البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

بالنسبة إلى ما بعد البعثة فقط ، أو يجب أن تكون بالنسبة إلى ما قبلها أيضا؟ (١)

والحقّ وجوب عصمتهم مطلقا من جهة الكذب مطلقا ، وغيره صغيرة وكبيرة مطلقا ، عمدا وسهوا ، بعد البعثة وقبلها.

أمّا عن الكذب في التبليغ فلمنافاته له. وأمّا عنه في غيره وعن غيره مطلقا فلوجوب الاتّباع المنافي لصدور الذنب عنه مطلقا ، أمّا بعد البعثة فظاهر ، وأمّا قبلها فلحصول النفرة المانعة عن الاتّباع ولو بعد البعثة ، ولصيرورته محلّ المناقشة والمشاجرة ، والمقصود أن يكون بعثهم بحيث لا يكون للناس على الله حجّة.

وهذا الوجه عامّ يقتضي امتناع صدور جميع المعاصي عنه في أيّ حال كان عمدا وسهوا ، وبعد البعثة وقبلها ، بل يقتضي لزوم تنزّههم عليهم‌السلام عن جميع العيوب الجسمانيّة ، والأخلاق الذميمة النفسانيّة ، والأمراض المزمنة ، وخساسة الذات ودناءتها وكفر الآباء والأمّهات ، ورذالة القبيلة ، وغيرها ممّا يوجب تنفّر الطبائع المانع عن الاتّباع والإرادة ، بل يجب اتّصافهم عليهم‌السلام بجميع صفات الكمال والأخلاق الحسنة ، والأقوال الممدوحة وكرامة الآباء وشرافة القبيلة ، ونحوها ممّا يوجب رغبة الناس إليهم وانقيادهم لهم ليحصل الغرض ، ويتحقّق اللطف الواجب على الله تعالى كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه يدلّ على وجوب عصمة الأنبياء أوّلا العقل ؛ لأنّ بعث البشر المعصوم المرقوم لطف ؛ لعدم ارتباط الجميع بالملك ـ لو لم ندّع عدم الإمكان ـ إلاّ فيمن شذّ وندر ، فلا بدّ من بعثته ـ إتماما للحجّة ـ للغرض والحجّة ؛ مضافا إلى أنّ غيره مرجوح.

وثانيا : النقل كما قال تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) (٢).

__________________

(١) انظر تفصيل هذا الخلاف في « كشف المراد » : ٣٤٩ ، المسألة الثالثة في وجوب العصمة.

(٢) يوسف (١٢) : ١٠٩.

٢١

وقال تعالى : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ) (١).

وقال تعالى : ( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (٢).

وقال تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) وقال : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (٤). الآية ـ إلى أن قال : ـ ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (٥).

وقال تعالى بعد ذكر من الأنبياء : ( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦).

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان شارح القوشجي بقوله : « ( وتجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق بأقواله وأفعاله فيحصل الغرض من البعثة ) وهو متابعة المبعوث إليهم في أوامره ونواهيه ( ولوجوب متابعته وضدّها ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لزم اجتماع وجوب الضدّين وهما متابعته ومخالفته.

أمّا الأوّل : فللإجماع المنعقد على وجوب متابعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (٧).

وأمّا الثاني : فلأنّ متابعة المذنب حرام. ( ولوجوب الإنكار عليه ) يعني لو صدر عنه الذنب ، لوجب منعه وزجره والإنكار عليه ؛ لعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٥١.

(٢) إبراهيم (١٤) : ١١.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٤) آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) الأنعام (٦) : ٩٠.

(٦) الأنعام (٦) : ٨٦ ـ ٨٧.

(٧) آل عمران (٣) : ٣١.

٢٢

عن المنكر ، لكنّه حرام ؛ لاستلزامه الإيذاء المحرّم بالإجماع ؛ ولقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (١).

ولزم أيضا أمورا أخر كلّها منتفية :

منها : أن يكون شهادته مردودة ؛ إذ لا شهادة للفاسق بالإجماع ، ولقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٢) واللازم باطل بالإجماع ؛ ولأنّ من لا تقبل شهادته في القليل الزائل بسرعة من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيّم؟!

ومنها : استحقاقه العذاب واللعن واللوم ؛ لدخوله تحت قوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٤) ؛ وقوله : ( لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ) (٥) ؛ وقوله : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (٦).

لكن ذلك منتف بالإجماع ، ولكونه من أعظم المنفّرات.

ومنها : عدم نيله عهد النبوّة ؛ لقوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٧) ؛ فإنّ المراد به النبوّة أو الإمامة التي دونها.

ومنها : كونه غير مخلص ؛ لأنّ المذنب قد أغواه الشيطان والمخلص ليس كذلك ؛ لقوله تعالى حكاية عن إبليس : ( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٨).

ومنها : كونه من حزب الشيطان ومتّبعيه ، واللازم قطعيّ البطلان.

ومنها : عدم كونه متسارعا في الخيرات معدودا عند الله من المصطفين الأخيار ؛

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٥٧.

