البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

القرآن على ما روي من ترّهات مسيلمة الكذّاب : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل.

وذهب النظّام ، وكثير من المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة إلى أنّ إعجازه بالصرفة ، وهي أنّ الله تعالى صرف همم المتحدّين عن معارضته مع قدرتهم عليها ؛ وذلك إمّا بسلب قدرتهم ، أو بسلب دواعيهم.

واحتجّوا بوجهين :

الأوّل : أنّا نقطع بأنّ فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلّم مثل مفردات السورة ومركّباتها القصيرة مثل : الحمد لله ، ومثل : ربّ العالمين ، وهكذا إلى الآخر ، فيكونون قادرين على الإتيان بمثل السورة.

والثاني : أنّ الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقّفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقات ، وابن مسعود قد بقي متردّدا في الفاتحة والمعوّذتين ، ولو كان نظم القرآن معجزا لفصاحته لكان كافيا في الشهادة.

والجواب عن الأوّل : أنّ حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء ، وهذه بعينها شبهة من نفى قطعيّة الإجماع والخبر المتواتر ، ولو صحّ ما ذكر لكان كلّ من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم كامرئ القيس وأقرانه ، واللازم قطعي الدلالة (١).

وعن الثاني بعد صحّة الرواية وكون الجميع بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا في زمانه وكون كلّ سورة مستقلّة بالإعجاز ـ أنّ ذلك للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخلّ بالإعجاز ، وأنّ إعجاز كلّ سورة ليس ممّا يظهر لكلّ أحد بحيث لا يبقى له تردّد أصلا.

واستدلّ على بطلان الصرفة بوجوه :

الأوّل : أنّ فصحاء العرب إنّما كانوا يتعجّبون عن حسن نظمه وبلاغته وسلاسته

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي المصدر : « البطلان » بدل « الدلالة ».

٦١

في جزالته ، ويرقصون رءوسهم عند قوله تعالى : ( يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ ) (١) لذلك ، لا لعدم تأتّي المعارضة مع سهولتها في نفسها.

الثاني : أنّه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلوّ طبقته ؛ لأنّه كلّما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة ، كان عدم تيسّر المعارضة أبلغ في خرق العادة.

الثالث : قوله تعالى : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٢) فإنّ ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدّي إنّما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ، ويتوهّم كونه مقدورا للكلّ فيقصد نفي ذلك.

( والنسخ تابع للمصالح ). إشارة إلى ردّ ما قال اليهود من إبطال نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ شريعة موسى مؤبّدة ؛ لأنّ النسخ باطل ؛ لأنّ المنسوخ إن كان متضمّنا لمفسدة كان إعماله قبيحا ، وإن لم يكن متضمّنا لمفسدة لكان رفعه قبيحا ، وإذا بطل النسخ يلزم أن تكون شريعة موسى مؤبّدة فيلزم بطلان شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لكونها ناسخة شريعة موسى عليه‌السلام. تقرّر الردّ بناء على قول المعتزلة : إنّ الأحكام تابعة للمصالح ، وهي مختلفة بحسب الأشخاص والأوقات.

وأكدّ جواز النسخ ببيان وقوعه ، فقال : ( وقد وقع حيث حرّم على نوح بعض ما أحلّ لمن تقدّم ) فإنّه جاء في التوراة : إنّ الله تعالى قال لآدم وحوّاء : قد أحلّ لكما كلّ ما دبّ على وجه الأرض ، وقد حرّم على نوح عليه‌السلام بعض الحيوانات ( وأوجب الختان ) على الفور على الأنبياء المتأخّرين عن نوح ( بعد تأخيره ) يعني مع إباحة

__________________

(١) هود (١١) : ٤٤.

(٢) الإسراء (١٧) : ٨٨.

٦٢

تأخيره على نوح عليه‌السلام ( وحرّم الجمع بين الأختين ) في شريعة موسى وشريعة نبيّنا مع إباحته في شريعة آدم ونوح عليهما‌السلام وغير ذلك من الأحكام التي نسخت في بعض الأديان.

( وخبرهم عن موسى بالتأييد مختلق ) يعني خبر اليهود عن تأبيد شريعة موسى عليه‌السلام أي ما روي عن موسى عليه‌السلام أنّه قال : تمسّكوا بالسبت ما دامت السماوات.

ودوام السبت يدلّ على دوام شريعته مفترى لم تثبت هذه الرواية عن اليهود. وقيل : اختلقه ابن الراوندي. ( ومع تسليمه ) أي تسليم ثبوت هذه الرواية عنهم ( لا يدلّ على المراد قطعا ) لأنّه غير متواتر ؛ لأنّ بخت نصّر استأصلهم وأفناهم بحيث لم يبق منهم عدد التواتر.

( والسمع دلّ على عموم نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) أي الدلائل السمعيّة دلّت على أنّه مبعوث إلى الثقلين لا إلى العرب خاصّة على ما زعم بعض اليهود والنصارى ، زعما منهم أنّ الاحتياج إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان للعرب خاصّة دون أهل الكتابين ، مثل قوله : ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (١). ( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (٢). ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ ) (٣) الآية. ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (٤) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت إلى الأسود والأحمر » (٥).

