البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

فجاءه جبرئيل فأخبره بذلك وقال : إنّ الله يأمرك أن تقعد حيث يقعدك ، وتأكل ممّا يطعمك ، فإنّه مظهر عليك آياته ، ومهلك أكثر من تواطأ على ذلك فيك ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقعد على البساط ، وقعدوا عن يمينه وشماله وحواليه ، ولم يقع في الحفيرة ، فتعجّب ابن أبيّ ونظر وإذا قد صار ما تحت البساط أرضا ملتئمة ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّا عليه‌السلام وصبحهما بالطعام المسموم ، فلمّا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع يده في الطعام ، قال : يا عليّ ، ارق هذا الطعام بالرقية النافعة.

فقال عليّ عليه‌السلام : بسم الله الشافي ، بسم الله الكافي ، بسم الله المعافي ، بسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

ثمّ أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ ، ومن معهما حتّى شبعوا ، ثمّ جاء أصحاب عبد الله بن أبيّ وخواصّه فأكلوا فضلات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحبه وظنّوا أنّه قد غلطوا ولم يجعل فيه سموما لمّا رأوا محمّدا وصحبه لم يصبهم مكروه ، وجاءت بنت عبد الله بن أبيّ إلى ذلك المجلس المحفور تحته المنصوب فيها ما نصب ، وهي كانت دبّرت ذلك ونظرت فإذا ما تحت البساط أرض ملتئمة ، فجلست على البساط واثقة فأعاد الله الحفيرة بما فيها فسقطت فيها وهلكت.

فوقعت الصيحة ، فقال عبد الله بن أبيّ : إيّاكم أن تقولوا : إنّها سقطت في الحفيرة ، فيعلم محمّد ما كنّا قد دبّرنا عليه ، فبكوا وقالوا : ماتت العروس ـ وبعلّة عرسها كانوا دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومات القوم الذين أكلوا فضلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبب موت الابنة والقوم ، فقال ابن أبيّ : ابنتي سقطت من السطح ولحق القوم تخمة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أعلم بما ذا ماتوا ، وتغافل عنهم » (١).

إلى غير ذلك من المعجزات التي أشرنا إلى بعضها في باب النبوّة.

__________________

(١) المصدر السابق ١٧ : ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ، ح ١٤.

٢٠١
٢٠٢

( المقصد الخامس )

في الأصل

الرابع وهو ( الإمامة )

٢٠٣
٢٠٤

( المقصد الخامس )

في الأصل الرابع وهو ( الإمامة )

قال الشارح القوشجي : « وهي رئاسة عامّة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله . وبهذا القيد خرجت النبوّة ، وبقيد العموم مثل القضاء والرئاسة في بعض النواحي ، وكذا رئاسة من جعله الإمام نائبا عنه على الإطلاق » (١).

وقال العلاّمة رحمه‌الله في الألفين : « الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامّة في أمور الدين والدنيا بالأصالة في دار التكليف ونقض بالنبيّ ، وأجيب بوجهين :

الأوّل : التزام دخوله في الحدّ ؛ لقوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) (٢).

والثاني : تعديل قولنا : « بالأصالة » بالنيابة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في إقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملّة ، على وجه يجب اتّباعه على الأمّة كافّة » (٣).

والأولى أن يقال : إنّ الإمامة رئاسة إلهيّة عامّة على وجه النيابة الخاصّة للبشر المعصوم المنصوب المنصوص الأعلم بعد الرسول الأكرم عن خاتم النبيّين على

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٦٥.

(٢) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٣) « الألفين » : ١٢.

٢٠٥

جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

وهي بحسب المعنى التصوّري عبارة عن كون البشر المنصوب المعصوم الأعلم بعد الرسول الأكرم رئيسا بالرئاسة الإلهيّة العامّة ، على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين.

وبحسب المعنى التصديقي عبارة عمّا يجب تصديقه في الجنان وإقراره باللسان ، وهو أنّ حجّة الله الأعظم ، المعصوم ، المنصوب ، المنصوص ، الأعلم ، الإمام المفترض مودّته وطاعته الأعلى أشرف الأمم ، النور الساطع والبرهان القاطع ، خليفة الله الرابع ، أسد الله الغالب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي هو أمير المؤمنين ، والخليفة بلا فصل لخاتم النبيّين ، والوليّ بالولاية الخاصّة الخاصّة لربّ العالمين مع الأحد عشر من أولاده الطاهرين المعصومين الأعلمين المنصوبين المنصوصين بعد خاتم النبيّين رؤساء وأئمّة بالحقّ ، مع الترتيب على المكلّفين بتنصيص الله وسيّد المرسلين ، ويجب عليهم مودّتهم وإطاعتهم في أمر الدنيا والدين :

والإمام الأوّل : عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

والثاني : ولده الأكبر الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام.

