البراهين القاطعة - ج ٣

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٣

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٤٥٦

الله معرضين؟

فأقرّ ـ حينئذ ـ بما ذكر من عبادتهم للأصنام بنحو ما ذكر لهم وعجبوا من اطّلاعه على ما لم يطّلع عليه أحد من أمرهم.

ثمّ قال لهم السيّد : « كيف جاز لسليمان عليه‌السلام أن يهمّ لقتل « بردعام » قبل جنايته وليس ذلك جائزا في [ شريعة موسى ولا في ] (١) شريعة غيره من الأنبياء عليهم‌السلام وكان سليمان على شريعة موسى عليه‌السلام ، ولو جاز له ما لم يكن جائزا لموسى عليه‌السلام كان النسخ جائزا ـ وأنتم تنكرون النسخ ـ؟ فسكتوا.

وقال كبيرهم ـ داود ـ : كلامكم يا سيّدي على العين وفوق الرأس.

فقال لهم السيّد : أخبروني هل كان بينكم يا معاشر اليهود خلاف ، أو في كتابكم تباين واختلاف؟ فقالوا : لا.

فقال لهم : كيف ذلك وقد اختلفتم على ثلاث فرق وتشعّب ، منها إحدى وسبعون فرقة ، وهذه السامرة طائفة عظيمة من اليهود ، تخالف اليهود في أشياء كثيرة ، والتوراة التي في أيديهم مغايرة لما في أيدي باقي اليهود؟ فقالوا : لم ندر لم وقع هذا الاختلاف ، ولكن نعلم بمخالفة كتاب سامرة لكتابنا ، وكذلك مخالفتهم لنا في أمور كثيرة.

فقال لهم السيّد : فكيف تنكرون الاختلاف وتدّعون اتّفاقكم على شيء واحد؟

ثمّ قال لهم السيّد : هل زيد في التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه‌السلام [ شيء ] أم نقص منها شيء؟

فقالوا : هي [ على ] حالها إلى الآن لا زيادة فيها ولا نقصان.

فقال لهم السيّد : كيف يكون ذلك وفي هذه التوراة التي في أيديكم أشياء منكرة ظاهرة القبح والشناعة؟

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من المصدر.

١٦١

منها : ما وقع في قصّة العجل من نسبة اتّخاذه إلها لبني إسرائيل إلى هارون النبيّ عليه‌السلام وهذه ترجمة عبارة التوراة في فصل نزول الألواح واتّخاذ العجل ، وهو الفصل العشرون من السفر الثاني : « ولمّا رأوا القوم أنّ موسى عليه‌السلام قد أبطأ عن النزول عن الجبل تحرّفوا إلى هارون وقالوا : قم فاصنع لنا آلهة يسيرون قدّامنا ، فإنّ ذلك الرجل ـ موسى ـ الذي أصعدنا من بلد مصر لا نعلم ما كان منه ، قال لهم هارون : فكّوا شفوف الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، ففعلوا ذلك جميع القوم ونزعوا أقراط الذهب التي كانت في آذانهم ، وأتوا بها إلى هارون ، فأخذها منهم وصوّرها بقالب ، وجعلها عجلا مسبوكا ، فاتّخذوه إلها وعبدوه ، ثمّ إنّه لمّا جاء موسى عليه‌السلام من ميقات ربّه ورأى ما صنع هارون عليه‌السلام وأنكر ذلك ووبّخ فاعتذر إليه ، فقال : لا تلمني على ذلك فما فعلته إلاّ خشية تفرّق بني إسرائيل.

فهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ التوراة التي عندكم محرّفة ، وأنّ فيها زيادة على التوراة التي أنزلت على موسى ؛ لأنّ مثل هذا العمل لا يصدر من جاهل غبيّ ، فكيف يصدر من مثل هارون النبيّ؟! وكيف تأتّي له ذلك الاعتذار عند موسى عليه‌السلام؟! وتفرّق بني إسرائيل ـ على تقديره ـ أهون من تصوير هارون لهذه [ الصورة ] واتّخاذها إلها يعبد ، وكيف خشي على بني إسرائيل من التفرّق ولم يخش عليهم من الشرك والكفر ، وقد قال له موسى : ( هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١)؟!

وقال داود ـ ومن معه من اليهود ـ : وأيّ مانع من ذلك وقد أعان على ذلك أيضا جبرائيل ، وقصّته مذكورة في التوراة كقصّة هارون عليه‌السلام؟.

فقال لهم السيّد : إنّ جبرائيل لم يعن على ذلك ، ولا في التوراة شيء ممّا هناك ، وإنّما السامري وجد أثر الحياة من أثر فرس جبرائيل ، فأغوى القوم بهذه الوسيلة ،

__________________

(١) الأعراف (٧) : ١٤٢.

١٦٢

وما على جبرائيل من ذلك شيء ، ولا على الله سبحانه وتعالى ؛ حيث خلق السبب الذي به وقعت الفتنة كما خلق أسباب الزنى والقتل ، وغيرهما من المعاصي ، فإنّها لا تقع إلاّ بأسباب وآلات مخلوقة ، وليس ذلك من باب الإعانة على الكفر والمعصية ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وفي الفصل الرابع من السفر الخامس في ذكر العجل وتوبيخ بنى إسرائيل على عبادته قال : « وعلى هارون توجّد الله جدّا ، وكان ينفذه فاستغفرت له أيضا في ذلك ». وهذا صريح في شناعة هذا العمل وفظاعته ، وأنّ الله قد توجّد به على هارون فكيف تقول : إنّه لا مانع منه؟.

