البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

من الأمور المتعلّقة بحفظ النظام وحماية بيضة الإسلام ممّا لا يتمّ إلاّ بالإمام ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلاّ به وكان مقدورا فهو واجب على ما مرّ.

الثالثة : أنّ في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى ، واستدفاع مضارّ لا تخفى ، وكلّ ما هو كذلك فهو واجب.

أمّا الصغرى فتكاد أن تكون من الضروريّات بل المشاهدات ، وتعدّ من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان ؛ ولهذا اشتهر أنّ ما يزع السلطان أكثر ممّا شرّع القرآن ، وما يلتئم بالسنان لا ينتظم بالبرهان ؛ وذلك لأنّ الاجتماع المؤدّي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتمّ بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ، ويحفظ المصالح ، ويمنع ما تتنازع إليه الطباع وتتنازع عليه الأطماع ، وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن بمجرّد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ، ورعاية البيضة ، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ، ولم يخل عن شائبة شرّ وفساد ، ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع ـ كرفقة طريق ـ بدون رئيس يصدرون عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه ، بل ربّما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم ـ كالنحل ـ لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها ما دام فيها ، وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد ، وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد.

لا يقال : فغاية الأمر أنّه لا بدّ في كلّ اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام ، لكن من أين يلزم عموم رئاسته جميع الناس وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام.

لأنّا نقول : انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدّي إلى صلاح الدين والدنيا يفتقر إلى رئاسة عامّة فيهما ؛ إذا لو تعدّد الرؤساء في الأصقاع والبقاع لأدّى إلى مخاصمات ومنازعات موجبة لاختلال أمر النظام ، ولو اقتصرت رئاسته على أمر الدنيا لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهمّ والعمدة العظمى.

وأمّا الكبرى فبالإجماع ، واحتجّ المصنّف بأنّ الإمام لطف من الله تعالى في حقّ

٢٢١

عباده ؛ لأنّه إذا كان لهم رئيس يمنعهم في المحظورات ، ويحثّهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعات ، وأبعد عن المعاصي ، وهو لطف ومفقود منهم بدونه ، واللطف واجب عليه تعالى بناء على أصلهم.

واعترض عليه بأنّ نصب الإمام إنّما يكون لطفا إذا خلا عن المفاسد كلّها ، وهو ممنوع ؛ فإنّ أداء الواجب وترك الحرام مع عدم الإمام أكثر ثوابا ؛ لكونهما أقرب إلى الإخلاص ؛ لانتفاع احتمال كونهما من خوف الإمام. (١)

ولو سلّم فإنّما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلا لم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام عليه‌السلام؟

وأيضا إنّما يكون لطفا إذا كان الإمام ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام ، وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادّعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب.

والمصنّف أشار إلى الجواب عن الأوّل بقوله : ( والمفاسد معلومة الانتفاء ). وعن الثاني بقوله : ( وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ). والظاهر أنّهما مجرّد دعوى.

وأشار إلى الجواب عن الثالث بقوله : ( ووجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا ). يعني أنّ وجود الإمام لطف سواء تصرّف أو لم يتصرّف على ما نقل عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : « لا تخلو الأرض عن قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور ؛ لئلاّ يبطل حجج الله تعالى وبيّناته » (٢).

وتصرّفه الظاهر لطف آخر ، وإنّما عدم تصرّفه من جهة العباد وسوء اختيارهم ، حيث أخافوه وتركوا نصرته ففوّتوا اللطف على أنفسهم.

وردّ بأنّا لا نسلّم أنّ وجوده بدون التصرّف لطف.

__________________

(١) انظر « شرح المقاصد » ٥ : ٢٣٧ وما بعدها.

(٢) « الإرشاد » ١ : ٢٢٨ ، من كلامه عليه‌السلام في مدح العلماء وتصنيف الناس وفضل العلم والحكمة.

٢٢٢

فإن قيل : إنّ المكلّف إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره وتصرّفه ، فيمتنع من القبائح.

قلنا : مجرّد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى ، فإنّ ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف في القرية بحيث لا أثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أنّ السلطان يرسله إليها متى شاء ، وليس هذا خوفا من المعدوم بل من موجود مترقّب كما أنّ خوف الأوّل من ظهور مترقّب » (١).

أقول : لا يخفى ما فيه فيما ذكره الشارح القوشجي عن الردّ والإيراد لمن لاحظ ما ذكرناه بعين الإنصاف لا العناد.

وصل : هذا الاعتقاد من أصول الدين من جهة ملاحظة ثبوت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين بحسب إمكان ذلك ووقوعه في الجملة ، بل ثبوتها في الجملة لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي يكون سببا لإكمال الدين كما نطق به القرآن المبين حيث قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٢) ، بعد نصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له في غدير [ خم ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، بمعنى أنّ الاعتقاد بثبوت الإمامة المطلقة العامّة بل الخاصّة في الجملة من أصول الدين ، ومنكره كالخوارج خارج عن الدين وإن كان من حيث الاعتقاد بوجوبه ، وكون ذلك الثبوت على وجه الوجوب من أصول المذهب ، وكان منكره كالأشاعرة خارجا عن المذهب كما أشرنا إليه.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٢) المائدة (٥) : ٣.

