البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

فنقول : الإمام يجب أن يكون معصوما ؛ لما مرّ ، والمعصوم من الصحابة ليس إلاّ عليّا بالتواتر والاتّفاق ، فالإمام لا يكون إلاّ عليّا.

وأيضا إذا ثبت إمامة الأوّلين بعدم العصمة اللازمة فيها ، ثبت إمامة عليّ بن أبي طالب بالإجماع المركّب الكاشف عن حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو المعصوم الذي يكون حكمه حقّا ؛ للاتّفاق على عدم إمامة غير هؤلاء الثلاثة.

وأيضا كلّ من قال بوجوب عصمة الإمام عليه‌السلام قال بإمامة عليّ عليه‌السلام وكلّ من قال بعدم خلافته بلا فصل قال بعدم وجوب العصمة ، فالقول بوجوب العصمة وعدم إمامة عليّ عليه‌السلام خرق للإجماع المركّب ، وحيث ثبت وجوب العصمة ـ بما مرّ ـ ثبتت إمامة عليّ عليه‌السلام لئلاّ يلزم خرق الإجماع المركّب وهو المطلوب.

فصل [٢] : في طريق النصّ.

فنقول : وأمّا طريق النصّ ـ بناء على وجوب وجود النصّ على تعيين الإمام ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على العصمة المعتبرة فيه بدونه أو بدون المعجزة ، بل يتعيّن هنا الأوّل لوجوبه على النبيّ ـ كما مرّ ـ من كونه من أهمّ الواجبات التي يجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيانه مع عدم رضائه بإهمال أمر أمّته وإبقائهم على الحيرة الموجبة للاختلاف باختلاف الآراء والأهواء ـ فبيانه أنّ النصّ لم يرد إلاّ في شأن عليّ عليه‌السلام بلا خلاف من الخصم ظاهرا. والنصّ على قسمين :

الأوّل : ما هو ظاهر الدلالة غير محتاج إلى الاستدلال ، ويسمّى بالنصّ الجليّ.

والثاني : ما هو بخلافه ، ويسمّى بالنصّ الخفيّ.

أمّا النصّ الجليّ فمثل ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « عليّ إمامكم وخليفتي عليكم من بعدي » (١).

__________________

(١) « معاني الأخبار » : ٢٧٢ ، وفيه « أنّ عليّا إمامكم بعدي وخليفتي عليكم ».

٢٤١

وقال : « سلّموا عليه بإمرة المؤمنين » (١).

وقال لعليّ : « أنت الخليفة بعدي » (٢).

وقال ـ وقد أخذ بيده ـ : « هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا » (٣).

ونحو ذلك.

واحتمال الكذب من ناقليها من جهة الطمع ـ كما في غير ذلك ـ منتف ؛ لعدم كون المرويّ فيه من أهل الدنيا ليتصوّر الطمع أو الخوف منه ، بل كانت الرئاسة والثروة لمخالفيه فكان الداعي على ترك روايتها موجودا ، والاختلاف في تواترها إنّما هو من جهة عدم لزوم الفرديّة في التواتر ؛ لأنّه قد يكون كسبيّا ، مع أنّ حصول العلم موقوف على خلوّ الذهن عن الاعتقاد بنقيضه ؛ لاستحالة اجتماع النقيضين ، وعن الشبهة السابقة الراسخة الحاصلة من تكذيب المخالفين.

وأمّا النصّ الجليّ الوارد بطريق العامّة ، وهو الذي يكون دليلا إسكاتيّا وإثباتيّا كما أنّه يكون سكوتيّا وثبوتيّا مع أنّ الفضل ما شهدت به الأعداء :

فمنه : ما نسب إلى أحمد بن حنبل أنّه روى في مسنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « كنت أنا وعليّ بن أبي طالب نورا بين يدي الله من قبل أن يخلق آدم عليه‌السلام بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم نزل في نور واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطّلب ، ففيّ النبوّة وفي عليّ الخلافة » (٤).

وعن جابر بن عبد الله بعد قوله : « عبد المطّلب » زيادة قوله : « حتّى قسمنا جزءين : جزءا في صلب عبد الله ، وجزءا في صلب أبي طالب ، فأخرجني نبيّا

__________________

(١) « تفسير العيّاشي » ٢ : ٢٩٠ ، الرقم ٦٤ ، ذيل الآية ٩٢ من النحل (١٦).

(٢) « الإرشاد » ١ : ١٥٦.

(٣) « تفسير فرات » ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٣.

(٤) « الطرائف » : ١٥.

٢٤٢

وأخرج عليّا وصيّا » (١).

وقد نقل إجماع الفريقين على نقل ذلك الحديث ، وهو في أعلى مرتبة الصراحة في خلافة مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومنه : ما نسب إليه ـ أيضا ـ وإلى غيره أنّه لمّا نزلت آية ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاد عبد المطّلب ـ وهم أربعون نفرا ـ وهيّأ من الخبز واللحم واللبن مقدار قوت رجل واحد مع أنّ كلّ واحد منهم ـ على ما نقل ـ كان يأكل إبلا مشويّة مطبوخة وغنما كذلك أو عجلا كذلك مع ملء زقّ من اللبن ، فأكل جميعهم ممّا ذكر وشبعوا وامتلئوا وكان الطعام بحاله ، فلمّا رأوا تلك المعجزة ، عرض صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم الإسلام وبشّرهم بمنافع الدنيا والآخرة وحصول المقاصد فيهما وإعزازهم وامتيازهم عن أغيارهم ودخولهم الجنّة والوصول إلى الدرجات العالية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أطاعني فيما قلت له وأمدّني في تبليغ الرسالة كان أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي » (٣). فلم يتعرّض أحد منهم للجواب إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقد روي أنّ ذلك قد وقع ثلاث مرّات من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يجبه إلاّ عليّ عليه‌السلام فبشّره بالأخوّة والخلافة والوصاية ونحوها ، وكان من عداهما إذا لقوا أبا طالب هنّئوه استهزاء.