والثالث : ولده الآخر الإمام الحسين بن عليّ عليه‌السلام.

والرابع : الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه‌السلام.

والخامس : الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام.

والسادس : الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام.

والسابع : الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام.

والثامن : الإمام عليّ بن موسى بالرضا عليه‌السلام.

والتاسع : الإمام محمّد بن عليّ التقيّ عليه‌السلام.

والعاشر : الإمام عليّ بن محمّد النقيّ عليه‌السلام.

والحادي عشر : الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليه‌السلام.

٢٠٦

والثاني عشر : الإمام محمّد بن الحسن المهديّ ، وهو آخر الأئمّة وصاحب الزمان عليه‌السلام ، وهو موجود ، حيّ الآن ، غائب عن أعين الأعيان ، وسيظهر بإذن الله المنّان ، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا وظلما ، عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه.

ووجهه ـ إجمالا ـ : أنّه لمّا ثبت أنّ بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطف يتمّ به النظام ، ويبقى به لأمر الدين والدنيا قوام ، وأنّه لا يبقى إلى آخر التكليف ، بل يجري عليه الموت كما قال تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (١) ، وجب بمقتضى اللطف والحكمة نصب خليفة ورئيس يقوم مقامه ، ويحفظ شريعته وأحكامه ؛ لئلاّ يبطل الحجّة.

ويجب أن يكون النائب كالمنوب عنه في العلم والعصمة والتنزّه عمّا يوجب النفرة وعدم إتمام الحجّة ؛ لأنّ ذلك أيضا لطف واجب في الحكمة ، ويجب على العباد الطاعة ، ولا يعلم ذلك إلاّ بالمعجزة أو بتنصيص صاحب المعجزة ، ولم يكن بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمّة إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ـ المماثل له في كلّ فضيلة إلاّ النبوّة ـ وأولاده المذكورون بلا ريبة ، فيجب على الله تعالى بالوجوب العقليّ نصبهم ؛ حفظا للشريعة ، وإتماما للحجّة وإبقاء القائم المنتظر الذي سيظهر بمقتضى الحكمة ، ففي هذا الأصل ـ الذي هو أيضا من الأصول ـ يقع الكلام في خمسة فصول :

الأوّل : في ثبوت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين في أمر الدنيا والدين ، بثبوت الرئاسة ووجوب الطاعة إمكانا وفعلا في الجملة ، بل ثبوتهما في الجملة لأمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي به إكمال الدين كما نصّ به القرآن المبين ، وهذا الاعتقاد من أصول الدين ، فالمخالف ـ كالخوارج ـ خارج عن الدين.

الثاني : في العصمة ، بمعنى أنّ الإمام عليه‌السلام يجب أن يكون معصوما ، وهو من أصول

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٣٠.

٢٠٧

المذهب ردّا على العامّة (١).

الثالث : في المنصوصيّة ، بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوبا منصوصا من الله ورسوله ، وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة (٢).

الرابع : في الأعلميّة ، بمعنى أنّ الإمام يجب أن يكون أعلم عصره في الأحكام الشرعية ، بل الأديان الإلهيّة والأعيان الخارجيّة والأحوال الواقعيّة ولغات المحاورات العرفيّة ؛ ليحصل إتمام الحجّة ، وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة (٣).

الخامس : في الاثني عشريّة ، بمعنى أنّ الأئمّة اثنا عشر : عليّ بن أبي طالب وأولاده عليهم‌السلام الأحد عشر على الترتيب المذكور مع وجود القائم الغائب المستور وظهوره بعد ذلك لإطفاء نائرة الكفر وإعلاء دائرة الإسلام.

وهو أيضا من أصول المذهب ردّا على العامّة وأمثالهم من الشيعة غير الاثني عشريّة (٤) ، فإنّهم أيضا خارجون عن المذهب الحقّ ، فإنّ الحقّ مع الاثني عشريّة القائلين بأنّ الأئمّة اثنا عشر ، وهم الأئمّة المعصومون المنصوبون المنصوصون الذين هم أعلم أهل عصرهم ، ويجب مودّتهم وإطاعتهم على المكلّفين ، وأوّلهم عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام على وجه الخلافة بلا فصل لخاتم النبيّين مع الولاية الخاصّة من غير زيادة ونقيصة ، وهذا هو مذهب الموالي على خلاف الناصب المفرّط القالي والمفرط الغالي اللذين يكونان من الكافرين.

