البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) (١) ؛ إذ قد روي عن الثعلبي أنّه روي بإسناده عن أنس بن مالك أنّه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزولها : أيّ بيوت تلك البيوت؟ [ قال : « بيوت ] الأنبياء » فسأل آخر : بيت عليّ وفاطمة منها؟ قال : « بلى ، وهو أفضلها » (٢) ، فيدلّ على كمال فضله وعلوّ شأنه ، فمع وجوده لا يصحّ تقديم من هو مفضول بالنسبة إليه عند أحد من العقلاء.

[١١] ومنها : قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) ، فقد روي عن جمهور أهل السنّة عن ابن مسعود أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ لم يسجد أحدنا قطّ للصنم فاتّخذني نبيّا واتّخذه وصيّا » (٤).

مضافا إلى انعقاد الإجماع على عدم كون عليّ عاصيا ظالما ، وكون من تقدّم عليه مسبوقا بالشرك الذي هو ظلم عظيم ، فالآية تدلّ على إمامته وإمامة ذرّيّته المعصومين وكون غيرهم من الغاصبين.

فإن قلت : غيرهم لم يكونوا ظالمين عند الإمامة.

قلت : يكفي ظلمهم السابق في المنع ؛ لأنّ مراد الخليل ليس تمنّي إمامة الظالم من ذرّيّته حين الظلم ؛ لقبحه ، بل مراده تمنّي إمامة الصالح من ذرّيّته على الإطلاق على وجه كان شاملا للظالم سابقا وغيره ، فنفى الله تعالى نيل عهده الذي هو الإمامة إلى من كان ظالما ليتطابق الجواب مع السؤال.

[١٢] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (٥) ، فقد حكي عن كتاب

__________________

(١) النور (٢٤) : ٣٦.

(٢) « مجمع البيان » ٧ : ٢٥٣ ، ذيل الآية ٣٦ من سورة النور (٢٤).

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٤) « بحار الأنوار » ٢٥ : ٢٠٧.

(٥) الرعد (١٣) : ٧.

٢٦١

الفردوس ، عن كتب المخالفين ، عن ابن عبّاس أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا النذير والمنذر ، وعليّ الهادي وبك يا عليّ يهتدي المهتدون » (١).

وقد روي أنّ نزول الآية كان هكذا : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (٢) ، فتدلّ الآية على رئاسة عليّ وإمامته ، كما لا يخفى.

[١٣] ومنها : قوله تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (٣) ، فإنّه روي أنّ جماعة من بني هاشم كانوا جالسين عند رسول الله فانقضّ كوكب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من نزل هذا الكوكب في بيته فهو وصيّي » (٤) ، فنزل في بيت أمير المؤمنين ، فقال بعض الحاسدين : إنّك يا رسول الله ، لفي ضلال مبين في حبّ أمير المؤمنين ، فنزلت الآيات المذكورة.

وعن الصادق عليه‌السلام تفسير الكوكب بقلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومكيّة الآية غير قادحة ؛ لاحتمال كونها نازلة في حجّة الوداع أو عام الفتح ، واستبعاد النسبة المذكورة عن الأصحاب مدفوع بصدور مثلها عن أبناء يعقوب حيث قالوا : ( إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٥) ، و ( إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ ) (٦) ، مع أنّهم أولى بعدم صدور مثل ذلك عنهم ، واحتمال عدم إرادة الإمامة من الوصاية مدفوع بأنّها المتبادرة منها عند الإطلاق سيّما إنّ التقييد لا بدّ له من دليل ، وهو مفقود.

[١٤] ومنها : سورة والعاديات حيث نزلت في شأن أمير المؤمنين عند غلبته على قاصدي إضرار أهل المدينة بعد غلبتهم على أبي بكر وعمر وعمرو بن عاص ، فتدلّ على فضيلته المقتضية للمطلوب.

__________________

(١) « الاحتجاج » ١ : ٨٠.

(٢) الرعد (١٣) : ٧.

(٣) النجم (٥٣) : ١ ـ ٤.

(٤) « الأمالي » للصدوق : ٤٥٣ ، المجلس ٨٣ ، ح ٤.

(٥) يوسف (١٢) : ٨.

(٦) يوسف (١٢) : ٩٥.

٢٦٢

[١٥] ومنها : قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (١) ( ... يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (٢) ؛ لدلالته على فضيلته ؛ لما روي عن أكثر (٣) أهل السنّة عن أنس ، عن ابن عبّاس أنّ المراد من البحرين : عليّ وفاطمة ، ومن البرزخ : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن اللؤلؤ والمرجان : الحسنان ، ولا غرو أن يكونا بحرين لسعة فضلهما وكثرة خيرهما ؛ فإنّ البحر إنّما يسمّى بحرا لسعته ، ولا يبغي أحدهما على صاحبه ؛ لوجود برزخ بينهما ، وهو إطاعة شرع الرسول أو محبّتهما.