ويقرب من هذه القصّة ما وقع في التوراة من قصّة لوط مع ابنتيه ، فإنّ في الفصل الثالث والعشرين من السفر الأوّل : أنّ لوطا لمّا صعد من صوغر وأقام في الجبل وابنتاه معه ـ وقد هلك قومه ـ قالت الكبرى منهما للصغرى : أبونا شيخ كبير وليس في الأرض رجل يدخل علينا كسبيل أهل الأرض ، تعالي نسق أبانا خمرا ونضاجعه ونستبق منه نسلا ، فسقتا [ أباهما ] خمرا في تلك الليلة ، وجاءت الكبرى فاضطجعت مع أبيها ولم يعلم بنومها وقيامها ، فلمّا كانت من الغد ، قالت الكبرى للصغرى : هو ذا ، قد ضاجعت البارحة أبي ، فنسقيه خمرا الليلة وادخلي واضطجعي ، فسقتاه خمرا في هذه الليلة أيضا ، فقامت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا قيامها ، فحملتا ابنتا لوط من أبيهما وولدت الكبرى [ ابنا ] وسمّته موآب ، هو أبو بني موآب إلى هذا اليوم ، وولدت الصغرى ابنا وسمّته عمّون ، وهو أبو بني عمّون إلى هذا اليوم.

نصّ به التوراة التي بيد اليهود وترجمتها حرفا حرفا. وهذا كذب صريح وبهتان قبيح. ومن الممتنع في العقول وقوع مثل هذا العار والشنار من رسل الله وأنبيائه بما تبقى شناعته مدى الدهر وما بقي هذا النسل.

وموآب وعمّون : أمّتان عظيمتان بين البلقاء وجبال الشراة ، وقد كانت جدّة داود

١٦٣

وبل سليمان من بني موآب ، فيكون هذا النسل كلّه عند اليهود من زنيم ؛ لعدم حصوله من نكاح صحيح ، فإنّ تحريم الأب والبنت ممّا اتّفقت عليه الشرائع والأديان ، وقد كانت الأخت محرّمة في الملل السابقة ؛ ولذا قال إبراهيم عليه‌السلام ـ لما سأله المعرّبون عن سارة ـ : إنّها أختي. حتّى لا يظنّ أنّها زوجته فيقتلوه ، ولا ريب أنّ البنت أولى بالتحريم من الأخت.

ومن المستبعد في العادة إيلاد الشيخ الطاعن في السنّ في ليلتين متعاقبتين مع السكر المفرط ـ الذي ادّعوه ـ وقد كان لوط عليه‌السلام من بعد قضيّة « سدوم قد قارب المائة ـ كما قيل ـ ثمّ كيف ظنت البنتان خلوّ العالم عن الرجال ـ مع علمهما بأنّ الهالك هم قوم لوط خاصّة ـ وقد علمتا أنّ إبراهيم عليه‌السلام وقومه في قرية جيرون ، ولم يكن بينهما وبينه إلاّ مقدار فرسخ ـ إلى أن قال ـ : ومثله ـ ممّا وقع في توراتكم يا معاشر اليهود ـ دليل على وقوع التحريف والزيادة فيها ، ولو أردنا تفصيل ما وقع في هذه التوراة [ من ] التناقض والاختلاف وما لا يليق بالباري عزّ وجلّ من الجسم والصورة والندم والأسف والعجز والعجب لطال الكلام ولم يسعها المقام. ولكن أخبروني هل تخلو شريعة من الشرائع عن الصلاة؟ فقالوا : لا ، إنّ الصلاة ثابتة في جميع الشرائع وما خلت شريعة منها.

فقال السيّد : أخبروني عن صلاتكم هذه ما أصلها؟ ومن أين مأخذها؟ وهذه التوراة وهي خمسة أسفار قد سبرناها وعرفنا ما فيها سفرا سفرا ، فلم نجد لشيء من الصلاة فيها اسما ولا ذكرا.

فقال بعضهم : قد علم أمرها من فحوى الكلام ، لا من صريحه ، فإنّ التوراة قد اشتملت على الأمر بالذكر والدعاء.

فقال لهم : ليس الكلام في الذكر والدعاء ، بل في خصوص هذه الصلاة المعهودة عندكم في ثلاث أوقات : الصبح ، والعصر ، والعشاء ، وهي التي تسمّونها : تفلات شحريت وتفلات منحات وتفلات عربيت. وأمّا الذكر والدعاء فكلاهما أمر عامّ

١٦٤

لا يختصّ بوقت دون وقت ، ولا جهة دون أخرى ، وأنتم تتوجّهون في هذه الصلاة إلى بيت المقدس ، وليس ذلك شرطا في مطلق الذكر والدعاء ، ويلزمكم في اشتراط التوجّه إلى بيت المقدس شيء آخر لا أراكم تخلصون منه. وهو أنّ بيت المقدس خطّه داود عليه‌السلام وبناه ابنه سليمان عليه‌السلام ، وكان بين موسى وسليمان أكثر من خمسمائة عامّ ، فكيف كانت صلاة موسى ومن بعده إلى زمان سليمان ، وبنائه لبيت المقدس؟!

ومثل ذلك يلزم عليكم في أمر الحجّ فإنّ الحجّ عندكم إلى بيت المقدس ولم يكن له وجود في زمن موسى ومن بعده من الأنبياء إلى زمن سليمان عليه‌السلام فهل ذلك شيء اخترعتموه أنتم من قبل أنفسكم ، أم لكم على ذلك بيّنة وبرهان؟ فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

فقالوا : قد علمنا ذلك من كلام الأنبياء من بعد موسى عليه‌السلام وكتبهم ، وتفسير علمائنا للتوراة.

فقال لهم السيّد : إنّ الأنبياء من بعد موسى كلهم على شريعته متّبعون له في أحكامه يحكمون بما في التوراة لا يزيدون عليها شيئا ولا ينقصون.

وأيضا فإنّكم ـ معشر اليهود ـ لا تجيزون النسخ في الشرائع ، وكيف جاز لكم إحداث هذه الأشياء التي لم تكن في زمن موسى عليه‌السلام؟ وكيف جاز لعلمائكم تفسير التوراة بما هو خارج عن شريعة موسى؟! وكيف ادّعيتم على الأنبياء أنّهم وضعوا هذه الشرائع الخارجة عن التوراة؟!

فبهتوا من هذا الكلام ، وتحيّروا وانقطعوا وعجبوا من غزارة علمه واطّلاعه على حالهم ، ووقوفه على مذهبهم ومقالتهم ، ثمّ جسر واحد منهم فقال : نحن نقول : ما كان في زمن موسى من صلاة فما الذي يلزم علينا أن نقول بذلك؟.