ولهذا يكفّر من قال في بيان ما ورد من أنّ سيّدنا محمّدا ووصيّه عليّا أوّل الخلق وعلّة الموجودات ، وأمّا العلّيّة فهي فاعليّة كما ورد : « نحن صنائع الله والخلق بعد

__________________

(١) انظر « شرح المقاصد » ٥ : ٢٤١ و ٢٤٩.

(٢) المصدر السابق : ٢٤١ و ٢٥٣.

(٣) المصدر السابق : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٤) المصدر السابق : ٢٦٧ ـ ٢٩٠.

٢٠٨

صنائع لنا » (١) مع إثبات سائر أنواع العلّة أيضا ، فإنّ ذلك يقتضي إثبات الألوهيّة والربوبيّة لهما بل سائر الأئمّة الطاهرين كما هو مفاد سائر كلماته ، وذلك غلوّ وإنكار لضروري الدين ، فيكون من الكافرين.

ومثله ما حكي عن بعض من تبعه من أنّه قال ـ في بيان وجه ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : « عرفت ما كان وما يكون » (٢) ـ : « إنّ الموجودات كلّها ـ بسماواتها وأرضها وعرشها وكرسيّها وملائكتها وجنّها وحيوانها ونباتها وجمادها ، وكلّ ما يحصل من قرانها وأوضاعها وجميع ما يرى وما لا يرى ، ومن يتقلّب في الجنّة والنار وحقيقتهما وحقائق الأنبياء وسائر ما خلق الله عزّ وجلّ كلّها ـ على العموم الاستغراقي الحقيقي بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام نسبة أعمالك وحركاتك من قيامك وقعودك وكلامك بالنسبة إليك ، فكلّ الوجود آثاره وأعماله وظهوراته وشئوناته بالاختيار ، كما أنّك تقوم وتقعد وتتكلّم وتسكت ، لكنّه ليس مستقلاّ فيها ، وقد ظهرت منه هذه الأعمال والوجودات كلّها بسرّ الأمر بين الأمرين ، فهو عليه‌السلام حامل اللواء والذات في الذوات للذات ، فالعالم بيته الذي بناه بقدرة الله تعالى وكلّ ما في العالم آلات البيت التي أحدثها على حكم المقتضيات والأوضاع ، أنشأ مادّتها بالله تعالى باختراعه لا من شيء ، وصورتها لا من شيء فهو ـ روحي فداه ـ صاحب البيت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخره وسيّده ، والله تعالى من ورائهم محيط.

فظهرت قدرة الله فيهم فتحمّلوا أوامره ونواهيه وأحكامه الوجوديّة والشرعيّة ، كما قال في الحديث القدسي : « ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن » (٣) ، فهم وسعوا جميع أحكام الربوبيّة ، فظهرت لهم أحكامها ، ولمّا تمحّضوا

__________________

(١) « جوامع الكلم ، الرسالة الرشتيّة » : ١٥٧ ؛ « بحار الأنوار » ٣٣ : ٥٨.

(٢) لم نعثر عليه فيما لدينا من المصادر.

(٣) حديث قدسي رواه المجلسي في « بحار الأنوار » ٥٥ : ٣٩.

٢٠٩

في العبوديّة ودكّوا جبال الإنّيّة بلغوا مقام الحديدة المحميّة ، فصار فعلهم فعل الله ، وقولهم قول الله ، وحكمهم حكم الله ، وأمرهم أمر الله ، ونهيهم نهي الله ـ إلى أن قال : ـ ولمّا كانت الأشياء متقوّمة بهم ومبتدئة بهم وصادرة عنهم عليهم‌السلام وهم لا ينظرون إليهم نظر الاستقلال فصارت التعبيرات تختلف بالنسبة إليهم عليهم‌السلام فمرّة يعبّر عنهم باليد ، ومرّة بالقدرة ، ومرّة بالعلم ، ومرّة بالاسم ، ومرّة بالتوحيد ، ومرّة بركن التوحيد ، ومرّة بالجلال ، ومرّة بالجمال ، ومرّة بالعظمة ، ومرّة بالرحمة ، ومرّة بالألوهيّة ، ومرّة بالهويّة ، ومرّة بالوجه ، ومرّة بالجنب ، ومرّة بالاسم ، ومرّة بالمسمّى ، ومرّة بالمعنى وهكذا سائر التعبيرات.