[١٦] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) ، فإنّه روي عن صحيح مسلم أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن كيفيّة الصلاة عليه ، فقال : « قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد » (٥). كذا عن صحيح البخاري (٦). ولا شكّ أنّ أمير المؤمنين هو من الآل ، فالأمر بالصلاة عليه يقتضي كمال فضله ، وأصل الحكمة في ذلك الآل بالصلاة في دين نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإشارة إلى لزوم أخذ أحكامه من الآل بعده لبقاء دينه بخلاف دين غيره ، ودفع توهّم الأعداء كون نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبتر ومنقطع النسل ، وكفانا فخرا وجوب ذكر الآل في الصلاة وبطلانها بدونه كما حكي عن الشافعي أنّه قال في آخر نظم له في مدح آله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كفا كم من عظيم القدر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له (٧)

فهم أولى بالمتبوعيّة.

__________________

(١) الرحمن (٥٥) ١٩ و ٢٠.

(٢) الرحمن (٥٥) : ٢٢.

(٣) منهم السيوطي في « الدرّ المنثور » ٧ : ٦٩٧.

(٤) الأحزاب (٣٣) : ٥٦.

(٥) « صحيح مسلم » ١ : ٣٠٥ ، ح ٤٠٦ ، باب ١٧ الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٦) « صحيح البخاري » ٣ : ١٢٣٣ ، الباب ١٣ ، ح ٣١٩٠.

(٧) « ديوان الشافعي » : ٧٢.

٢٦٣

[١٧] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً* وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (١) ؛ فإنّه روي أنّه لمّا نزلت الآية الأولى أخذ النبيّ بشعرة منه فقال : « يا عليّ ، من آذى بشعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله » (٢) ، وورد مثل ذلك في حقّ فاطمة ، وأنّ الآية الثانية نزلت في شأن المؤمنين عند إيذاء جمع من المنافقين له. وهاتان الآيتان تدلاّن على كمال فضله وكون من اختار غيره مؤذيا له ملعونا.

ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (٣) الآية ؛ لما روى الثعلبي أنّه نزلت في شأن أمير المؤمنين. كذا عن الصادق عليه‌السلام (٤).

[١٨] ومنها : قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (٥) ؛ لما روي عن الرسول أنّه قال بعد نزوله لعليّ عليه‌السلام : « إنّي سألت الله أن يجعل أذنك واعية » (٦).

وروي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : « يا عليّ ، أمرني الله أن لا أباعد منك وأعلّمك وتستمع وتتعلّم » (٧) فنزلت الآية.

وعن تفسير الثعلبيّ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : « إنّي دعوت الله أن يجعل أذنك واعية » (٨) فنزلت الآية.

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) « مجمع البيان » ٨ : ١٨١ ، ذيل الآية ٥٧ من سورة الأحزاب (٣٣).

(٣) المائدة (٥) : ٥٤.

(٤) « مجمع البيان » ٣ : ٣٥٩.

(٥) الحاقّة (٦٩) : ١٢.

(٦) « تفسير الطبري » ٢٩ : ٣١.

(٧) « مجمع البيان » ١٠ : ١٠٧.

(٨) « مناقب آل أبي طالب » ٣ : ٩٥ ، الرقم ٩٩.

٢٦٤

[١٩] ومنها : سورة والعصر ؛ لما روي عن ابن عبّاس أنّ المراد من المستثنى عليّ عليه‌السلام فهو الموصوف بما ذكر ، فهو أولى بالخلافة (١).

[٢٠] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٢) ؛ لأنّ الصادقين الذين لا يصدر عنهم الكذب هم المعصومون ، ولا معصوم من الصحابة إلاّ عليّ ، فالأمر بمتابعته يقتضي كونه إماما.

وقد روي عن ابن عبّاس أنّه نزلت في شأن عليّ عليه‌السلام.

[٢١] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (٣) ؛ لما اشتهر من أنّه أمر الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينصب عليّا للناس ، فيخبرهم بولايته ، فتخوّف رسول الله أن يقولوا جاء في ابن عمّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، كما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نصب عليّا وشاع ذلك وبلغ الحارث بن النعمان أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ناقته حتّى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها ، وأتى النبيّ وهو في ملإ من أصحابه فقال : يا محمّد ، أمرتنا عن الله تعالى أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نزكّي أموالنا فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نحجّ بالبيت فقبلناه منك ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت عضد ابن عمّك ففضّلته علينا وقلت : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » ، فهذا شيء منك أم من الله؟ فقال : « والله الذي لا إله إلاّ هو إنّه من أمر الله » (٤) ، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول : اللهمّ إن كان ما يقول محمّد حقّا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج

__________________

(١) « تفسير القمّي » ٢ : ٤٤١.

(٢) التوبة (٩) : ١١٩.

(٣) المائدة (٥) : ٦٧.

(٤) « مجمع البيان » ١٠ : ١١٩ ، ذيل الآية ١ من سورة المعارج (٧٠).

٢٦٥

من دبره فقتلته ، فأنزل الله ( سَأَلَ سائِلٌ ) (١) الآية.

وبالجملة ، فأوحى الله إليه هذه الآية في غدير خم ـ موضع بين مكّة والمدينة بالجحفة بعد رجوعه من حجّة الوداع ـ فجمع الناس وجمع الرحال وصعد عليها فأخذ وقال مخاطبا : « يا معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ » قالوا : بلى ، قال : « فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله » (٢).

فهذه الآية في غاية الظهور على إمامة مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سيّما أنّ الله تعالى جعل ترك تبليغ أمر إمامته وكتمانه كأنّه لم يبلّغ شيئا من رسالات ربّه في استحقاق العقوبة.