٢٢٣

الفصل الثاني : في العصمة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبيّ ، كما هو من أصول المذهب خلافا للعامّة.

بيان ذلك : أنّ عصمة الإمام لطف أيضا ، بل لا يتحقّق كون إيجاده لطفا بدونها ؛ لأنّ غير المعصوم لا يؤمن من الحيف والميل الموجبين لوقوع الفتن والاختلال في أمر الدين والدنيا ، وهذا مناف للّطف.

وأيضا فإنّ الغرض من نصب الإمام حصول الاطمئنان والانقياد ، ولا يحصل ذلك إلاّ بكونه معصوما ؛ إذ المخطئ أو العاصي لا يجب إطاعته ، بل يجب مخالفته ، مع أنّ النائب يجب أن يكون مثل المنوب عنه في العصمة عمّا ينافي نصبه ، مضافا إلى أنّ غير المعصوم عليه‌السلام تتنفّر طباع ذوي العقول في أمر المعاش والمعاد عنه كما لا يخفى ، حيث يجوز منه الكذب والخطأ والغفلة ونحوها ، فلا يكون قابلا للرئاسة العامّة التي يكون المقصود منها إتمام الغرض بالاستعداد للفيض الأبدي ، فيجب كونه معصوما ؛ لئلاّ يلزم القبح على الله تعالى.

وأيضا فإنّ حفظ الشريعة وبقاءها مع عدم النبوّة ممّا لا بدّ فيه من معصوم ؛ لئلاّ يتحقّق النسيان والإهمال والإخلال والتحريف والتغيير للأغراض الفاسدة التي تقتضي ارتفاع الشريعة مع أنّها باقية إلى يوم القيامة ، فلا بدّ في كلّ زمان من

٢٢٤

معصوم حافظ للشريعة.

وأيضا فإنّ كلّ زمان يتحقّق فيه وقائع خاصّة لا بدّ من استنباطها من الآيات التي لا يعلم تأويلها إلاّ الله والراسخون في العلم ، ولا بدّ من بيانها منها أو من غيرها ، ولا يمكن ذلك لغير المعصوم ؛ لاحتمال الخطإ فيه ، وزماننا لا يخلو عن ردع المعصوم مع أنّ المراد وجوب وجوده حتّى لو احتيج إليه رفع الاحتياج فيما لولاه لاختلّ أمر الدين ، كما هو حال من يكون في زمان يكون زمان ظهور الإمام عليه‌السلام.

فظهر ممّا ذكرنا وجوب كون الإمام عليه‌السلام معصوما عن الصغائر والكبائر عمدا وسهوا بل عن الأخلاق الذميمة والعيوب والأمراض المزمنة ، وغير ذلك ممّا يوجب تنفّر الطباع المنافي للغرض ممّا ذكرنا في النبوّة ، ووجوب اتّصافه بالكمالات والأخلاق الحميدة وكرامة الآباء والأمّهات وعلوّ النسب وشرافة القبيلة وتفرّده في الكمالات بل ذلك في الإمام أهمّ ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صار سببا لحصول الكمالات للأمّة ، فصعب عليهم امتثال من ليس بمتفرّد في الكمالات ، بل يستقبح ذلك.

وما ذكرنا وإن لم يكن داخلا في حقيقة العصمة لكنّه يجب تحقّقه ، فلا بدّ من حمل العصمة على معنى يشمله ، فيقال : إنّه مثل غريزة مانعة عن حدوث الذنب مطلقا وموجبة للتنزّه عن النقائص مطلقا والاتّصاف بالكمالات كذلك. وهذا المعنى واجب الحصول ؛ ليحصل التقريب إلى الطاعات والتبعيد عن المعاصي ، وذلك هو اللّطف الواجب على الله.

وممّا ذكرنا يظهر وجه ما سيأتي من أنّه يجب أن يكون الإمام أفضل من غيره ؛ لئلاّ يلزم تقديم المفضول أو أحد المتساويين الذي هو قبيح ، ولا يلزم الاختلاف وعدم قبول الطباع ، وأن يكون منصوصا من الله ورسوله ؛ لأنّ عصمته التي لا بدّ منها أمر مخفيّ يغفل عنه غالبا ؛ للغفلة عن دليله ، فيلزم الضلالة ، فلا بدّ من إظهار المعجزة أو تنصيص المخبر الصادق من الله ، فحيث انتفى الأوّل وجب الثاني.