وهذا الحديث أيضا كالسابق في الصراحة على المدّعى وعن مسند [ ابن ] حنبل عن سلمان رضي‌الله‌عنه أنّه قال : قلت لرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، من وصيّك؟

فقال : « يا سلمان ، من كان وصيّ موسى؟ » قلت : يوشع بن نون ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ

__________________

(١) « المناقب » لابن المغازلي : ١٢١ ـ ١٢٢ ، ح ١٣٣٢.

(٢) الشعراء (٢٦) : ٢١٤.

(٣) « الطرائف » : ٢١ ، ح ١٣.

٢٤٣

وصيّي ووارثي وقاضي ديني ووافي مواعيدي عليّ بن أبي طالب » (١).

وعن كشف الغمّة مثله بزيادة سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد جواب سلمان : عن وصيّي موسى عن سبب جعله وصيّا ، وجواب سلمان بكونه أعلم القوم في ذلك اليوم.

وعن المناقب بعد الجواب الأوّل هكذا : « فإنّ وصيّي في أهلي وخير من أخلفه بعدي عليّ بن أبي طالب » (٢).

والمناقشة ـ بأنّه إن كان المراد أنّ الوصيّ بمعنى حافظ الشريعة فممنوع ولكنّه غير نافع ، وإن كان المراد بمعنى الخليفة فممنوع وإلاّ خالفت الصحابة ، وعلى تقدير مخالفتهم لما أطاعهم غيرهم ، وعلى تقدير إطاعة بعضهم لما أطاعهم الأنصار ـ مدفوعة بأنّ معنى الأوّل أيضا راجع إلى المعنى الثاني كما لا يخفى ، مضافا إلى أنّ سؤال النبيّ عن وصيّ موسى الذي كان خليفة قرينة على إرادة المعنى الثاني.

وعن رجل عن الشافعي بسنده عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لكلّ نبيّ وصيّ ووارث وإنّ وصيّي ووارثي عليّ بن أبي طالب » (٣).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « يا عليّ ، أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني » (٤).

وروي عن ابن عبّاس قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ عليّا وصيّي وخليفتي ، وزوجته فاطمة سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة ولداي ، من والاهم فقد والاني ومن عاداهم فقد عاداني » (٥) ، إلى آخر الحديث.

وتلك الأخبار مفيدة للقطع بمضمونها إمّا بالتسامع والتظافر أو بالتواتر.

__________________

(١) « مناقب آل أبي طالب » ٣ : ٥٨ ، فصل في أنّه الوصيّ والوليّ.

(٢) المصدر السابق.

(٣) « مناقب آل أبي طالب » ٣ : ٥٨ ، « بحار الأنوار » ٣٦ : ٣٢٩.

(٤) « الأمالي » للصدوق : ٥٢٣ ، المجلس ٩٤ ، ح ٦.

(٥) المصدر السابق : ٣٨٢ ، المجلس ٧٢ ، ح ٦.

٢٤٤

بيان ذلك أنّ العلم بالأشياء بسبب الأخبار قد يكون بسبب رواية عدد يمنع العقل عن تواطئهم على الكذب في اللفظ والمعنى أو أحدهما ، سواء كانت بلا واسطة ـ كما إذا أخبر جماعة بالغة إلى الحدّ المذكور بوقوع فتنة في بلد خاصّ عن مشاهدة أو نحوها ـ أو بواسطة كما إذا كان إخبار المخبرين على الوجه المذكور عن أمثالهم بمرتبة أو أزيد لمشابهة لهم ، لتكون كلّ مرتبة منهم بالغة إلى الحدّ المذكور.

وهذا العلم تارة يكون بدون الكسب كما في ضروريّات الدين ، فإنّها وإن كانت لا تنفكّ عن المقدّمات المنتهية إلى البديهي كالسماع ، لكنّها لا تحتاج إلى المراجعة إلى المقدّمات ما دامت ضروريّة.

وتارة يكون مسبوقا بالكسب كالمسائل العلميّة المحتاجة إلى التتبّع وملاحظة الكتب ، وملاقاة أهل العلم ، والاستماع أصوليّة كانت أو فروعيّة ، ثمّ ملاحظة أنّ هؤلاء الجماعة الكثيرين لا يتواطئون على الكذب. ومن علامات النظري أنّه إذا حصل الذهول عن المقدّمات بعد حصول العلم أيضا قد يتزلزل القاطع ، وهو ممّا يحصل في كثير من المتواترات.