وصل : هذا الاعتقاد من أصول الدين ، ومنكره ـ كاليهود والنصارى ـ من الكافرين ، ومع التقصير في النار خالدين.

__________________

(١) سبأ (٣٤) : ٢٨.

(٢) الأعراف (٧) : ١٥٨.

(٣) الجنّ (٧٢) : ١.

(٤) التوبة (٩) : ٣٣.

(٥) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٢٦١ ـ ٢٦٣. والحديث رواه المجلسي في « بحار الأنوار » ١٦ : ٣٠٨.

٦٣

الفصل الخامس :

أنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأنبياء

والمرسلين ، بل أفضل المخلوقين حتّى الملائكة المقرّبين

وله لهذا إذن شفاعة العاصين في يوم الدين كما يستفاد من الكتاب المبين.

اعلم أنّ مذهبنا أفضليّة الأنبياء ـ بل الأئمّة كما هو ظاهر بعض الأخبار ـ على الملائكة ، وعن بعض الأشاعرة وجمهور المعتزلة القول بالعكس (١).

والحقّ هو الأوّل ، سواء قلنا بكون الملائكة أجساما لطيفة ، أو جواهر مجرّدة متعلّقة بالأجسام أو غير متعلّقة ؛ لأنّ النفوس الناطقة إذا صارت مهذّبة وكملت في قوّتيها العلميّة والعمليّة مع وجود ما يضادّ ، والقوّة العقليّة من الشهويّة والغضبيّة وشواغل الحواسّ الظاهرة والباطنة مع كونها بالذات مجرّدة ، حصلت لها المراتب العالية بسبب الرياضات البدنيّة والمجاهدات النفسانيّة ، فتكون أشدّ استحقاقا للمدح بالنسبة إلى من يكون علمه فطريّا وليس له داع إلى المخالفة ، وليس له تلك الرياضات والمجاهدات أضعافا مضاعفة بحسب كثرة المجاهدات في كسب العلم والعمل ، وقلّتها ، وهو المعني من الأفضليّة ، وكون العقول المجرّدة غير المتعلّقة

__________________

(١) انظر « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٦٣.

٦٤

بالأجسام أقرب إلى المبدإ من حيث الوجود والوساطة في الغلبة.

وكونها أشرف من هذه الجهة لا ينافي ما ذكرنا ؛ إذ الفضل غير الشرف ، مضافا إلى أنّ النفس الناطقة لمّا كانت بحسب الفطرة قابلة للترقّيات يمكن أن يحصل لها شرف أعلى من شرفهم فتجمع بين الكمال الشرفي والفضلي ، وتصير قابلة لإفاضته الفيض بلا واسطة كما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل » (١).

فنقول : إنّ للأنبياء مع وجود المانع كمالا يكون للملائكة مع عدمه ، وكلّ من كان له مع المانع كمال يكون للآخر بلا مانع ، يكون أفضل من ذلك الآخر ، فيكون الأنبياء أفضل من الملائكة.

ويدلّ عليه أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام وتعليم آدم لهم ، وما يكون مقتضاه اصطفاء الأنبياء على العالمين الذين يكون الملائكة منهم لأفضليّة المسجود له من الساجدين ـ وإلاّ يلزم القبح ـ وأفضليّة المعلّم من المتعلّم والمصطفى من غيره.

وأقوى الأدلّة المنقول عن المخالف أنّ العقول المجرّدة فيّاضة للعلوم والكمال على النفوس الناطقة ، والمفيض أفضل من المستفيض بالضرورة ، وقوله تعالى : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) (٢) ؛ إذ المراد منه جبرئيل عليه‌السلام فإذا كان جبرئيل معلّما لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون أفضل منه.

والجواب عن الأوّل : منع كونها مفيضة ، بل هي واسطة لإفاضة الله تعالى ـ على تقدير تسليم وجودها ـ وأفضليّة الواسطة من المستفيض ممنوعة.

وعن الثاني : أنّ المراد من التعليم هو التبليغ ، لصراحة الآيات الأخرى أنّ روح الأمين كان منزّلا للقرآن على قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأفضليّة المبلّغ من المبلّغ إليه

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٧٩ : ٢٤٣ باب علل الصلاة ... ح ١.

(٢) النجم (٥٣) : ٥.

٦٥

ممنوعة ؛ إذ الأمر كثيرا ما يكون بالعكس ، بخلاف تعليم آدم فإنّه على حقيقته الموجبة لظهور استحقاق آدم لكونه خليفة في الأرض ؛ إذ لا يظهر ذلك إلاّ على تقدير كونه كذلك كما لا يخفى ؛ ولهذا ورد في الخبر في بيان قوله تعالى : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) (١). « والله هي الشفاعة » (٢). إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الدالّة على تحقّق إذن الشفاعة والعفو بها ؛ لقوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) (٣). ونحوه ، خلافا للوعيديّة القائلين بلزوم الوعيد على الله تعالى وعدم تحقّق العفو في مقابل النصّ.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( وهو أفضل من الملائكة ، وكذا غيره من الأنبياء ؛ لوجود المضادّ للقوّة العقليّة وقهره على الانقياد عليها ).