مضافا إلى أنّ الحديث المذكور قطعيّ إمّا بالتواتر أو بالتسامع والتظافر ، ولا خفاء في عدم مناسبة إرادة المعتق أو المعتق والجار والحليف وابن العمّ ، وعدم الوجه لإرادة الناصر ؛ لكونه ظاهرا غير محتاج إلى البيان ، سيّما مع كثرة التعب فيه من جهة جمع الناس في يوم كان في غاية الحرّ وغير ذلك ، مع عدم انحصاره في عليّ عليه‌السلام لقوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٣). فالمراد هو الأولى بالتصرّف في أمور الناس مثل النبيّ في أمر النشأتين ، وهو معنى الإمامة.

وممّا ذكرنا ظهر وجه اندفاع ما أورد الشارح القوشجي من كون الخبر غير متواتر ، بل مقدوح في صحّته ؛ إذ القطعية ولو بالمعنى كافية ، وهكذا إيراده باحتمال إرادة الناصر والمحبّ ؛ لأنّ بيان مثل ذلك على الوجه المذكور موجب للسفاهة ولا أقلّ من التقبيح ، ولا يدفعه احتمال كون الغرض هو التنصيص على هذا ليكون أبعد من التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات ، وكونه أوفى بإفادة الشرف ؛ حيث قرن

__________________

(١) المعارج (٧٠) : ١.

(٢) « مسند أحمد بن حنبل » ٦ : ٤٠١ ، ح ١٨٥٠٦ ؛ « مجمع البيان » ٣ : ٢٧٤ ؛ « الخصال » ١ : ٣١١ ، باب الخمسة.

(٣) التوبة (٩) : ٧١.

٢٦٦

بموالاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّ ذلك يقتضي كمال فضله المقتضي لإمامته كما لا يخفى.

وأمّا إيراده بأنّه لو سلّم أنّ المراد بالمولى هو الأولى فأين الدليل على أنّ المراد هو الأولى بالتصرّف والتدبير ، بل يجوز أن يراد الأولى في الاختصاص به والقرب منه كما قال الله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ) (١) ، وكما يقول التلامذة : نحن أولى بأستادنا ، والأتباع : نحن أولى بسلطاننا ؛ ولا يريدون الأولويّة في التدبير والتصرّف ، وحينئذ لا يدلّ الحديث على الإمامة؟

فجوابه أوّلا : أنّ سؤال النبيّ : « ألست أولى بكم من أنفسكم » ، وتفريع قوله : « فمن كنت مولاه » إلى آخره عليه صريح في أنّ المراد هو الأولى بالتصرّف على وجه لا سترة فيه إلاّ على الذين على أبصارهم غشاوة.

وثانيا : أنّ الأولى بمعنى الاختصاص ينسب إلى الداني بالنسبة إلى العالي ، كما في الأمثلة التي ذكرها هذا المتعصّب ؛ إذ يستقبح في العرف جعل العالي مختصّا بالداني كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ المراد من المولى بالنسبة إلى عليّ عليه‌السلام يجب أن يكون مثل ما هو المراد من المولى بالنسبة إلى النبيّ ؛ لكون أحدهما واقعا في الشرط والآخر في الجزاء ، ولا بدّ من التماثل معنى ليصحّ المجازاة ، ولا ريب أنّ المولى بالنسبة إلى النبيّ ليس إلاّ الأدنى التصرّف في أمر النشأتين فلا بدّ أن يكون المراد منه بالنسبة إلى عليّ عليه‌السلام أيضا ذلك بلا تفاوت لتتمّ المجازاة.

ورابعا : أنّ الأولى إذا أطلق يجب حمله على الجميع الشامل لمثل ما نحن فيه سيّما إذا كان مثل ما نحن فيه أظهر كما هو الواقع إلاّ إذا دلّ دليل على خلافه ، كما في بعض الأمثلة التي ذكرها هذا المعاند ؛ إذ التقييد لا بدّ له من دليل ، وهو في المقام مفقود.

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٦٨.

٢٦٧

وخامسا : أنّ المتبادر من المولى هو السيّد المدبّر في الأمور ولو كان بسبب الكلام أو المقام ؛ لاستبعاد كون المراد بيان الاختصاص على الوجه الذي كان في غاية الصعوبة.

وأمّا إيراده بأنّه لو سلّم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال ، لكن من أين يلزم نفي الأئمّة الثلاثة الباقية قبله؟.

فجوابه أوّلا : أنّ بيان المرتبة للأولى والثانية والثالثة أهمّ من بيان المرتبة الرابعة ، فلو كان للأوّل والثاني والثالث استحقاق لوجب بيانه ؛ إذ إهمال الأمر الواجب ـ الذي لا يستقيم أمر الدين إلاّ به بالنسبة إلى أوّل زمان الحيرة وهو زمان رحلته ـ مستلزم للإغراء بالجهل والرضى بحيرة الأمّة وترك إرشادهم مع أنّه مبعوث له ، مضافا إلى أنّ تارك الواجب سيّما مثل الواجب المذكور لا يستحقّ للنبوّة بل لما هو أدنى منها.

فإن قلت : إنّ المقصود بيان حال الرابع.