وقد يكون بسبب أنّ أهل العصر قاطبة مجمعون على شيء إمّا بالتصريح أو بظهور أنّ سكوتهم مبنيّ على عدم بطلان هذا النقل ونحو ذلك ، فكثرة تداول ما ذكر على الألسنة ، وعدم وجود مخالف فيه أصلا ، أو عدم مخالف يعتدّ به وإن وجد مخالف علم أنّ مخالفته لأجل عناده أو نحو ذلك تفيد القطع بصحّته ، كعلمنا بالبلاد النائية أو الخالية والأمم الماضية ، ومنه أحوال حاتم ورستم وغيرهما ؛ لأنّنا لم نسمعها إلاّ ممّن عاصرنا ، وهم لم يرووا لنا عن سلفهم أصلا فضلا عن عدد يحصل به التواتر ، وذلك هو العلم الحاصل بالتظافر ، وكان العلماء عمّموا التواتر فلم يفرّقوا بينه وبين التظافر في مقام بيان الأمثلة وإن شرطوا في تعريف التواتر حصول العدد المذكور ، وقد يكون بالقرائن.

٢٤٥

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأخبار المذكورة ـ عند من وصلت إليه على وجه الإسناد كالعنعنة على وجه حصل له به العلم بصحّة مضمونها ـ تكون متواترة ولو بالتواتر المعنوي ، وعند من لم تصل إليه على الوجه المذكور ـ ولكن تظافرها اقتضى العلم بصحّة مضمونها ـ تكون متظافرة ، وكلّ منهما أمر وجدانيّ لا اعتراض لفاقده على واجده ؛ إذ ليس لمن لا يعلم على من يعلم سبيل.

على أنّ اجتماع المخبرين البالغين إلى الحدّ المذكور على الكذب على الرسول على وجه الاتّفاق لمّا كان ممتنعا عادة ؛ لعدم الداعي عليه كما في صورة الصدق فإنّه واقع قطعا ، وكذا الاتّفاق على وجه المواطأة والمواضعة ، لكون الرواة متباعدي البلاد على وجه امتنع اجتماعهم عادة في مكان واحد فضلا عن وقوعه ؛ إذ لو وقع لشاع وامتنع عدم ظهوره مع وجود الداعي على نشره ، وهو عداوة العامّة وتعصّبهم وإظهار ما يسرّ به أرباب السلطنة على وجه العدوان ، وكذا اجتماعهم بالمكاتبة ؛ لعدم المعارفة ولو وقع لشاع ؛ لما ذكر ، مضافا إلى عدم وجود الداعي على المواضعة ؛ لأنّها إمّا لأمر الدين أو الدنيا ، والأوّل مناف للكذب والثاني فاسد ؛ إذ لم يكن من ادّعى النصّ فيه من أهل الدنيا قطّ ، بل لم يكونوا ذوي سلطنة قاهرة داعية إليها من جهة الخوف بل كان الواقع خلافه ، لا يكون على مدّعي التواتر إيراد من تلك الجهة.

والإيراد ـ بأنّها لو كانت متواترة ، لكان العلم بها كالعلم بضروريّات الدين ونحوها ـ مدفوع بأنّ التواتر قد يكون كسبيّا كما أشرنا إليه ، مضافا إلى أنّ حصوله مشروط بعدم سبق شبهة مقضية للاعتقاد بنقيضه ونحو ذلك ، مع أنّه ممّا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.

وأمّا النصّ الخفيّ فهو على قسمين :

الأوّل : ما كان مذكورا في الفرقان ، وهي آيات كثيرة :

الأولى : قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ

٢٤٦

الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (١).

بيان كيفيّة الاستدلال موقوف على بيان لفظ « الوليّ » وشأن النزول.

أمّا لفظ « الوليّ » وهو على ما يظهر في الصحاح على معان منها : القريب ، ومنها : المحبّ وضدّ العدوّ ، ومنها : الصهر ، ومنها : كلّ من ولي أمر واحد ، ومنها : التابع ، ومنها : السلطان ، ومنها : الناصر ـ كما أنّ المولى لهذا المعنى مع زيادة المعتق والمعتق وابن العمّ والجار (٢).

ومنها ـ على ما في القاموس ـ : « الصديق » ، وفيه : « المولى : المالك والعبد والمعتق والمعتق والصاحب والقريب كابن العمّ ونحوه والجار والحليف ، أو ابن العمّ والنزيل والشريك وابن الأخت والوليّ والربّ والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحبّ والتابع والصهر ». وفيه أيضا : « وأولى على اليتيم : أوصى ، وهو أولى : أحرى » (٣).

وفي مجمع البيان : « الوليّ الذي يلي النصرة والمعونة ، والوليّ الذي يلي تدبير الأمر » (٤).

وأمّا النزول فقد روي عن أبي ذرّ الغفاري رحمه‌الله أنّه قال : إنّي صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا. وكان عليّ عليه‌السلام راكعا فأومى بخنصره اليمنى إليه وكان يتختّم بها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا فرغ النبيّ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : « اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا

__________________

(١) المائدة (٥) : ٥٥.

(٢) « الصحاح » للجوهري ٦ : ٢٥٢٨ ـ ٢٥٢٩.

(٣) ترتيب « القاموس المحيط » ٤ : ٦٥٨ ، « و. ل ي ».

(٤) « مجمع البيان » ٣ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، ذيل الآية ٥٥ من سورة المائدة (٥).

٢٤٧

قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (١). فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) (٢) ، « اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك ، اللهمّ فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أشدد به ظهري ».

قال أبو ذر : فو الله ما استتمّ رسول الله حتّى نزل عليه جبرئيل من عند الله فقال : يا محمّد ، اقرأ ، قال : « وما أقرأ؟ » قال : « اقرأ : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية » (٣).

كذا عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره ، وعن أبي بكر الرازيّ والطبريّ والرمّانيّ ومجاهد والسدي أيضا أنّها نزلت في عليّ حين تصدّق بخاتمه وهو راكع ، وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام وجميع علماء أهل البيت عليهم‌السلام (٤).

