البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

منها : ما يتعلّق بالمعجزة لنفي إعجاز القرآن المستلزم لنفي النبوّة ـ بناء على انحصار المعجزة فيه ـ وهو أنّ المعجزة ما يكون خارقا للعادة الإنسانيّة ، فإنّ الغرض منها إفادة كون من أتى بها مبعوثا من الله ، وذلك لا يكون إلاّ بكون العمل فوق طوق كلّ البشر ، وخارقا لعادة كلّي الإنسان ، بأن لا يقدر أحد من أفراده [ قادرا ] (١) على الإتيان بمثله بنفسه ولو بالكسب ونحوه حتّى يتميّز عن السحر وغيره ممّا لا يكون أمرا عجيبا واقعيّا ، كأن يكون خياليّا بالتصّرف في الحسّ المشترك ، أو كان ولم يكن خارقا للعادة ، كأن يكون ذا سبب أرضيّ أو سماويّ ، أو مركّب خفي كإلقاء الزئبق في الحبل الأجوف ، أو لم يكن مقترنا بادّعاء النبوّة الممكنة ، أو الإمامة الممكنة على وجه المطابقة ، كإحياء الموتى الصادر عن عيسى ، فإنّه لا يمكن أن يكون بالطبّ ونحوه من الكسب والتدبير ، بل هو بمجرّد التكلّم بالإرادة وتصديق الله ، بخلاف القرآن فإنّه ادّعى كلّ واحد من العرب الإتيان بمثله ولا أقلّ من عدم العلم بعجز كلّ فرد من أفراد الإنسان من الإتيان بمثله من جهة البلاغة.

والجواب ـ مضافا إلى أنّها شبهة في مقابل البديهة ، وإنكار للضرورة ، ومغالطة وسفسطة ـ أوّلا : منع انحصار معجزة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن ؛ لتظافر صدور معجزات أخر كإحياء الموتى ، وشقّ القمر ، والمعراج الجسمانيّ ، والإتيان بالشجر ، وحنين الجذع ، وتصحيح الأعور ، ونحوها ممّا ثبت بالنقل المعتبر كما لا يخفى على المتتبّع المستبصر.

وثانيا : أنّ فصحاء قحطان وبلغاء عدنان وغيرهم من العرب العرباء ، وأمثالهم من البلغاء ـ مع كمال عداوتهم وحرصهم على إبطال ما كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعيه وتحدّيه بإتيان سورة من مثله ـ عجزوا عن المقابلة بالحروف ، وبدّلوها بالمقاتلة بالسيوف ، واختاروا ارتكاب المشقّة ، وإتلاف أموالهم وأنفسهم ، وإلقائهم في التهلكة.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والأولى حذفها.

٨١

ولا يخفى أنّ ذلك يوجب حصول العلم القطعي بعجز الكلّ عن المعارضة ، وكون القرآن منزلا من عند الله على سبيل المعجزة ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا كما لا يخفى على من له أدنى بصيرة ؛ فإنّ إتيان الأمّي ـ الذي لم يكن كثير المعاشرة مع العلماء ـ بكلام لم يقدر أحد على الإتيان بمثله مع كمال الفصاحة وحرصهم على المعارضة ـ مضافا إلى اشتماله على المصالح والمحاسن والخصائص الكثيرة ـ لا يكون إلاّ على وجه المعجزة بلا شبهة ، سواء كان العجز من جهة علوّ المرتبة في الفصاحة والبلاغة ، أو من جهة تعجيز الله عن الإتيان بالمثل عند إرادة المعارضة.

قد يقال ـ مضافا إلى المعارضة بالمثل بعدم العلم بكون إحياء الموتى من عيسى معجزة ؛ لاحتمال كونه من دعائه باسم الله الأعظم كما في دعاء ابن باعور الكافر على موسى ، أو نحو ذلك ـ : إنّ نسبة العادة إلى الإنسان مغالطة ، فإنّها منسوبة إلى طبائع الأشياء وغرائزها ولو بملاحظة الكيفيّة المخصوصة ؛ إذ العمل على خلاف مقتضى طبائعها معجزة كجعل العصا تنّينا ، وكذا نزول الغيث الخارج عن المعتاد في غير وقته بمجرّد دعوة النبيّ ، أو الوصيّ ، أو الوليّ دفعة ، ونحو ذلك ممّا لا يكون مسبّبا عن سبب ، بل يكون بإرادة إلهيّة.

وإعجاز القرآن من القسم الثاني ، فإنّه وإن كان من جنس الكلام الصادر عن الإنسان فليس بمعجزة بذاته إلاّ أنّ كونه على أسلوب غريب وطور عجيب ، ونحو ذلك ممّا لا يقدر على الإتيان بمثله أحد من البلغاء معجزة ، فهو معجزة بحسب الخصوصيّة ، فتأمّل.

وأيضا إذا كان المناط في المعجزة كون الفعل على خلاف مقتضى الطبيعة كان اعتبار أفراد الإنسان كلاّ أو بعضا مغالطة ، فتأمّل.

وأيضا التسوية بين الواحد والكثير من المغالطات ، وكذا اعتبار الكلّ والبعض في العجز ، فإنّه إذا علم كون الفعل على خلاف مقتضى الطبيعة ولو بملاحظة الخصوصيّة

٨٢

علم كونه معجزة من غير فرق بين اعتبار عجز الكلّ أو البعض ، ومن هنا يعلم عدم اعتبار كون المعجزة بالنسبة إلى فنّ يكون أهل عصر صاحبها عالمين بذلك الفنّ كالطبّ في زمان عيسى ، والسحر والإتيان بأمر الغريب في زمان موسى ، والفصاحة والبلاغة في زمان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتأمّل.

