كلّ فقار سبعون ألف رطل من السمّ الأحمر (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على شدّة تأثير النار وحرّها. نجّانا الله منها بفضله ونواله ، بحقّ خير خلقه محمّد وآله.

__________________

(١) لم نعثر على مأخذه.

٣٠٨

الفصل الرابع : في بيان أحوال أهل الأعراف

اعلم أوّلا : أنّ الأعراف واقع ؛ لقوله تعالى : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) (١) ، وهو سور بين الجنّة والنار. و « الرجال » هم الأنبياء والأوصياء ، ولا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه.

ويمكن كون « الأعراف » مكانا لمن نجا من النار وليس أهلا للجنّة ، كحاتم ، وأنوشيروان ، وولد الزنى الذي صحّت عقيدته ووافقت طاعته. وأمثالهم.

وثانيا : أنّه قال الله تعالى في حقّه : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ). وقال تعالى : ( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ ) (٢).

وفسّر « الرجال » في الأخبار بالأئمّة عليهم‌السلام ، (٣) والأعراف بالصراط بين الجنّة والنار (٤). كالتفسير بالأئمّة عليهم‌السلام حيث لا يدخل الجنّة إلاّ من عرفهم (٥). كما فسّره بعضهم بسور بين الجنّة والنار (٦). وأصحاب الأعراف بمن استوت الحسنات بها والسيّئات ، فإن أدخلهم الله الجنّة فبرحمته ، وإن عذّبهم لم يظلمهم (٧).

__________________

(١) الأعراف (٧) : ٤٦.

(٢) الأعراف (٧) : ٤٨.

(٣) « بحار الأنوار » ٨ : ٣٣٥ ، ح ٢ ـ ٣.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق : ٣٣٨ ، ح ١٤ ـ ١٩.

(٦) « مجمع البيان » ٤ : ٤٢٣ ، ذيل الآية ٤٦ من الأعراف (٧).

(٧) « تفسير العيّاشي » ٢ : ١٨ ، ذيل الآية ٤٦ من الأعراف (٧).

٣٠٩

وروي : أنّ الله تعالى يسكن الأعراف طائفة من الخلق لم يستحقّوا بأعمالهم الحسنة ثواب من غير عقاب ولا استحقّوا الخلود في النار ، وهم المرجون لأمر الله ، ولا يزالون على الأعراف حتّى يؤذن لهم في دخول الجنّة بشفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم (١).

وقيل أيضا : إنّه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلّفين فيستحقّون بأعمالهم جنّة ونارا ، فيسكنهم الله ذلك المكان ويعوّضهم على آلامهم في الدنيا بنعيم لا يبلغون منازل أهل الثواب المستحقّين له بالأعمال (٢). والله العالم بحقائق الأحوال.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٨ : ٣٤٠ ـ ٣٤١.

(٢) نقله المجلسي رحمه‌الله في « بحار الأنوار » ٨ : ٣٤١.

٣١٠

الفصل الخامس : في بيان أحوال الجنّة وأهلها

فقد قال الله تعالى في حقّهم : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٢).

وقال الله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣).

وقال الله : ( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٤).

وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٥.

(٢) التوبة (٩) : ٧٢.

(٣) يونس (١٠) : ٩ ـ ١٠.

(٤) الرعد (١٣) : ٢٤ ـ ٢٥.

(٥) الرعد (١٣) : ٢٩.

٣١١

وقال تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ) (١).

وقال تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ * لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) (٢).

وقال تعالى : ( كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣).

وقال تعالى : ( أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (٤).

وقال تعالى : ( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (٥).

وقال تعالى : ( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ ) (٦).

وقال تعالى : ( فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ ) (٧).

وقال تعالى : ( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ * لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ *

__________________

(١) الرعد (١٣) : ٣٥.

(٢) الحجر (١٥) : ٤٥ ـ ٤٨.

(٣) النحل (١٦) : ٣١ ـ ٣٢.

(٤) الكهف (١٨) : ٣١.

(٥) مريم (١٩) : ٦٢.

(٦) الحجّ (٢٢) : ٢٣ ـ ٢٤.

(٧) سبأ (٣٤) : ٣٧.

٣١٢

وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) (١).

وقال تعالى : ( أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ * يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) (٢).

وقال تعالى : ( فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٣).

وقال تعالى : ( وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) (٤).

وقال تعالى : ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ) (٥).

وقال تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) (٦).

وقال تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ

__________________

(١) يس (٣٦) : ٥٥ ـ ٥٨.

(٢) الصافّات (٣٧) : ٤٠ ـ ٤٩.

(٣) فاطر (٤٠) : ٤٠.

(٤) فصّلت (٤١) : ٣١.