فقال لهم السيّد : أنتم الآن أقررتم أنّ الصلاة ثابتة في كلّ الشرائع ، وكيف تخلو منها شريعة موسى عليه‌السلام التي هي عندكم من أعظم الشرائع وأتمّها؟! ومع ذلك فما

١٦٥

الذي دعاكم إلى تجشّم فعل هذه الصلاة التي لم تكن في زمن نبيّكم ، ولا أنّها في كتابكم؟.

فانقطعوا عن الجواب وضحك كبيرهم ممّا اتّفق من معارضاتهم في مجلس واحد.

ثمّ قال : ليس في القرآن تفصيل للصلاة التي تصلّونها أنتم يا معشر المسلمين فكيف عرفتم ذلك مع خلوّه عنه؟

فأجاب السيّد : إنّ الصلاة مذكورة في عدّة مواضع من القرآن وقد عرفنا أعدادها وقبلتها ، وكثيرا من أحكامها من القرآن ، وعلمنا سائر أحكامها وشرائطها من البيانات النبويّة ، والأخبار المتواترة ـ إلى أن قال كبيرهم ـ : كيف لا تحكمون يا معاشر المسلمين بحكم التوراة وفي القرآن : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (١)؟.

فقال السيّد : إنّه لمّا ثبت عندنا نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسخه للشرائع السابقة ، كان الواجب علينا اتّباع هذه الشريعة الناسخة دون الشرائع المنسوخة ، فهذا مثل ما وجب عليكم من اتّباع شريعة موسى عليه‌السلام والعمل بما في التوراة دون ما تقدّمها من الأديان ، وقد بقي جملة من أحكام التوراة لم تنسخ كأحكام الجراح والقصاص وغيرهما ، فنحن نحكم بها ؛ لوجودها في القرآن لا لوجودها في التوراة.

فقال : ما معنى قوله : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (٢) ، وأيّ فرق بين النسخ والإنساء؟ وما الفائدة في نسخ الشيء والإتيان بمثله؟

فقال السيّد : الفرق بين النسخ والإنساء أنّ النسخ رفع الحكم ، وإن بقي لفظه والإنساء رفع لفظه الدالّ عليه. وإنساؤه : محوه من الخاطر بالكلّيّة.

__________________

(١) المائدة (٥) : ٤٤.

(٢) البقرة (٢) : ١٠٦.

١٦٦

والمراد بالمثل هو الحكم المماثل للأوّل بحسب المصلحة ، بحيث يساوي مصلحته في زمانه مصلحة الأوّل في زمانه ، لا أن تتساوى المصلحتان في زمن واحد ، حتّى يلزم خلوّ النسخ عن الفائدة.

فضحكوا وتعجّبوا من جودة جوابه وحسن محاوراته في خطابه.

ثمّ قال لهم السيّد : يا معشر اليهود ، لو علمنا لكم ميلا واعتناء بطلب الحقّ ، لأتيناكم بالحجج الباهرة والبراهين القاهرة ، لكنّي أنصحكم لإتمام الحجّة ، وأوصيكم بالإنصاف ، وترك التقليد واتّباع الآباء والأجداد ، وترك العصبيّة والحميّة والعناد ، فإنّ الدنيا فانية منقطعة وكلّ نفس ذائقة الموت ، ولا بدّ لعباد الله من لقاء الله تعالى ، وهو يوم عظيم ليس بعده إلاّ نعيم مقيم أو عذاب أليم ، والعاقل من استعدّ لذلك اليوم وأهمّ به وشمّر في هذه الدار لتصحيح العقائد والقيام بما كلف به من الأعمال ، وتأمّل في هذه الملل المختلفة والمذاهب المتشعّبة ، وأنّ الحقّ لا يكون في جهتين متناقضتين ، وأن لا عذر لأحد في تقليد أب ولا جدّ ، ولا الأخذ بملّة أو بمذهب بغير دليل ولا حجّة ، فالناس من جهة الآباء والأجداد شرع سواء ولو كان ذلك منجيا لنجا الكلّ وسلم الجميع ، فيلزم من ذلك بطلان الشرائع والأديان ، وتساوي الكفر والإيمان ، فإنّ الكفّار وعباد الأوثان يقتفون آثار آبائهم ولا عذر لهم في ذلك ، ولا ينجيهم التقليد من العطب والمهالك.

وذكر السيّد من النصح ـ إلى أن قال ـ : وإن كنتم لا تحبّون الناصحين.

فقالوا : كلامكم على أعيننا وفوق رءوسنا ونحن طالبون للحقّ ، راغبون في الصواب والصدق.

فقال لهم السيّد : فما الباعث لكم على اختيار مذهب اليهوديّة وترجيحها على الملّة الإسلاميّة؟

فقالوا : قد اتّفق أصحاب الملل ـ وهم اليهوديّة والنصارى والمسلمون ـ على نبوّة موسى وثبوت شريعته ونزول التوراة عليه ، واختلفوا في نبوّة عيسى ونبوّة

١٦٧

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الإنجيل والقرآن ، فنحن أخذنا بالذي اتّفق عليه الجميع ، وتركنا ما اختلفوا فيه.

فقال السيّد : إنّ المسلمين ما اعتقدوا بنبوّة موسى وصدقه في دعواه إلاّ بإخبار نبيّهم الصادق الأمين ، وذكره في كتابهم المبين ، ولو لا ذلك ما اعترفوا بنبوّة موسى وعيسى عليهما‌السلام ولا بالتوراة والإنجيل.

وأيضا فأنتم لا تقبلون شهادة النصارى والمسلمين في شيء من الأشياء ، فكيف تقبلون شهادتهم ـ وهم يشهدون عليكم بالكفر والزيغ عن الحقّ ولم يبق لكم إلاّ شهادتكم لأنفسكم وهي غير مجدية لكم نفعا؟! فتحيّروا من كلامه وتحقيقه البليغ المتين ونظر بعضهم إلى بعض ، ثمّ سكتوا طويلا.

فقال عزرا ـ وهو الشابّ الذي كان بينهم ـ : يا سيّدي أنا أقول لك كلاما مختصرا نافعا من باب النصح والمحبّة ، فاستمع وتأمّل فيه وأنصف وهو حجّة عليك.