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) الجنّ (٧٢) : ٢٣.

(٤) هود (١١) : ١٨.

(٥) الصفّ (٦١) : ٢.

(٦) البقرة (٢) : ٤٤.

(٧) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٨) الحجر (١٥) : ٣٩ ـ ٤٠.

٢٣

إذ لا خير في المذنب ، لكن اللازم منتف ؛ لقوله تعالى في حقّ بعضهم : ( إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ) (١) ، ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ ) (٢).

بقي الكلام في أنّ العصمة من أيّ معصية تجب ؛ فإنّ ما يتوهّم صدوره عن الأنبياء من المعاصي إمّا أن يكون منافيا لما تقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلّق بالتبليغ ، أولا؟ والثاني إمّا أن يكون كفرا ، أو معصية غيره ، وهي إمّا أن تكون كبيرة كالقتل والزنى ، أو صغيرة منفّرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبّة ، أو غير منفّرة ككذبة وشتمه وهمّ بمعصية ، كلّ ذلك إمّا عمدا أو سهوا ، بعد البعثة أو قبله.

والجمهور على وجوب عصمتهم عمّا ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوّزه القاضي سهوا ؛ زعما منه أن لا يخلّ في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر. وقد جوّزه الأزارقة من الخوارج ؛ بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأنّ كلّ ذنب كفر. وجوّز الشيعة إظهاره تقيّة ؛ احترازا عن إلقاء النفس في التهلكة.

وردّ بأنّ أولى الأوقات بالتقيّة (٣) ابتداء الدعوة ؛ لضعف الداعي وشوكة المخالف ، وكذا عن تعمّد الكبائر بعد البعثة ، وجوّزه الحشويّة.

وكذا عن الصغائر المنفّرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتّباع ؛ ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا ، والمذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقا ، والصغائر غير الخسيسة عمدا لا سهوا.

وذهب إمام الحرمين من الأشاعرة ، وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا (٤).

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٩٠.

(٢) ص (٣٨) : ٤٧.

(٣) في الأصل : « بالبعثة » وما أثبتناه موافق لما ورد في « شرح القوشجي » : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

(٤) انظر تفصيل الأقوال في « كشف المراد » : ٣٥١ وما بعدها.

٢٤

فالمصنّف إن أراد وجوب العصمة عن جميع المعاصي كما هو الظاهر من كلامه والظاهر من الشروح ، فلا يخفى أنّ ما ذكره من الأدلّة لا يفي بذلك ؛ فإنّ صدور الذنب عنه سيّما الصغيرة سهوا لا يخل بالوثوق بقوله وفعله ، والمتابعة قبل البعثة غير واجبة وبعد البعثة إنّما تجب فيما يتعلّق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلّة ولا طبع.

والإنكار على ما صدر عنهم سهوا غير جائز ، وردّ الشهادة إنّما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة أو رجوع ، ولزوم الزجر والمنع واستحقاق العذاب واللعن واللوم إنّما هو على تقدير التعمّد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذّى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل يبتهج. وبمجرّد كبيرة سهوا ، أو صغيرة ولو عمدا لا يعدّ المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا عن حزب الشيطان سيّما مع الإنابة ، وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كلّ فعل وتركه ، فمسارعة البعض إليها وكونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب من آخر سيّما سهوا ، أو مع التوبة.

وبالجملة : فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، والصغيرة غير المنفّرة عمدا محلّ نظر.

ويجب أيضا في النبيّ ( كمال العقل والذكاء والفطنة وقوّة الرأي ) لأنّ من لم يتّصف بها لم يرغب في متابعته والانقياد لأوامره ونواهيه.

( ويجب أيضا عدم السهو ) لئلاّ يسهو فيما أمر بتبليغه ، ولعلّ مراده أن لا يكون السهو في الأمور ديدنا له وعادة ( و ) عدم ( كلّ يتنفّر عنه من دناءة الآباء ، أو عمر الأمّهات ، والفظاعة والغلظة والأبنة وشبهها ) من الأمراض التي يتنفّر عنها الطبائع ، كالبرص والجذام وسلس البول والريح ، والأكل على الطريق وشبهه من الأمور الخسيسة » (١).

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

٢٥

الفصل الثالث :

في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله يجب أن يكون مع المعجزة المصدّقة ، بناء على

أنّ طريق معرفة صدق النبيّ صلى الله عليه وآله في ادّعاء النبوّة منحصر في ظهور المعجزة

اعلم أنّ المعجزة عبارة عن الأمر العجيب الواقعي ، الخارق للعادة المقترن لادّعاء النبوّة الممكنة ، ونحوها من الرئاسة الإلهيّة الممكنة مع المطابقة في المصدّقة.

بيان ذلك : أنّ كلّ حادث مسبّب عن سبب لاقتضاء مصلحة الله خلق الأشياء بالأسباب ، ويسمّى ذلك عادة. والأسباب المقدّرة لحدوث الحوادث على ثلاثة أنواع : الأرضيّة ، والسماويّة ، والمركّبة منهما.