والحاصل : أنّ التنصيص لطف في معرفة الإمام ، فهو واجب على الله تعالى ،

٢٢٥

ويجب على الرسول تبليغه وإظهاره وإن خفي على بعض ؛ بسبب تقصير الأمّة وعدم إيصال الشاهد منهم إلى الغائب ، فاندفع ما يقال من أنّه لو ورد نصّ لنقل إلينا ، ولما تردّد الصحابة ، ولما احتاج تحقّق الخلافة إلى البيعة ؛ إذ الصحابة لم يكونوا معصومين ، فبعضهم أنكروه لداعية الرئاسة ، وبعضهم أخفوه لتوقّعها له أو لمن ينتفع به ، أو نحو ذلك من الأغراض الفاسدة الدنيويّة ، مع أنّ الدليل العقلي إذا اقتضى وجوب التنصيص فنفيه بمثل ذلك الاحتمال ليس إلاّ من فرط التعصّب والعناد ، أو من نقص الإدراك والاستعداد ، حرسنا الله عنه بالنبيّ وآله الأمجاد.

والحاصل : أنّ الإمام عليه‌السلام لا بدّ أن يكون بشرا معصوما منصوصا أو في حكمه ، وأفضل في العلم والعمل ونحوهما ممّا له دخل في الرئاسة العامّة في أمر الدين وإتمام الحجّة على المكلّفين ردّا على العامّة العمياء ؛ لأنّ ذلك لطف واجب على الله تعالى.

مضافا إلى النقل كما قال الله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقال الله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (٢).

وقال : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٣) ، أي يختار من يشاء للنبوّة ، والإمامة لا تكون إلاّ بالإمام الذي له الرئاسة في أمر الدين والدنيا لا برأي الناس.

وقال الله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٤) ، وقال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢) يونس (١٠) : ٣٥.

(٣) القصص (٢٨) : ٦٨.

(٤) النحل (١٦) : ٤٣.

(٥) آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

٢٢٦

وعن سعد بن عبد الله قال : سألت القائم في حجر أبيه فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم ، قال : « مصلح أو مفسد؟ » قلت : مصلح قال : « هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد »؟.

قلت : بلى ، قال : « فهي العلّة أيّدتهما لك ببرهان ينقاد له عقلك؟ » ، قلت : نعم ، فذكر اختيار موسى سبعين رجلا ظنّ أنّهم من الصالحين وقد كانوا من المنافقين (١).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « عرج بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء مائة وعشرين مرّة ، ما من مرّة إلاّ وقد أوحى الله عزّ وجلّ فيها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالولاية لعليّ عليه‌السلام والأئمّة عليهم‌السلام أكثر ممّا أوحاه بالفرائض » (٢).

وعنه عليه‌السلام : « الإمام يعرّف الإمام الذي يكون من بعده » (٣). إلى غير ذلك من الأخبار.

وبالجملة فوجوب عصمة الإمام من قطعيّات مذهب الإماميّة. واحتجّ المصنّف عليه بوجوه :

منها : ما أشار إليه بقوله : « وامتناع التسلسل يوجب عصمته » ، بمعنى أنّ الإمام لو لم يكن معصوما يلزم التسلسل ، والتسلسل باطل ، فعدم كون الإمام معصوما باطل.

وجه اللزوم أنّ المحوج إلى الإمام جواز الخطإ المنافي للغرض على الأمّة في العلم والعمل ، فلو جاز الخطأ على الإمام أيضا لوجب إمام آخر وهكذا ، فيلزم التسلسل وهو باطل ؛ لما مرّ فيما تقدّم من برهان التطبيق ونحوه ، فوجب عصمة الإمام كما هو مذهب الإماميّة والإسماعيليّة ، خلافا لسائر الفرق كالأشاعرة ؛ تمسّكا

__________________

(١) « كمال الدين » ٢ : ٤٦١ و ٤٦٢ ، ح ٢١.

(٢) « الخصال » ٢ : ٦٠١ ، ح ٣.

(٣) « الكافي » ١ : ٢٧٧ ، باب أنّ الإمام يعرّف الإمام ... ح ٦.

٢٢٧

بمنع كون المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطإ على الرعيّة ، بل العمدة هو الإجماع ونحوه.

ولا يلزم منه أن يكون معصوما ، وهذا خطأ وشبهة ؛ لعدم الإجماع سيّما من جهة واحدة ، مع أنّ نحو : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (١) ، و ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (٢) ، و ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) ، كالعقل القاطع يقتضي وجوب نصب الإمام الهادي إلى الأحكام المنزّه عن الظلم والآثام.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : « ولأنّه حافظ للشرع » ، بمعنى أنّ الإمام حافظ للشرع بالتمام ، وكلّ حافظ للشرع بالتمام يجب أن يكون معصوما ، فالإمام يجب أن يكون معصوما.