فقال السيّد : نعم ، ما هذا المقال؟ فقال : إنّ في كتابنا : يجيء نبيّ بعد موسى إلاّ أنّه من بني إخوتنا لا من بني إسرائيل.

فقال السيّد : هذه البشارة قد جاءت بها التوراة في الفصل الثاني عشر من السفر الخامس ، وصورتها أنّه تعالى قال لموسى : إنّي أقيم لهم ـ أي لبني إسرائيل ـ نبيّا من بني إخوانهم مثلك فليؤمنوا وليسمعوا ، وإخوان بني إسرائيل هم بنو إسماعيل فإنّ إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق أخي إسماعيل ، فالنبيّ الموعود به هو من ولد إسماعيل وهذه حجّة لنا لا علينا.

فخجل عزرا ـ إلى أن قال السيّد ـ : ...

فقالوا : نحن نعتقد بنبوّة موسى بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات.

فقال لهم السيّد : هل كنتم في زمن موسى ورأيتم بأعينكم تلك المعجزات والآيات؟

١٦٨

فقالوا : قد سمعنا ذلك.

فقال لهم السيّد : أو ما سمعتم أيضا ، بمعجزات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبراهينه وآياته فكيف صدّقتم بذلك وكذّبتم بهذا ـ مع بعد ذلك عنكم وقرب هذا منكم؟! ـ ومن المعلوم أنّ السماع يختلف قوّة وضعفا بحسب الزمان قربا وبعدا ، وكلّما طال المدى كان أبعد ، وكلّما قصر كان إلى التصديق أقرب ، وأمّا نحن معاشر المسلمين فقد أخذنا بالسماعين وجمعنا بين الحجّتين ، وقلنا بنبوّة النبيّين ولم نفرّق بين أحد من رسله وكتبه ، ولم نقل ـ كما قلتم ـ : نؤمن ببعض ونكفر ببعض. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربّنا بالحقّ.

ثمّ قال لهم السيّد : لو سألكم إبراهيم عليه‌السلام وقال لكم : لم تركتم ديني وملّتي وصرتم إلى ملّة موسى ودينه فما تقولون في جوابه؟

قالوا : كنّا نقول لإبراهيم : أنت السابق وموسى اللاحق ولا حكم للسابق بعد اللاحق.

فقال لهم السيّد : فلو أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لكم : لم لم تتبعوا ديني وأنا اللاحق وموسى السابق وقد قلتم : لا حكم للسابق بعد اللاحق ، وقد أتيتكم بالآيات الظاهرات والمعجزات الباهرات والقرآن الباقي مدى الزمان ، فما كان جوابكم عن ذلك؟ فانقطع كلّ منهم وتحيّروا ولم يأتوا بشيء يذكر ، فبهت الذي كفر.

ثمّ عطف السيّد على كبيرهم وقال : إنّي أسألك عن شيء فاصدقني ، ولا تقل إلاّ حقّا. هل سعيت في طلب الدين وتحصيل العلم واليقين من أوّل تكليفك إلى هذا الحين؟

فقال : الإنصاف إنّي إلى الآن ما كنت بهذا الوادي ، ولا خطر ذلك في ضميري وفؤادي غير أنّي اخترت دين موسى عليه‌السلام ؛ لأنّه كان نبيّا ، ولم يظهر لنا دليل على نسخ نبوّته ولم نفحص عن دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ الفحص ولم نبحث عمّا جاء به حقّ البحث ونحن نتأمّل في ذلك ونأتيك أخبارنا فيما يحصل لدينا ممّا هنالك.

١٦٩

وعلى ذلك انطوى المجلس وانقطع الكلام » (١).

[ ما أفاده الفاضل القمّي ]

وقال الفاضل القمي رحمه‌الله في باب الاستصحاب : « هاهنا لطيفة يعجبني أن أذكرها من باب التفريع على هذا الأصل ألهمني الله به ببركة دين الإسلام ، وهو أنّ بعض سادة الفضلاء الأذكياء ذكر لي حكاية ما جرى بينه وبين أحد من أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، من أنّه تمسّك بأنّ المسلمين قائلون بنبوّة نبيّنا عليه‌السلام ، فنحن وهم متّفقون على حقّيّته ونبوّته في أوّل الأمر ، فعلى المسلمين أن يثبتوا بطلان دينه.

ثمّ ذكر أنّه أجاب بما هو المشهور ، من أنّا لا نسلّم نبوّة نبيّ لا يقول بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فموسى أو عيسى عليهما‌السلام الذي يقول بنبوّته اليهود أو النصارى نحن لا نعتقد ، بل نعتقد بموسى أو عيسى وكتابه [ الذي أخبر عن نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدّقه ، وهذا مضمون ما ذكره الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق ، فإنّه قال له عليه‌السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ] (٢) هل تنكر منهما شيئا؟ قال الرضا عليه‌السلام : « أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه ، وما يبشّر به أمّته ، وما أقرّت به الحواريّون. وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبكتابه ويبشّر به أمّته ».

قال الفاضل : « ما مضى بيّن بأنّ عيسى بن مريم ـ المعهود الذي لا يخفى على أحد حاله وشخصه ـ أو موسى بن عمران ـ المعلوم الذي لا يشتبه حاله على أحد من المسلمين ، ولا أهل الكتاب ـ جاء بدين وأرسله الله نبيّا ، وهذا القدر مسلّم الطرفين ولا يتفاوت ثبوت رسالة هذا الشخص بدين بين أن يقول بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا.

فنحن نقول : دين هذا الرجل المعلوم باق بحكم الاستصحاب فعليكم بإبطاله. فأفحم

__________________

(١) « رسالة مناظرة السيّد بحر العلوم مع اليهود » المطبوعة ضمن « رجال بحر العلوم » ١ : ٥٠ ـ ٦٥ ، وقد صحّحنا النقل عليها.

(٢) الزيادة أثبتناها من « قوانين الأصول » ٢ : ٧٠.

١٧٠

ذلك الفاضل المذكور في الجواب فتأمّلت هوينا.