والأرضيّة منحصرة في حركات الأفلاك والكواكب وأوضاعها ، والمركّبة ما حصل منهما ، كما يقال : إنّ الدواء الفلاني يؤثّر أثرا كذا إن استعمل في ساعة كذا ، وإلاّ فلا ، فكلّ ما حدث في هذا العالم بسبب قسم من الأقسام الثلاثة يكون واقعا على مجرى العادة ، وإن حدث بلا توسّط سبب من تلك الأسباب ، لكان على خلاف مجرى العادة ، ويكون خارقا للعادة ، كمجيء الشجرة عند دعوة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كما سنبيّن إن شاء الله تعالى ، فإنّه لم يكن من جهة أسباب عاديّة ؛ إذ الأسباب العاديّة للحركة منحصرة في الإرادة والطبيعة والقسر ، ولا إرادة للشجر ، والطبيعة إمّا أن تقتضي

٢٦

الحركة إلى الفوق أو التحت ، والقسر إمّا بالجذب أو بالدفع ، وحركة الشجر لم تكن داخلة في شيء من تلك الأقسام ، فتكون خارقة للعادة.

وقد يحدث الأمر بتوسّط سبب عادي خفيّ فيتوهّم كونه بلا سبب فيشتبه بخارق العادة كما في الشعبذة والطلسم والنيرنج ونحوها ، وقد لا يكون وجوده إلاّ بمجرّد التخييل من غير أن يكون له وجود الخارج كما في السحر.

والأمر الحادث لا من جهة سبب من الأسباب العاديّة يسمّى خارق العادة ، فإن اقترن بدعوى النبوّة ، أو الإمامة ، أو سائر ما لا يكون الاختصاص به إلاّ من الله وكان مطابقا لها يسمّى « معجزة » ، فما لم يكن يسمّى معجزة « مكذّبة » كما نقل أنّ مسيلمة الكذّاب لمّا سمع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا للأعور فصار بصيرا ، دعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وما كان دالاّ على البعثة وحدث قبلها يسمّى « إرهاصا » كتضليل الغمامة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسليم الأحجار له صلى‌الله‌عليه‌وآله قبلها ، وسقوط أربع وعشرين شرفة من إيوان كسرى ليلة ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخمود نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ونحو ذلك ؛ إذ الإرهاص بمعنى الانتظار ، فكأنّه ينتظر البعثة.

وما كان غير منتظر مقترن بالدعوى المذكورة يسمّى « كرامة » كما كانت لمريم ؛ إذ ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (١). وهكذا إطاعة الكلاب لسلمان ، وغير ذلك.

فالمعجزة حيث كانت لا عن سلب لا يمكن معارضتها ، بخلاف السحر فإنّه لكونه مسبّبا عن سبب خفيّ يمكن معارضته بتعلّم سببه ، فهي ممتازة عنه ، ولكن إذا كان رجل قادرا على الإتيان بأمر يكون سببه خفيّا ، ويكون مشتبها بالمعجزة عند الأكثر ، فلو ادّعى النبوّة أو نحوها وأتى طبق دعواه بذلك الأمر ، وجب على الله إبطاله ؛ دفعا

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٣٧.

٢٧

للإضلال العامّ كما أبطل سحر فرعون بابتلاع عصا موسى.

فالمعجزة صادرة بمجرّد إرادة الله بلا توسّط سبب من الأسباب العاديّة ، ولهذا إذا اقترنت بالدعوى المذكورة وكانت مطابقة لها تدلّ على صدق المدّعى.

ووجه انحصار طريق معرفة صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها أنّ دعوى النبوّة ـ مثلا ـ ادّعاء خصوصيّة موهبيّة لا كسبيّة ، ولا اطّلاع للعقل بسببها ، فلا يمكن له الاستدلال اللمّي ، فلا بدّ له من البرهان الإنّي الذي هو الاستدلال من الأثر إلى المؤثّر ، ولا بدّ أن يكون لذلك الأثر اختصاص تامّ بذلك المؤثّر حتّى يدلّ عليه. ولمّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشرا لم يميّز من غيره إلاّ باستجماع الكمالات الذي هو أعمّ من النبوّة لا بدّ أن يكون له أثر مخصوص به من حيث إنّه نبيّ ، وليس ذلك المعجزة المقترنة المطابقة لدعواه ، فانحصر طريق إثبات النبوّة ونحوها في المعجزة إمّا بلا واسطة ، أو بواسطة كما في صورة بيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لنبيّ آخر ، أو نحوه.

والحاصل : أنّ المعجزة أمر واقعيّ خارج عن العادة ، بسبب كونه بلا توسّط سبب أرضيّ ، أو سماويّ أو مركّب ، وكونه ممّا لا يتمكّن الخلق على تحصيلها بالتكسّب والتعلّم ونحو ذلك ـ كما في الحوادث العاديّة المسبّبة عن سبب من تلك الأسباب جليّا كان السبب ، أو خفيّا ـ موجبا للاشتباه بخارق العادة في أمثال الشعبذة ، مع كون ذلك الأمر الخارق للعادة مقترنا بادّعاء نحو النبوّة الممكنة مطابقا له ، فيمتاز عن « الإرهاص » و « الكرامة » و « السحر » مفهوما ومصداقا.