أمّا الصغرى فلأنّ الشرع لا بدّ له من حافظ ؛ لئلاّ ينتفي الغرض من الخلقة ، والحافظ إمّا العقل أو النقل ـ الكتابي والنبويّ ـ أو الإجماع أو السيرة أو الإمام ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لعدم وفائه في عشر من أعشار الأحكام التفصيليّة فضلا عن تمامها كما لا يخفى على من راجع وجدانه ، وكذا الكتاب والسنّة النبويّة ؛ لمثل ما مرّ إليه الإشارة كما لا يخفى على المتتبّع في الكتاب والسنّة ؛ لأنّ آيات الأحكام ـ مع قلّتها وتكرّرها ـ كثيرا ما تكون دلالتها على وجه الإجمال ، وكثيرا ما لا يستفاد منها إلاّ بنزر يسير من الأحكام التفصيليّة وكذا السنّة النبويّة وكذا الإجماع والسيرة ؛ لكثرة الاختلاف سيّما عند أهل المذاهب الأربعة وخصوصا في الفروض الجديدة والمسائل التي لم يتعرّضها السابقون ، ولا يستفاد ممّا مرّ آنفا.

والرجوع إلى البراءة الأصليّة أو أصل البراءة ينفيه العلم بالاشتغال في الجملة ، مع أنّه يقتضي عدم وجوب بعثة الأنبياء.

__________________

(١) الرعد (١٣) : ٧.

(٢) يونس (١٠) : ٣٥.

(٣) البقرة (٢) : ١٢٤.

٢٢٨

وأمّا القياس فهو ـ مع كونه موجبا للهرج والمرج والاختلال باختلاف أهله ـ غير كاف في جميع الأحكام ، كما لا يخفى على من كان من ذوي الأفهام ، فتعيّن أن تعيها أذن واعية ، ويكون من يتلقّى من النبيّ ، ولا تخفى عليه خافية ، ويكون هاديا للأنام وهو الإمام.

وأمّا الكبرى فلأنّ غير المعصوم يمكن أن يكون مع العصيان أو الخطإ والنسيان ، وجعله حافظا للشرع مناف للغرض ومستلزم للتعبّد بما يحتمل الخطأ وهو في نفسه قبيح ، وعند إمكان التعبّد بما لا يحتمل الخطأ ترجيح للمرجوح ، فلا يكون جائزا إلاّ إذا صار ذلك القبيح بالذات حسنا بالعرض من جهة دفع الأقبح ، كالخروج عن الشريعة من باب جواز ارتكاب أقلّ القبيحين عقلا ـ كما في أمثال زماننا ـ مضافا إلى أنّ عدم العصمة توجب النفرة ، وعدم إتمام الحجّة ، والترجيح للمرجوح أو من غير مرجّح ، والأمر بطاعة من علم خطؤه في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١).

وممّا ذكرنا يظهر وجه اندفاع ما ذكره الشارح القوشجي بقوله : « وأجيب بأنّه ليس حافظا بذاته ، بل بالكتاب والسنّة وإجماع الأمّة واجتهاده الصحيح وإن أخطأ في اجتهاده ، فالمجتهدون يردّون ، والآمرون بالمعروف يصدّون ، وإن لم يفعلوا أيضا فلا نقص للشريعة القويمة » (٢).

وكذا ما ذكره شارح آخر من عدم جواز الخطإ على إجماع الأمّة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان » (٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجتمع أمّتي على الضلالة » (٤) ، لعدم الإجماع في نحو المسائل المتجدّدة مع الخطإ في معنى الرواية ، والعجب كلّ

__________________

(١) النساء (٤) : ٥٩.

(٢) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٦٧.

(٣) « الخصال » : ٤١٧ ، ح ٩.

(٤) « سنن ابن ماجة » ٢ : ١٣٠٣ ، ح ٣٩٥٠.

٢٢٩

العجب من اهتمام العقلاء سيّما العلماء في إفساد الدين لإصلاح أمر الظالمين ، ألا لعنة الله على الظالمين.

ومنها : ما أشار بقوله : « ولوجوب الإنكار لو أقدم على المعصية ، فيضادّ أمر الطاعة ويفوت الغرض عن نصبه » ، بمعنى أنّ الإمام لو لم يجب كونه معصوما لجاز إقدامه على المعصية ، ولو جاز إقدامه على المعصية لوجب إنكاره ؛ لصريح نحو قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (١) ، وهو مضادّ لوجوب الطاعة الثابت بنحو قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢).

وأيضا ذلك مفوّت للغرض من نصبه ؛ لأنّ الغرض منه امتثال أوامره ، والانزجار عمّا نهى عنه ، واتّباعه فيما يفعله ، ولا يتحقّق ذلك مع الإنكار.

وأورد عليه بأنّ وجوب الطاعة إنّما هو فيما لا يخالف الشرع ، وأمّا فيما يخالفه فالردّ والإنكار وإن يتيسّر فسكوت عن الاضطرار.