قلت : كان الواجب على تقدير كونه رابعا بيان حاله على ما هو حقّه ؛ لئلاّ يلزم ترك الواجب الآخر ، أعني بيان إمامة الأئمّة الثلاثة.

وثانيا : أنّ مراده لو كان ما ذكره لزم الإغراء بالجهل بالنسبة إلى حال عليّ عليه‌السلام ؛ إذ لم يبيّن مرتبته مع أنّه في غاية الاحتياج ؛ لأنّه كان رافعا للحيرة والاختلاف اللذين كان المقصود من البعثة رفعهما.

وثالثا : أنّ كلمة « الفاء » وإن كانت جزائيّة لكنّها تفيد التعقيب بلا مهلة أيضا.

[٢٢] ومنها : قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (١) ؛ لما روي من أنّها نزلت بعد أن نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا للخلافة قبل أن يتفرّق الناس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الربّ برسالتي أو بالولاية لعليّ من بعدي » ، ثمّ قال : « من كنت مولاه

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣.

٢٦٨

فعليّ مولاه » (١) إلى آخره ، فتدلّ تلك الآية على حقيقة خلافة عليّ عليه‌السلام ، وأنّ ما عدا إمامة أمير المؤمنين من الواجبات ـ أصوليّة كانت أو فروعيّة ـ ليس مثلها ، وأنّها لو لم تكن لم يكن دين كامل ، وأنّها من أصول الدين لا أصول المذهب فقط.

[٢٣] ومنها : قوله تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (٢) ؛ لما روي عن مسند أحمد بن حنبل من أنّه على حين أذن بالآيات من سورة البراءة حين أنفذها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أبي بكر وأتبعه بعليّ فردّه ومضى بها عليّ عليه‌السلام وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد أمرت أن لا يبلّغها إلاّ أنا أو واحد منّي » (٣).

فيستكشف من هذا أنّ أبا بكر لم يكن قابلا لتبليغ تلك الآيات المعدودة ، فلا يكون قابلا لحفظ جميع أحكام شريعة النبيّ وتبليغها بطريق أولى ، وأنّ القابل هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعدم اختياره أوّلا إنّما هو لدفع توهّم أنّ غيره أيضا قابل ، وليس اختياره عليه‌السلام لدفع عدم الاعتناء بحميمه عليه‌السلام من جهة أخذ غير حميمه ميثاقه ، كما يتوهّم أنّه كان مقرّرا عند العرب وإلاّ لما كان ترك اختياره أوّلا وجه ؛ إذ لا يتصوّر اختفاء القاعدة المقرّرة في قوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه لو كانت.

[٢٤] ومنها : قوله تعالى : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٤) ؛ لما روي عن الحسن البصري أنّ المراد من « المشكاة » فاطمة ، ومن « المصباح » الحسنان ، ومن « الزجاجة » فاطمة أيضا كأنّها بين النساء كوكب درّيّ ، و « من الشجرة المباركة »

__________________

(١) « مجمع البيان » ٣ : ٢٧٤ ، ذيل الآية ٣ من سورة المائدة (٥).

(٢) التوبة (٩) : ٣.

(٣) « الطرائف » : ٣٨ ـ ٣٩.

(٤) النور (٢٤) : ٣٥.

٢٦٩

إبراهيم (١) ، ومن « كونه لا شرقيّة ولا غربيّة » أنّه لا يهود يتمكّنون في الشرق أو يصلّون إليه ، ولا نصرانيّون يتمكّنون في الغرب أو يصلّون إليه ، ومن قوله : « يكاد زيتها يضيء » علم بلغ منه إلى غيره ، ومن قوله « نور على نور » إمام بعد إمام يكون باقيا إلى قيام القيامة ويهدي الله به الناس ، فإنّه إذا كان الإمام من ذرّيّة عليّ عليه‌السلام هاديا للناس ، يجب أن يكون خليفة ، ويلزم من ذلك كون عليّا عليه‌السلام خليفة بلا فصل ؛ إذ لا قائل بكون ذرّيّة عليّ عليه‌السلام إماما وعدم كونه عليه‌السلام إماما أو كونه إماما وخليفة مع الفصل.

وأيضا فإنّه أكمل وأفضل فهو أقدم.

وعن الصادق عليه‌السلام : أنّ المراد من « مثل نوره » قلب محمّد ، ومن « المصباح » نور علم النبوّة ، ومن « الزجاجة » قلب عليّ عليه‌السلام ؛ لأنّه في غاية الصفاء كوكب درّيّ ، ومن « الشجرة المباركة » عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ فإنّه لا يهوديّ ولا نصرانيّ بالمعنى المذكور ، بل هو على ملّة إبراهيم حنيفا ، ومن قوله تعالى : ( يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ) ظهور العلم من عالم من

آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يسأل ، ومن : « النور على النور » إمام بعد إمام (٢).

وعن طلحة بن زيد عن مولانا الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام في هذه الآية قال : « بدأ بنور نفسه تعالى ثمّ مثل نوره مثل هداه في قلب المؤمن » ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) المشكاة جوف المؤمن ، والقنديل قلبه ، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال : الشجرة : المؤمن ( زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) قال : على سواء الجبل لا غربيّة أي لا شرق لها ولا شرقيّة أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإن غربت غربت عليها ( يَكادُ زَيْتُها )

__________________

(١) « الطرائف » : ١٣٥.