ذهب جمهور الأشاعرة (٤) إلى أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ، خلافا للحكماء والمعتزلة والقاضي أبي بكر وأبو عبد الله الحليمي منهم ، وصرّح بعضهم بأنّ عوامّ البشر من المؤمنين أفضل من عوامّ الملائكة ، وخواصّ الملائكة أفضل من عوامّ البشر ، واختار المصنّف مذهب الأشاعرة ؛ تمسّكا بأنّ للبشر أمورا متضادّة للقوّة العقليّة ، وشواغل عن الطاعات العلميّة والعلميّة كالشهوة والغضب ، وسائر الحاجات الشاغلة والموانع الخارجة والداخلة. والمواظبة على العبادات وتحصيل الكمالات بالقهر والغلبة على ما يضادّ القوّة العقليّة تكون أشقّ وأبلغ في استحقاق الثواب ، ولا معنى للأفضليّة سوى زيادة استحقاق الثواب والكرامة.

وقد يتمسّك بوجوه نقليّة :

__________________

(١) الضحى (٩٣) : ٥.

(٢) أورده الطبرسي في « مجمع البيان » ١٠ : ٥٠٥ ذيل الآية ٥ من سورة الضحى.

(٣) البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٤) لمعرفة التفاصيل حول هذا المبحث راجع « اللوامع الإلهيّة » : ٢٩٧ ، اللامع العاشر في النبوّة.

٦٦

منها : أنّ الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام والحكيم لا يأمر بسجود الأفضل للأدنى ، وإباء إبليس معلّلا بأنّه خير من آدم ؛ لكونه من نار وآدم من طين (١) يدلّ على أنّ المأمور به كان سجود تكرمة وتعظيم لا سجود تحيّة وزيارة.

ومنها : أنّ آدم عليه‌السلام علّمهم الأسماء ، والمعلّم أفضل من المتعلّم ، وسوق الآية ينادي على أنّ الغرض إظهار ما خفي عليهم من أفضليّة آدم ؛ ولذا قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٢) وبهذا يندفع ما يقال : إنّ لهم أيضا علوما جمّة أضعاف العلم بالأسماء ؛ لما شاهدوا من اللوح المحفوظ وحصّلوا في الأزمنة المتطاولة بالتجارب والأنظار المتوالية.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) (٣). وقد خصّ من آل إبراهيم وآل عمران غير الأنبياء بدليل الإجماع ، فيكون آدم ونوح وجميع الأنبياء مصطفين على العالمين الذين منهم الملائكة ؛ إذ لا مخصّص للملائكة من العالمين ، ولا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات.

واحتجّ المخالفون أيضا بوجوه نقليّة وعقليّة :

أمّا النقليّات :

فمنها : قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) (٤) خصّصهم بالتواضع وترك الاستكبار في السجود ، وفيه إشارة إلى أنّ غيرهم لا يكون كذلك ؛ لأنّ أسباب التكبير والتعظيم حاصلة لهم ، ووصفهم باستمرار الخوف وامتثال

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى : ( قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ). الأعراف (٧) : ١١.

(٢) البقرة (٢) : ٣٣.

(٣) آل عمران (٣) : ٣٣.

(٤) النحل (١٦) : ٤٩ ـ ٥٠.

٦٧

الأوامر ، ومن جملتها اجتناب المنهيّات.

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) (١) ، وصفهم بالقرب والشرف عنده بالتواضع ، والمواظبة على الطاعة والتسبيح.

ومنها : قوله تعالى : ( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) إلى أن قال : ( وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (٢) ، وصفهم بالكرامة المطلقة ، والامتثال ، والخشية ، وهذه الأمور أساس كافّة الخيرات.

والجواب : أنّ جميع ذلك إنّما يدلّ على فضيلتهم لا على أفضليّتهم سيّما على الأنبياء.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) (٣) ؛ فإنّ مثل هذا الكلام إنّما يحسن إذا كان الملك أفضل ، فكأنّه قال : لا أثبت لنفسي مرتبة فوق البشريّة كالملكيّة.

والجواب : أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (٤). والمراد قريش استعجلوه بالعذاب تهكّما به وتكذيبا له فنزلت بيانا ؛ لأنّه ليس له إنزال العذاب من خزائن الله يفتحها ، ولا يعلم أيضا متى نزل بهم العذاب منها ، ولا هو ملك فيقدر على إنزال العذاب عليهم كما يحكى أنّ جبرئيل قلّب بأحد جناحيه المؤتفكات ، فقد دلّت الآية على أنّ الملك أقدر وأقوى لا على أنّه أفضل من البشر.

ومنها : قوله تعالى : ( ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ) (٥) ، أي

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) الأنبياء (٢١) : ٢٦ ـ ٢٨.

(٣) الأنعام (٦) : ٥٠.

(٤) الأنعام (٦) : ٤٩.

(٥) الأعراف (٧) : ٢٠.

٦٨

إلاّ لكراهة أن تكونا ملكين [ أو تكونا من الخالدين ] (١) يعني أنّ الملكيّة بالمرتبة الأعلى وفي الأكل من الشجرة ارتقاء إليها.

والجواب : أنّهما رأيا الملائكة أحسن صورة وأعظم خلقا وأكمل قوّة فمنّاهما مثل ذلك وخيّل إليهما أنّه الكمال الحقيقي والفضيلة المطلوبة ، ولو سلّم فغايته التفضيل على آدم قبل النبوّة.