وفيه أنّه مستلزم للتقييد في الأمر الواحد المطلق المتعلّق بالرسول وأولي الأمر ؛ حذرا عن لزوم استعمال اللفظ الواحد في المطلق والمقيّد وكون الرسول الذي ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ) (٣) ، ويكون شارعا مبيّنا للأحكام فاعلا لما يوجب إنكاره مع اختيار الله القادر المختار المرجوح وترك الراجح عند الأخيار والأشرار.

ومنها : ما أشار بقوله : « ولانحطاط درجته عن أقلّ العوامّ » ، بمعنى أنّه لو أقدم على المعصية ، لكان أقلّ درجة من العوام ؛ لأنّه أعقل وأعرف بقبح المعاصي وحسن الطاعات ، فصدور المعصية منه أقبح منه من العوامّ ، فيلزم من جعله رئيسا ترجيح

__________________

(١) آل عمران (٣) : ١٠٤.

(٢) النساء (٤) : ٥٩.

(٣) النجم (٥٣) : ٣.

٢٣٠

المرجوح على الراجح ، مضافا إلى حصول النفرة وعدم إتمام الحجّة.

ولمّا اختلف القائلون بالعصمة في أنّ المعصوم هل يتمكّن من فعل المعصية أم لا؟ فمنهم من زعم أنّه لا يتمكّن منه ، ومنهم من زعم أنّ المعصوم يختصّ في بدنه أو نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه على المعصية ، ومنهم من قال : إنّ العصمة هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية ، ومنهم من ذهب إلى تمكّنه منه وكونه أمرا يفعله الله تعالى بالعبد من الألطاف المقرّبة إلى الطاعات التي يعلم منها أنّه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي الأمر إلى الإلجاء ، أو ملكة نفسانيّة لا تصدر معها عن صاحبها المعاصي ، أو لطفا يفعله الله بصاحبه لا يكون له معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية ، بأن يكون لنفسه أو لبدنه خاصيّة تقتضي ملكة مانعة من الفجور ، أو يكون له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

واختار المصنّف المذهب الأخير قال : ( ولا تنافي القدرة العصمة ) بل المعصوم قادر على فعل المعصية ، وإلاّ لما استحقّ المدح على ترك المعصية ، ولا الثواب ، ولبطل الثواب والعقاب في حقّه ، بل كان خارجا عن التكليف ، وذلك باطل بالضرورة ، فيجب تعريف العصمة ـ كما مرّ ـ بأنّها ملكة نفسانيّة إلهيّة حاصلة من كمال المعرفة البالغة إلى مرتبة حقّ اليقين وكمال الفطانة الموجبة لإدراك الحسن والقبح على وجههما ، وتكون مانعة عن صدور العصيان والقبح في حالتي العمد والنسيان في تمام عمر الإنسان ، بل تكون مانعة عن صدور ما يوجب النفرة وعدم إتمام الحجّة بالنسبة إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

٢٣١

الفصل الثالث : في الأعلميّة والأفضليّة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم عصره وأفضل من غيره في العلم والعمل ونحوهما من الفضائل النفسانيّة والبدنيّة ، كالشجاعة وغيرها ، ممّا له دخل في الرئاسة العامّة في أمر الدنيا والدين ، وإتمام الحجّة على المكلّفين ودفع شبه الملحدين وإبطال إضلال المضلّين بسبب العلم بأديانهم ولغاتهم ، ونحو ذلك ممّا له دخل في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل ، فإنّ ذلك من أصول المذهب ردّا على العامّة ؛ لأنّ ذلك لطف واجب على الله تعالى ، مضافا إلى قبح تقديم المفضول ، بل عدم تعقّل أن يقال للعالم أن يتعلّم من الجاهل ؛ فإنّه ـ مع أنّه تحصيل للحاصل ـ غير معقول ، وكذا تقديم أحد المتساويين ؛ لمثل ما ذكر ، مع أنّه يستلزم الاختلاف وعدم قبول الطباع وعدم إتمام الحجّة.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف بقوله : ( وقبح تقديم المفضول معلوم ولا ترجيح في التساوي ) ويطابقه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) (١) ، وقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٢) ، وقوله

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٦٨.

(٢) الأنبياء (٢١) : ٧.

٢٣٢

تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (١) ، إلى غير ذلك من الأدلّة النقليّة.

فإن قلت : إذا كان المفضول موصوفا بصفات يصلح بسببها لأن يقوم بأمر الإمامة لا يقبح تقديمه لا عقلا ولا شرعا.

وأيضا الإمامة منصب من المناصب الشرعيّة كالإمامة في الصلاة ، فلو امتنعت إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لكانت إمامة المفضول في الصلاة ممتنعة مع وجود الفاضل ، والتالي باطل بالإجماع.

بيان الملازمة : أنّ الامتناع إنّما كان لقبح تقديم الأدنى على الأعلى والنفرة المانعة من المتابعة ، ويلزم من ذلك امتناع تقديم المفضول على الفاضل في الصلاة.