ومرجع كلّ ذلك إلى ما ذكرنا لك من سرّ الأمر بين الأمرين ، فإذا صحّ أنّ الوجودات كلّها آثارهم الصادرة عنهم بالله عزّ وجلّ فوجودها عندهم كالنقطة في الدائرة ، ولا شكّ أنّ المؤثّر محيط وعالم بجميع جهات أثره ممّا أحدثه وممّا يحدثه فيما بعد ، كلّ ذلك حاضر عنده موجود لديه ، كما أنّك تعلم ما تريد أن تصنع فيما بعد من آثارك إلاّ أنّه أعطاهم قدرة كلّيّة جامعة عامّة شاملة وأعطاك قدرة جزئيّة ضعيفة ، فأنت أثر الوليّ كما أنّ قيامك أثرك ، فأنت أثر بالنسبة إليه كما أنّ قيامك ذات بالنسبة إلى صفاته وأحواله العارضة له ، كما أنّك تعمل بالأمر بين الأمرين أعمالك ، كذلك الوليّ عليه‌السلام علمه السماوات والأرض وما كان وما يكون إلى يوم القيامة إلى ما لا نهاية له ؛ لأنّه وجه الله الذي لا تعطيل له في كلّ مكان ، ويده المبسوطة بالبرّ والامتنان ، ورحمته الواسعة ، وقدرته الكاملة الشاملة ، فيعلم ما يكون حين ما كان قبل أن يكون. انتهى. ـ إلى أن قال ـ : فالمستقبل عندهم عين الماضي والماضي عين الحال ، ومعنى ذلك رفع الماضي والحال والاستقبال ، فالوقت الذي عرفوا القيامة الكبرى ـ مثلا ـ هو الوقت الذي عرفوا وجود آدم أبينا عليه‌السلام ؛ لأنّ زمانهم سرمد بالنسبة إلى الأنبياء ـ إلى أن قال ـ : فالأشياء كلّها في جميع أحوالها حاضرة لديهم

٢١٠

معلومة لهم » (١). انتهى ما أردنا نقله.

ولا يخفى ما فيه على من لاحظ عقله لاقتضائه الغلوّ بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنكار ما هو ضرورة الدين ، ومثله ما قاله في موضع آخر : « بل الموجودات الكائنة من العينيّة والشهوديّة كلّها متقوّمة بتخيّلات الإمام وتصوّراته ، إذا سكن عنهما انعدم العالم ، فتصوّرهم عليهم‌السلام علّة للكون كما أنّ تصوّرك للكتابة والقيام مثلا علّة لهما لا يمكن تحقّقهما بدونه ـ إلى أن قال ـ : قوام تلك الخزائن المنقسمة إلى تينك الخزانتين بالإمام بسرّ الأمر بين الأمرين ».

ثمّ قال : « والهاء هو المخفّف من الله وإذا أشبعت كانت هو ؛ لأنّ الضمّ بالإشباع يتولّد منه الواو و « هو » إذا نزلت في رتبة الأسماء عن رتبة المسمّى كان الاسم المقدّس العليّ ؛ ولذا قال عزّ وجلّ ـ إشارة إلى ما ذكرنا من غير الإشباع في قوله تعالى ـ : ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢) ومع الإشباع في قوله عزّ وجلّ : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) » (٣) فافهم ، فإنّ ذلك خارج عن الدين.

والحاصل : أنّ الكلام في هذا المقام بل كلّ مقام يمكن أن يقع في الإمكان الذاتي والوقوعي والوقوع ، وفي مرحلة الوقوع يمكن أن يكون المنع من جهة الدليل على العدم ، ويمكن أن يكون من جهة عدم الدليل ، فلا بدّ للمثبت المستدلّ من إقامة البرهان والدليل السالم عن المعارض أو الراجح ، فنقول فيما نحن فيه :

إنّ الكلام إن كان في الإمكان الذاتي بمعنى عدم ترتّب الاستحالة على فرض الإيجاد فالحقّ مع المثبت بالنسبة إلى عالم الأنوار ، نظير ما يدّعيه الحكماء في العقول العشرة سيّما العقل العاشر.

نعم ، ذلك محال بالنسبة إلى عالم الأجساد والأجسام ؛ لبداهة تأخّره عن كثير

__________________

(١) لم نعثر على قول هذا البعض.

(٢) الزخرف (٤٣) : ٤.

(٣) البقرة (٢) : ٢٥٥.

٢١١

من المخلوقات ، فيلزم من القول بالعلّية تقدّم الشيء على نفسه أو تأثير المعدوم ونحو ذلك من المحالات العقليّة ، ولكن ما ذكر غير مراد وغير نافع كما لا يخفى.