ومنها : قوله : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) (٢) ، أي لا يترفّع عيسى عليه‌السلام عن العبوديّة ولا من هو أرفع منه درجة ، كقولك : لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان ولو عكست لأخللت.

والجواب : أنّ الكلام سيق لردّ مقالة النصارى وغلوّهم في المسيح ، وادّعائهم فيه مع النبوّة البنوّة ، بل الألوهيّة والترفّع [ عن العبوديّة لكونه روح الله ولد بلا أب ، ولكونه يبرئ الأكمه والأبرص ، ولا يترفّع ] (٣) عيسى عن العبوديّة ، ولا من هو فوقه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أمّ يقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى ، ولا دلالة على الأفضليّة بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات.

ومنها : اطّراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء والرسل ، ولا تعقل له جهة سوى الأفضليّة.

والجواب : أنّه يجوز أن يكون لجهة تقدّمهم في الوجود ، أو في قوّة الإيمان بهم ، فإنّ وجود الملائكة أخفى فالإيمان بهم أقوى ، فيكون تقديم ذكرهم أولى.

وأمّا العقليّات :

فمنها : أنّ الملائكة روحانيّة مجرّدة في ذواتها متعلّقة بالهياكل العلويّة ، مبرّأة عن

__________________

(١) هذه العبارة لم ترد في « شرح القوشجي ».

(٢) النساء (٤) : ١٧٢.

(٣) الزيادة أضفناها من « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٢٦٤.

٦٩

الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح ، متّصفة بالكمالات العلميّة والعمليّة بالفعل من غير شوائب الجهل والنقص ، والخروج من القوّة إلى الفعل على التدريج ومن احتمال الغلط ، قويّة على الأفعال العجيبة وإحداث السحب الزلازل وأمثال ذلك ، مطّلعة على أسرار الغيب ، سابقة إلى أنواع الخيرات ، ولا كذلك حال البشر.

والجواب : أنّ ذلك مبنيّ على قواعد الفلسفة دون الملّة.

ومنها : أنّ أعمالهم المستوجبة للمثوبات أكثر ؛ لطول الزمان ، وأدوم ؛ لعدم تخلّل الشواغل ، وأقوم ؛ لسلامتها عن مخالطة المعاصي المنقّصة للثواب.

والجواب : أنّ هذا لا يمنع كون الأنبياء أفضل وأكثر ثوابا بجهات أخر كقهر المضادّ والمنافي ، وتحمّل المتاعب والمشاقّ ونحو ذلك على ما مرّ » (١).

وصل : هذا الاعتقاد من أصول المذهب الجعفريّ ، ومنكره ـ كالوعيديّة القائلين بلزوم الوعيد وعدم العفو بنحو الشفاعة (٢) ـ خارج عن المذهب.

تذنيبات :

[ التذنيب ] الأوّل : [ في فرق المسلمين ]

أنّه قد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار » (٣).

بيان ذلك : أنّ أولاد آدم عليه‌السلام كانوا على شريعته إلى أنّ إدريس عليه‌السلام نشر العلوم العقليّة والرياضيّة بطريق المكاشفة والإشراق ، ومن الآخذين منه بوسائط : ثاليس والكساغورس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون. وحيث كان التعليم والتعلّم حينئذ

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٦٣ ـ ٣٦٥.

(٢) انظر « الملل والنحل » ١ : ١١٤.

(٣) « الخصال » : ٥٨٥ ، ح ١١ ؛ « بحار الأنوار » ٢٨ : ٤ ، ح ٣.

٧٠

على سبيل الإشراق من غير ميزان للأفكار وقع الخطأ والاختلاف بين الفلاسفة ، إلاّ أنّ المعلّم الأوّل ـ أرسطو ـ وضع المنطق ؛ ليكون ميزانا للأفكار ، وأسّس أساس تدوين الكتب وترتيب المسائل والتعليم البياني ، وحصّل منه الرواقيّون الآخذون منه في المجلس ، والمشّاءون الآخذون منه لعدم الفرصة عند المشي ، وعند ذلك حصل بقراط وأقليدس وبطليموس ، وذيمقراطيس وأمثالهم من الحكماء ، وهم اختلفوا في العقائد ووضعوا بحسب معتقداتهم مذاهب من غير اعتقاد بنبيّ من الأنبياء ، وهم أرباب النحل التابعون لآرائهم المتفرّقون إلى السوفسطائي الذي لا يقول بالمعقول والمنقول ، بل هو قائل بالوهم ، والطبعيّين الذين لا يقولون بالمعقول ، ويقولون لا عالم سوى المحسوس ، كالدهريّة ، والفلاسفة الذين يقولون بالمعقول والمحسوس وبالمبدإ دون الشريعة.

وأمّا أرباب الملل فهم قائلون بالنبوّة ، وتابعون لنبيّ من الأنبياء ، ومعتقدون بشبه كتاب كالمجوس ، أو بكتاب من كتب الله تعالى ، كاليهود والنصارى والمسلمين.