وأيضا لو لم يوجد من أهل الإمامة إلاّ شخصان أحدهما أفقه ، والآخر أعرف بالسياسة وأمور الإمامة فإمّا أن يجعل كلاّ منهما إماما أو يجعل أحدهما دون الآخر أو لا هذا ولا ذاك.

والأوّل محال بالاتّفاق ، والثالث أيضا باطل ؛ لامتناع خلوّ الزمان عن الإمام ، فلم يبق إلاّ القسم الثاني ، وأيّا ما كان يلزم [ تقديم ] المفضول بالنسبة إلى ما اختصّ به الآخر.

قلت : هذا خروج عن المفروض ؛ لأنّ الأعلم والأفضل الذي لا بدّ من إيجاده من باب اللطف الواجب على الله ـ كما مرّ ـ لا بدّ أن يكون متّصفا بجميع الصفات الكاملة مع الزيادة على غيره في العلم والعمل ونحوهما ـ كما أشرنا ـ فيندفع الأوّل والثالث.

وأمّا الثاني فدفعه واضح ؛ لكمال الفرق بين الرئاسة العامّة على الكلّ في العلم والعمل وبين الرئاسة الخاصّة ، كالسلطنة والإمامة في الصلاة ، فهو قياس مع الفارق ، وهو باطل عند أهله ، مضافا إلى أنّه اجتهاد في مقابل نصّ القرآن.

وصل : هذا الاعتقاد من أصول المذهب ـ كما أشرنا إليه ـ والمخالف كالعامّة بريء منه أصل المذهب.

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٩.

٢٣٣

الفصل الرابع : في المنصوبيّة والمنصوصيّة

بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوبا منصوصا من الله ورسوله ، كما أشرنا إليه بقوله : ( والعصمة تقتضي النصّ وسيرته ). بمعنى أنّ العصمة المعتبرة في الإمام من الأمور الخفيّة التي لا يعلمها إلاّ عالم السرائر ، فيجب أن يكون الإمام منصوصا من عند الله.

وأيضا سيرة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريقته تقتضي التنصيص بالإمام ؛ لأنّه كان أشفق للأمّة من الوالد لولده ؛ ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئيّة مثل ما يتعلّق بالاستنجاء وقضاء الحاجة ، وكان في غاية الحرص في الهداية ، وكان إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين ، فمن هو بهذه المثابة من الإشفاق كيف يهمل أمرهم فيما هو أهمّ المهمّات ولا ينصّ على من يتولّى أمرهم بعده؟!

فيجب أن يكون الإمام منصوصا عليه ـ كما هو مذهب الإماميّة ـ خلافا للعامّة والعبّاسيّة والزيديّة وأمثالهم ؛ فإنّ المحكيّ عن العبّاسيّة : أنّ الطريق إلى تعيين الإمام النصّ أو الميراث. وعن الزيديّة : أنّ تعيين الإمام بالنصّ أو الدعوة إلى نفسه. وعن باقي المسلمين : أنّ الطريق إنّما هو النصّ أو باعتبار أهل الحلّ والعقد بمعنى أنّ اختيار الأمّة أيضا طريق في إثبات الإمامة. (١)

__________________

(١) انظر « شرح المقاصد » ٥ : ٢٣٢ وما بعدها ؛ « الأربعين في أصول الدين » للفخر الرازي : ٢٥٥ وما بعدها.

٢٣٤

ومختار الإماميّة وأكثر طوائف الشيعة : أن لا طريق غير التنصيص من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام بالعقل والنقل :

أمّا العقل ؛ فلأنّ التنصيص لطف واجب ولو بدلا عن نحو المعجزة فيكون واجبا.

وأمّا النقل ؛ فلقوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ) (٢).

وعن سعد بن عبد الله قال : سألت القائم في حجر أبيه فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم ، قال : « مصلح أو مفسد؟ » قلت : مصلح ، قال عليه‌السلام : « هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ ».

قلت : بلى ، قال عليه‌السلام : « فهي العلّة أيّدتها لك ببرهان ينقاد له عقلك؟ » ، قلت : نعم ، فذكر اختيار موسى سبعين رجلا ظنّ أنّهم من الصالحين وقد كانوا من المنافقين (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « عرج بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء مائة وعشرين مرّة ما من مرّة إلاّ وقد أوصى الله عزّ وجلّ فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالولاية لعليّ عليه‌السلام والأئمّة عليهم‌السلام أكثر ممّا أوصاه بالفرائض » (٤).

وعنه عليه‌السلام : « الإمام يعرّف الإمام الذي يكون من بعده » (٥). إلى غير ذلك من الأخبار.

والحاصل : أنّ الإمام له حقوق خمسة لا بدّ للمكلّف أن يعرفها :

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٦٨.

(٢) آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) « كمال الدين » ٢ : ٤٦١ ، ح ٢١ ، بتفاوت في بعض الألفاظ.