فقلت في إبطال الاستصحاب ـ بعد فرض تسليم جواز التمسّك به في أصول الدين ـ : إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يبق إلاّ النبوّة في الجملة ، وهو كلّي إلى آخر الأبد ، بأن يقول الله تعالى : أنت نبيّ وصاحب دين إلى يوم القيامة ، وللنبوّة الممتدّة إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول : أنت نبيّ ودينك باق إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأن يقول : « أنت نبيّ » بدون أحد القيدين ، فعلى المخالف أن يثبت إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد وأنّى له بإثباته؟

والمفروض أنّ الكلام ليس فيه أيضا. وإمّا الإطلاق فهو أيضا في معنى التقييد ، ولا بدّ من إثباته. ومن الواضح أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو النبوّة المطلقة لا مطلق النبوّة ؛ إذا الكلّي لا يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من أقلّ أفراده امتدادا واستعدادا كما ذكرنا.

ولنأت بمثال لتوضيح المقام ، وهو أنّا إذا علمنا أنّ في هذه القرية حيوانا ولكن لا نعلم أيّ نوع هو من الطيور ، أو البهائم ، أو الحشار ، أو الديدان ، ثمّ غبنا عنها مدّة فلا يمكن لنا الحكم ببقائه في مدّة يعيش فيها أطول الحيوان عمرا ، فترى أنّ الفرس أطول عمرا من الغنم ، والعصافير أطول عمرا من الخطاطيف ، والفئران من الديدان وهكذا ، فإذا احتمل عندنا كون الحيوان الذي في بيت خاصّ إمّا عصفور ، أو فأرة ، أو دود قزّ ، فكيف يحكم بسبب العلم بحصول القدر المشترك باستصحابها إلى زمان ظنّ بقاء أطولها أعمارا؟! فبذلك بطل تمسّك أهل الكتاب ؛ إذ على فرض التسليم والتنزّل والمماشاة معهم تقول : إنّ القدر الذي ثبت لنا من نبوّتهما هو القدر المشترك بين أحد المقيّدات الثلاثة ، فمع إمكان كونها النبوّة الممتدّة إلى زمان نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يجري الاستصحاب إلى آخر الأبد؟

ثمّ إنّك ـ بعد ما بيّنّا لك سابقا ـ لا أظنّك رادّا علينا أمر الاستصحاب [ في الحكم الشرعي بما ذكرنا في هذا المقام بأن تقول يمكن أن يردّ الاستصحاب فيها. بمثل

١٧١

ذلك ويقال إنّ الأحكام الواردة في الشرع إنّما يسلّم جريان الاستصحاب ] (١) فيها إن ثبت كونها مطلقات لم يكن مقيّدة إلى وقت خاصّ واختفى علينا ، أو ممتدّة إلى آخر الأبد ، والذي يجوّز إجراء الاستصحاب فيه هو الأوّل وذلك ؛ لأنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ، ليست بانيّة ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن وأنّ المشهور يكتفي فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ويظهر من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ، فإنّ تتبّع أكثر الموارد واستقرائها يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده عن تلك المطلقات هي الاستمرار إلى أن يثبت الواقع عن دليل عقلي أو نقلي.

فإن قيل : هذا مردود عليك في حكاية النبوّة.

قلنا : ليس كذلك ، لأنّ الغالب في النبوّات هو التحديد ، بل إنّما الذي ثبت علينا ونسلّمه من الامتداد القابل لأن نمتدّه إلى الأبد هو نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

مع أنّا لا نحتاج في إثباته إلى التمسّك بالاستصحاب حتّى يتمسّك الخصم بأنّ ثبوته أيضا مردّدة بين الأمور الثلاثة ، بل نحن متمسّكون بما نقطع به من النصوص والإجماع.

نعم ، لو تمسّكنا بالاستصحاب في الدوام لا ستظهر علينا الخصم بما نبّهناه عليه.

فإن قيل : قولكم بالنسخ يعيّن الإطلاق ويبطل التحديد ؛ لأنّ إخفاء المدّة وعدم بيان الآخر مأخوذ في ماهيّة النسخ ، وهو بعينه مورد الاستصحاب.

قلنا : ما سمعت من مخاصمتنا مع اليهود في تصحيح النسخ وإبطال قولهم في بطلانه إنّما هو من باب المماشاة معهم في عدم تسليمهم التحديد ، وإبطال قولنا بقبح النسخ ، وإلاّ فالتحقيق أنّ موسى وعيسى عليهم‌السلام أخبرا بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابهما ناطق به ، لا أنّ نبوّتهما مطلقة ونحن نبطلهما بالنسخ ، فلمّا كان اليهود منكرا [ لنطو ] كتابهم

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من المصدر.

١٧٢

ونبيّهم بذلك وزعموا دوام دينهم ، أو إطلاق النبوّة تمسّكوا بالاستصحاب من باب المماشاة معنا ، وتمسّكوا ببطلان النسخ بناء عليه أيضا فنحن نخاصمهم على هذا الفرض في تصحيح النسخ ، وهذا ما لا يضرّ ما رددنا عليهم في تمسّكهم بالاستصحاب.

فإن قيل : أحكام شرع عيسى عليه‌السلام مثلا مطلقات ، والنسخ بالأحكام؟

قلنا : إطلاق الأحكام ـ مع اقترانهما ببشارة عيسى عليه‌السلام برسول بعده اسمه أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفعهم ؛ لاستلزامه بوجوب قبول رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد قبوله فلا معنى لاستصحاب أحكامهم كما لا يخفى. فافهم ذلك واغتنم » (١).

أقول : لا يخفى ـ مضافا إلى عدم حكاية ما ذكر للواقع كما مرّ ـ أوّلا : أنّ الاستصحاب لا بدّ فيه من ثبوت الحكم آنا ما على وجه الإجمال وكان الشكّ في البقاء في الآن المتأخّر ، ولا شكّ في عدم ثبوت الحكم بالتديّن بدين عيسى عليه‌السلام لأمثال أهل هذا الزمان باعتقاد المسلمين ، فلا وجه للاستصحاب.

وثانيا : أنّ الاستصحاب يشترط فيه بقاء الموضوع ، ولا شكّ في فناء من كان مأمورا بالتديّن بدين عيسى عليه‌السلام ، فلا وجه للاستصحاب.