ومنها : أنّ أكثر الناس لا يفهمون إعجاز القرآن ، وكلّ معجزة لا يفهم الأكثر إعجازها فهي ناقصة.

والجواب : أنّ أهل العلم يفهمون إعجازه بلا واسطة ، وغيرهم يدركون بواسطتهم ، وملاحظة عجزهم عن الإتيان بمثله ـ مع كمال حرصهم على المعارضة ـ فيرتفع النقص ، مضافا إلى ما يقال : إنّ إعجاز القرآن غير منحصر في البلاغة ، بل قد يكون بوجه آخر أيضا كقضاء الحوائج ، وشفاء المرضى عند التوسّل ، وتحصيل المقامات عند التدبّر ، والإخبار بالمغيّبات ، وبيان الخير والشرّ في الاستخارات ، ونحو ذلك ممّا يدركه الخواصّ والعوامّ بلا شبهة وكلام.

ومنها : أنّ اختلاف القرّاء والمفسّرين في القراءات وشأن النزول والمقاصد من الآيات يوجب عدم استفادة معنى معيّن من القرآن ، وذلك ينفي الإعجاز حتّى بالنسبة إلى المواضع المشتملة على المغيّبات ، كقوله : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (١). ونحو ذلك من المواضع المعدودة التي صارت بسبب ما ذكر مجملة ، غير جليّة الدلالة ، فلا يمكن الحكم بأنّها معجزة ؛ لأنّها باعتبار البلاغة وهي من جهة التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة ، فحيث لا يفهم المعنى لا يمكن الحكم بالبلاغة والإعجاز.

والجواب أوّلا : ـ مضافا إلى بعض ما تقدّم ـ أنّ الإعجاز الثابت بالتواتر والتظافر ونحوهما إنّما هو بالنسبة إلى زمان النزول المتقدّم على الاختلاف في القراءة وشأن

__________________

(١) الروم (٣٠) : ١ ـ ٤.

٨٣

النزول ، فإنّ القطع حاصل بأنّ أهل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بحكمهم ـ مع كمال بلاغتهم وحرصهم على المعارضة ـ عجزوا عن الإتيان بمثله ، فيظهر كونه من الله تعالى.

وثانيا : أنّ البلاغة حاصلة بالنسبة إلى كلّ معنى يستفاد من القراءات المختلفة ولو باعتبار شأن النزول ، والاختلاف لا يقدح في حصول البلاغة ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة ؛ لحصول التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة.

وثالثا : أنّ الاختلاف في بعض المفردات لا يوجب خفاء المعنى التركيبي وعدم حصول العلم بالبلاغة.

ورابعا : أنّ عدم العلم بإعجاز ما اختلف فيه لا يوجب عدم العلم بإعجاز ما اتّفق عليه ممّا وقع التحدّي بمثله ، كسورة الفاتحة في الجملة ، والتوحيد ، ونحوهما.

وخامسا : أنّ عدم العلم بالإعجاز من جهة عدم العلم بالبلاغة استقلالا لا يوجب عدم العلم به من وجه آخر كما أشرنا إليه.

مضافا إلى ما يقال : من أنّ الاختلاف لو كان سببا لنفي الحقّ لكان الاختلاف في وجود الصانع ووحدته وعدله ، ونبوّة الأنبياء والأوصياء ونحو ذلك سببا لنفي ما ذكر وهو بديهيّ الفساد ، مع عدم الاختلاف في نحو ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ ) (١) الآية ، لفظا ومعنى ، وكذا سائر ما يشتمل على المغيّبات من السور والآيات كقوله تعالى : ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ) (٢) إلى آخره ، حيث أخبر بأحوال المنافقين قبل الوقوع ؛ ولهذا ندب إلى قراءة تلك السورة في الركعة الثانية في جميع الجمعات عند جمع الجماعات ، وكذا الإخبار عن أحوال بني أميّة وأمثالهم في سورة الإسراء (٣) وكذا سورة محمّد ، والمعوّذتين (٤) حيث أنزلتا لإخراج السحر المستور سيّما

__________________

(١) الروم (٣٠) : ١ ـ ٢.

(٢) المنافقون (٦٣) : ١.

(٣) الإسراء (١٧) : ٤٥ ـ ٤٧.

(٤) أي سورتا الفلق والناس.

٨٤

ما عقدوه بالحبل وجعلوه في البئر وأخرجه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد النزول (١) ، وكذا سورة النجم المشتملة على الإخبار بانشقاق القمر ، ونزول النجم ، والمعراج الجسمانيّ ونحو ذلك ممّا لا يخفى كونه على وجه الإعجاز ، وكذا آيات سورة التحريم كقوله تعالى : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) (٢) ، وغير ذلك من الآيات المشتملة على الإخبار بأسرار المنافقين وتدبير الكفّار والمشركين في دفع سيّد المرسلين ، ونحو ذلك ممّا لا يقدح الاختلاف ـ لو كان ـ في كونه من الإعجاز كما أشرنا إليه على وجه الإيجاز.

ومنها : أنّ اشتمال القرآن على العلوم والأحكام ونحو ذلك لا يقتضي كونه من الله تعالى ككثير من كتب الكفّار والحكماء.