(٤) « الخصال » ٢ : ٦٠١ ، ح ٢.

(٥) « الكافي » ١ : ٢٧٧ ، باب أنّ الإمام يعرّف الإمام الذي يكون بعده ، ح ٦.

٢٣٥

الأوّل : العصمة بمعنى كونه صاحب ملكة إلهيّة مانعة من صدور العصيان والقبح في حالتي العمد والنسيان في تمام عمر الإنسان من جهة كمال الفطانة والمعرفة البالغة إلى مرتبة حقّ اليقين المانعة عن الغفلات ، كما أنّ عين اليقين مانعة عن الخطرات دون الغفلات ، وعلم اليقين مانع عن الشبهات دون الخطرات ، فلا يصدر من صاحب العصمة الكاملة العصيان والنسيان ، بل ترك الأولى أيضا.

الثاني : الأعلميّة والأفضليّة في العلم والعمل وكون الإمام عالما بالأحكام والأحوال والأديان وكيفيّة حفظ الدين ودفع الكافرين ورفع شبه المبطلين ودعوة الناس إلى الحقّ المبين.

الثالث : المنصوبيّة والمنصوصيّة ، بمعنى كون الإمام ذا رئاسة إلهيّة على وجه التنصيص من الله ورسوله من غير أن تكون رئاسة خلقيّة.

الرابع : ما يستفاد من قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) ، من وجوب المودّة والمحبّة بالحبّ الربّاني لا الحيواني والشهواني والإنساني والإحساني ، بمعنى جعله كالرأس وإفداؤه بنفسه وأبيه وأمّه وأخيه وعشيرته وأهله وعياله وماله وحاله ، كإفداء الرأس باليد ونحوها عند نزول سهم البلاء وجعل غيره هدفا ليسلم كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في مقام الإرشاد : « بأبي أنتم وأمّي ونفسي ... » (٢) إلى آخره.

الخامس : فرض الطاعة وكونه مفترض الطاعة في الدين والدنيا والمال والحال والأهل والعيال ، كما يستفاد من نحو قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ

__________________

(١) الشورى (٤٢) : ٢٣.

(٢) « الأنوار اللاّمعة في شرح الزيارة الجامعة » : ٢٦ و ١٩٣.

(٣) النساء (٤) : ٥٩.

٢٣٦

بَعْضاً ... ) (١) ، ( أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (٢) ، كما أن تلك الحقوق في كلّ واحد من أئمّتنا ، ويزيد مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بحقوق ثلاثة :

الأوّل : الإمارة بكونه صاحب لقب أمير المؤمنين من جانب الله.

[ الثاني : ] الخلافة بلا فصل من رسول الله.

والثالث : الولاية خاصّة الخاصّة المنتقلة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتعلّقة بجميع من كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه رئاسة حتّى فاطمة عليها‌السلام والحسنين عليهما‌السلام ، التي تستفاد من قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) (٣) إلى آخره.

مضافا إلى الولاية التي هي عامّة العامّة ، والعامّة التي بجميع أولياء الله بسبب الرئاسة على أنفسهم والعامّة للمجتهدين والخاصّة لأئمّة الدين.

نعم ، الأخصّ مختصّة بالرسول ؛ إذ الرئاسة بالأصالة لا بالنيابة. وبالجملة فـ ( هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٤).

وصل : هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب ومنكره بريء منه أصل المذهب.

__________________

(١) النور (٢٤) : ٦٣.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٣٦.

(٣) المائدة (٥) : ٥٥.

(٤) يوسف (١٢) : ١٠٨.

٢٣٧

الفصل الخامس في الاثني عشريّة

بمعنى وجوب الاعتقاد بأنّ الأئمّة اثنا عشر : عليّ بن أبي طالب مع أولاده الأحد عشر المعصومين المذكورين ، الذين يجب مودّتهم ويفترض طاعتهم على المكلّفين على الترتيب المذكور مع وجود الغائب المستور ، وظهوره بعد ذلك لإطفاء نائرة الكفر والطغيان ، وإعلاء دائرة الإسلام والإيمان ، وينبغي إثبات إمامة كلّ واحد من الأئمّة بالوجوه الخمسة : طريقة العصمة ، والنصّ ، والأعلميّة ، وكونه صاحب المعجزة المصدّقة ، والموعظة الحسنة.

وبالجملة ، ففي هذا الفصل مطالب عديدة :

المطلب الأوّل :

في إثبات إمامة مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام

بكلّ واحد من الوجوه الخمسة

فنقول : اعلم أنّه اختلف أهل الإسلام في أنّ خليفة الرسول بلا فصل هل هو أبو بكر بن أبي قحافة ـ كما عليه جمهور أهل السنّة ـ أو العبّاس ـ كما حكي (١) عن

__________________

(١) راجع « شرح المقاصد » ٥ : ٢٦٣.