(٢) « معاني الأخبار » : ١٥ ؛ « التوحيد » : ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢٧٠

يعني يكاد النور الذي جعله الله فيه قلبه ( يُضِيءُ ) وإن لم يتكلّم ( نُورٌ عَلى نُورٍ ) فريضة على فريضة وسنّة على سنّة ( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ ) فهذا مثل ضربه الله للمؤمن.

ثمّ قال : فالمؤمن يتقلّب في خمسة من النور (١) : « مدخله نور ومخرجه نور وعلمه نور وكلامه نور ومسيره يوم القيامة إلى الجنّة نور ».

قلت لجعفر بن محمّد : جعلت فداك يا سيّدي إنّهم يقولون : مثل نور الربّ؟ قال : « سبحان الله ليس لله مثل ما قال الله تعالى : ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ) (٢) » (٣). ونحو ذلك من الأخبار المبيّنة لباطن الآية الشريفة.

[٢٥] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا ) (٤) ؛ فإنّه روي عن أبي نعيم بإسناده إلى ابن عبّاس قال : نزلت في عليّ عليه‌السلام قال : والودّ محبّة في قلوب المؤمنين (٥).

وعن تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ بن أبي طالب : « يا عليّ ، قل اللهمّ اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين محبّة » (٦). فأنزل الله ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) فيكون عليّ أفضل من غيره من الصحابة فيكون هو الإمام.

[٢٦] ومنها : قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (٧) ؛ لما روي عن

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلّ الصحيح : « الأنوار ».

(٢) النحل (١٦) : ٧٤.

(٣) « تفسير القمّي » ٢ : ١٠٣.

(٤) مريم (١٩) : ٩٦.

(٥) « مجمع البيان » ٦ : ٤٥٤.

(٦) المصدر السابق : ٤٥٥.

(٧) الواقعة (٥٦) : ١٠.

٢٧١

أبي نعيم عن ابن عبّاس قال في هذه الآية : سابق هذه الأمّة عليّ بن أبي طالب كيوشع بن نون إلى موسى عليه‌السلام ، وحبيب النجّار إلى عيسى (١) عليه‌السلام ، فيكون عليّ أفضل ، فيكون خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل.

[٢٧] ومنها : قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) (٢) ؛ لما روي عن أبي نعيم عن أبي هريرة قال : مكتوب على ساق العرش : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، محمّد عبدي أيّدته بعليّ بن أبي طالب ، وذلك قوله تعالى في كتابه : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) يعني عليّ بن أبي طالب (٣) ، وهذا من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره فيكون هو الإمام عليه‌السلام.

[٢٨] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٤) ؛ لما روي عن أبي نعيم قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وهذه فضيلة مقتضية لكونه عليه‌السلام خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

[٢٩] ومنها : قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (٦) ؛ لما روي عن الحافظ أبي نعيم عن ابن الحنفيّة قال : هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وعن تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قلت : من هذا الذي عنده علم الكتاب؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما ذلك عليّ بن أبي طالب (٧). فيكون أفضل وهو الإمام.

[٣٠] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٨) ؛

__________________

(١) « تأويل الآيات الظاهرة » ٢ : ٦٤١ ؛ « مجمع البيان » ٩ : ٣٥٩.

(٢) الأنفال (٨) : ٦٢.

(٣) « تأويل الآيات الظاهرة » ١ : ١٩٥ ؛ « تاريخ بغداد » ١١ : ١٧٣.

(٤) الأنفال (٨) : ٦٤.

(٥) « تأويل الآيات الظاهرة » ١ : ١٩٦.

(٦) الرعد (١٣) : ٤٣.

(٧) « مجمع البيان » ٥ : ١٤٠.

(٨) التوبة (٩) : ١١٩.

٢٧٢

لما روي عن أبي نعيم عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ (١) عليه‌السلام مضافا إلى أنّ معلوم الصدق ليس إلاّ المعصوم ؛ لاحتمال كذب غيره ، ولا معصوم من الأربعة إلاّ عليّ عليه‌السلام.

[٣١] ومنها : قوله تعالى : ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (٢) ، لما روي بالإسناد السابق أنّها نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ خاصّة ، وهما أوّل من صلّى وركع (٣) ، فيكون عليّ عليه‌السلام أفضل وإماما ورئيسا.

[٣٢] ومنها : قوله تعالى : ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (٤) في مدح أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لما روي عن مسند أحمد بن حنبل بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده فذكرت عليه قصّة مؤاخاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه فقال عليّ عليه‌السلام : « لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين فعلت بأصحابك ما فعلت غيري ، فإن كان هذا من سخط عليّ فلك العتبى والكرامة » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي بعثني بالحقّ نبيّا ما أخّرتك إلاّ لنفسي فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي وأنت معي في قصري في الجنّة ومع ابنتي فاطمة ، وأنت أخي ورفيقي » (٥) ، ولا شكّ أنّ المؤاخاة تستدعي المناسبة التامّة ، فلمّا اختصّ عليّ عليه‌السلام بمؤاخاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الإمام.