وأنّ الحوادث المحسوسة إمّا وهميّة وخياليّة محضة ، أو واقعيّة ، والأولى قسم من السحر ، والثانية إمّا مسبّبة عن سبب أرضيّ ، أو سماويّ ، أو مركّب ، أو لا ، والأولى تسمّى بالعاديّة وهي قد تكون مسبّبة عن سبب خفيّ ، والثانية أيضا قسم من السحر.

وغير المسبّبة إمّا أن تكون لصاحب الرئاسة الإلهيّة أم لا ، وعلى الثاني تسمّى « كرامة ». وعلى الأوّل إمّا أن تكون قبل الادّعاء أو تكون مقترنة بالادّعاء ، وعلى

٢٨

الأوّل تسمّى « إرهاصا » بمعنى حالة منتظرة للرئاسة كما في تظليل الغمام ونحوه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانشقاق جدار الكعبة للوصيّ ، وعلى الثاني تسمّى « معجزة ».

وحينئذ إمّا أن تكون مطابقة للدعوة كما في ثعبان موسى ، وإحياء الأموات ، وشقّ القمر لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو مخالفة لها كما في مسيلمة الكذّاب. والأولى تسمّى معجزة مصدّقة ، والثانية معجزة مكذّبة.

فظهر الفرق بين السحر والمعجزة بأنّ السحر أعمّ من الوهمي والواقعي دون المعجزة ، وأنّ السحر الواقعي مسبّب عن سبب خفيّ ، والمعجزة من تصديق الله أو تكذيبه من غير سبب من العبد.

مضافا إلى أنّ السّحر عند الاختفاء والاشتباه ممّا يجب على الله إبطاله ، حذرا عن عدم إتمام الغرض في صدور القبح ، والمعجزة تكون باقية ويحصل التميّز في صورة الاشتباه بذلك ؛ وبأنّ السحر ممّا يمكن تعلّمه وتحصيله بالكسب دون المعجزة ؛ وبأنّ المعجزة غير مخصوصة بشيء دون شيء ، بل كلّما يريد المخاطب وجب على النبيّ والوصيّ إيقاعه بإذن الله ، بخلاف السحر :

وأنّه يدلّ على ذلك برهانان من ربّك :

أوّلا : العقل : لأنّ اللطف ـ الواجب المقتضي لبعث البشر المعصوم ـ موقوف على تعريف ذلك المعصوم ولا يتمّ إلاّ به ، وذلك لا يتمّ إلاّ بالمعجزة المصدّقة ؛ لخفاء العصمة وتوقّف ظهورها على تصديق الله له بالمعجزة ، فيكون الاقتران بها لازما مع أنّه راجح وتركه مرجوح ، واختيار المرجوح قبيح.

وثانيا : النقل كما قال : ( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) (١) ونحو ذلك.

وعن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : لأيّ علّة أعطى الله عزّ وجلّ أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال : « ليكون دليلا على صدق من أتى بها ، والمعجزة علامة لله

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ١٠١.

٢٩

يعطيها أنبياءه ورسله وحججه ليعرف بها صدق الصادق وكذب الكاذب » (١). ونحو ذلك.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنف رحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : « ( وطريق معرفته وصدقه ) أي صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ( في ) دعوى النبوّة ( ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى ) قيّد بذلك احترازا عن الكرامات ؛ فإنّها لا تكون مطابقة للدعوى ؛ ضرورة عدم الدعوى ، لكنّه يخرج الإرهاص والمعجزة المكذّبة لمدّعي النبوّة أيضا ، والمصنّف يسمّيها معجزة ، كما سيأتي.

وأمّا قوله : مع خرق العادة فهو لغو محض ، ولعلّه من طغيان القلم ؛ لكنّه ينبغي أن يذكر هاهنا قيدا آخر ، وهو عدم المعارضة ، ليميّز عن السحر والشعبذة.

والمشهور في تعريف المعجزة أنّه أمر خارق للعادة ، ومقرون بالتحدّي مع عدم المعارضة.

وقيل : ينتقض بما إذا دلّ على خلاف دعواه كمن ادّعى النبوّة ويقول : معجزتي أن أنطق الحجر ، فنطق ، لكنّه قال : إنّه كاذب.

فالأولى في تعريفها أن يزاد على المشهور قولنا : ومطابقة الدعوى.

أقول : قد تطلق المعجزة على مثله كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله.

وإنّما كان ظهور المعجزة طريقا لمعرفة صدقه ؛ لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجّة؟ فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم على سريره ثلاث مرّات ويقعد ففعل ، فإنّه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

__________________

(١) « علل الشرائع » ١ : ١٤٨ ، الباب ١٠٠ ، ح ١ ؛ « بحار الأنوار » ١١ : ٧١ ، ح ٢.