وثالثا : أنّ الاستصحاب لو كان حجّة كان حجّة فقاهيّة في الأحكام الفرعيّة وليس حجّة اجتهاديّة فيها فضلا عن الأحكام الأصليّة العلميّة.

ورابعا : أنّ الاستصحاب حجّة في الأحكام الثابتة على وجه الإجمال لا المحدودة بالمبدإ والمنتهى ، والمسلم لا يقول إلاّ بثبوت دين عيسى إلى زمان بعثة نبيّنا ، فلا وجه للاستصحاب بالنسبة إلى المسلم.

وخامسا : أنّ الاستصحاب حجّة لو لم يقم دليل قطعي على خلافه ، ومعجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المسلم أدلّة قاطعة على خلافه عنده ، فلا وجه للاستصحاب.

مضافا إلى أنّ الاستصحاب حجّة بقول نبيّنا وأمنائه فمع إنكارهم لا وجه لاستصحاب.

__________________

(١) « قوانين الأصول » ٢ : ٧٠ ـ ٧٤ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

١٧٣

[ التذنيب ] الرابع : في بيان ما ذكر في بعض كتب الأخبار من الأسرار للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله الأطهار.

فمن ذلك في أسرار مولده : « ما رواه زياد بن منذر ، عن ليث بن سعيد قال : قلت لكعب الأحبار ـ وهو عند معاوية ـ : كيف تجدون صفة مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهل تجدون لعترته فضلا؟ فالتفت إلى معاوية لينظر كيف هو؟ فأنطقه الله تعالى فقال : هات يا أبا إسحاق ، فقال كعب : إنّي قرأت اثنين وسبعين كتابا نزلت من السماء ، وقرأت صحف دانيال ، ووجدت في الكلّ مولده ومولد عترته ، وأنّ اسمه لمعروف ، ولم يولد نبيّ نزلت عليه الملائكة قطّ ما خلا عيسى وأحمد ، وما ضرب على آدمية حجب الجنّة غير مريم وآمنة ، وكان من علامة حمله أن ينادي مناد في السماء في الليلة التي حملت به آمنة عليها‌السلام : ابشروا يا أهل السماء ، فقد حملت الليلة بأحمد ، وفي الأرض كذلك حتّى في البحور ، ولقد بني في الجنّة ليلة ولادته سبعون ألف قصر من ياقوتة حمراء وسبعون ألف قصر من اللؤلؤ الرطب ، وسمّيت قصور الولادة ، وقيل للجنّة : اهتزّي وازّيّني ، فإنّ نبيّ أوليائك قد ولد ، فضحكت الجنّة يومئذ ، فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ، وبلغنا أنّ حوتا من حيتان البحر ـ يقال له : طموسا وهي سيّدة الحيتان ـ لها سبعمائة ألف ذنب يمشي على ظهور سبعمائة ألف ثور الواحد أكبر من الدنيا ، لكلّ ثور منها سبعمائة ألف قرن من زمرّد أخضر اضطرب فرحا لمولده ، ولو لا أنّ الله تعالى يثبته ، لجعل عاليها سافلها ، وبلغنا يومئذ أنّه ما بقي جبل إلاّ لقي صاحبه بالبشارة ويقول : لا إله إلاّ الله ؛ ولقد خضعت الجبال ـ إلاّ أبي قبيس ـ كرامة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقد قدّست الأشجار أربعين يوما بأفنانها وأزهارها وأثمارها فرحا بمولده ؛ ولقد ضرب بين السماء والأرض سبعون عمودا من نور ؛ ولقد بشّر آدم بمولده فزاد في حسنه سبعون ضعفا ؛ ولقد بلغني أنّ الكوثر اضطرب فرحا؟ وطما ملؤه حتّى رمى ألف قصر من قصور الجنّة من الدرّ والياقوت نثارا لمولده ،

١٧٤

ولقد ذمّ إبليس وكبّل وألقي في الحفر أربعين يوما ؛ ولقد تنكّست الأصنام كلّها وصاحوا وسمعوا صوتا من الكعبة يقول : يا قريش جاءكم البشير ، جاءكم النذير ، معه عمر الأبد ، والرمح الأكبر ، وهو خاتم الأنبياء ؛ ونجد في الكتب أنّ عترته خير البشر ، لا تزال الناس في أمان من العذاب ما دامت عترته في الدنيا ، فقال معاوية : يا أبا إسحاق ، ومن عترته؟ فقال : ولد فاطمة ، فعبس معاوية وجهه ، وعضّ على شفتيه ، وقام من مجلسه » (١).

ومن ذلك من خواصّ مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما نزل في الإنجيل : « يا عيسى جدّ في أمري ولا تهزل ، واسمع وأطع يا بن الطهر البتول ، خلقتك من غير فحل آية للعالمين ، فاعبد وعليّ فتوكّل ، خذ الكتاب بقوّة وفسّر لأهل سوريا بالسريانيّة تلمح من بين يديك إنّي أنا الله الدائم ، صدّقوا النبيّ الأمّي صاحب الجمل والدرع والتاج ـ وهي العمامة ـ والبغل والهراوة ـ وهي القضيب ـ الأكحل العين ، الصلت الجبين ، الواضح الخدّين ، الأقنى الأنف ، المفلّج الثنايا ، كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كأنّ الدهن يجري في تراقيه ، أسمر اللون ، إذا مشى كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، عرقه في وجهه كاللؤلؤ أو ريح المسك ، لم يره قبله ولا بعده مثله ، نكّاح النساء ، قليل النسل ، وإنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ، يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا أمّك ، لها فرخان يستشهدان ، كلامه القرآن ، ودينه الإسلام ، وأنا السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه وسمع كلامه » (٢).

ومن ذلك ما رواه ابن عبّاس عنه من نطقه بالغيب وإخباره بالملاحم ، قال : « حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع ، فجاء حتّى أخذ بحلقة باب الكعبة ، ثمّ أقبل علينا بوجهه وهو كالشمس في الضحى ، ثمّ قال : « ألا أخبركم بأشراط

__________________

(١) « مشارق أنوار اليقين » : ٧١ ـ ٧٢.