[٣٣] ومنها : قوله تعالى : ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) (٦) ؛ لما حكي من إجماع المفسّرين على أنّ صالح

__________________

(١) « الكافي » ١ : ٢٢٩.

(٢) البقرة (٢) : ٤٣.

(٣) « تأويل الآيات الظاهرة » ١ : ٥٣ ؛ « شواهد التنزيل » ١ : ٨٥.

(٤) الحجر (١٥) : ٤٧.

(٥) « تفسير فرات الكوفي » ١ : ٢٢٧ ، ح ٣٠٤.

(٦) التحريم (٦٦) : ٤.

٢٧٣

المؤمنين هو عليّ عليه‌السلام (١).

وعن أبي نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله يقرأ هذه الآية ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام » (٣) ، واختصاصه بذلك يدلّ على أفضليّته المقتضية لخلافته وإمامته.

إلى غير ذلك من الآيات مثل قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٤) ؛ إذ المراد من أولي الأمر ليس إلاّ المعصوم ؛ إذ تفويض أمور المسلمين إلى غير المعصوم ترك اللطف الواجب على الله ، و [ هو ] قبيح عليه.

القسم الثاني من النصّ الخفيّ كان بطريق السنّة المنقولة عن النبيّ ، وهي عديدة :

[١] منها : حديث غدير خمّ المتواتر أو المتظافر ، وقد مرّ مشروحا مع ذكر إيرادات بعض المعاندين وأجوبتهما على وجه يزيل الريبة عن قلوب المنصفين.

[٢] ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (٥) ؛ لأنّ عموم المنزلة ـ كما يدلّ عليه الاستثناء المتّصل الذي لا يصحّ بدونه ـ يقتضي كونه خليفة له ؛ إذ من منازل هارون أنّه كان خليفة لموسى ووليّا في تدبير الأمر ورئيسا للعامّة ومفترض الطاعة ، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا ، بل كان للخلافة حينئذ أولى.

وإذ قد صرّح بنفي النبوّة تكون الإمامة هي الباقية بعد الاستثناء والعامّ المخصوص حجّة في تمام الباقي ، كما حقّق في محلّه.

__________________

(١) « مجمع البيان » ١٠ : ٥٩.

(٢) التحريم (٦٦) : ٤.

(٣) « مجمع البيان » ١٠ : ٦٠ ـ ٦١.

(٤) النساء (٤) : ٥٩.

(٥) « مسند أحمد بن حنبل » ١ : ٣٦١ ، ح ١٤٦٤ و ٣٧٥ ، ح ١٥٣٢ و ٣٩١ ، ح ١٦٠٨.

٢٧٤

وكون الأخوّة من المنازل غير قادح ؛ إذ خروج ما هو معلوم الخروج لا ينافي دخول ما ليس كذلك ، مضافا إلى أنّ الحديث يشعر بأنّ عليّا كان قابلا للنبوّة لو كانت ممكنة بعد النبيّ حيث احتاج إلى نفيها.

وقد روي عن مسند أحمد وصحيح البخاري ومسلم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام ـ بعد أن جعله خليفة في المدينة عند إرادة غزوة تبوك وقال عليّ عليه‌السلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا أرضى أن لا أكون معك » ـ : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي؟ » (١).

ولا ريب أنّ ذلك أيضا يدلّ على المطلوب ؛ إذ لو كان المراد مجرّد النيابة في حال الحياة لما كان للاستثناء المشتمل على الحكم بعد الوفاة وجه ، مع أنّه لم يعزله إلى زمان وفاته فيعمّ الأزمان والأمور ؛ لعدم القول بالفصل ، بل الحاجة إلى الخليفة بعد الوفاة أشدّ منه في حال الغيبة.

وبالجملة فحينئذ لا وجه لإنكار تواتر ذلك الحديث كما صدر عن بعض الأشقياء ؛ إذ الفضل ما شهد به الأعداء ، مضافا إلى أنّه قطعيّ بالتظافر لو لم يكن كذلك بالتواتر.

ومنع العموم من أفحش الأغلاط ؛ لمكان الاستثناء الذي هو حقيقة في المتّصل الذي لا يصحّ بدونه كما مرّ.

وادّعاء كون الإجماع على خلافه فاسد ؛ لما سيأتي إن شاء الله.

[٣] ومنها : ما روي عن الجمهور بأجمعهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا حاصر خيبر بضعا وعشرين ليلة ، وكانت الراية لأمير المؤمنين فلحقه رمد أعجزه عن الحرب ، وخرج مرحب يتعرّض للحرب ، فدعا رسول الله أبا بكر فقال له : « خذ الراية » فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد ولم يغن شيئا ورجع منهزما ، فلمّا كان من الغد تعرّض

__________________

(١) تقدّم في الصفحة السابقة.

٢٧٥

لها عمر فسار قليلا ثمّ رجع يجبّن أصحابه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جيئوني بعليّ » فقيل : إنّه أرمد ، فقال : « أرونيه ، تروني رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ليس بفرّار » ، (١) فجاءوا بعليّ عليه‌السلام فتفل في يده ومسحها على عينه ورأسه فبرئ ، فأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحبا ، ولا شكّ أنّ توصيفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام بما ذكر يقتضي بقرينة المقام على انتفاء ما ذكر في غيره ، فيكون هو الأفضل ، فيكون هو الإمام.