(٥) الزخرف (٤٣) : ٧٠ ـ ٧٣.

(٦) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) : ١٥.

٣١٣

وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (١).

وقال تعالى : ( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) (٢).

وقال تعالى : ( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ * فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ * مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ * فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ * مُدْهامَّتانِ * فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ * فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ * حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ) (٣). إلى غير ذلك من الآيات الواردة.

وفي السورة التوراتيّة : « إنّ للمطيعين الجنان بأبوابها الثمانية ، في كلّ جنّة سبعون ألف روضة من الزعفران ، وفي كلّ روضة سبعون ألف مدينة من اللؤلؤ والمرجان ، وفي كلّ مدينة سبعون ألف قصر من الياقوت ، وفي كلّ قصر سبعون ألف دار من الزبرجد ، وفي كلّ دار سبعون ألف بيت من الذهب ، وفي كلّ بيت سبعون ألف دكّان من الفضّة ، وفي كلّ دكّان سبعون ألف مائدة ، وعلى كلّ مائدة سبعون ألف صفحة من الجواهر ، وفي كلّ صفحة سبعون ألف لون من الطعام ، وعلى كلّ دكّان سبعون ألف سرير من الذهب الأحمر ، وعلى كلّ سرير سبعون ألف نهر من ماء الحيوان أو اللبن ، والخمر والعسل المصفّى ، وفي وسط كلّ نهر سبعون ألف لون من الثمار ، كذلك في كلّ بيت سبعون ألف خيمة من الأرجوان ، وعلى كلّ فراش حور من الحور العين بين يديها سبعون ألف وصيفة كأنّهنّ بيض مكنون ، وعلى فراش كلّ قصر من تلك القصور سبعون ألف قبّة من الكافور ، وفي كلّ قبّة سبعون ألف هديّة من الرحمن

__________________

(١) الطور (٥٢) : ١٧ ـ ٢٠.

(٢) الطور (٥٢) : ٢٢ ـ ٢٤.

(٣) الرحمن (٥٥) : ٤٦ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٦ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٦٦ ، ٦٨ ، ٧٠ ، ٧٢.

٣١٤

ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ( وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (١) لا يموتون فيها ، ولا يخرجون ، ولا يعطشون ، ولا يحرمون ، ولا يحزنون ، ولا يبكون ، ولا يتعبّدون ، ولا يصلّون ، ولا يصومون ، ولا يمرضون ، ولا يتغوّطون ، ولا يمسّهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين » (٢).

ونحو ذلك من الأخبار الواردة في هذا الباب ، مثل ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سور الجنّة لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ولبنة من ياقوت ، وملاطها المسك الأذفر ، وشرفها الياقوت الأحمر والأخضر والأصفر ». الخبر (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ في الجنّة لشجرة يخرج من أعلاها الحلل ، ومن أسفلها خيل بلق مسرجة ملجمة ذوات أجنحة ، لا تروث ولا تبور ، فيركبها أولياء الله تعالى ، فتطير بهم في الجنّة حيث شاءوا » (٤).

وعن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك يا ابن رسول الله ، شوّقني ، قال : « يا أبا محمّد ، إنّ أدنى نعيم الجنّة توجد ريحها من مسيرة ألف عام من مسافة ، وإنّ لأدنى أهل الجنّة منزلا لو نزل بها الثقلان ـ الجنّ والإنس ـ لوسعهم طعاما وشرابا ولا ينقص ممّا عنده شيئا. وإنّ أيسر أهل الجنّة منزلا من يدخل الجنّة فيرفع له ثلاث حدائق ، فإذا أدخل أدناهنّ رأى فيها من الأزواج والخدم والأنهار والثمار ما شاء الله تعالى ، ما يملأ عينه قرّة وقلبه مسرّة.

فإذا شكر الله وحمده قيل له : ارفع رأسك على الحديقة الثانية ، ففيها ما ليس في الأولى. فيقول : يا ربّ أعطني هذه ، فيقول الله : لعلّي إن أعطيتكها سألتني غيرها.

__________________

(١) الواقعة (٥٦) : ٢٠ ـ ٢٤.

(٢) لم نعثر على مأخذه.

(٣) « الأمالي » للصدوق : ١٧٧ ، المجلس ٣٨ ، ح ١.

(٤) المصدر السابق : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٣١٥

فيقول : ربّ هذه هذه فإذا هو دخلها وعظمت مسرّته شكر الله وحده ، فيقال : افتحوا له باب الجنّة ، فيقال له : ارفع رأسك وإذا قد فتح له باب من الخلد ويرى أضعاف ما كان فيما قبل ، فيقول عند تضاعف مسرّاته : ربّ لك الحمد الذي لا يحصى إذ مننت عليّ بالجنان وأنجيتني من النار ».