والمسلمون افترقوا إلى أهل السنّة. القائلين بخلافة أبي بكر ، وكون عليّ عليه‌السلام خليفته في المرتبة الرابعة ، وإلى الناصبي المبغوضون له ، وإلى الغلاة القائلين بالهيئة ، وإلى الشيعة القائلين بكونه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ بلا فصل ، بالعقل والنقل.

والشيعة افترقوا على ستّ عشرة فرقة :

الأولى : الكيسانيّة ، القائلون بإمامة محمّد بن الحنفيّة.

الثانية : المختاريّة ، العادلون عن الكيسانيّة إلى اعتقاد انحصار الإمامة في عليّ والحسنين عليهم‌السلام ظاهرا.

الثالثة : الهاشميّة ، القائلون بإمامة هاشم بن محمّد الحنفيّة بعد أبيه.

الرابعة : البيانيّة ، القائلون بإمامة بيان بن سمعان بعد هاشم.

الخامسة : الرزاميّة ، القائلون بإمامة عليّ بن عبد الله بن عبّاس بعد هاشم بحسب الوصيّة ، وهم من أصحاب رزام بن سالم.

٧١

السادسة : الزيديّة ، القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام.

السابعة : الجاروديّة ، القائلون بإمامة محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بعد زيد.

الثامنة : السليمانيّة ، من أصحاب سليمان ، القائلون بإمامة عليّ عليه‌السلام من غير بغض الشيخين مع مذمّة عثمان وطلحة والزبير.

التاسعة : الصالحيّة ، من أصحاب حسن بن صالح ، وهم كالسليمانيّة إلاّ أنّهم توقّفوا في ذمّ عثمان وقالوا بكون العشرة المبشّرة من أهل الجنّة ، وأفضليّة علي عليه‌السلام.

العاشرة : الواقفيّة ، القائلون بوقوف الإمامة في موسى بن جعفر بن محمّد عليه‌السلام.

الحادية عشرة والثانية عشرة : فرقتان من الناووسيّة المنسوبين إلى ناووس ، وهم قائلون بوقوف الإمامة في جعفر بن محمّد عليه‌السلام وكونه حيّا ، وفرقة أخرى قائلون بموته.

الثالثة عشرة : الشميطيّة ، من أصحاب يحيى بن شميط ، القائلون بإمامة جعفر بن محمّد ، وكون المهديّ الموعود من أولاده بلا واسطة.

الرابعة عشرة : الفطحيّة ، القائلون بإمامة جعفر بن عبد الله الأفطح.

الخامسة عشرة : الإسماعيليّة ، القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام.

السادسة عشرة : الإماميّة ، القائلون بإمامة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأحد عشر من أولاده إلى المهدي عليه‌السلام الغائب الذي سيظهر بالنصّ الصحيح ، والعقل الصريح. (١)

وأهل السنّة متفرّقون إلى المعتزلة ، والأشاعرة ، وغيرهما. والمعتزلة متفرّقون إلى اثنتي عشرة فرقة :

[١] إلى الواصليّة من أصحاب واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري ، القائلين بكون صفات الله عين ذاته ، والعبد فاعل الخير والشرّ ، وصاحب الكبيرة غير مسلم

__________________

(١) انظر « الملل والنحل » ١ : ١٦٢.

٧٢

ولا كافر ، وكون أحد الفريقين من أصحاب الجمل وصفّين ـ لا على التعيين ـ مخطئا ، [٢] وإلى الهذليّة من أصحاب أبي الهذيل ، القائلين باعتباريّة صفات الله تعالى ، وكون العبد كاسبا ، وانقطاع الجنّة والنار ، وانحصار الرزق في الحلال. (١)

[٣] وإلى النظّاميّة من أصحاب إبراهيم النظّام ، القائلين بجسميّة الروح كماء الورد فيه ، وعدم قدرة الله تعالى على الشرّ ، وبالجزء الذي لا يتجزّأ وبالطفرة ، وكون إعجاز القرآن بالإخبار من القرون الماضية لا بالفصاحة ، وبحجّيّة القياس ، والعصيان لا يصير فسقا إلاّ إذا بلغ إلى حدّ النصاب وهو كونه مائتين.

[٤] وإلى الخابطيّة من أصحاب محمّد بن خابط ، القائلين بكون حساب الخلق في القيامة إلى عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، وبالتناسخ والرؤية العقليّة.

[٥] وإلى البشيريّة من أصحاب بشير بن معمّر ، القائلين بانحصار الإدراك في السمع والبصر ، وبعدم وجوب الأصلح على الله تعالى ، وكون الاستطاعة عبارة عن الصحّة البدنيّة.

[٦] وإلى المعمّريّة من أصحاب معمّر بن عباد ، القائلين بانحصار المخلوق في الأجسام وكون الأعراض من معلومات الأجسام مع عدم تناهيها ، وكون الإرادة غير الذات والصفات وعدم نسبة القدم إلى الله تعالى.

[٧] وإلى المرداريّة من أصحاب أبي موسى عيسى بن صبيح الملقّب بمردار ، القائلين بقدرة الناس على الإتيان بمثل القرآن.

[٨] وإلى الثماميّة من أصحاب ثمام بن أشرس ، القائلين بعدم حشر الكفّار والمشركين والزنادقة وأطفال المسلمين ، بل هم كالبهائم يصيرون ترابا ، ويكون الإرادة عين الفعل.