[٤] ومنها : ما روي عن أنس قال : لمّا كان يوم المباهلة وآخى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار وعليّ واقف يراه ويعرف مكانه ، ولم يؤاخ بينه وبين أحد ، فانصرف عليّ باكي العينين ، فافتقده النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « ما فعل أبو الحسن؟ » قالوا : انصرف باكي العينين.

قال : « يا بلال اذهب فأتني به » فمضى إليه قد دخل منزله باكي العينين ، فقالت فاطمة : « ما يبكيك لا أبكى الله عينيك؟ » قال : « آخى النبيّ مع المهاجرين والأنصار وأنا واقف يراني ويعرف مكاني لم يؤاخ بيني وبين أحد » ، قالت : « لا يحزنك الله لعلّه إنّما أخّرك لنفسه » ، فقال بلال : يا عليّ ، أجب النبيّ ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : « ما يبكيك يا أبا الحسن؟ » قال : « آخيت بين المهاجرين والأنصار يا رسول الله ، وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني وبين أحد » ، قال : « إنّما أخّرتك لنفسي ألا يسرّك أن تكون أخا نبيّك؟ » قال : « بلى يا رسول الله أنّى لي بذلك؟ ».

فأخذ بيده فأرقاه المنبر ، فقال : « اللهمّ إنّ هذا منّي وأنا منه إلاّ أنّه بمنزلة هارون من موسى ، ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » (٢) ، فانصرف عليّ قرير العين فأتبعه عمر ، فقال : بخّ بخّ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم (٣).

__________________

(١) « مسند أحمد بن حنبل » ١ : ٢١٤ ، ح ٧٧٨ ؛ « سنن ابن ماجه » ١ : ٤٣ ، ح ١١٧ ، المقدّمة.

(٢) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٢١١ و ٢١٣ ؛ « عمدة عيون صحاح الأخبار » لابن البطريق ١ : ٢١٥ ، الفصل ١٩ ، ح ٢٦٩ ـ ٢٧١ ؛ « الجامع الصحيح » ٥ : ٦٣٦ ، كتاب المناقب ، ح ٣٧٢٠.

(٣) « تاريخ بغداد » ٨ : ٢٩٠.

٢٧٦

ولا شبهة أنّ المؤاخاة سيّما على الوجه المذكور تدلّ على الأفضليّة فيكون هو الإمام.

[٥] ومنها : ما روي عن الجمهور كافّة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتي بطائر ، فقال : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليّ يأكل معي من هذا الطائر » فجاء عليّ فدقّ الباب ، فقال أنس بن مالك : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حاجة ، فرجع ، ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال أوّلا ، فدقّ علي عليه‌السلام الباب ، فقال أنس : أولم أقل لك : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حاجة؟ فرجع ، ثمّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال في الأوليين ، فجاء عليّ عليه‌السلام فدقّ الباب أشدّ من الأوليين فسمعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد قال له أنس : إنّه على حاجة ـ فأذن له بالدخول فقال : « يا عليّ ، ما أبطأك عنّي؟ » قال : « جئت فردّني أنس ثمّ جئت فردّني ثمّ جئت فردّني » فقال : « يا أنس ما حملك على هذا؟ » فقال : رجوت أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار ، فقال : « يا أنس أو في الأنصار خير من عليّ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ؟ » (١) فإذا كان عليّ أحبّ الخلق إلى رسول الله أو إلى الله ـ على نسخة « إليك » مكان « إليّ » ـ كان أفضل فيكون هو الإمام.

[٦] ومنها : قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لضربة عليّ يوم الخندق خير من عبادة الثقلين » (٢).

ووجهه : أنّ ضربته يومئذ كانت سببا لاستحكام أمر الدين.

[٧] ومنها : ما روي عن الجمهور من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أصحابه بأن يسلّموا على عليّ عليه‌السلام بإمرة المؤمنين وقال : « إنّه سيّد المسلمين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين » (٣) ، وقال : « هذا وليّ كلّ مؤمن بعدي » (٤) ، وقال : « إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة » (٥) ، وكلّ ذلك دليل على المطلوب.

__________________

(١) « الجامع الصحيح » ٥ : ٦٣٦ ـ ٦٣٧ ، كتاب المناقب ، باب ٢١ ، ح ٣٧٢١ ؛ « المناقب » لابن المغازلي » : ١٦٤ ـ ١٧٦.

(٢) « التفسير الكبير » ١١ : ٢٣١ ذيل الآية ٣ من سورة القدر.

(٣) « المناقب » لابن المغازلي : ١٣١ ، ح ١٤٦.

(٤) المصدر السابق : ٢١١ ، ح ٢٧٦.

(٥) المصدر السابق : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ، ح ٢٧٠.

٢٧٧

[٨] ومنها : ما روي عن الجمهور من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١).

وقال : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » (٢) ، فيجب التمسّك بقول أهل بيته وسيّدهم عليّ عليه‌السلام فيكون واجب الطاعة على الكلّ ، فيكون هو الإمام دون غيره من الصحابة.