قال أبو بصير : فبكيت وقلت له : جعلت فداك زدني ، قال : « يا أبا محمّد ، إنّ في الجنّة نهرا في حافّتيها جوار نابتات إذا مرّ المؤمن بجارية أعجبته قلعها وأنبت الله مكانها أخرى ».

قلت : جعلت فداك زدني قال : « المؤمن يزوّج ثمانمائة عذراء وأربعة آلاف ثيّبة وزوجتين من الحور العين ».

قلت : جعلت فداك من أيّ شيء خلقن الحور العين؟ قال : « من الجنّة ، ويرى مخّ ساقيها من وراء سبعين حلّة ، كبدها مرآته وكبده مرآتها ».

قلت : جعلت فداك ألهنّ كلام يتكلّمن به في الجنّة؟ قال : « نعم ، لهنّ كلام يتكلّمن به لم يسمع الخلائق أعذب منه ».

قلت : ما هو؟ قال : « يقلن بأصوات رخيمة : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نبوس ، ونحن المقيمات فلا نظعن ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن خلق لنا ، وطوبى لمن خلقنا له ، نحن اللواتي لو أنّ قرن إحدانا علّق في جوّ السماء لأغشى نوره الأبصار » (١).

وعنه عليه‌السلام عن عليّ عليه‌السلام قال : « إنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منها النبيّون والصدّيقون ، وباب يدخل منها الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل شيعتنا ومحبّونا ، فلا أزال واقفا على الصراط أدعوا وأقول : ربّ سلّم شيعتي ومحبّي

__________________

(١) « تفسير القمّي » ٢ : ٨٢ ـ ٨٣ ؛ « تفسير نور الثقلين » ٣ : ٤٧٩ ؛ « تفسير البرهان » ٣ : ٨٢ ـ ٨٣ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة الحجّ (٢٢).

٣١٦

وأنصاري ومن تولاّني في دار الدنيا فإذا النداء : قد أجيبت دعوتك ، وشفّعت في شيعتك ، ويشفع كلّ رجل من شيعتي ، ومن تولاّني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه » (١).

ونحو ذلك ، اللهمّ ارزقنا كلّ ذلك.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع شرح شارح القوشجي بقوله :

( والسمع دلّ على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن ، والمعارضات متأوّلة ).

جمهور المسلمين على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا لأكثر المعتزلة كأبي هاشم والقاضي عبد الجبّار (٢) وغير هما ؛ حيث زعموا أنّهما تخلقان يوم الجزاء.

لنا وجهان :

الأوّل : قصّة آدم وحوّاء وإسكانهما في الجنّة ثمّ إخراجهما عنها بأكل الشجرة ، وكونهما يخصفان عليها من ورق الجنّة على ما نطق به الكتاب والسنّة ، وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين.

وحملها على بستان من بساتين الدنيا يجري مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين ، ثمّ لا قائل بوجود الجنّة دون النار فثبوتها ثبوتها.

الثاني : الآيات الصريحة في ذلك كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) (٣).

وكقوله تعالى في حقّ الجنّة : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) (٤) ، ( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) (٥) ، ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (٦).

__________________

(١) « الخصال » ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، ح ٦.

(٢) حكاه التفتازاني عنهما في « شرح المقاصد » ٥ : ١٠٨.

(٣) النجم (٥٣) : ١٣ ـ ١٥.

(٤) آل عمران (٣) : ١٣٣.

(٥) الحديد (٥٧) : ٢١.

(٦) ق (٥٠) : ٣١.

٣١٧

وفي حقّ النار : ( أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) (١) ، ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) (٢).

وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحقّقه مثل ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) (٣) ، ( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ) (٤) خلاف الظاهر ، فلا يعدل إليه بدون قرينة.

تمسّك المنكرون بوجوه :

الأوّل : أنّ خلقهما قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم. وضعفه ظاهر.

والثاني : أنّهما لو خلقتا لهلكتا ؛ لقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٥). واللازم باطل ؛ للإجماع على دوامهما ، والنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنّة بظلّها.

وأجيب : بتخصيصها من آية الهلاك ؛ جمعا بين الأدلّة ، وبحمل الهلاك على غير الفناء على ما قيل : إنّ المراد بهلاك كلّ شيء أنّه هالك في حدّ ذاته ، لضعف الوجود الإمكاني ، فيتحقّق بالهالك المعدوم ، وبأنّ الدوام المجمع عليه هو أنّه لا انقطاع لبقائهما ولا انتهاء لوجودهما بحيث ، يبقيان على العدم زمانا يعتدّ به كما في دوام المأكول ؛ فإنّه على التجدّد والانقطاع قطعا ، وهذا لا ينافي فناءها لحظة.