[٩] وإلى الهشاميّة من أصحاب هشام بن عمرة ، القائلين بأنّ الإماميّة لا تقع

__________________

(١) انظر المصدر السابق ١ : ٤٦.

٧٣

باتّفاق الأمّة ، وبعدم خلق الجنّة والنار.

[١٠] وإلى الجاحظيّة من أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ ، القائلين بأنّ تحصيل العلوم والمعارف ليس من أفعال العبد ، وبعدم خلود أهل النار.

[١١] وإلى الخيّاطيّة من أصحاب أبي الحسن الخيّاط ، القائلين بجواز إطلاق الشيء على المعدوم ، وكون الجوهر والعرض في حال العدم جوهرا وعرضا. (١)

[١٢] وإلى الجبّائيّة من أصحاب أبي عليّ الجبّائيّ ، القائلين بحدوث الإرادة.

وأمّا سائر أهل السنّة وأهل الضلالة كالغلاة والجبريّة ، القائلين بعدم القدرة للعبد ، وكون كلّ فعل من الله ، فهم متفرّقون إلى فرق.

الأولى : الجهميّة ، من أصحاب جهم بن صفوان ، القائلون بحدوث علم الله تعالى بالنسبة إلى الحادث ، وعدم الخلود في الجنّة والنار وعدم الاعتبار بالإنكار اللساني بالنسبة إلى العقائد.

الثانية : النجّاريّة ، من أصحاب حسن بن محمّد النجّار ، القائلون بكون الله تعالى مريدا للخير والشرّ والنفع والضرر ، وبحضور ذاته تعالى بعينه بمعنى العلم في كلّ مكان.

الثالثة : الضراريّة ، من أصحاب ضرار بن عمرو ، والقائلون بكون الصفات بمعنى نفي الضدّ ، فالعلم بمعنى عدم الجهل وهكذا ، وجواز انقلاب الأعراض بالأجسام ، وجواز توارد العلّتين المستقلّتين في معلول واحد شخصي.

الرابعة : الصفاتيّة ، القائلون بعدم الفرق بين صفات الذات والفعل.

الخامسة : المشبّهة ، القائلون بثبوت اليد والجوارح لله تعالى ، بل جواز المصافحة والملامسة معه تعالى ، ومنهم من قال بأنّه تعالى بكى في طوفان نوح حتّى حصل له الرمد ، ونحو ذلك من ألفاظ الكفر ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا (٢).

__________________

(١) انظر « الملل والنحل » ١ : ٥٣ ـ ٧٦.

(٢) المصدر السابق ١ : ٨٦ ـ ٩٢.

٧٤

السادسة من الأشاعرة : الكراميّة ، من أصحاب محمّد بن كرام القائلون بالتجسّم والتشبّه وكون الله تعالى جالسا على العرش مربّعا ، وقيام الحوادث بذاته تعالى ، وثبوت الإمامة بالإجماع (١).

السابعة : الوعيديّة ، القائلون بالخلود في الجنّة والنار وكون صاحب الكبيرة كافرا وكون أطفال المشركين والزنادقة أهل جهنّم.

الثامنة : المرجئة اليونسيّة من أصحاب يونس بن غيري ، القائلون بجواز تأخير العذاب وعدم إضرار معصية مع الإيمان وعدم نفع طاعة مع الكفر (٢).

التاسعة : العبيديّة ، من أصحاب عبيد ، القائلون بكون الله تعالى على صورة الإنسان ، وأنّ العبد لو كان موحّدا لم تضرّه معصيته.

العاشرة : الغسّانيّة ، من أصحاب غسّان الكوفي ، القائلون بعدم ضرر معصيته مع معرفة الله ورسوله.

الحادية عشرة : الثوبانيّة ، من أصحاب أبي ثوبان ، القائلون بعدم دخول أحد من المؤمنين في النار.

الثانية عشرة : التومنيّة ، من أصحاب أبي معاد التومني ، القائلون بعدم كون السجدة للشمس والقمر كفرا ، بل هو علامة له ، وأنّ قتل النبيّ ليس كفرا لأصل الفعل ، بل الاستخفاف.

الثالثة عشر : الصالحيّة ، من أصحاب صالح بن عمرو ، القائلون بكفاية اعتقاد كون الصانع للعالم في الإيمان وإن كان منكرا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبجواز العمل بالقياس والرأي والاستحسان كما أنّ أبا حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ ومالك بن أنس كانا من تلامذة مولانا الصادق واعتزلا عنه عليه‌السلام بدعوة المنصور العبّاسيّ بالتطميع الدنيويّ

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٠٨.

(٢) المصدر السابق ١ : ١١٤.

٧٥

فأحدثا مذهبين بالقياس والرأي والاستحسان ، وبعدهما الشافعيّ محمّد بن إدريس من تلامذة مالك ، وأحمد بن حنبل من تلامذة الشافعيّ ، فصارت المذاهب الباطلة أربعة في زمان المنصور (١).

الرابعة عشرة : السبّابيّة ، من أصحاب عبد الله السبّاب من الغلاة ، القائلون بحلول الألوهيّة في عليّ عليه‌السلام وهو المهدي الموعود.