وعن الكلبي نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لمّا أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم (٥).

ولا يخفى بعده عن ظاهر الآية مع كونه خلاف ما اشتهر وما ذكر من الإجماع وغيره ، مع أنّ الأوصاف المذكورة في الآية منحصرة في مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فيكون هو المراد ، فتكون الآية دالّة على كونه عليه‌السلام مثل الحقّ العليّ والنبيّ العالي في كونهما أولى وأحقّ في التصرّف في أمر الدين والدنيا بالنسبة إلى الناس وفي وجوب إطاعتهما ؛ إذ الوليّ هنا لا يصحّ أن يكون بمعنى القريب والصهر والتابع المعتق والمعتق وابن العمّ والجار والصديق كما لا يخفى ، وبقي أربعة أخرى أعني المحبّ ، ومتولّي الأمر ، والسلطان والناصر.

__________________

(١) طه (٢٠) : ٢٥ ـ ٣٢.

(٢) القصص (٢٨) : ٣٥.

(٣) « مجمع البيان » ٣ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، ذيل الآية ٥٥ من سورة المائدة (٥).

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

٢٤٨

والحصر المستفاد من كلمة « إنّما » يقتضي عدم إرادة المحبّ والناصر ؛ لعمومهما جميع المؤمنين كما يقتضي قوله تعالى : ( الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وإلاّ يلزم كون التصدّق في حال الركوع من شروط تولّي المؤمن ، مضافا إلى أنّ مقتضى تلاؤم أجزاء الكلام أن لا يكون الوليّ هنا بمعناهما ؛ إذ لو كان بمعناهما كان المناسب « اتّخذوا الله ورسوله والذين آمنوا أولياء » ليدلّ على أنّ في مقابل ما جعله طرفا عليهم أعني اتّخاذ الكفّار وأمثالهم أولياء.

فتعيّن أحد الآخرين وكلّ منهما واف بإثبات المطلوب ؛ لاقتضاء الآية حينئذ كون المتولّي في أمور دنياهم ودينهم أو السلطان عليهم فيهما هو الله ورسوله وعليّ لا غيرهم ، والموصوف بهذا الوصف بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام ، فيلزم أن يكون إماما دون غيره وهو المطلوب.

[ فى بعض ما أورد على الاستدلال بآية الولاية ]

وأورد بعض المعاندين على هذا الاستدلال إيرادات واهية نوردها مع أجوبتها ، حذرا عن اختفائها على بعض الناظرين :

الأوّل : أنّ الوليّ يحتمل أن يكون بمعنى الناصر والمحبّ ، على ما يناسب ما قبل الآية ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) الآية (٢) ؛ لعدم كون تلك الولاية بمعنى الإمامة ، بل تكون بمعنى النصرة والمحبّة ، وما بعدها وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية (٣) ، لكون التولّي هنا بمعنى المحبّة والنصرة دون الإمامة ، فيجب أن يكون ما بينهما أيضا كذلك ، ليتلاءم أجزاء الكلام.

__________________

(١) التوبة (٩) : ٧١.

(٢) المائدة (٥) : ٥١.

(٣) المائدة (٥) : ٥٦.

٢٤٩

والجواب يظهر ممّا أشرنا إليه في طيّ تحرير الاستدلال ، مضافا إلى أنّ الآية يمكن أن تكون في حكم التعليل عن السابق لو قطعنا النظر عن الفصل المانع عن اعتبار التلاؤم مع ما ذكرنا ، والمعنى المطلوب أنسب بالتعليل كما لا يخفى ، مع أنّ هذا الإيراد وارد على عثمان حيث رتّب الآيات كثيرا ما بدون الملاءمة.

والثاني : عن كون الآية في شأن عليّ عليه‌السلام تنافي ما يقولون : إنّه كان في صلاته خاضعا بحيث لم يكن [ قادرا ] على إخراج النصل من رجله مطلقا.

والجواب : أنّ المراد بعد تسليم الرواية أنّه عليه‌السلام لم يكن حين صلاته ملتفتا إلى غير الله تعالى ، وما ذكر عين الالتفات إلى عبادة الله تعالى.

والثالث : أنّ تحريك الخاتم إلى السائل وإخراجه والإشارة إلى السائل فعل كثير مبطل للصلاة.

والجواب ـ بعد وضوح جزافة ذلك السؤال من جهة كونه في مقابل قوله تعالى وتقرير رسوله ونحو ذلك ـ : أنّه لم يصدر عنه عليه‌السلام إلاّ فعل واحد وهو التحريك ، مضافا إلى منع كون ما ذكر فعلا كثيرا مع احتمال صدوره على التفريق.

والرابع : أنّ كلمة « إنّما » إنّما يؤتى بها لرفع التوهّم أو التردّد ، ولم يكن حين النزول تردّد ولا تشاجر في الإمامة.

والجواب : أنّها في الآية لرفع التردّد الآتي لا الواقع ومثل هذا كثير ، مع إمكان وقوع التردّد حين النزول أيضا في قلوب المؤمنين وإن لم يكن ظاهرا ، مضافا إلى أنّ الحصر إنّما هو بالنسبة إلى الولاية الملتزمة إلى الإمامة بالنسبة إلى عليّ عليه‌السلام وليست عينها ، وإلاّ فلم يكن إثباتها بالنسبة إلى الله ورسوله صحيحا ، والولاية في الجملة ممّا يمكن وقوع التردّد فيه حين النزول أيضا.