الثالث : أنّه قال الله تعالى في وصف الجنّة : ( عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) (٦) ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بعد فناء السماوات والأرض ؛ لامتناع تداخل الأجسام.

وأجيب : بأنّ المراد أنّ عرضها كعرض السماوات والأرض ؛ لامتناع أن يكون عرضها عرضهما بعينه لا حال البقاء ولا بعد الفناء ؛ إذ يمتنع قيام عرض واحد

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٤ ؛ آل عمران (٣) : ١٣١.

(٢) الشعراء (٢٦) : ٩١.

(٣) الكهف (١٨) : ٩٩.

(٤) الأعراف (٧) : ٤٤.

(٥) القصص (٢٨) : ٨٨.

(٦) آل عمران (٣) : ١٣٣.

٣١٨

شخصي بمحلّين موجودين معا أو أحدهما موجود والآخر معدوم ؛ وللتصريح في آية أخرى بأنّ ( عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (١). فتحمل هذه على تلك كما يقال : أبو يوسف أبو حنيفة ، أي مثله » (٢).

تذكرة : في بيان ما يترتّب عليه استحقاق الدخول في الجنّة والنار ، من الإيمان والكفر والطاعة والفسق.

اعلم أنّ الإيمان ـ على الأصحّ ـ عبارة عن التصديق بالتوحيد والنبوّة وسائر ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة ، ويشترط عدم الإنكار لسانا ؛ لقوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٣).

ولا تدلّ تلك الآية على اعتبار الإقرار باللسان في الإيمان ، بل إنّما تدلّ على اشتراط عدم الإنكار ؛ ولهذا يحكم بإيمان الأخرس إذا علم الاعتقاد القلبي ، فلا يكفي الإقرار باللسان كما يدلّ عليه قوله تعالى : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) (٤).

وقوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) (٥).

وقوله تعالى : ( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) (٦). ونحو ذلك.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ العمل أيضا خارج عن حقيقة الإيمان بطريق أولى. ويدلّ عليه عطف العمل على الإيمان في الآيات ؛ لاقتضائه المغايرة ظاهرا.

وما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّ : « الإيمان معرفة بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل

__________________

(١) الحديد (٥٧) : ٢١.

(٢) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٣) النمل (٢٧) : ١٤.

(٤) الحجرات (٤٩) : ١٤.

(٥) البقرة (٢) : ٨.

(٦) المجادلة (٥٨) : ٢٢.

٣١٩

بالأركان » (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ : « الإيمان قول مقبول ، وعرفان بالعقول ، واتّباع الرسول » (٢). ونحوهما محمول (٣) على الإيمان الخاصّ كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الإيمان إقرار باللسان ، وعمل بالأركان ، والإسلام إقرار بلا عمل » (٤). فتأمّل.

نعم ، لا بدّ من الإقرار باللسان إظهارا بالتصديق القلبي ، وأمّا العمل بالأركان فواجب أيضا لكنّه غير داخل في حقيقة الإيمان كما مرّ.

والكفر عدم الإيمان عمّا من شأنه الإيمان. إمّا مع الجحود والتكذيب أو بدونه ، ولا يبعد أن يكون عبارة عن إنكار الإلهيّة أو النبوّة أو ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة.

والتقسيم في الآية بين المؤمن والكافر محمول على الغالب ؛ إذ المتردّد الشاكّ نادر ، وغير المكلّف عن الطرفين في حكمهما.

والطاعة عبارة عن امتثال أوامر الله وترك نواهيه ونحوهما بعد الإيمان.

والفسق خروج عن طاعته كذلك.

والنفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

والأمر بالمعروف بالحمل على الطاعة قولا أو فعلا ، وكذا النهي عن المنكر بالمنع عن فعل المعاصي قولا أو فعلا سمعا إجماعا وكتابا وسنّة ؛ لقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليأمرنّ بالمعروف ولينهنّ عن المنكر أو ليسلّطنّ شراركم على خياركم فيدعوا خياركم فلا يستجابوا » (٦). والأمر والوعيد دليلان على الوجوب.

وقيل : بالوجوب العقلي ، وليس ببعيد.

__________________

(١) « جامع الأخبار » : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) المصدر السابق : ٣٦. وفيه « قول بمقول » بدل « قول مقبول ».

(٣) خبر لقوله : « وما روي ».

(٤) « جامع الأخبار » : ٣٦.

(٥) آل عمران (٣) : ١٠٤.

(٦) « الكافي » ٥ : ٥٦ ، باب الأمر بالمعروف ... ، ح ٣٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ٦ : ١٧٦ ، ح ٣٤٢.

٣٢٠