(٢) المصدر السابق : ٧٢.

١٧٥

الساعة؟ » فقلنا : بلى يا رسول الله ، فقال : « إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلاة ، واتّباع الشهوات ، وتعظيم المال ، وبيع الدين بالدنيا ، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء لما يرى من المنكر ، فلا يستطيع إنكاره.

فقال سلمان : وكلّ هذا كائن؟ فقال : « إي والذي نفس محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، فعندها يليهم الأمراء الجور ، والوزراء الفسق ، والعرفاء الظلم ، والأمناء الخيانة ، فعندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا ، ويصدّق الكاذب ويكذّب الصادق ، وتتأمّر النساء ، وتشاور الإماء ، وتعلو الصبيان المنابر ، ويكون الفجور ظرفا ، والزكاة مغرما ، والفيء مغنما ، ويجفو الرجل والديه ، ويبرّ صديقه ، ويطلع الكوكب المذنّب ، فعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة ، ويكون المطر غيضا ، والأولاد غيظا ، فإذا دخلت السوق فلا ترى إلاّ ذامّا لربّه ، هذا يقول : لم أبع شيئا ، وهذا يقول : لم أربح شيئا ، فعندها يملكهم قوم إن تكلّموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، يسفكون دماءهم ويملئون قلوبهم رعبا ؛ فلا تراهم إلاّ خائفين مرعوبين ، فعندها يؤتى بشيء من المشرق وشيء من المغرب ، فالويل لضعفاء أمّتي منهم والويل لهم من الله ، لا يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، قلوبهم قلوب الشياطين ، فعندها يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ويغار على الغلام كما تغار على الجارية في بيت أهلها ، ويشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وتعلو السروج الفروج ، فعلى أولئك من أمّتي لعنة الله.

فعندها تزخرف المساجد والمصاحف ، وتعلو المنابر ، وتكثر الصفوف ، قلوب متباغضة ، وألسن مختلفة ، فعندها تحلّى ذكور أمتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج ، ويظهر الربا ، ويتعاملون بالرشوة ، ويستعملون الغيبة ، فعندها يكثر الطلاق ، فما يقام له حدّ ، فعندها يحجّ ملوك أمّتي للنزهة ، وتحجّ أوساطهم للتجارة ، ويحجّ فقراؤهم للرياء والسمعة ، فعندها يتعلّمون القرآن لغير الله ، ويتّخذونه مزامير ، ويتفقّهون للجدال ، ويكثر أولاد الزنى ، ويغنّون بالقرآن ، ويتهافتون على الدنيا ، فإذا

١٧٦

انتهكت المحارم واكتسبت المآثم ، سلّط الأشرار على الأخيار ، فعند ذلك يغشّ الكذب ، ويتهافتون في اللباس ، ويمطرون في غير أوان المطر ، وينكرون الأمر بالمعروف في ذلك الزمان حتّى يكون المؤمن أذلّ الأمّة ، ويظهر قرّاؤهم فيما بينهم التلاوة والعداوة ، أولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس ، فهناك يخشى الغني من الفقير أن يسأله ، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحد في يده شيئا ، فعندها يتكلّم من لم يكن متكلّما ، فلم يثبتوا هنالك إلاّ قليلا حتّى تخور الأرض خورة حتّى يظنّ كلّ نفس أنّها خارت في ناحيتهم ثمّ يمكثون ما شاء الله ، ثمّ يمكثون في مكثهم فتلقى لهم الأرض أفلاذ أكبادها ذهبا وفضّة ، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضّة » (١).

ومن ذلك في إخباره بالغيب : أنّه مسح بالتراب عن وجه عمّار بن ياسر يوم الخندق ، وقال : « تقتلك الفئة الباغية ». وقال لأبي ذرّ : « كيف أنت إذا طردت ونفيت وأخرجت إلى الربذة؟ ».

وقال : « تبنى مدينة بين دجلة والفرات وقطربل ، تجبى إليها خزائن الأرض ، يخسف بها ، يعني بغداد (٢) ».

ومن كراماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لمّا اشتدّ الأمر على المسلمين يوم الخندق ، صعد مسجد الفتح فصلّى ركعتين ، ثمّ قال : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد بعدها في الأرض » فجاءت الملائكة فقالت : يا رسول الله ، إنّ الله قد أمرنا بالطاعة لك فمرنا بما شئت ، فقال : « زعزعوا المشركين واطردوهم ، وكونوا من ورائهم ». ففعلوا ذلك ، فقال أبو سفيان لأصحابه : إن كنّا نقاتل أهل الأرض فلنا القدرة عليهم ، وإن كنّا نقاتل أهل السماء فلا طاقة لنا بأهل السماء (٣).

__________________

(١) « مشارق أنوار اليقين » : ٧٢ ـ ٧٣ : « تفسير الصافي » ٥ : ٢٥ ـ ٢٧.

(٢) « مشارق أنوار اليقين » : ٧٣ ـ ٧٤ : « بحار الأنوار » ١٨ : ١١٣ ، ح ١٨.

(٣) « مشارق أنوار اليقين » : ١٧٤.

١٧٧

ومن ذلك في أسرار مولده : إنّ الملك سيف بن ذي يزن قال لعبد المطّلب رضي‌الله‌عنه : إنّي لأجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أنّه إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم الزعامة إلى يوم القيامة ، يموت أبوه وأمّه ويكفّله جدّه وعمّه ، وولد في عام الفيل وتوفّي أبوه وهو ابن شهرين ، وماتت أمّه وهو ابن أربع سنين ، ومات عبد المطّلب وهو أبو ثمان سنين وكفّله عمّه أبو طالب عليه‌السلام. (١)

ومن كراماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أبا ذر رضي الله لمّا جاء إليه وأسلم على يده ، قال له : « ارجع إلى بلادك فإنّ ابن عمّك قد مات ، وقد خلّف مالا فاحتو عليه والبث في بلادك إلى وقت كذا وأتني ». فرجع إلى اليمن فوجد كما أخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحتوى على المال ، وبقي في بلاده حتّى ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتى إليه. (٢)