[٩] ومنها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعليّ عليه‌السلام : « يا عليّ ، إنّي رأيت اسمك مقرونا في ثلاثة (٣) مواطن فأنست بالنظر إليه : إنّي لمّا بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرتها : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره ، فقلت لجبرئيل : من وزيري؟ فقال : عليّ بن أبي طالب.

فلمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدت مكتوبا عليها : إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي محمّد صفوتي من خلقي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره ، فقلت لجبرئيل : من وزيري؟ فقال : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

فلمّا جاوزت السدرة انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله فوجدت مكتوبا على قوائمه : إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي محمّد حبيبي ، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره » (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار المفيدة بتظافرها القطع بما هو المقصود من خلافة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بلا فصل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى الأدلّة المستنبطة من أحواله الدالّة على إمامته وخلافته بلا فصل.

__________________

(١) المصدر السابق : ٢١٤ ، ح ٢٨١.

(٢) المصدر السابق : ١٤٨ ، ١٤٩ ، ح ١٧٣ و ١٧٥.

(٣) في المصدر : « أربعة ».

(٤) « الخصال » : ٢٠٧ ، باب الأربعة ، ح ٢٦.

٢٧٨

فصل [٣] : في الأعلميّة

بمعنى أنّ عليّ بن أبي طالب كان أعلم أهل عصره في الأحكام والأديان والأحوال وغيرها.

والمراد أنّه عليه‌السلام كان أعلم الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لكونه في غاية الذكاء والفطنة ، شديد الحرص على التعلّم ، ولازم رسول الله الذي هو أكمل الناس وأولاهم تعليما ليلا ونهارا من صغره إلى زمان وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا كان القائل كاملا والفاعل تامّا يكون التأثير بلا نقصان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقضاكم عليّ » (١) ، و « أنا مدينة العلم وعليّ بابها » (٢).

وقال حين نزل ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (٣) : « اللهمّ اجعلها أذن [ عليّ ] (٤) » ، (٥) وقال عليه‌السلام : « ما نسيت بعد ذلك شيئا » (٦).

وقال عليه‌السلام : « علّمني رسول الله ألف باب من العلم وانفتح لي من كلّ باب ألف باب » (٧).

وقال عليه‌السلام : « لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير بسم الله الرحمن الرحيم ـ أو ـ فاتحة الكتاب » (٨) على اختلاف نسخ الكتاب.

__________________

(١) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٤١ ، فصل في المسابقة بالعلم.

(٢) « المناقب » لابن المغازلي : ١١٦ ، ح ١٢١.

(٣) الحاقّة (٦٩) : ١٢.

(٤) الزيادة أثبتناها من المصدر.

(٥) « مجمع البيان » ١٠ : ١٠٧ ، ذيل الآية ١٢ من سورة الحاقّة (٦٩).

(٦) « التفسير الكبير » ٣٠ : ١٠٧ ، ذيل الآية ١٢ من سورة الحاقّة (٦٩).

(٧) « بصائر الدرجات » : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٨) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٥٣ ، في المسابقة بالعلم.

٢٧٩

وعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أعلم أمّتي بعدي عليّ بن أبي طالب » (١) ، وقال : « قسمت الحكمة على عشرة أجزاء فأعطي عليّ تسعة وللناس جزء واحد » (٢).

وقد نقل أنّ عالما من اليهود مرّ به عليه‌السلام فتعجّب من فصاحته ، وقال : لو أنّك تعلّمت الفلسفة ، لكان يكون منك شأن من شأن ، فقال عليه‌السلام : « ما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدل طباعه صفا مزاجه ، ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانيّة ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانيّة فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، فقد دخل في باب الملكي الصوري وليس له غير هذه الغاية » (٣) ، فزادت حيرة اليهودي فقال : الله أكبر يا بن أبي طالب فقد نطقت بالفلسفة جميعا بهذه الكلمات رضي الله عنك.

بل جميع العلوم مستفادة منه عليه‌السلام : أمّا النحو فهو واضعه (٤).

وأمّا الفقه فما للإماميّة بل لقاطبة الشيعة يكون منتهيا إليه عليه‌السلام وما لغيرهم أيضا كذلك ؛ لما قيل من أنّ أحمد بن حنبل أخذه من الشافعي ، وهو من أبي حنيفة ، وهو من الصادق ، ولا شبهة أنّ علم الصادق منه عليه‌السلام وأنّ مالكا أخذه من ربيعة الرازي وهو من عكرمة وهو من عبد الله بن عبّاس وهو منه عليه‌السلام.

وأمّا الكلام فلأنّ العامّة بل كلّ الشيعة أخذوا منه ، والمعتزلة انتسبوا إلى واصل بن عطاء وهو تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة ، وهو تلميذ أبيه ، وهو تلميذ عليّ والأشعريّة تلامذة أبي الحسن عليّ بن أبي بشر الأشعري ، وهو تلميذ أبي علي الجبائي وهو شيخ من مشايخ المعتزلة. كذا قيل.

ولا بدّ من دفع ما يرد من أنّ المذهبين الأخيرين فاسدان ، فكيف يصحّ كونهما

__________________

(١) المصدر السابق : ٤٠.

(٢) المصدر السابق : ٤٠.

(٣) « الصراط المستقيم » ١ : ٢١٣ ، الفصل ١٨.

(٤) « الخصائص » ٣ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٢٨٠