والجواب أوّلا : أنّ اشتمال القرآن على أسرار الأنبياء وأحكام الأوصياء ، وتطابقه لسائر الكتب السماويّة في بيان العلوم ، والأحكام ، والآداب المتحيّرة فيه عقول الخواصّ والعوامّ من الأمّي الذي لم يخالط أهل العلم ، ولم يتعلّم من أحد من العلماء الأعلام ، ومن دون رياضة وتفكّر وتأمّل كما أنّ ذلك طريقة الكلّ ، بل مع الاشتغال بالعبادة وأمر العباد ، ونحو ذلك كالجهاد لا يمكن إلاّ بكونه من الله.

وثانيا : أنّ كلّ عالم لاحظ القرآن اعترف بإعجازه وكونه خارجا عن طوق البشر ، واستند إليه في مطالبه ، بل كلّما يذكر العلماء كلاما من القرآن في كلماتهم كان مثله مثل درج الجوهر الثمين والدرّ المبين في سلسلة الحصى ، كما لا يخفى على من أحصى.

ومنها : أنّ معجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله غير متواترة ، ومعجزات سائر الأنبياء متواترة ؛

__________________

(١) انظر « مجمع البيان » ١٠ : ٤٩٢.

(٢) التحريم (٦٦) : ٣.

٨٥

لتواتر التوراة ونحوها ممّا يشتمل على معجزاتهم على وجه موجب لعدم إمكان إنكار معجزات موسى وعيسى مثلا لأحد ، بخلاف معجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجواب أوّلا : أنّ معجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كشقّ القمر ، والإتيان بالشجر متواترة عند المسلمين ، كما أنّ معجزات سائر الأنبياء متواترة عند أممهم لو لم يتنازع فيه من جهة تحريف التوراة ، وتنازع اليهود والنصارى ، وإحراق بخت نصّر التوراة ، ونحو ذلك ممّا يكفيه احتماله في منع التواتر فيه ، فتخصيص قتل بخت نصّر ببعض الطوائف ومنع تعرّضه للدين والتوراة ـ مع أنّه خلاف ما كتب في التواريخ ـ غير نافع عند عدم الثبوت ؛ لكفاية الاحتمال ، وعدم ثبوت التواتر عند أمثالكم من جهة عدم الاطّلاع على كتب المسلمين غير قادح ، كما أنّ عدم ثبوت تواتر معجزات سائر الأنبياء عند كثير من المسلمين من جهة عدم الاطّلاع على كتبكم غير قادح.

وثانيا : أنّ إثبات نبوّة سائر الأنبياء ومعجزاتهم بواسطة خاتم الأنبياء وما جاء به فهو نوع ثبوت حقيّته وحقيّة دينه.

وثالثا : أنّ التوراة والإنجيل أيضا مخبران بمجيء خاتم الأنبياء ، كما لا يخفى على من لاحظ احتجاج جاثليق مع مولانا الرضا عليه‌السلام.

وكيفيّة ذلك ـ كما في الاحتجاج ـ : أنّ مولانا الرضا عليه‌السلام لمّا قدم على المأمون أراد المأمون أن يناظر معه عليه‌السلام سائر علماء الأديان مثل : الجاثليق ، ورأس الجالوت ، ورؤساء الصابئين ، والهربذ الأكبر ، وأصحاب زردشت ، وقسطاس الرومي ، والمتكلّمين ، ليسمع كلامه عليه‌السلام وكلامهم ، فجمعهم الفضل بن سهل ، ثمّ أعلم المأمون باجتماعهم ، فقال : أدخلهم عليّ ، فرحّب بهم المأمون ثمّ قال لهم : إنّما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليّ ولا يتخلّف منكم أحد ، قالوا : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ، نحن مبكّرون إن شاء الله تعالى.

فدخل ياسر متولّي أمر أبي الحسن عليه‌السلام فقال : يا سيّدي ، إنّ أمير المؤمنين يقرؤك

٨٦

السّلام ويقول : فداك أخوك إنّه اجتمع إليّ أصحاب المقالات ، وأهل الأديان ، والمتكلّمون من جميع الملل ، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم ، وإن كرهت ذلك فلا تتجشّم ، وإن أحببت أن نصير إليك خفّ علينا ذلك ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « أبلغه السّلام وقل : قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله ».

فلمّا دخل الرضا عليه‌السلام قام المأمون وجميع بني هاشم فما زالوا وقوفا ـ والرضا عليه‌السلام جالس مع المأمون ـ حتّى أمرهم بالجلوس فجلسوا ، فلم يزل المأمون مقبلا عليه يحدّثه ساعة ، ثمّ التفت إلى الجاثليق ، فقال : يا جاثليق ، هذا ابن عمّي عليّ بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت محمّد نبيّنا ، وابن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأحبّ أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه ، فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين ، كيف يحاجّ رجل عليّ بكتاب أنا منكره ، ونبيّ لا أومن به؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : « يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟ ».

قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم ، والله أقرّ به على رغم أنفي. فقال له الرضا عليه‌السلام : « سل عمّا بدا لك واسمع الجواب ».

قال الجاثليق : ما تقول في نبوّة عيسى وكتبه هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا عليه‌السلام : « أنا مقرّ نبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشّر به أمّته ».

قال الجاثليق : أليس إنّما يقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال : « بلى ».

قال : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلمنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضا عليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصرانيّ ، ألا تقبل من العدل المقدّم عند المسيح عيسى بن مريم؟ ».