٣٠

فإن قيل : [ هذا تمثيل و ] (١) قياس للغائب على الشاهد ـ وهو على تقدير ظهور الجامع إنّما يعتبر في العمليّات ؛ لإفادة الظنّ ـ قد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العلميّات التي هي أساس ثبوت الشرائع ، على أنّ حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنّما هو لما شوهد من قرائن الأحوال.

قلنا : التمثيل إنّما هو للتوضيح والتعريف دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري ، لحصوله في الغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القصّة إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحرّيها أحد سواه ، وجعل مدّعي الرسالة حجّته ؛ لأنّ الملك يحرّك تلك الحجب من ساعته ففعل.

( وقصّة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها على الصالحين ) اختلفوا في جواز وقوع ما هو خارق العادة على يد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الصالحين ـ أعني المواظبين على الطاعات ، المجتنبين عن المعاصي ـ فذهب المعتزلة إلى منعه ؛ تمسّكا بما سيأتي ، والأشاعرة إلى ثبوته. واختاره المصنّف واحتجّ عليه بقصّة مريم كما دلّ عليه قوله تعالى : ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) (٢) وغيرها مثل قصّة آصف بن برخيا كما دلّ عليه قوله تعالى : ( أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (٣) وغيرها.

وأجاب عن أدلّة المعتزلة وهي وجوه :

منها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ لكثر وقوعه ، ولصدوره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطريق الأولى وعن غيره أيضا فخرج [ عن ] أن يكون معجزا ؛ لخروجه عن أن يكون أمرا خارقا للعادة لكثرة وقوعه.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) آل عمران (٣) : ٣٧.

(٣) النمل (٢٧) : ٤٠.

٣١

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم خروجه عن حدّ الإعجاز ، فإنّ صدوره من الأنبياء والأولياء لا يجعله عادة معتادة. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا يلزم خروجه عن حدّ الإعجاز ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهور خارق العادة على [ يد ] غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لزم التنفّر عن الأنبياء ؛ لأنّ الباعث على اتّباعهم انفراد هم عن غيرهم ، وعجز غيرهم عن مشاركتهم فإذا شاركوهم هان الخطب ولزم النفرة عن اتّباعهم بمشاركة الأولياء لهم كما لا يلزم [ ذلك ] بمشاركة نبيّ آخر. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا النفرة ).

ومنها : أنّ تميّز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غيره إنّما هو بظهور الأمر الخارق على يده ، فلو ظهر على يد غيره أيضا ، لزم عدم تمييز النبيّ عن غيره.

وتقرير الجواب : أنّا لا نسلّم لزوم عدم التميّز وإنّما يلزم لو لم يحصل التميّز بأمر آخر ، وهو ممنوع ؛ فإنّ النبيّ يتميّز عن الوليّ بدعوى النبوّة.

وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا عدم التميّز ) أي لا يلزم عدم التميّز.

ومنها : أنّه لو صدر عن غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لبطلت دلالته على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ مبنى الدلالة على اختصاصه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا بطل الاختصاص بطلت الدلالة.

والجواب : منع الزوم ، وإنّما يلزم لو ادّعى دلالة كلّ خارق على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس كذلك ، بل لها شرائط.

منها : مقارنة الدعوى ، وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا إبطال دلالته ).

ومنها : أنّه لو جاز ظهوره على يد صادق غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز ظهوره على يد كلّ صادق ، فيلزم عموميّة ظهور المعجزة.

والجواب : منع اللزوم ؛ لأنّ مبنى ظهور الخارق للعادة كرامة صاحبه ، وهي إنّما توجد في الأنبياء والصالحين من عباد الله وهم الأولياء. وإلى هذا أشار بقوله : ( ولا العموميّة ، ومعجزاته قبل النبوّة تعطي الإرهاص ).

اختلفوا في ظهور المعجزة على سبيل الإرهاص ـ وهو إحداث أمر خارق للعادة

٣٢

دالّ على بعثة نبيّ قبل بعثته ـ أنّه هل يجوز أم لا؟

واختار المصنّف الجواز ، واحتجّ عليه بظهور معجزات نبيّنا قبل نبوّته مثل : انكسار إيوان كسرى ، وانطفاء نار فارس ، وتظليل الغمامة ، وتسليم الأحجار عليه ( وقصّة مسيلمة وفرعون وإبراهيم تعطي جواز ظهور المعجزة على العكس )

اختلفوا في أنّه هل يجوز المعجزة على الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم؟ فالذين منعوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء منعوا من ذلك ، والذين جوّزوا ظهور الكرامات على غير الأنبياء جوّزوا ذلك ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بالوقوع ؛ لأنّ الوقوع دليل على الجواز.

وممّا وقع : ما نقل عن مسيلمة الكذّاب أنّه لمّا ادّعى النبوّة ، فقيل له : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا لأعور فارتدّ بصيرا ؛ فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة.