وإن كان الكلام في الإمكان الوقوعي بمعنى عدم ترتّب القبح على الوقوع فللمانع أن يقول : إنّه غير ممكن ؛ لاستلزامه ما ينافي الغرض ، ونقض الغرض قبيح ؛ وذلك لأنّ جعل الله تعالى غيره علّة للخلق والرزق موجب لتوهّم ألوهيّة ذلك الغير ، وذلك كفر موجب لعدم الاستعداد لإفاضة الفيض الأخروي الذي هو الغرض من الإيجاد ، كما يستفاد من بعض الأخبار حيث يدلّ على أنّ سبب إظهار عجز الأئمّة عليهم‌السلام وتسليط الأعادي كابن ملجم عليهم مع النهي عن إيذائهم وقتلهم دفع توهّم الألوهيّة مع جهة اتّصافهم بصفات كماليّة ، مضافا إلى أنّ ذلك أيضا غير مراد وغير نافع كما لا يخفى.

وإن كان الكلام في الوقوع كما هو الواقع فللمانع أوّلا : أن يقول : إنّ ذلك خلاف ظاهر الكتاب والسنّة ؛ فإنّ الله تعالى قال : ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) ، (١) ولفظ « خالق » لا بدّ أن يحمل على الخالق بلا واسطة ؛ حذرا عن لزوم التجوّز الخاصّ أو عموم المجاز من غير قرينة ، فيستفاد كون « كلّ شيء » من المجرّدات والماهيّات البسائط والمركّبات ، وجميع أفراد الإنسان وأمثالهم مخلوقا بلا واسطة من الله حذرا عن التخصيص أو التقييد بلا دليل.

وأيضا قال الله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ ) (٢) ، و ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ) (٣) ، و ( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ) (٤) ، ونحو ذلك ممّا يدلّ ـ من جهة الاشتمال على

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٦٢.

(٢) الحجر (١٥) : ٨٦.

(٣) الذاريات (٥١) : ٥٨.

(٤) الزخرف (٤٣) : ٣٢.

٢١٢

تعريف المسند مع ضمير الفصل المفيد للحصر ونحوه ـ على عدم خالقيّة غيره تعالى ، مضافا إلى الضرورة القاضية بأنّ السماء والأرض وما بينهما ممّا خلقه الله تعالى بلا واسطة.

وعن بعض الأئمّة عليهم‌السلام كالرضا عليه‌السلام ما يدلّ على أنّ إسناد الخلق والرزق إلينا شرك ، كما روي عن الشامي ، قال : دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو فقلت له : يا بن رسول الله ، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام أنّه قال : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » ما معناه؟.

فقال : « من زعم أنّ الله تعالى يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أنّ الله عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك » (١) ، إلى آخر الحديث المذكور في محلّه.

ثانيا : أنّ عدم الدليل على مثل هذا الاعتقاد كاف في الحكم بالعدم ؛ لقوله تعالى : ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (٣) ، ونحو ذلك.

وما ينسب إلى بعض الأئمّة عليهم‌السلام ـ مع عدم صحّة سنده ـ غير علميّ معارض بالأقوى ، ولا يصحّ الاعتقاد بمثله في المسألة العلميّة ، سيّما ما يكون من أصول الدين والمذهب كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ عيسى بن مريم خلق الطير ـ كما هو المستفاد من الكتاب وغيره ـ وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أو غيره من الأئمّة عليهم‌السلام ليس أدنى منه بل أعلى ، كما هو مقتضى المذهب وبعض الأخبار ، فلم لا تجوّز الخلق بالنسبة إليه؟

قلت أوّلا : إنّ الكتاب صريح في أنّ عيسى خلق كهيئة الطير كالفخّار لا الطير ، وأمّا

__________________

(١) « الاحتجاج » ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) يونس (١٠) : ٥٩.

(٣) البقرة (٢) : ٨٠.

٢١٣

كينونيّة طيرا فهي بإذن الله وأمره وجعله.

وثانيا : إنّه اجتهاد في مقابل النصّ الصريح في أنّ نسبة الخلق إليهم عليهم‌السلام شرك.

وثالثا : إنّ المانع هنا موجود ـ كما هو المستفاد ممّا تقدّم ـ بخلاف عيسى عليه‌السلام.

ورابعا : إنّ القياس في الأحكام باطل فضلا عن الأحوال الثابتة للأعيان الخارجيّة ، مع أنّ خلق السماوات ونحوها أكبر وإن كان عليّ أعلى ، فالقياس مع الفارق.

وخامسا : إنّه غير صحيح في أصول الدين والمذهب كما لا يخفى. هذا كلّه مضافا إلى أنّ المدّعى لا بدّ له من إقامة البيّنة والبرهان أو أنّه يكفي للمنكر عدم الدليل ، فإنّ عدم الدليل دليل العدم.