قال الجاثليق : ومن هذا العدل؟ سمّه لي ، قال : « ما تقول في يوحنّا الديلميّ؟ » قال : بخّ بخّ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

٨٧

قال : « فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنّا قال : إنّ المسيح أخبرني بدين محمّد العربي ، وبشّرني به إنّه يكون من بعدي فبشّرت الحواريّون به فآمنوا به؟ ».

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح ، وبشّر بنبوّة رجل ، وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك ، ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا عليه‌السلام فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته أتؤمن به؟ » قال : شديدا (١) ، قال الرضا عليه‌السلام لقسطاس الرومي : « كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ » قال : ما أحفظني له ، ثمّ التفت لرأس الجالوت قال : « ألست تقرأ الإنجيل » قال : بلى لعمري. قال : « فخذ عليّ السفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمّته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي » ثمّ قرأ عليه‌السلام عليه السفر الثالث حتّى إذا بلغ [ ذكر ] (٢) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف ، ثمّ قال : « يا نصرانيّ ، إنّي أسألك بحقّ المسيح وأمّته أتعلم أنّي عالم بالإنجيل؟ » قال : نعم ، ثمّ تلا ذكر محمّد وأهل بيته ، ثمّ قال : « ما تقول يا نصرانيّ هذا قول عيسى بن مريم ، فإن كذّبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذّبت موسى وعيسى عليهما‌السلام ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل ؛ لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك ».

قال الجاثليق : ولا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وأنّي لمقرّ به.

قال الرضا عليه‌السلام : « اشهدوا على إقراره » ثمّ قال : « يا جاثليق ، سل عمّا بدا لك ».

قال الجاثليق : أخبرني عن حواريّ عيسى بن مريم كم كان عدّتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟

قال الرضا عليه‌السلام : « أمّا الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلا ، وكان أفضلهم وأعلمهم : الوقاء. وأمّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنّا الأكبر ـ باج ـ ويوحنّا

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر : « أمر سديد ».

(٢) الزيادة أضفناها من المصدر.

٨٨

بقرقيسيا ، ويوحنّا الديلميّ بن جار وعنده كان ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر أهل بيته وهو الذي بشّر أمّة عيسى وبني إسرائيل به » ثمّ قال : « يا نصرانيّ ، إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى أن قال عليه‌السلام : بعد قول الجاثليق : إنّ عيسى كان صائم الدهر ، قائم الليل ـ : « فلمن كان يصوم ويصلّي؟ » فخرس الجاثليق وانقطع.

ثمّ أورد عليه‌السلام عليه بأنّه « لو كان كلّ من أحيا الموتى ربّا ، لكان اليسع وحزقيل ربّين ؛ لأنّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وكذا موسى حيث أحيا الله بدعائه سبعين رجلا احترقوا ، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أربابا ، ما تقول يا نصرانيّ؟ ».

فقال الجاثليق : القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثمّ التفت إلى رأس الجالوت ، فقال : « يا يهوديّ ، أقبل عليّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته إذا جاءت الأمّة الأخيرة أتباع راكب البعير ، يسبّحون الربّ جدّا جدّا ، تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفزع بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم ليطمئنّ قلوبهم؟ » فقال رأس الجالوت : نعم ، إنّا لنجد ذلك كذلك.

ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيّ كيف علمك بكتاب شعيا؟ » قال : أعرفه حرفا حرفا ، قال لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم ، إنّي رأيت صورة راكب الحمار لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوءه مثل ضوء القمر؟ » فقال : قد قال ذلك شعيا ، قال الرضا عليه‌السلام : « يا نصرانيّ ، هل تعرف في الإنجيل قول عيسى عليه‌السلام : إنّي ذاهب إلى ربّي وربّكم ، والبارقليطا جاء ، هو الذي يشهد لي بالحقّ كما شهدت له ، وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء ، وهو الذي ألمح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر؟ ». فقال الجاثليق : ما ذكرت شيئا من الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به ـ إلى أن قال رأس الجالوت ـ : من أين تثبت نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال الرضا عليه‌السلام : « شهد بنبوّته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة الله في الأرض » فقال عليه‌السلام : تعلم يا يهوديّ أنّ موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : إنّه سآتيكم نبيّ من إخوانكم فيه

٨٩

فصدّقوا ، ومنه فاسمعوا ، فهل تعلم أنّ لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل وإسماعيل والسبب الذي بينهما من قبل إبراهيم؟ ».

فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعه ، فقال له الرضا عليه‌السلام : « أفليس قد صحّ هذا عندكم؟ » قال : نعم ، ولكن أحبّ أن تصحّحه لي من التوراة ، فقال له الرضا عليه‌السلام : « هل تنكر أنّ التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سينا ، وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران؟ » قال رأس الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضا عليه‌السلام : « أنا أخبرك به. أمّا قوله : جاء النور من قبل طور سينا فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزل على موسى عليه‌السلام على جبل طور سينا.

وأمّا قوله : وأضاء للناس من جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى بن مريم وهو عليه.

وأمّا قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذلك جبل من جبال مكّة ، وبينه وبينها يومان ، قال شعيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة ـ رأيت راكبين أضاءت لهما الأرض ، أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟ ».

قال رأس الجالوت : لا أعرفهما فخبّرني بهما ، قال عليه‌السلام : « أمّا راكب الحمار فعيسى ، وأمّا راكب الجمل فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أتنكر هذا من التوراة؟ » قال : لا ، ما أنكره.