الخامسة عشرة : الكامليّة ، من الغلاة من أصحاب أبي كامل ، القائلون بحلول جزء من الألوهيّة في عليّ عليه‌السلام وبكفر من ترك بيعته.

السادسة عشرة : العلبائيّة ، من أصحاب علباء بن ذراع ، وبعضهم قائلون بأفضليّة عليّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل كون النبيّ عاصيا من جهة أنّ عليّا عليه‌السلام بعثه لدعوة الناس إليه فدعاهم إلى نفسه ، وبعضهم قائلون بأنّهما إلهان ، وبعضهم قالوا بألوهيّة آل العباء.

السابعة عشرة : المغيريّة ، من أصحاب المغيرة بن سعد ، القائلون بأنّ عليّا إله أصله من النور ، وعليه تاج من نور ، وحصل من عرقه بحر عذب وأجاج ، فخلق الشمس والقمر ، وخلق المؤمن من البحر العذب والكافر من البحر الأجاج.

الثامنة عشرة : المنصوريّة ، من أصحاب أبي منصور ، القائلون بأنّ عليّا عليه‌السلام نزل من السماء ثمّ عرج وصافح مع الله وهو ابن الله.

التاسعة عشرة : الخطّابيّة ، من أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب الأسديّ ، القائلون بألوهيّة عليّ بن جعفر بن محمّد ، وأنّ جعفر بن محمّد إله هذا الزمان.

العشرون : الكيّاليّة ، من أتباع أحمد الكيّال ، القائلون بإلهيّة عليّ عليه‌السلام ، وكون أحمد الكيّال مهديّا موعودا (٢).

الحادية والعشرون : النصيريّة ، القائلون بأنّ الله تعالى بعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله صار

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٤٠ ـ ١٤٤.

(٢) المصدر السابق ١ : ١٧٤ ـ ١٨١.

٧٦

بصورة عليّ عليه‌السلام وبعده بصورة سائر الأئمّة ، وأنّ عليّا خالق الموت والحياة (١).

الثانية والعشرون : الأزرقيّة ، من الخوارج المتفرّقة إلى أربع وعشرين فرقة من أصحاب نافع بن الأزرق الخارج على الإمام من البصرة القائلون بكفر عليّ عليه‌السلام وحقّيّة ابن ملجم ، وكفر من فرّ عن الحرب وصاحب الكبيرة ، وجواز نبوّة من كان كافرا ، وعدم جواز التقيّة ونحو ذلك.

الثالثة والعشرون : النجديّة ، من أصحاب نجدة بن عامر ، القائلون بحلّيّة دماء أهل الذمّة وأموالهم ، وجواز التقيّة في الدم والمال ، وجواز القعود عن الحرب.

الرابعة والعشرون : البيهتيّة ، من أصحاب بيهت ، القائلون بجواز الإنكار عن الحلال ، والتفويض وكون أطفال المؤمنين مؤمنين ، وأطفال الكفّار كفّارا.

الخامسة والعشرون : العجاردة ، من أصحاب عبد الكريم بن عجرد ، القائلون بكفر صاحب الكبيرة ، وعدم كون سورة يوسف من القرآن ؛ لعدم كون قصّة العشق فيه جائزا ، وكون أطفال المشركين معهم في النار (٢).

السادسة والعشرون : الصلتيّة ، من أصحاب عثمان بن أبي الصلت ، القائلون بعدم كون الأطفال مؤمنين ولا كافرين ، ووجوب تولّي المسلمين والتبرّي عن المشركين. (٣)

السابعة والعشرون : الميمونيّة ، من أصحاب ميمون بن ماكان ، القائلون بكون الخير والشرّ من العبد ، وجواز نكاح بنات البنات وبنات أولاد الأخوات ، وعدم كون سورة يوسف من القرآن. (٤)

الثامنة والعشرون : الحمزيّة ، من أصحاب حمزة بن أدراك ، وهم كالميمونيّة مع زيادة اعتقاد خلود أطفال المشركين والمخالفين في النار. (٥)

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٨٨.

(٢) المصدر السابق ١ : ١١٨ ـ ١٢٩.

(٣) المصدر السابق ١ : ١٢٩.

(٤) المصدر السابق ١ : ١٣٠.

(٥) المصدر السابق ١ : ١٣٠.

٧٧

التاسعة والعشرون : الأطرافيّة ، وهم كالحمزيّة إلاّ أنّهم قالوا بأنّه ليس حرج على الساكنين في أطراف البلاد الذين لم يسمعوا صيت الإسلام. (١)

الثلاثون : الخلفيّة ، من أصحاب خلف الخارجي ، القائلون بكون الخير والشرّ من الله. (٢)

الحادية والثلاثون : الحازميّة ، من أصحاب حازم بن عليّ ، المتوقّفون في أمر عليّ عليه‌السلام. (٣)

الثانية والثلاثون : الشعيبيّة ، من أصحاب شعيب بن محمّد ، القائلون بخلق الأعمال ، مع شدّة العداوة لعليّ عليه‌السلام (٤).

الثالثة والثلاثون : الثعلبيّة ، من أصحاب ثعلبة ، وهم كالشعيبيّة مع القول بجواز أخذ الزكاة من العبيد. (٥)

الرابعة والثلاثون : الأخنسيّة ، من أصحاب أخنس بن قيس ، القائلون بعدم الحكم بإيمان من لم يثبت إيمانه وإن كان من أهل القبلة ، وجواز القتل والسرقة سرّا لا جهرا (٦).