وبالجملة ، فمثل هذا الاعتقاد لم يكن في الآباء والأجداد والعلماء الأمجاد ، فنقول لصاحبه : إن كان هذا هو الحقّ كان آباؤك من الكفّار وأمثال الكلاب ؛ إذ ما كان بعد الحقّ إلاّ الضلال. وإن كان باطلا فأنت كافر كالكلب أو ابن الكافر كالكلب ، وما ترضى بشيء من ذلك ، فلا ترض بهذا الاعتقاد ، ولا تكن غاليا كما لست قاليا بل كن واليا ، فإنّه وسط وخير الأمور أوسطها ، وقل في جواب من تمسّك في خالقيّة مولانا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بخالقيّة عيسى عليه‌السلام مضافا إلى النقض برفعه الله في السماء عند إرادة قتله بما أشرنا إليه ، مع أنّ عيسى كان فاعلا لهيئة الطير كالفخّار ، وكان كينونتها طيرا بإذن الله ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ ) (١) ، ثمّ قل : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٢) ، ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (٣) ، وكيف كان فنقول :

__________________

(١) النساء (٤) : ١٧١.

(٢) النساء (٤) : ١٧٤.

(٣) الأنفال (٨) : ٤٢.

٢١٤

الفصل الأوّل من فصول الإمامة :

في الاعتقاد الأوّل من الاعتقادات الخمسة

وهو أنّه يجب نصب الإمام على الله عقلا مطلقا ، وتثبيت الإمامة المطلقة لواحد من أهل الدين على وجه النيابة الخاصّة عن خاتم النبيّين على جميع المكلّفين بثبوت الرئاسة ووجوب الطاعة إمكانا وفعلا في الجملة على وجه المطلقة العامّة ، بل ثبوتهما في الجملة لعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي به إكمال الدين ، كما نطق به القرآن المبين على وجه المطلقة الخاصّة ، الذي يكون من حيث الإمكان والوقوع في الجملة من أصول الدين وإن كان من حيث الوجوب من أصول المذهب ، بمعنى أنّه يجب نصب الإمام على الله تعالى عقلا مطلقا.

خلافا لطوائف من الخوارج ، حيث يقولون بعدم وجوبه مدّعين بوجوب الخروج عليه لو ادّعى الإمامة على ما حكي عنهم ؛ ولجمهور أهل السنّة فقالوا بوجوبه على الأمّة سمعا على ما حكي عنهم ، ولجمهور المعتزلة والزيديّة فقالوا بوجوبه عليهم عقلا ، ولبعض فقال بوجوبه عند الخوف وظهور الفتن ، وأمّا مع الأمن فلا يجب ، ولآخر فقال بالعكس.

لنا : أنّ وجود الإمام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم إمكانه بسبب ختم النبوّة مع بقاء التكاليف الشرعيّة ـ سيّما ما يوجب اجتماع الناس وازدحامهم كسدّ الثغور وتجهيز

٢١٥

الجيوش للجهاد والدفاع ونحو ذلك ممّا فيه مظنّة وقوع الفتن ـ لطف على المكلّفين ؛ إذ لا يتمّ الغرض ـ وهو الاستعداد للنعيم الأبدي ـ إلاّ به كما لا يخفى ، فهو واجب في الصورة المفروضة بدلا عن النبوّة ؛ لأنّ الوقائع غير محصورة والحوادث غير مضبوطة بحيث لا يكفي الكتاب والسنّة ، بمعنى أنّه لا يكفي ـ كما نشاهد ـ أنّ فرق الأمّة ثلاث وسبعون ، وكلّهم يقرءون القرآن ، ويزعم كلّ فريق أنّه على الحقّ ، فلو كان القرآن في رفع الحيرة كافيا لما وقع ذلك ، فلا بدّ من إمام منصوب من قبل الله المتعال معصوم عاصم عن الضلال لو فقد المانع ، ويحصل التمكّن من الامتثال لقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

والاعتراض بإمكان حصول اللطف من جهة كون جميع المكلّفين معصوما فلم يحتاجوا إلى الإمام من أفحش الأغلاط ؛ لامتناع ما فرض عادة ، سيّما أنّ المكلّفين الموجودين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كونهم غير معصومين ضرورة كانوا محتاجين إلى الإمام عليه‌السلام ، والعجب أنّهم يوبّخون القائل بوجود معصوم واحد ويجوّزون عصمة كلّ الناس.

وما يقال من أنّه يحتمل أن يكون مفسدة مانعة عن نصب الإمام فلا يجب على الله وإن لم تكن المفسدة معلومة لنا.

ففيه أنّ المفسدة إمّا دينيّة أو دنيويّة ، وكلاهما في نصب الإمام العادل المعصوم منفيّان.

أمّا الأولى فظاهرة ؛ لأنّه حافظ للشريعة ، ففيه مصلحة لا مفسدة.