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : « هل تعرف حيقوق النبيّ؟ » قال : نعم ، إنّي به لعارف ، قال عليه‌السلام : « فإنّه قال ـ فكتابكم ينطق به ـ : جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران ، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمّته ، تحمل خيله في البحر كما تحمل في البرّ ، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس ، يعني بالكتاب : القرآن ، أتعرف هذا وتؤمن به؟ » قال رأس الجالوت : قد قال ذلك حيقوق النبيّ ولا تنكر قوله.

قال الرضا عليه‌السلام : « فقد قال داود في زبوره ـ وأنت تقرأه ـ : اللهمّ ابعث مقيم السنّة

٩٠

بعد الفترة فهل تعرف نبيّا أقام السنّة بعد الفترة غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ » قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكن عنى بذلك : عيسى ، وأيّامه (١) هي الفترة.

قال له الرضا عليه‌السلام : « جهلت ، إنّ عيسى لم يخالف (٢) السنّة ، وكان موافقا لسنّة التوراة حتّى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب : إنّ ابن البرّة ذاهب والفار قليطا جاء من بعده وهو يخفّف (٣) الآصار ، ويفسّر لكم كلّ شيء ، ويشهد لي كما أشهد له ، أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن هذا في الإنجيل؟ » قال : نعم ، لا أنكره.

فقال الرضا عليه‌السلام : « أسألك عن نبيّك موسى عليه‌السلام؟ » فقال : سل ، قال : « ما الحجّة على أنّ موسى عليه‌السلام ثبّت نبوّته؟ » قال اليهودي : جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله.

قال له : « مثل ما ذا؟ ». قال : مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حيّة تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده البيضاء للناظرين ، وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال الرضا عليه‌السلام : « صدقت في أنّها كانت حجّته على نبوّته أنّه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله ، أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ، ثمّ جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟ » قال : لا ؛ لأنّ موسى عليه‌السلام لم يكن له نظير ؛ لمكانه من ربّه وقربه منه ، ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

قال الرضا عليه‌السلام : « فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجّروا من الحجر اثنتي عشرة عينا ، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى عليه‌السلام يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حيّة تسعى؟ » قال له اليهودي : قد خبّرتك أنّه متى جاءوا على نبوّتهم من الآيات بما لم يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بما

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر : « أمامه ».

(٢) كذا في الأصل : « يخلف » وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في المصدر : « يحفظ » بدل « يخفّف ».

٩١

لم يجئ به موسى عليه‌السلام أو كانوا على ما جاء به موسى ، وجب تصديقهم.

قال الرضا عليه‌السلام : « يا رأس الجالوت ، فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وقد كان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله؟ ». قال رأس الجالوت : يقال : إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال الرضا عليه‌السلام : « رأيت ما جاء به موسى عليه‌السلام من الآيات وشاهدته ، أليس إنّما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى عليه‌السلام أنّه فعل ذلك؟ » قال : بلى. قال : « فكذلك أيضا أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدّقتم بموسى صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تصدقوا بعيسى؟ » فلم يجد (١) جوابا.

قال الرضا عليه‌السلام : « وكذلك أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به ، وأمر كلّ نبيّ بعثه الله ، ومن آياته أنّه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلّم كتابا ، ولم يختلف إلى معلّم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء عليهم‌السلام وأخبارهم حرفا حرفا ، وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثمّ كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».

قال رأس الجالوت : لم يصحّ عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمّد ، ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ عندنا.

قال الرضا عليه‌السلام : « فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد زور؟ » فلم يجد (٢) جوابا.

ثمّ دعا بالهربذ الأكبر ، فقال له الرضا عليه‌السلام : « أخبرني عن زردشت الذي تزعم أنّه نبيّ ، ما حجّتك على نبوّته؟ » قال : إنّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده ، ولكنّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنّه أحلّ لنا ما لم يحلّ غيره فاتّبعناه ، قال عليه‌السلام :

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر : « يحر ».

(٢) كذا في الأصل ، وفي المصدر : « يحر ».

٩٢

« أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتّبعتموه؟ » قال : بلى ، قال : « فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فما عذركم في ترك الإقرار لهم ؛ إذ كنتم إنّما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار المتواترة بأنّه جاء بما لم يجئ به غيره؟ » فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضا عليه‌السلام : « يا قوم ، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم » فقام إليه عمران الصابي ـ وكان واحدا في المتكلّمين ـ فقال : يا عالم الناس ، لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل ، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ، ولقيت المتكلّمين فلم أقف على أحد يثبت لي واحدا ليس غيره قائما بوحدانيّته ، أفتأذن أن أسألك؟

قال الرضا عليه‌السلام : « إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو » ، قال : أنا هو ، قال : « سل يا عمران ، وعليك بالنصفة ، وإيّاك والخطل والجور » فقال : والله يا سيّدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئا أتعلّق به ، فلا أجوزه ، قال : « سل عمّا بدا لك » فازدحم الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض ، فقال عمران : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق؟

فأجاب عليه‌السلام بذكر صفات الله وأفعاله كما ينبغي ، فقال : « فهمت يا عمران؟ » قال : نعم ، يا سيّدي فهمت ، وأشهد أنّ الله على ما وصفت ووحّدت ، وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى ودين الحقّ ، ثمّ خرّ ساجدا نحو القبلة وأسلم.