وكما نقل أنّ فرعون لمّا ضرب موسى لبني إسرائيل طريقا في البحر يبسا ، قال فرعون : إنّا نمرّ أيضا على هذا الطريق فأتبعهم بجنوده فغشيهم الموج فأغرقوا جميعا.

وكما نقل أنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما ، قال عمّه : أنا أجعل النار على نفسي بردا وسلاما فجاءت نار فاحترقت لحيته.

( ودليل الوجوب يعطي العموميّة ، ولا تجب الشريعة )

اختلفوا في أنّه هل تجب البعثة في كلّ زمان بحيث لا يجوز خلوّ زمان عن بعثة نبيّ؟

قال الأشاعرة : لا تجب البعثة في كلّ زمان بناء على نفي الحسن والقبح العقليّين.

وقال الإماميّة : تجب البعثة في كلّ زمان ، واختاره المصنّف واحتجّ عليه بأنّ الدليل الدالّ على وجوب البعثة يعطي عموميّة الوجوب في كلّ وقت ؛ لأنّ الحثّ على الطاعات والنهي عن القبائح لا يحصل إلاّ بالبعثة ، فتكون لطفا ، فتكون واجبة

٣٣

في جميع الأوقات.

واختلفوا في أنّه هل تجب الشريعة للنبيّ المبعوث أم لا؟ فذهب أبو عليّ وأتباعه إلى أنّه يجوز بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لتأكيد ما في العقول ، ولا يجب أن تكون له شريعة فإنّه يجوز بعثة نبيّ لشريعة واحدة فكذا يجوز بعثة نبيّ بمقتضى ما في العقول.

وذهب أبو هاشم وأصحابه إلى أنّه لا يجوز أن يبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بشريعة ؛ لأنّ العقل كاف في العلم بالعقليّات ، فلو لم يكن للنبيّ شريعة ، يلزم أن تكون بعثته عبثا.

وأجاب المصنّف بأنّه يجوز أن يكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة ، بأن يكون العلم بنبوّته ودعوته إيّاهم إلى ما في العقول مصلحة لهم ، فلا يكون البعثة عبثا » (١).

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي ، ٣٥٩ ـ ٣٦١ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

٣٤

الفصل الرابع :

في أنّ نبيّنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله رسول الله المبعوث إلى

الثقلين : الجنّ ، والإنس مع المعجزات التي منها : المعراج الجسماني ،

وشقّ القمر ، والقرآن ، وأنّه صلى الله عليه وآله خاتم النبيّين ، ودينه باق إلى يوم الدين

فلنذكر أوّلا نسبه ، وثانيا حسبه :

أمّا نسبه فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب ابن المسمّى بشيبة بن عمرو ، المعروف بهاشم بن المغيرة ، المعروف بعبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان بن أدّ بن أدر بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن ثابت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناخور بن شروغ بن رارعو بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن ملك بن متّوشلخ بن أخنوخ بن الناذر بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليهم‌السلام.

وأمّا حسبه فهو أنّه رسول الله المبعوث إلى الثقلين ، وخاتم النبيّين بدلالة معجزاته المطابقة لدعواه.

اعلم أنّ معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله على قسمين : ظاهرة ، وخفيّة. فالظاهرة عبارة عن

٣٥

القرآن المجيد ؛ لكونه ثابتا بالتواتر والتظافر المفيدين للقطع واليقين ، كما في العلم بالبلاد النائية ، والقرون الماضية ، والملوك الحالية ، وذوي السخاوة والشجاعة والعدالة ، ومؤلّف الكتب بحيث لا يمكن إنكاره ولا يقبل التشكيك.

وهكذا حصل القطع واليقين أنّ محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ادّعى النبوّة وأتى على طبقها بالقرآن المجيد ، وتحدّى بطلب معارضته ، وعجز عن المعارضة الفصحاء والبلغاء المشهورون ، ولم يقدروا على معارضته مع تطاول الأزمنة ، فهذا العجز والتعذّر معجز خارق للعادة.

فأمّا الذي يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعى النبوّة ، وأتى بالقرآن ، وادّعى أنّ جبرئيل يهبط عليه ، وأنّ الله قد أبانه به ، فهو اتّفاق الموافق والمخالف ، وكونه ضروريّا عند الكلّ ، والقرآن ناطق بذلك ، كقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (١) ونحو ذلك.

وأمّا الذي يدلّ على انتفاء المعارضة منهم فهو أنّه لو وقعت المعارضة ، لوجب ظهوره ونقله ، وحيث لم ينقل قطعنا بانتفائه.

وأمّا وجوب النقل والظهور ؛ فلتوفّر الدواعي وشدّة الاهتمام بإطفاء نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كيف لا؟ وقد نقل عن مسيلمة الكذّاب حين ادّعى النبوّة والوحي من الله ما ليس قابلا للنقل مثل قوله : « الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » (٢).