وأمّا الثانية ؛ فلأنّها راجعة إلى مصالح العباد ومفاسدهم في الحياة الدنيويّة وحفظ النظام وإخلاله ، وليس في تلك الأمور ما يحكم العقل بكون نصب الإمام عليه‌السلام مفسدة بالنظر إليه ، بل هو جازم بأنّ سدّ مفاسد أمور المعاش لا يمكن إلاّ بوجود سلطان

__________________

(١) النحل (١٦) : ٤٣ ؛ الأنبياء (٢١) : ٧.

٢١٦

قاهر عادل عالم معصوم ، فيجب على الله تعالى نصبه ؛ لئلاّ يختلّ نظام المعاش اختلالا موجبا لاختلال نظام المعاد الموجب لعدم حصول الغرض ، الموجب لكون أفعال الله تعالى قبيحة.

فإن قلت : هذا مناف لما هو مذهبكم من جواز غيبة الإمام عليه‌السلام وجواز عدم تعرّضه للأحكام عند حضوره مرّ الأيّام ؛ إذ لا لطف مع عدم الظهور ولا مع الظهور بلا تنفيذ الأحكام.

قلت : أوّلا : إنّ المانع ـ وهو الخوف من الأعداء ـ موجود ، ويشترط في كلّ واجب عدم المانع ولو كان منعه بالنظر إلى حال العباد.

وثانيا : إنّ اللطف مع الغيبة موجود أيضا ؛ لأنّه يحفظنا ويردعنا عن الضلالة ، فمثله كمثل الشمس تحت السحاب.

وثالثا : إنّ من اعتقد وجوده وعلم أنّ غيبته بسبب الخوف ، وجوّز ظهوره في كلّ ساعة بسبب زوال المانع ، انزجر عن كثير من المعاصي ، بخلاف ما إذا اعتقد بعدم وجوده أو بعدم وجوب إيجاده ، فوجوده مع الغيبة أيضا لطف وإن كان حضوره لطفا آخر ، وكذا تنفيذ الأحكام ، فحيث حصل من جهة الأنام مانع عن الأخيرين سقطا فبقي الأوّل على حاله.

ورابعا : إنّ من انتظر ظهوره يحصل له فوز عظيم أخرويّ ، وهو أيضا لطف.

وخامسا : إنّ الرياضات الجسمانيّة والروحانيّة ـ المقتضية لحصول الاستعداد لنعيم الآخرة في حال الغيبة ـ أكثر ، ففيها لطف.

وبالجملة ، فالواجب على الله تعالى إيجاد الإمام ، وأمّا تسليطه على التصرّف في الأمور فهو باختيارنا ، لئلاّ يلزم الجبر.

فعمدة أدلّة أهل السنّة ـ على ما حكي عنهم ـ إجماع الصحابة على وجوب تعيين الإمام عليه‌السلام بعد فوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جعلوا ذلك من أهمّ الواجبات واشتغلوا عن دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا عقيب موت كلّ إمام من أئمّتهم ، كما روي

٢١٧

أنّه لمّا مات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب أبو بكر وقال : أيّها الناس من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا مات ، ومن كان

يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت ، فلا بدّ لخلافته من تقوم به فعيّنوه بآرائكم ، فقالوا : صدقت ولم يكذّبه أحد ، وهو المعنيّ من الإجماع على وجوب تعيين الإمام. (١)

ويرد عليهم أنّ أمر الخلافة إذا كان بهذه المرتبة بحيث يجوز ترك تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل هو تالي النبوّة الموجب لحفظ الشريعة وحصول السعادة والشقاوة بالمتابعة والمخالفة ، فكيف يجوز ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبيانه وإهماله وتفويضه على رأي من لا يتمكّن من إدراك الكمالات الظاهريّة فضلا عن الباطنيّة التي لا يستحقّ الخلافة بدونها ، وقد بيّن لما هو أخسّ الأمور كالتخلّي؟ ومسائل عديدة ولم يفوّضه إلى رأي الأمّة ، فكيف يتعقّل منه إهمال ما هو من أصول الدين وعدم بيانه بل عدم الأمر بتعيينه بعده ، مع أنّه مبعوث لبيان الواجبات وغيرها من أحكام الله تعالى وقد بلّغ جميعها حتّى آداب دخول الحمّام وأكل الطعام والتخلّي ونحو ذلك ، مع أنّ دأبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما قيل ـ كان نصب الخليفة حين الحياة بسبب أدنى الغيبة من المدينة ونصب الأمير لجنوده وسريّته؟ فكيف يتصوّر منه تخلية جميع الأمّة بعد وفاته بلا رئيس حافظ للشريعة؟

وأيضا فإنّ الأصحاب ـ الذين تركوا تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتغلوا بخطبة أبي بكر ـ لا اعتبار بإجماعهم.