فلمّا نظر المتكلّمون إلى كلام عمران الصابي ـ وكان جدلا لم يقطعه من حجّته أحد قطّ ـ لم يدن من الرضا عليه‌السلام أحد منهم ، ولم يسألوه عن شيء ، فنهض المأمون والرضا عليه‌السلام فدخلا ، وانصرف الناس ، فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلّمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتّى اجتنبوه ، وولاّه الرضا عليه‌السلام صدقات بلخ » (١).

انتهى ما أردنا نقله وهو كاف لمن تابع عقله.

__________________

(١) « الاحتجاج » ٢ : ٤١٥ ـ ٤٢٥.

٩٣

ومنها : أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله اعترف في مواضع من القرآن بانحصار معجزته فيه ، بنحو قوله : ( هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (١) مع عدم ثبوت غيره من المعجزات التي تدعونها لا بالخبر المتواتر ، ولا بالواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة ، ولم يذكر اسمه في كتاب من الكتب السماويّة ، بخلاف معجزات عيسى فإنّها ممّا كتبها ثلاثة رجال ، أو أربعة كتبوا الإنجيل ، وكذا بعض الحواريّين ممّن شاهدها ، وأخبار هؤلاء معتبرة في غاية الاعتبار ، واسمه مذكور في الكتاب السماويّ.

والجواب مثل ما مرّ ، مضافا إلى ما يقال : من أنّ اعترافه بأنّ معجزات عيسى عليه‌السلام وصلت بواسطة العدد المذكور ، يقتضي عدم حصول القطع بها سيّما بالنسبة إلى جميع النصارى ، وكذا أصل الإنجيل ، وبيان أحوال عيسى عليه‌السلام على التفصيل ؛ لاقتضاء ما ذكر عدم تحقّق ما يوجب القطع بما ذكر ، مع أنّ المعتبر في أصول الملل ما يفيد القطع بالقطع ، كما أنّا ندّعي القطع في معجزات نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لثبوتها في الكتاب والسنّة ، مع القرينة والاشتهار المفيد للقطع بصدور ما يعجز سائر الخلق عن الإتيان بمثله حتّى أنّ المشركين قالوا : إنّ هذا سحر مبين ، ونحو ذلك.

وإنكار ذلك لا يصدر إلاّ ممّن كان في قلبه زيغ ، ويكون تابعا للخيالات والأوهام الفاسدة ، خارجا عن طريقة العقل ، فإنّ العقل يحكم بامتناع تواطؤ المخبرين ـ بأنّ القرآن من نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على الكذب ، أو العادة تحكم بالقطع بذلك ولو بانضمام القرائن ، فإنكار ذلك إنكار القطع الضروريّ ، وصادر من عدم التتبّع والسماع الكاشفين عن حكم الحقّ ، وذكر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب السماويّة ، وكونه صاحب المعجزات الكثيرة ـ كما مرّت إليه الإشارة ـ مع أنّ الذكر غير لازم كما في النبيّ المتقدّم ، بل المناط هو المعجزة المصدّقة.

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٩٣.

٩٤

مضافا إلى ما حكي أنّه ورد في الإنجيل ما معناه أنّ المسيح قال : « أطلب من أبى أن يعطيكم فارقليطا آخر ويبقى معكم أبدا » (١).

وأيضا قال في موضع آخر : وفارقليط روح مقدّس يرسله أبي ، ويعلّمكم كلّ شيء ، ويذكّركم جميع ما قلت لكم » (٢).

وأيضا قال في موضع آخر : « أقول لكم ما هو الحقّ من أنّ ذهابي أولى لكم ؛ لأنّي إن لم أذهب لا يجيء إليكم فارقليط وإن ذهبت أرسله إليكم » (٣).

وأيضا قال : « إذا جاء الروح الحقّ علّمكم ما هو الحقّ ، ولا ينطق من عند نفسه ، ويعظّمني ، ويبشّر جميع الطوائف بالجنّة » (٤). ونحو ذلك غير ما ذكر من الآيات الإنجيليّة الدالّة على أنّ الله تعالى ذكر نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإنجيل ؛ لأنّ فارقليط اسمه فيه ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وقوله : « أبي » ـ لو سلّم كونه من عيسى عليه‌السلام وعدم كونه من الموضوعات ـ لعلّه تكلّم على زعمهم ، أو محمول على معنى الترتبيّة ونحو ذلك.

ومنها : أنّ حاكي المعجزات بعد البعثة من كان ناقلا لها في أيّام الجاهليّة فلا اعتماد بقولهم أصلا.

الجواب واضح ؛ لأنّ إنكار حصول العلم بالتواتر والتظافر ، والخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة إنكار للبديهة ، مع اختلاف الناقلين بالبديهة.

ومنها : أنّ محمّدا روّج دينه بالقوّة البشريّة ، لا الإلهيّة كسائر الأنبياء.

والجواب واضح أيضا ؛ لأنّ المعجزة الثابتة كما بيّنّا لا تكون إلاّ بتصديق الله وإعانته ، وكذا بعض حروبه ، كما قال الله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) (٥).

__________________

(١) حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » ١٥ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » ١٥ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٣) حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » ١٥ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٤) حكاه المجلسي في « بحار الأنوار » ١٥ : ٢١١.

(٥) التوبة (٩) : ٢٥.

٩٥

ومنها : أنّ جميع دين محمّد كان على وفق هوى نفسه كما قال : « إنّ الله جعل لذّتي في النساء والطيب » (١). وحلّل لنفسه تسع زوجات ولغيره أربع زوجات ، واختار زوجة زيد لعشقه بها بآية وضعها ، وحنث الحلف الذي أوقعه في تحريم مارية بوضع آية أخرى بقوله : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ ) (٢) وحرّم نساءه على أمّته ، إلى غير ذلك ، ومثل ذلك تفويض سلطنته إلى أقاربه.