وأمّا انتفاء النقل فهو ظاهر ؛ إذ لم ينقل من المتصدّين لإطفائه خبر واحد دالّ على الإتيان بما يعارض القرآن فضلا عن المتواتر ، حتّى نقل أنّ الوليد بن المغيرة ـ من جهة نهاية حسده وعداوته وإجابة قومه ـ كان في الليالي متفكّرا في الإتيان

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣.

(٢) انظر « إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة » : ١٧٥.

٣٦

بما يعارضه ، فلمّا كان الصباح جاءه قومه رجاء منه أن يأتي بما يعارضه ، فلمّا كانوا بالغين في الفصاحة عارفين قبح الكلام ، عرفوا قبح ما قاله الوليد فلم يظهروه.

وقد نقل من الوليد أنّه مرّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كان تاليا لسورة « حم السجدة » ولمّا أتى قومه ، قال لهم : « لقد سمعت من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله آنفا كلاما ، ما هو من كلام الإنس والجنّ إنّ له لحلاوة ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه ليعلو ولا يعلى. فقال قومه : صبا الوليد ؛ نظرا إلى تحسينه إلى الحدّ المذكور » (١).

فإن قلت : لعلّ عدم النقل كان من جهة وجود المانع منه وهو الخوف من أهل الإسلام ، وقد بلغوا من الكثرة إلى حدّ يخاف من مثلهم.

قلت : إنّ الخوف لا يقتضي انقطاع النقل من كلّ وجه وإنّما يمنع من التظاهر به ، كما أنّ فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وغيره من الأئمّة عليهم‌السلام قد نقلت ولم ينقطع النقل بها مع الخوف الشديد من بني أميّة وغيرهم ، مضافا إلى أنّ أعداء الإسلام يعارضون الآن بما هو أشدّ من نقل المعارض ، فلو كان المعارض موجودا لكان ثابتا في كتبهم ، وكان نقل المعارض عند المعارضة أهمّ من أنّهم لا يتمسّكون إلاّ بإنكار بعض المعجزات ، أو عدم إعجاز القرآن بسبب عدم الاطّلاع على لطائفه ـ كما نقل عن بعضهم ـ مع أنّ الكثرة في الإسلام حصلت بعد الهجرة ، وكان يجب نقل المعارضة قبل ذلك في مدّة مقامه بمكّة ونحوها من أزمنة كان الأعداء فيها كثيرين مجادلين ، بل محاربين ، ولو نقلت لم يكن قوّة الإسلام موجبة لخفائها ، كيف؟ وقد نقل محاربة عمرو وكسر سنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحو ذلك ممّا كان فيه إهانة ظاهرة.

فإن قلت : لعلّ المعارضة وقعت بعد الهجرة.

قلت : في ذلك كفاية في ثبوت المعجزة وحصول خرق العادة ، على أنّ الإسلام وإن قوي حينئذ بالمدينة فقد كان لأهل الكفر ممالك كثيرة وبلاد واسعة ، ومملكة

__________________

(١) « تهذيب سيرة ابن هشام » : ٦١.

٣٧

الفرس كانت ثابتة ، وممالك الروم وغيرها كانت عريضة ، فكان الواجب ظهور المعارضة في هذه البلاد.

فإن قلت : غاية ما ذكرت عدم الوجدان ، وهو لا يدلّ على عدم الوجود.

قلت : العلم الحدسي حاصل بعدم الوجود على وجه أشرنا إليه.

وأمّا الذي يدلّ على أنّ انتفاء المعارضة كان للتعذّر ، فهو أنّا علمنا أنّ كلّ فعل لا يقع من فاعله ـ مع توفّر دواعيه إليه ـ فإنّه يدلّ على تعذّره ، وهو إمّا أن يكون بسبب وجود المانع أو بسبب عدم القدرة ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لما مرّ من انتفاء المانع في جميع البلاد سيّما في صدر الإسلام ، فتعيّن الثاني وهو المعنيّ من العجز والتعذّر ، مضافا إلى أنّهم تركوا المعارضة بالحروف على المقاتلة بالسيوف ، ولا شبهة أنّ الأخيرة أشدّ من الأولى بمراتب لا تحصى ؛ لاقتضائها هلاك كثير منهم ، وأسرهم ، وإفناء أموالهم ونحو ذلك ، ممّا ثبت بالتواتر المعنوي ، فترك الأسهل وارتكاب الأصعب من الماهرين البالغين في البلاغة والغاية ، وصاحب الحميّة الجاهليّة ليس إلاّ للعجز عنه.

فإن قلت : لا يلزم من العجز كون المأتيّ به من الله ؛ لاحتمال أكمليّة الآتي من غيره بحيث لا يقدر غيره على الإتيان بمثله ، أو تعلّمه في زمان طويل لم يتمكّنوا مع قصر الزمان من معارضته.