والخامس : أنّ كلمة « الذين » موضوعة للجمع فلا وجه لاستعمالها في الواحد بدون القرينة.

والجواب : أنّ الإتيان بصيغة الجمع إشعار باستحقاق كلّ من كان كذلك ، ولكن

٢٥٠

كان الواقع شخصا واحدا ، مع أنّ التعظيم كثير في العرف مضافا إلى احتمال كون سائر الأئمّة كذلك ، فبيّن حالهم لتغليب الموجود الأشرف.

والسادس : أنّه يمكن أن يكون جملة « وهم راكعون » غير حاليّة ، بأن تكون مخرجة لمن لا يكون راكعا في صلاته كاليهود.

والجواب : أنّه خلاف ظاهر تغيير أسلوب الكلام من الفعليّة إلى الاسميّة بل خلاف المتبادر.

والسابع : أنّ الركوع قد يكون بمعنى الخضوع والخشوع فينفي ولاية غير الخاضع ، ولا يثبت ولاية خصوص عليّ.

والجواب : أنّ المتبادر من الركوع هو المعنى الشرعي ، فالصرف عنه بلا قرينة فاسد ، مضافا إلى أنّ المراد لو كان ذلك لكان ذكر الخضوع أولى لكونه أظهر وأشمل ، مع أنّه حكي إجماع المفسّرين على نزول الآية حين تصدّق عليّ عليه‌السلام بالخاتم للسائل راكعا.

والثامن : أنّ ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، ولا شبهة في أنّ إمامة عليّ عليه‌السلام إنّما كانت بعد النبيّ ، وصرف الآية إلى ما يكون في المال دون الحال لا يستقيم في حقّ الله ورسوله.

والجواب : أنّه كان له عليه‌السلام ولاية التصرّف في أمر المسلمين في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، وكانت الإمامة اللاحقة من لوازم الولاية السابقة لا عينها ـ كما مرّ إليه الإشارة ـ مضافا إلى أنّ التغليب باب واسع.

التاسع : أنّ قول المفسّرين : إنّ الآية نزلت في شأن عليّ لا يقتضي اختصاصها به وكونه إماما.

والجواب : أنّ عدم اتّصاف غيره بالأوصاف المذكورة في الآية ، بل عدم العلم بالاتّصاف كاف في الحكم بالاختصاص المستلزم للإمامة.

[٢] ومن الآيات قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ

٢٥١

تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (١).

وجه الاستدلال : أنّ الآية نزلت حين منازعة وفد نجران من النصارى مع رسول الله في أمر عيسى من جهة تولّده من غير أب ، فلمّا دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك فلمّا رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف : انظروا محمّدا في غد فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء ، فلمّا كان من الغد جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذا بيد عليّ عليه‌السلام والحسن والحسين بين يديه يمشيان وفاطمة تمشي خلفه ، وخرج النصارى يقدمهم أسقفهم فلمّا رأى النبيّ قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من عليّ ، وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.

وتقدّم رسول الله فجثا على ركبتيه فقال أبو حارثة الأسقف : جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة فكعّ (٢) ولم يقدم على المباهلة ، فقال له السيّد : ادن يا با حارثة للمباهلة فقال : لا إنّي أرى رجلا جريئا على المباهلة ، وإنّي أخاف أن يكون صادقا ، ولئن كان صادقا لم يحل والله علينا الحول وفي الدنيا نصرانيّ يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم ، إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ننهض به ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ألفي حلّة من حلل الأواقي ، قيمة كلّ حلّة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد ورسول الله ضامن حتّى يؤدّيها ، وكتب لهم كتابا (٣) ، كذا روي.

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٦١.

(٢) أي ضعف وجبن.

(٣) « مجمع البيان » ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠ ، ذيل الآية ٦١ من سورة آل عمران (٣).

٢٥٢

فهذه الآية تدلّ على أولويّة عليّ بن أبي طالب في الإمامة واستحقاقه للخلافة بوجوه :

الأوّل : أنّ الله تعالى جعل عليّ بن أبي طالب بمنزلة نفس النبيّ ؛ لأنّه المراد من « أنفسنا » ؛ إذ لا معنى لدعاء الإنسان نفسه كما لا معنى لأمره لنفسه ، وليس المراد به فاطمة والحسن والحسين ؛ لاندراجهم في الأبناء والنساء ، فلا بدّ أن يكون المراد شخصا آخر غير نفسه وغير فاطمة وغير الحسن والحسين ، وليس غير عليّ عليه‌السلام بالإجماع ، فتعيّن أن يكون هو المراد ، فيستفاد كونه مساويا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع الصفات إلاّ ما خرج بالدليل كالنبوّة ، ولمّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل البشر يلزم أن يكون عليّ عليه‌السلام الذي بمنزلة نفسه أيضا أفضلهم حتّى الأنبياء ، فمع وجود الأفضل الأكمل الأعلم الأورع الأتقى لا يجوّز أحد خلافة غيره ، المستلزمة ترجيح المرجوح على الراجح وتفضيل المفضول على الفاضل ، الذي هو الباطل عند كلّ عاقل.

الثاني : أنّ مقتضى التشبيه المطلق المستفاد فيما نحن فيه من قوله تعالى : « أنفسنا » اتّصاف المشبّه بصفات المشبّه به ، سيّما صفاته الشائعة المتبادرة ، ولا شكّ أنّ كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رئيسا للمؤمنين وواجب الإطاعة لهم من الصفات المتبادرة ، فيلزم أن يكون عليّ عليه‌السلام أيضا رئيسا وواجب الإطاعة بعد النبيّ بل في حال حياته أيضا فغيره غاصب لحقّه.