والجواب واضح أيضا ؛ لأنّ الميل إلى النساء من الكمال ، بملاحظة أنّ فيه بقاء بني آدم وتكثير العباد ، وتحليل تسع زوجات مع العدل دليل على قوّة نفسه وكماله ، وتحليل زوجة زيد يقتضي توسعة أمر الناس في جواز تزويج حلائل الأدعياء ، وكذا فوائد سائر ما وقع ، ونيابة أقربائه ـ كنيابة هارون لموسى عليهما‌السلام للزوم تفضيل الفاضل ، وتعيين المعصوم الأعلم ، وترجيحه على غيره ، وكون الموصوف بما ذكر من عيّنه دون غيره.

وبالجملة : فهذا الكلام لا ينبغي إلاّ عن الجاهل المتعسّف والغبيّ الذي هو غير منصف.

ومنها : أنّا نلاحظ القرآن ونراه خاليا عن البلاغة ؛ لعدم اشتماله على النظم والترتيب.

والجواب : يظهر ممّا مرّ.

ومنها : أنّ القرآن مشتمل على التكرار الركيك كما في قوله : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) (٣) و ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) (٤) ونحو ذلك ، وبعض الفقرات لمجرّد القافية ، وبعضها بلا فائدة ، وبعضها بلا معنى كقوله : ( أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ

__________________

(١) « مكارم الأخلاق » ٣٤ : « بحار الأنوار » ١٦ : ٢٤٩.

(٢) التحريم (٦٦) : ١.

(٣) المرسلات (٧٧) : ١٥.

(٤) الرحمن (٥٥) : ١٣.

٩٦

بِكُمْ ) (١) وهو مشتمل على المعاني البديهيّة ، كما في قوله : ( وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ) (٢) وعلى غير الواقع ، مثل ما دلّ على أن آمن ذا القرنين ، مع أنّ المستفاد من كتب التواريخ ونحوها أنّه لم يؤمن ، بل كان صنميّا ـ وعلى الاختلاف الذي حملوه على الناسخ والمنسوخ اللذين ليسا في التوراة والإنجيل حتّى أنّ الإنجيل [ جاء ] لتكميل التوراة من غير أن يكون ناسخا.

ولا ريب أن الاختلاف غير جائز من الله العالم بجميع الأشياء بحسب الماضي والحال والاستقبال.

والحاصل : أنّ من علم نبوّة أحد ثمّ رأى منه نحو تلك الأقوال والأعمال لا بدّ له من تأويلها. وأمّا من لم يكن عالما بنبوّة شخص ورأى منه نحو ما ذكر من الأمور المنكرة يحصل له اليقين بعدم نبوّته ، ولو صدر منه أمر غريب يحكم بأنّه ليس من الله.

والجواب عن نفي البلاغة واضح ممّا مرّ ، فإنّ حسن نظم القرآن وترتيبه حسّي لا يحتاج إلى البيان سيّما بعد ملاحظة العجز عن الإتيان بمثله لبلغاء عدنان وقحطان ، وأنّ المعاندين تركوا المقابلة بالحروف وارتكبوا المقاتلة بالسيوف.

وبالجملة : بلاغة الكلام إنّما هي بسبب كونه بمقتضى المقام ، ولو كان على خلاف النظم الطبيعيّ والترتيب الظاهريّ ، بسبب كونهما من أسباب تغيّر المخاطب وتحرّك سبب شرّه وعدم قبوله الحقّ ، وبين البلاغة والترتيب الطبيعيّ عموم من وجه ، والمعترض لم يدركها بوجه.

وعن الاشتمال على التكرار : أنّ التكرار لفائدة ومناسبة مطلوب في العرف والعادة ، سيّما في مقام الإرشاد والهداية وإتمام الحجّة ، كما لا يخفى على من له أدنى

__________________

(١) النحل (١٦) : ١٥.

(٢) البقرة (٢) : ٩٢.

٩٧

مسكة ، وكذا حسن القافية فإنّها موجبة لميل النفوس والطبيعة ، الموجب لحصول الهداية وفهم المعجزة وقبول الشريعة.

وعن نحو كون بعض الفقرات بلا فائدة : أنّه ممنوع بلا شبهة ، بل المعلوم لكلّ أهل المعرفة أنّ لكلّ آية ظهرا وبطنا إلى بطون سبعة ، وأقلّ ما يتصوّر في نحو ما ذكر بيان سوء سلوك الأمّة وإتمام الحجّة ، ونحو ذلك من الفوائد الظاهرة كالاشتمال على جميع ما في الكتب السماويّة ، وبيان النعمة والقدرة وأمثال ذلك.

وعن إيراد ذي القرنين : أنّه مبنيّ على عدم الفرق بين الإسكندرين : الروميّ الصنميّ ، وغيره الصالح ، حتّى قيل : إنّه كان نبيّا ، ولعلّ الشبهة إنّما نشأت من صدور بناء السدّ بين يأجوج ومأجوج وغيرهم من كلّ منهما كما أفيد.

وعن الاختلاف : أنّ إنكار الاختلاف والنسخ يستلزم إنكار تعدّد الأديان ، وكون الناس من زمان آدم إلى الخاتم على دين واحد ، وهو خلاف البديهة مع أنّ العقل حاكم باختلاف الأحكام باختلاف المصالح في الأنام.