٢٣٨

قليل منهم ـ أو عليّ بن أبي طالب المسمّى بـ « عبد مناف » أو عمران بن عبد المطّلب المسمّى بـ « شيبة الحمد » ، وقد لقّبه الله تعالى في الغدير بـ « أمير المؤمنين » حيث قال : « سلّموا على عليّ بأمير المؤمنين » (١) ، وأوّل من سلّم عليه بهذا اللقب عمر حيث قال : « بخّ بخّ لك يا عليّ صرت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (٢).

وقد روي أنّه لا يقبل هذا اللقب غيره إلاّ إذا كان من الزنى (٣).

وروي أيضا أنّه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام أنّه هل يجوز أن يسلّم على قائم آل محمّد بأمير المؤمنين؟ قال : « لا ، ذاك اسم سمّى الله به أمير المؤمنين لم يسمّ به أحد قبله ولا يسمّى به بعده إلاّ كافر ».

فسئل : كيف يسلّم عليه؟ قال : « قولوا : السّلام عليك يا بقيّة الله » ، فقرأ ( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (٤) » (٥).

ولهذا ذهب بعض المجتهدين ـ على ما حكي عنه ـ إلى عدم جواز إطلاقه على غيره ولو كان من المعصومين ، ولكن حكي عن آخر تقييد المنع بغير المعصوم.

وألقابه كثيرة.

وقد حكي عن بعض علماء أهل السنّة أنّه قال : وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس من الذين يتيسّر حضورهم الموصوفين بصفات الشهود كإمامة الصدّيق ، أو لبعضهم كإمامة الفاروق. (٦)

وحكي عن بعضهم أنّه قال : لا ينعزل الإمام بالفسق والجور ؛ لأنّه قد ظهر الفسق

__________________

(١) « الإرشاد » للمفيد ١ : ٢٨ ، الرقم ٤.

(٢) « فرائد السمطين » ١ : ٧٧.

(٣) جاء في الروايات : « يا عليّ لا يبغضكم إلاّ ثلاثة : ولد زنى ومنافق ومن حملت به أمّه وهي حائض ». انظر « بحار الأنوار » ٢٧ : ١٥١ باب أنّ حبّهم عليهم‌السلام علامة طيب الولادة من كتاب الإمامة.

(٤) هود (١١) : ٨٦.

(٥) « الكافي » ١ : ٤١٢ ، باب نادر ، ح ١.

(٦) انظر في ذلك كتاب « الأحكام السلطانيّة » للماوردي : ٧ وما بعدها.

٢٣٩

وانتشر الجور من الأئمّة والأمراء بعد الخلفاء ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم. (١)

وعن بعضهم أنّه قال : لا يحدّ الإمام حدّ الشرب ؛ لأنّه نائب من الله. (٢)

ولا ريب في فساد جميع ذلك كما يظهر ممّا سبق. وبالجملة فالحقّ هو المذهب الثالث.

لنا : كلّ واحد من الطرق الخمسة فهو في فصول خمسة :

فصل [١] : في طريق العصمة.

فنقول : أمّا طريقة العصمة فلأنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ؛ لما مرّ ، وليس بين الثلاثة معصوم إلاّ عليّ بن أبي طالب بالاتّفاق من الشيعة والعامّة ؛ ولأنّ عدم عصمة غيره قطعيّ ، فلو لم يكن هو أيضا معصوما لزم عدم تحقّق الإمام المنافي لوجوب اللطف ، ولا أقلّ من كون عصمته قطعيّا وعدم كون عصمة غيره كذلك ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٣).

ويؤيّد ذلك أنّ فواتح السور إذا حذفت مكرّراتها تكون مشتملة على حروف « صراط عليّ حقّ نمسكه » أو « عليّ صراط حقّ نمسكه » سيّما أنّ غيره كان مسبوقا بالكفر فكان ظالما ، فلا يكون قابلا للإمامة كما قال تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٤) ؛ إذ المراد من كان ظالما سابقا وإلاّ لم يتطابق السؤال والجواب ؛ لقبح سؤال إبراهيم عن جعل الله من كان ظالما إماما في حال ظلمه ؛ لأنّه لا يتصوّر عن عاقل فضلا عن رسول عظيم ، بخلاف عليّ بن أبي طالب فإنّه أسلم حين الصبا فلم يسبق بالكفر.

__________________

(١) « روضة الطالبين » للنووي ٥ : ٤١٠ ؛ « تفسير ابن كثير » ١ : ٧٦ ؛ « المبسوط » للسرخسي ٩ : ١٠٥.

(٢) « روضة الطالبين » للنووي ٥ : ٤١٠ ؛ « تفسير ابن كثير » ١ : ٧٦ ؛ « المبسوط » للسرخسي ٩ : ١٠٥.

(٣) الأنعام (٦) : ٨١.

(٤) البقرة (٢) : ١٢٤.

٢٤٠