والثالث : أنّ الغرض من المباهلة هو الغلبة على الأعداء بإجابة الدعاء ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالقرب من الله ؛ ولهذا لم يستظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الأربعة من أصحاب الكساء فهم أقرب العباد إلى الله ورسوله فتقديم غيرهم عليهم وعدم اعتقاد إمارتهم ورئاستهم لا يصدر إلاّ عن معاند حاسد أو قاصر كاسد.

والرابع : أنّ دعاءه للمباهلة يدلّ على أنّه في غاية الشفقة والمحبّة لعليّ عليه‌السلام وإلاّ لقال المنافقون : إنّ الرسول لم يدع للمباهلة من يحبّه ويحذر عليه العذاب ، فهو أولى من غيره ، فلا يجوز تقديم غيره.

٢٥٣

والخامس : أنّ العاقل إذا لاحظ كون عليّ عليه‌السلام موصوفا بمثل هذا الوصف الذي لم ينكره أحد من العامّة والخاصّة وكون غيره ممّن اختلف فيه يحكم عقله بأخذ عليّا عليه‌السلام إماما حتّى كأنّه يقول : أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟ إذ لا وجه للجمع بين المتباينين وتأخير قطعي القابليّة.

وبالجملة : فالإيراد بأنّه لا وجه لتساوي عليّ عليه‌السلام مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّه أفضل الأنبياء وغيرهم ، وعليّ عليه‌السلام من جملة المفضولين ، وأنّه خاتم الأنبياء ، وليس تلك الصفة موجودة في عليّ عليه‌السلام مدفوع بما أشرنا إليه من أنّ ما خرج بالدليل خارج عن المراد ، مع أنّ إفادة التساوي كناية عن كمال القرب والاتّحاد كما هو شائع في العرف.

ويؤيّد ما ذكرنا ما حكي عن بعض أهل السنّة من أنّ عليّا عليه‌السلام قال يوم الشورى : « أحلفكم بالله هل يكون منكم من يكون أقرب إلى الرسول منّي وقد جعل الرسول نفسه نفسه وأبناءه أبناءه وامرأته امرأته؟ » فقالوا : « اللهمّ لا » ، فتصديقهم واعترافهم بكونه عليه‌السلام أقربهم إلى الرسول دليل على فساد مذهبهم.

وقد فسّر البيضاوي الآية بقوله : « أي يدع كلّ منّا ومنكم نفسه وأعزّة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ».

ثمّ قال : « وهو دليل على نبوّته وفضل من أتى بهم من أهل بيته » (١). فاعترف بفضل أمير المؤمنين.

والشارح القوشجي مع كمال عصبيّته وذكر الأجوبة الواهية عن كلّ دليل لم ينكر تلك الآية ولم يذكر للاستدلال بها جوابا.

وعن صاحب الكشّاف أنّه قال : « وفيه دليل لا أبين ولا أقوى منه على فضل أصحاب الكساء » (٢) ، فالمنكر مكابر وفي الحقيقة كافر.

__________________

(١) « تفسير البيضاوي » ١ : ٢٦٦ ذيل الآية ٦١ من سورة آل عمران (٣).

(٢) « الكشّاف » ١ : ٣٧٠ ذيل الآية ٦١ من سورة آل عمران (٣).

٢٥٤

[٣] ومنها : قوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) ، فإنّها نزلت في شأن عليّ عليه‌السلام وفاطمة والحسنين بالإجماع المحكيّ عن مفسّري الشيعة وأهل السنّة. (٢)

وقد حكي عن مسند ابن حنبل وصحيح مسلم وأبي داود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذات يوم نائما في حجرة أمّ سلمة ، فدخل الحسنان وجلسا عنده ، فجاءت فاطمة عليها‌السلام فجاء عليّ عليه‌السلام فجلسا عنده ، ولمّا استيقظ ورآهم مجتمعين فرح ، فأجلس الحسنين على حجره ، وقرّب عليّا وفاطمة إلى نفسه بحيث اتّصلا به ، فألقى عباءة الخيبريّ عليهم وقال : « اللهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهل بيت ، وهؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا » (٣) ، فنزل جبرئيل بهذه الآية.

فيستفاد منها كون عليّ عليه‌السلام [ من ] أهل بيت الرسول ، وطاهر [ من ] دنس المعاصي وأرجاس العلائق الدنيويّة والحقد والحسد ، وغير ذلك ممّا يوجب البعد عن الله تعالى ، ويكون من مقتضى طباع غالب الناس على وجه الاختيار وإن لم يكن موجودا في أهل البيت عليهم‌السلام ، فتدلّ الآية على عصمة عليّ عليه‌السلام فيكون هو الأولى بالخلافة.

فإن قلت : إنّ الآية واردة في تلو المخاطبة مع أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ أن تكون واردة في شأنها ، وتذكير الضمير يوجب إدخال جميع أهل البيت من الرجال ، أعني عليّا والحسنين والنساء.

قلت أوّلا : إنّ ما ذكر أيضا مثبت لما هو المرام من دلالة الآية على رجحان عليّ عليه‌السلام على غيره من الصحابة.

وثانيا : إنّ الوقوع في التلو لا يقتضي كون اللاحق في حقّ من له السابق ؛ إذ الآيات يكون بعضها في مورد وبعضها في مورد آخر.