والحاصل : أنّ مناط التصديق على ثبوت الادّعاء بالمعجزة من غير فرق بين الأوّل والآخر ، وقد بيّنّا أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعى النبوّة ، وأتى بالمعجزة المصدّقة ، فهو حقّ بحكم القوّة العاقلة ، فلو صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يكون ظاهره محلّ الريبة لا بدّ من التأويل ، أو الحمل على المصلحة الكامنة والحكمة الباطنة ، أو نحو ذلك كما مرّ إليه الإشارة.

ومنها : أنّه جعل في الإسلام سبب النجاة عن عذاب الآخرة منحصرا في التوبة ، من غير أن يكون شيء من الأعمال الحسنة ، والعفو من الله ، أو كليهما سببا للنجاة ، لكون جزاء الأعمال الحسنة ما وعد الله [ لاهبط ] (١) السيّئة ، فلا يحصل بسببها النجاة.

والجواب : أنّه افتراء محض ومحض افتراء ؛ لشهادة الآيات والأخبار على أنّ

__________________

(١) كذا في الأصل.

٩٨

الشفاعة ، والأعمال الحسنة ، والبكاء على مصائب الأئمّة عليهم‌السلام سيّما سيّد الشهداء ، ونزول البلاء والمصائب ، ونحو ذلك من أسباب النجاة ، كالتوبة التي هي أيضا من المسقطات في جميع الأمم ، بل بالنسبة إلى آدم وبني آدم وغيرهم ـ كما لا يخفى على من لاحظ ما بيّن أحوال الأنبياء وغيرهم ـ مضافا إلى أنّ أمثال ذلك الاعتراض بعد ثبوت النبوّة أو الإمامة بالمعجزة المصدّقة من أفحش الأغلاط.

ومنها : أنّ كتب الأنبياء السابقين مشتملة على الإشارة إلى بعث عيسى وأفعاله ، كما ورد في التوراة : « أنّ الأبناء يأخذون ابن السلطان ، والشيطان يلسع عقبه ، ووعد الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يبارك في أولادهم ».

وفي شعيا : « أنّ بنتا باكرة تحمل وتضع ابنا » [ و ] غير ذلك من الإشارات ؛ ولهذا يكذّبه اليهود وسكتوا حتّى جرى دينه وانتشرت أحكامه التي هي على خلاف أهواء أنفسهم وهو من المعجزات.

والجواب ـ مضافا إلى كذبه ؛ لأنّ اليهود كذّبوا عيسى عليه‌السلام وقصدوا قتله ، وأنّ كونه ابنا خلاف العقل والنقل ، فيكون ما يدلّ عليه من الموضوعات والمحرّفات ـ : أنّا بيّنّا أنّ الكتب السماويّة مشتملة على بيان بعث نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ عيسى عليه‌السلام قال : ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) (١).

مع أنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فبعد الإتيان بالمعجزات المصدّقة والبراهين القاطعة لا بدّ من تصديق من أتى بها ، ونبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعى النبوّة الممكنة وأتى بالمعجزة المصدّقة بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع العقلي كسائر القطعيّات ، وكلّ من ادّعى النبوّة الممكنة وأتى بالمعجزة المصدّقة فهو حقّ بلا شبهة ؛ لقبح إظهار المعجزة المصدّقة على يد الكاذب بالبديهة العقليّة ، فنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ مطلق

__________________

(١) الصفّ (٦١) : ٦.

٩٩

ورسول بالحقّ من الحقّ إلى الخلق قاطبة ـ كما ادّعاه صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بلا ريبة ، فهو مبعوث من الله لتكميل عقول خلق الله ، وتهذيب نفوسهم من رئيسهم ومرءوسهم ، وتعليم الآداب والحكم لاستعداد الوصول إلى النعم بقدر القابليّة الإمكانيّة على وجه لا يمكن وقوع أكمل منه ؛ ولهذا صار خاتم النبيّين ، وتكون شريعته باقية إلى يوم الدين ، كما يستفاد من الكتب المنزّلة من الله الحقّ المبين ، ولا يرتاب فيه أهل التتبّع والإنصاف وإن اعترض أهل القصور والاعتساف ؛ إذ قد تبيّن الرشد من الغيّ (١) ، وامتاز الميّت من الحيّ ولقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (٢) ، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (٣) ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم (٤) ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون. (٥)

[ ما ورد في التوراة من الآيات الدالّة على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ]

هذا كلّه مضافا إلى أنّه ورد في التوراة ـ في السفر الخامس ، في الفصل الثامن عشر في الپاراش الشوفطيم ، في الآية الخامسة عشرة إلى آخر الفصل ، البالغة إلى ثمان آيات من آيات التوراة ما يدلّ على نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّيّته وكفر منكره.

بيان ذلك : أنّ التوراة المنزّلة من السماء من الله تعالى خمسة أسفار ، ألحق بها ثلاثة وعشرون من كتب أنبياء بني إسرائيل ككتاب دانيال ، وحزقيل ، وحيقوق ، وأمثالهم ، وجزّأ بنو إسرائيل تلك الأسفار على وجه يتمّ قراءتها مرّة في كلّ سنة

__________________

(١) اقتباس من الآية ٢٥٦ من البقرة (٢).

(٢) اقتباس من الآية ٧ من يس (٣٦).

(٣) اقتباس من الآية ١٤ من النمل (٢٧).

(٤) اقتباس من الآية ١٤٦ من البقرة (٢).

(٥) اقتباس من الآية ٤ من المنافقون (٦٣).

١٠٠