وأيضا فإنّ أبا بكر تكلّم بكلام فيه سوء الأدب بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يخفى ، ونسب العبوديّة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمثل هذا كيف يصلح للخلافة؟! ختم الله على قلوبهم.

__________________

(١) يعدّ هذا الدليل واحدا من الأدلّة التي ساقها أهل السنّة على وجوب نصب الإمام ، وذكر التفتازاني أنّه العمدة بحيث إنّ الصحابة قدّموه وجعلوه من أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انظر « شرح المقاصد » ٥ : ٢٣٦.

٢١٨

مضافا إلى أنّ الإجماع الذي ليس فيه رئيس الملّة وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ومن يعتنى به كالعبّاس وسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار وحذيفة وغير ذلك ، ليس به اعتناء ، وقد نقل إجماعهم أنّ الجماعة المذكورين لم يكونوا حاضرين ، بل كانوا بتجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشغولين.

وأيضا فإنّ الوجوب النقلي قد ثبت بعد الإجماع بزعمهم فقبل تحقّقه بأيّ شيء استندوا حيث تركوا تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إنّ تعيين الإمام من أهمّ الواجبات ، مع أنّهم لا يقولون بالوجوب العقلي ، ولم يتحقّق حينئذ الوجوب النقلي ، فإن كان تمسّكهم بسمع آخر فلم لم ينقلوه ولم تمسّكوا بالإجماع الفاسد؟

ومن هذا ظهر بطلان مذهب المعتزلة والزيديّة ؛ لعدم تصوّر إمكان نصب الخليفة لنا. نعم ، يتصوّر منّا نصب رئيس وأمير لحفظ النظام في الدنيا ، وهذا غير مراد ، وحيث بيّنّا وجوب تعيين الخليفة على الله والرسول لم يكن للقول بوجوب نصب الرئيس المذكور وجه.

والحاصل : أنّه يجب على الله نصب الإمام عقلا ، من جهة كونه سببا لبقاء نظام المعاش والمعاد ، وكونه لطفا وإن كان في الإظهار والإنفاذ مانع ؛ ردّا على طوائف كالخوارج وجمهور أهل السنّة والمعتزلة وأمثالهم ، كما قال تعالى : ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (١) ، وقد فسّر في الخبر بأنّ كلّ إمام هاد للقوم الذي هو فيهم.

وعن الصادق عليه‌السلام « أنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمام حتّى يعرف » (٢).

وعنه عليه‌السلام عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : « لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم عليه‌السلام من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله » قيل له عليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب

__________________

(١) الرعد (١٣) : ٧.

(٢) « الاختصاص » : ٢٦٨.

٢١٩

المستور؟ قال : « كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب » (١) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض ).

اختلفوا في أنّ نصب الإمام بعد انقراض زمان النبوّة هل يجب أم لا؟ وعلى تقدير وجوبه على الله تعالى أم علينا عقلا أم سمعا؟

فذهب أهل السنّة إلى أنّه واجب علينا سمعا. وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلا.

وذهب الإماميّة إلى أنّه واجب على الله عقلا ، واختاره المصنّف. وذهب الخوارج إلى أنّه غير واجب مطلقا. وذهب أبو بكر الأصمّ إلى أنّه لا يجب مع الأمن ؛ لعدم الحاجة إليه ، وإنّما يجب عند الخوف وظهور الفتن. وذهب الغوطي وأتباعه إلى عكس ذلك ، أي يجب مع الأمن ؛ لإظهار شعائر الشرع ولا يجب عند ظهور الفتن ؛ لأنّ الظلمة ربّما لا يطيعونه وصارت سبب زيادة الفتن.

تمسّك أهل السنّة بوجوه :

الأوّل : ـ وهو العمدة ـ إجماع الصحابة حتّى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا عقيب موت كلّ إمام.

روي أنّه لمّا توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب أبو بكر فقال : يا أيّها الناس ، من كان يعبد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت ، لا بدّ لهذا الأمر ممّن يقوم به ، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله ، فتبادروا من كلّ جانب ، وقالوا : صدقت لكنّا ننظر في هذا الأمر ، ولم يقل أحد أنّه لا حاجة إلى الإمام. (٢)

الثاني : أنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وسدّ الثغور وتجهير الجيوش للجهاد وكثير

__________________

(١) « إكمال الدين » : ١١٩ ـ ١٢٠ ؛ « الأمالي » للصدوق : ١١٢.

(٢) هذه الرواية ذكرها التفتازاني في « شرح المقاصد » ٥ : ٢٣٦.

٢٢٠