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٢) « مجمع البيان » ٨ : ١٥٦ ـ ١٥٨ ذيل الآية ٣٣ من سورة الأحزاب (٣٣).

(٣) « الطرائف » : ١٢٥ و ١٢٩ و ١٣٠.

٢٥٥

وثالثا : إنّ تذكير الضمير لمّا منع عن اعتبار المناسبة مع السابق وجب تعيين المراد من وجه آخر ، وقد عيّن للحديث المذكور والإجماع المزبور كون المراد عليّا وفاطمة والحسنين.

وحكي عن إمام المشكّكين (١) شكوك :

الأوّل : أنّ الإرادة لا تستلزم الفعل.

وفيه : أنّ إرادة الله مستلزمة له وإلاّ يلزم العجز أو الجهل أو السفه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

الثاني : أنّ ذهاب الرجس لا يستلزم العصمة ؛ لتصوّره في ضمن العدالة أيضا.

وجوابه : أنّ قوله : الرجس اسم جنس معرّف باللام وهو حقيقة في تعريف الحقيقة ، فيقتضي نفي ماهيّة المستلزم بنفي جميع أفرادها من باب العموم الطبيعي ولا أقلّ من إفادة الاستغراق أو العموم الحكمتي ؛ إذ العموم فروقا غير صحيح ، والتعيين غير واقع فتثبت العصمة مع أنّ إظهار الله تعالى لعدالة عليّ يقتضي أفضليّته وأشرفيّته المقتضية للمطلوب ، على ما مرّ.

الثالث : أنّ الحصر المذكور في الآية مستلزم لعدم عصمة الأنبياء السلف ، وهو فاسد.

والجواب أوّلا : أنّه إيراد على الله وهو كفر.

وثانيا : أنّ الحصر بالنسبة إلى الموجودين في الحال أو الاستقبال لا الماضي بقرينة صيغة المضارع.

ثالثا : أنّ الحصر إضافي بالنسبة إلى أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٤] ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٢) ؛ لما

__________________

(١) أي الفخر الرازي.

(٢) الشورى (٤٢) : ٢٣.

٢٥٦

حكي عن مسند ابن حنبل وتفسير الثعلبي وغيرهما أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، قال الأصحاب : يا رسول الله ، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : « عليّ وفاطمة وابناهما » (١) ؛ فإنّه إذا جعل مودّة عليّ جزاء ما ناله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المصائب من جهة تبليغ الرسالة وإرشاد الأمّة ونسبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السحر والكذب والجنون ونحوها وجب إطاعته في الأمر والنهي واعتقاد حجيّة فعله وقوله وتقديمه على غيره ؛ إذ لا عداوة أعظم من تقديم غيره ، سيّما عدوّه عليه اختيار الموجب لكون المقدّم مورد الآية ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (٢).

[٥] ومنها : قوله تعالى : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (٣) ؛ حيث نزل في سورة « هل أتى » المشتملة على هذه الآية في شأن عليّ عليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسين بإجماع الأمّة ـ على ما حكي ـ عند إرادة عليّ وفاطمة وفضّة وفاء نذرهم بصيام ثلاثة أيّام عند شفاء الحسنين ، وصيامهم وإعطائهم ما أرادوا أن يفطروا به في المسكين في الليلة الأولى ، واليتيم في الثانية ، والأسير في الثالثة ، وعدم ذوقهم إلاّ الماء القراح ، وأخذ عليّ يد الحسنين وإقبالهم على رسول الله مع الارتعاش من شدّة الجوع وإساءة ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإقبال الكلّ إلى فاطمة وهي في محرابها قد لصق ظهرها ببطنها من شدّة الجوع ، وغور عينها وجزع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك بقوله : « وا غوثاه بالله ، أهل بيت محمّد يموتون جوعا » (٤) ؛ فإذا كان عليّ عليه‌السلام موردا لمثل هذه السورة وموصوفا بما تضمّنه يكون أهلا للإمامة

__________________

(١) « مجمع البيان » ٩ : ٤٨ ذيل الآية ٢٣ من سورة الشورى (٤٢) ؛ « الكشّاف » ٣ : ٢٢٠ ذيل الآية ٢٣ من سورة الشورى (٤٢).

(٢) مريم (١٩) : ٥٩.

(٣) الإنسان (٧٦) : ٨.

(٤) « الأمالي » للصدوق : ٢١٥ ، المجلس ٤٤ ، ح ١١.

٢٥٧

دون غيره ، ولله درّ من قال :

قوم أتى في مدحهم هل أتى

ما شكّ في ذلك إلاّ ملحدا

[٦] ومنها : قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) (١) ؛ للاتّفاق على أنّ المراد عليّ بن أبي طالب ، حيث نام على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أراد المشركون قتله عند إرادته الهجرة في السنة الثالثة عشرة من البعثة لإيذاء المشركين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه الاجتماع ، لينتهي أمر القصاص إلى الدية لكثرة القتلة ، وأخبر جبرئيل ما أراده ، وأمره من الله أن يبيت عليّا عليه‌السلام فراشه وأخرج من بيته ، وفرح عليّ عليه‌السلام من ذلك بعد سماعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واطّلاعه على كون ذلك سببا لحراسة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرضي بجعل نفسه فراء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّ الخليل قال عند إرادة ملك الموت قبض روحه : « هل رأيت خليلا يميت خليله » (٢) ، فقال ملك الموت : « هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه ». فرضي الخليل.