الخامسة والثلاثون : المعبديّة ، وهم كالثعلبيّة إلاّ أنّهم قالوا بجواز جعل سهام الصدقة حال التقيّة سهما واحدا (٧).

السادسة والثلاثون : المعلوميّة ، القائلون بكون الفعل مخلوق العبد ، وعدم كون الجاهل بأسماء الله وصفاته تعالى ولو واحدا مؤمنا (٨).

السابعة والثلاثون : المجهوليّة ، الناصبون لعليّ عليه‌السلام القائلون بأنّ جهل بعض

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٣٠.

(٢) المصدر السابق ١ : ١٣٠.

(٣) المصدر السابق ١ : ١٣١.

(٤) المصدر السابق ١ : ١٣١.

(٥) المصدر السابق ١ : ١٣١ ـ ١٣٢.

(٦) المصدر السابق ١ : ١٣٢.

(٧) المصدر السابق ١ : ١٣٢.

(٨) المصدر السابق ١ : ١٣٣.

٧٨

أسماء الله تعالى وبعض صفاته غير قادح في الإيمان (١).

الثامنة والثلاثون : الرشيديّة ، من أصحاب الرشيد الطوسيّ ، القائلون بكون الزكاة عشرا؟.

التاسعة والثلاثون : الشيبانيّة ، من أصحاب شيبان بن سلمة ، القائلون بالجبر ، ونفي العلم من الله تعالى (٢).

الأربعون : المكرميّة ، من أصحاب مكرم العجليّ ، القائلون بكون تارك الصلاة كافرا ، وعدم إيمان السارق والزاني (٣).

الحادية والأربعون : الإباضيّة ، من أصحاب عبد الله بن إباض ، القائلون بكفر مخالف المذهب وإن كان من أهل القبلة ، وشرك المنافق (٤).

الثانية والأربعون : الزيديّة ، القائلون بأنّ الله تعالى يبعث رسولا وكتابا في العجم نسخا للشريعة الأحمديّة (٥).

الثالثة والأربعون : الحفصيّة ، القائلون بأنّ من عرف الله ليس بشرك وإن كان منكرا للرسول والكتاب وارتكب الكبائر (٦).

الرابعة والأربعون : الحارثيّة ، وهم كالمعتزلة (٧).

الخامسة والأربعون : الأصفريّة ، القائلون بجواز القعود عن حرب غير المشركين ، وجواز قتل أطفال المسلمين والمشركين (٨).

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٣٣.

(٢) المصدر السابق ١ : ١٣٢.

(٣) المصدر السابق ١ : ١٣٣.

(٤) المصدر السابق ١ : ١٣٤.

(٥) المصدر السابق ١ : ١٥٤.

(٦) المصدر السابق ١ : ١٣٥.

(٧) المصدر السابق ١ : ١٣٦.

(٨) المصدر السابق ١ : ١٣٧.

٧٩

فثبت أنّ المجموع ـ الستّ عشرة من فرق الشيعة ، والخمس والعشرون من فرق أهل السنّة ، والثمان من فرق الغلاة ، والأربع والعشرون من فرق الخوارج ـ ثلاث وسبعون فرقة ، والفرقة الناجية منهم الفرقة الإماميّة الاثني عشريّة ـ القائلون بأنّ الله واحد أزليّ ، قديم منزّه عن مشابهة المخلوقات ، عادل حكيم منزّه عن الظلم والقبائح ، خالق للعباد ، قادر على الفعل والترك مع وجوب إرسال الرسل وإنزال الكتب وثواب المطيع عقلا وجواز العفو عن المعاصي ، وكون فعله مع الغرض العائد إلى العباد في المعاد ، وكون الأئمّة معصومين منصوبين اثني عشر ـ من غير جواز العمل بالقياس والرأي والاستحسان ـ ومن عداهم من الفرق في النار (١).

وقد ورد « أنّ أمّة موسى افترقوا إحدى وسبعين فرقة ، وأمّة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة » (٢).

هدانا الله تعالى إلى سواء السبيل في أمور الدين ، وحشرنا الله مع النبيّ وآله الطاهرين.

[ التذنيب ] الثاني : في دفع الشكوك

المحكيّة عن بعض المبطلين القاصدين لنفي شريعة سيّد المرسلين ، وإنكار نبوّة خاتم النبيّين ممّن هو من أهل عصرنا ، وقد دوّن الكتب والرسائل كثير من العلماء والأفاضل بأمر سلطان زماننا في الأوائل.

اعلم أنّه حكي عن بعض القاصرين من المعاصرين المنكرين لهذه الشريعة إيراد شبهات واهية في نفي النبوّة لنبيّنا عليه آلاف صلاة وتحيّة فينبغي بيانها على وجه الإشارة ، والإشارة على جوابها حذرا عن وقوع الشبهة ، فنقول : إنّها شكوك عديدة :

__________________

(١) المصدر السابق ١ : ١٦٩ ـ ١٧٢.

(٢) « بحار الأنوار » ٢٨ : ٣ ـ ٤ ، ح ٢ و ٣.

٨٠