قلت أوّلا : إنّه يجب على الله إبطال ما يأتي به غير الحقّ إذا كان ذلك المأتيّ ممّا يعجز عنه غيره في صورة ادّعاء أمر مخصوص ، ولا يكون إلاّ من الله كالنبوّة والإتيان بذلك المأتيّ لبيان حقّيّته ، فلو كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مبطلا كان الواجب على الله إبطال ما أتى به. فلو أبطله لنقل ذلك ولو بخبر واحد ، ولم ينقل فلم يبطل ، فيكون محقّا وهو المطلوب.

وثانيا : إنّ الأفصح ليس ممّا لا يمكن الإتيان بما يقاربه ، مع أنّ الأفصح إنّما يمتنع مساواته مجازاته في جميع كلامه أو أكثر كلامه ، ولا يمتنع في البعض على من هو

٣٨

دون طبقته كما نرى في الطبقة المتأخّرة من الشعراء فإنّهم قد يساوون للمتقدّمة منهم في بعض الأبيات ، بل قد يزيدون عليهم في بعض ، فحيث وقع التحدّي بسورة قصيرة من سور القرآن ولم تكن الأفصحيّة مانعة عن الإتيان بمثله ، ولم يقدروا على الإتيان بمثل سورة من القرآن ، بل بما يدانيه وإلاّ لأتوه ، ولو أتوه لاشتهر كما مرّ ، علم أنّه خارق العادة وليس من البشر ، بل من الله العزيز.

وأمّا احتمال أنّه تعمل زمانا طويلا. ففيه ـ بعد تسليمه ـ أنّه كان ينبغي للمعارضين أيضا أن يراجع مثله فيعارضوه به ـ مع امتداد الزمان ـ لما مرّ فثبت التعذّر الخارق للعادة إمّا لكون القرآن نفسه خارقا للعادة بفصاحته ؛ لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما لا يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فنّ البيان ؛ فلذلك عجزوا عن معارضته كما عن الأكثر.

أو لكون أسلوبه الغريب ونظمه العجيب مخالفا لأسلوب كلام العرب ونظمه في الأشعار والخطب والرسائل ، أو لمجموع الأمر الأوّل والثاني.

ولأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولاه لعارضوه لقدرتهم عليها. وعلى أيّ تقدير يثبت المطلوب حتّى في الصورة الأخيرة ؛ لأنّ الله لا يصدّق كاذبا ولا يخرق العادة لمبطل ، بل يبطل ما يأتي به إن اشتبه بالمعجزة كما مرّ.

فنقول : إنّ محمّد بن عبد الله قد ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزة بالقرآن ـ كما يثبت بالتواتر ـ وكلّ من ادّعى النبوّة وأتى بالمعجزة فهو نبيّ ؛ لما بيّنا من أنّ المعجزة دالّة على صدق صاحبها ، فينتج أنّ محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ وهو المطلوب.

وأمّا المعجزات الباهرة الظاهرة بالمعنى الدالّة على نبوّته سوى القرآن :

[١] فمنها : شقّ القمر نصفين بمكّة ، وقد نطق به القرآن (١).

__________________

(١) الانشقاق (٨٤) : ١.

٣٩

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال : « انشقّ القمر حتّى صار فرقتين ، فقال كفّار أهل مكّة ؛ هذا سحر سحركم به ، قال : فسئل السفار وقد قدموا من كلّ وجه ، فقالوا : رأيناه » (١).

وبيانه على ما روي عن الصادق عليه‌السلام : « أنّه كان في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجّة باستدعاء أربعة عشر نفرا من أصحاب العقبة ـ بعد تخيير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم في اختيار أيّ معجزة يريدون واختارهم شقّ القمر ـ ونزل جبرئيل من الله تعالى واختاره فيه بأنّ جميع مكوّنات العالم العلوي والسفلي مطيعة له ، فعند ذلك أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للقمر بالانشقاق ، فانشقّ ، فسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون شكرا ، وبعد رفع الرأس قال المنافقون : قل للقمر أن يرجع إلى حاله الأوّل ، فأمر ، فرجع ، ثمّ لمّا قالوا : قل له أن ينشق ثانيا ، فانشقّ ، فقالوا : إخواننا في السفر إلى الشام واليمن فإذا رجعوا نسألهم عن حال القمر فإن رأوا كما رأيناه ، علمنا أنّه من الله ، وإلاّ فنقول : هذا سحر مستمرّ » (٢).

ودفعه أنّه لو كان سحرا لما وقع ذلك ، ولمّا كان.

[٢] ومنها : مجيء الشجرة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « لقد كنت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا : يا محمّد ، إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك ، ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمرا إن أجبنا إليه وأريناه علمنا أنّك نبيّ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب ، فقال لهم : وما تسألون؟ » قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، فإن فعل ذلك بكم تؤمنون وتشهدون بالحقّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإنّي سأريكم ما تطلبون ، وإنّي لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير ، وإنّ فيكم من يطرح في

__________________

(١) « إعلام الورى » ١ : ٨٤.

(٢) « بحار الأنوار » ١٧ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، ح ١ ، بتفاوت يسير.

٤٠