ومن ذلك ما رواه وهب بن منبّه ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لمّا عرج بي إلى السماء ناداني ربّي جلّ جلاله : يا محمّد ، إنّي أقسمت بي وأنا الذي لا إله إلاّ أنا إنّي أدخل الجنّة جميع أمّتك إلاّ من أبى ، فقلت : ربّي ومن يأبى دخول الجنّة؟

فقال : إنّي اخترتك نبيّا ، واخترت عليّا وليّا ، ومن أبى عن ولايته فقد أبى عن دخول الجنّة ؛ لأنّ الجنّة لا يدخلها إلاّ محبّه ، وهي محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت وعليّ وفاطمة وعترتهم وشيعتهم ، فسجدت لله شكرا ، ثمّ قال لي : يا محمّد ، إنّ عليّا هو الخليفة بعدك وإنّ قوما من أمّتك يخالفوه ، وإنّ الجنّة محرّمة على من خالفه وعاداه وبشّر عليّا أنّ له هذه الكرامة منّي ، وإنّي سأخرج من صلبه أحد عشر نقيبا منهم سيّد يصلّي خلفه المسيح بن مريم ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما.

فقلت : ربّي متى يكون ذلك؟ فقال : إذا رفع العلم ، وكثر الجهل ، وكثر القرّاء وقلّ العلماء ، وقلّ الفقهاء ، وكثر الشعراء ، وكثر الجور والفساد ، واكتفى الرجال بالرجال ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

١٧٨

والنساء بالنساء ، وصار الأمناء خونة ، وأعوانهم ظلمة ، فهناك أظهر خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب ، ثمّ يظهر الدجّال بالمشرق ، ثمّ أخبرني ربّي بما كان وبما يكون من الفتن من بني أميّة وبني العبّاس ثمّ أمرني أن أوصل كلّ ذلك إلى عليّ عليه‌السلام فأوصلت إليه عن أمر الله. (١)

ومن ذلك من كراماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما رواه ابن عبّاس ، قال : لمّا زوّج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام بفاطمة عليها‌السلام استدعى تميرات وفضلة من سمن عربي ، وجفنة من سويق وجعلها في قصعة كانت لهم ، ثمّ حرّكه بيده الشريفة التي هي منبع البركات ومعدن الخيرات وفيّاض النعمات ورحمة أهل الأرض والسماوات ، ثمّ قال : قدّموا الصحاف والجفان والقصاع ، فقدّمت ؛ فلم يزل يملأ من ذلك الجفن الجفان ويحملوها إلى بيوت المهاجرين والأنصار ، والقصعة تمتلئ وتفيض حتّى اكتفى سائر الناس والقصعة على حالها. (٢)

ومن كراماته ومكاشفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما تكلّم به عند موته والناس حوله ، فقال : « ابيضّت وجوه واسودّت وجوه ، وسعد أقوام وشقي آخرون ، سعد أصحاب الكساء الخمسة وأنا سيّدهم ولا فخر ، عترتي عترة الله ، أهل بيتي السابقون السابقون السابقون ، أولئك هم المقرّبون ، سعد من اتّبعهم وشايعهم على ديني ودين آبائي ، أنجزت موعدك يا ربّ ، واسودّت وجوه أقوام يردون ظمأ إلى نار جهنّم مرق البغل الأوّل الأعظم ، والآخر والثاني ، حسابهم على الله ، وثالث ورابع. كلّ امرئ بما كسبت رهين ، وعلّقت الرهون ، واسودّت الوجوه ، هلكت الأحزاب ، وقادت الأمراء بعضها بعضا إلى النار ، مبغض عليّ وآل عليّ في النار ، ومحبّ عليّ وآل عليّ في الجنّة » (٣).

__________________

(١) المصدر السابق : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) المصدر السابق : ٧٥.

(٣) المصدر السابق.

١٧٩

[ التذنيب ] الخامس : في نبذ من المعجزات الصادرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وفق ما انتخبت من كتاب بحار الأنوار ـ عدا ما مرّ ـ وهي كثيرة :

[١] : منها : ما روي من أبي محمّد العسكري عليه‌السلام : « أنّه جاء قوم من المشركين ، فقالوا له : يا محمّد ، تزعم أنّك رسول ربّ العالمين ، فإنّك لا ترضى بذلك حتّى تزعم أنّك سيّدهم وأفضلهم ، وإن كنت نبيّنا فأتنا بآية كما تذكره عن الأنبياء من قبلك مثال نوح الذي جاء بالغرق ، ونجا في سفينته مع المؤمنين ، وإبراهيم الذي ذكرت أنّ النار جعلت عليه بردا وسلاما ، وموسى الذي زعمت أنّ الجبل رفع فوق رءوس أصحابه حتّى انقادوا لمّا دعاهم الله إليه صاغرين داخرين ، وعيسى الذي كان ينبّئهم بما كانوا يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ، وصار هؤلاء المشركون فرقا أربعا ، هذه تقول : أظهر لنا آية نوح ، وهذه تقول : أظهر لنا آية موسى ، وهذه تقول : أظهر لنا آية إبراهيم ، وهذه تقول : أظهر لنا آية عيسى ، فقال رسول الله : إنّما أنا لكم نذير مبين آتيكم بآية بيّنة. هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته ، وهو بلغتكم وهو حجّة الله وحجّة نبيّه عليكم ، وما بعد ذلك فليس لي الاقتراح على ربّي ، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين إلى المقرّين بحجّة صدقه ، وآية حقّه ، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجّة على ربّه ما يقترحه عليه المقترحون لا يعلمون أهل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.

فجاء جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمّد إنّ العليّ الأعلى يقرأ عليك السّلام ويقول : إنّي سأظهر لهم هذه الآية ، وأنّهم يكفرون بها إلاّ من أعصمه منهم ، ولكنّي أريهم ذلك زيادة في الاعتذار والإيضاح بحججك ، وقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح عليه‌السلام : امضوا إلى جبل أبي قبيس فإذا بلغتم سفحه فترون آية نوح عليه‌السلام ، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه.

وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم عليه‌السلام : امضوا إلى حيث تريدون من

١٨٠