وقد روي أن الربّ الجليل قال في ذلك الوقت لجبرئيل وميكائيل : إنّي جعلت بينكما مؤاخاة ، وجعلت عمر أحدكما أطول فمن يرضى منكما بقصر عمره؟

فما يرضى أحد منهما ، فباهى الله به عليه‌السلام عليهما فقال له عليه‌السلام جبرئيل حين نزوله مع ميكائيل لحراسته : بخّ بخّ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة؟ (٣) فيستفاد فضيلته المقتضية لاستحقاقه الإمامة والخلافة.

وما يقال ـ من أنّ الآية في شأن المقداد والزبير حيث صلب كفّار مكّة حبيب بن عدي ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من يجاهد بنفسه في سبيل الله فينجيه » (٤) ، فاختاره فنزلت ـ مدفوع بأنّ الأمر المذكور كان حين إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة. والآية مكيّة.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٠٧.

(٢) « الأمالي » للصدوق : ١٦٤ ، المجلس ٣٦ ، ح ١.

(٣) « الطرائف » : ٣٧ ؛ « كشف الغمّة » : ١ : ٣١٠.

(٤) « تفسير البغوي » ١ : ٢٦٦ ـ ٣٦٧ ذيل الآية ٢٠٧ من سورة البقرة (٢).

٢٥٨

[٧] ومنها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (١) ، فإنّه نزل حين تكثّر الأغنياء في مجلس الرسول إلى أن تضيّق على الفقراء ، وصعب ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعمل بمقتضاه إلاّ عليّ عليه‌السلام حيث باع دينارا أو شيئا آخر ـ على الاختلاف ـ بعشرة دراهم ، وتصدّق عشرة مرّات ، وناجى الرسول كلّ مرّة فنسخت الآية حكما.

وروي عن عبد الله بن عمر أنّه قال : ثلاث كنّ لعليّ لو أنّ لي واحدة منهنّ كانت أحبّ من حمر النعم : تزويجه بفاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى. (٢)

وبالجملة ، فمسابقته عليه‌السلام لامتثال أمر الله ، بل انحصاره فيه ، دليل على أفضليّته المستلزمة لتقدّمه على غيره في الخلافة.

والإيراد باحتمال عدم وسعة الوقت لغيره مدفوع بعدم جواز التكليف بما يفضل عن وقته ـ كما قرّر في الأصول ـ مع أنّه حكي عن الأكثر كون النسخ بعد عشرة أيّام.

وما يقال ـ من كون الصدقة موجبة لكسر قلوب الفقراء فالترك كان أفضل ـ مدفوع باستلزامه أن يكون أمر الله أمرا بالمرجوح ، وهو قبيح ، وبمنافاته لتمنّي عبد الله بن عمر.

[٨] ومنها : قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) (٣) الآية ، فإنّه روي عن جمهور مفسّري أهل السنّة وفاقا للإماميّة عن ابن عبّاس أنّه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تلك الكلمات؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال آدم : إلهي بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين تقبّل توبتي فتقبّلها فتاب عليه » (٤).

__________________

(١) المجادلة (٥٨) : ١٢.

(٢) « كشف الغمّة » ١ : ١٦٨ ، في وصف زهد أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) البقرة (٢) : ٣٧.

(٤) « مجمع البيان » ١ : ١٧٤ ، ذيل الآية ٣٧ من سورة البقرة (٢).

٢٥٩

وقد حكي عن بعض أهل السنّة أنّه قال : « المراد من الكلمات هذه : يا حامد بحقّ محمّد ، ويا عليّ بحقّ عليّ ، ويا فاطر بحقّ فاطمة ، ويا محسن بحقّ الحسن ، ويا قديم الإحسان بحقّ الحسين فاغفر لي ، فتاب عليه ».

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لو كانت البحار مدادا والأشجار أقلاما والسماوات صحافا والإنس والجنّ كتابا ، لنفد المداد وفنت الصحف وكلّت الأقلام ولم يكتبوا عشر معاشر فضل عليّ عليه‌السلام » (١).

وبالجملة ، فإذا كان عليّ عليه‌السلام سببا لقبول : توبة أبي الأنبياء وصفيّ الله ، فكيف يجوّز عاقل أن لا يجعل رئيسا وإماما ، بل جعل مرءوسا ومأموما لمن هو مفضول لو سلّم أصل الفضل لغيره.

[٩] ومنها : قوله تعالى : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ـ إلى قوله تعالى ـ : ( عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) ، فإنّه قد حكي عن الصحاح الستّة وتفاسير أهل السنّة (٣) وفاقا للإماميّة أنّه نزل في شأن عليّ عليه‌السلام عند مفاخرة العبّاس بسقاية الحاجّ من زمزم ، وطلحة بكون مفتاح الكعبة في يده ، وأمير المؤمنين بإيمانه قبل جميع الناس بستّة أشهر والجهاد وإرادة ردّ الأمر إلى رسول الله ، فتصديق الله لعليّ عليه‌السلام وتفضيله على العبّاس ومن يماثله دليلان على تقدّمه على غيره.

ومثل ذلك قوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً ) (٤) ؛ لكون عليّ عليه‌السلام كاملا في تلك الصفات.

[١٠] ومنها : قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها

__________________

(١) « كشف الغمّة » ١ : ١١٢ ، في فضل مناقبه.

(٢) التوبة (٩) : ١٩.

(٣) « التفسير الكبير » ٦ : ١٢ ، ذيل الآية ١٩ من سورة التوبة (٩).

(٤) التوبة (٩) : ٢٠.

٢٦٠