البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

١
٢

٣
٤

دليل المجلّد الثاني

مقدّمة : في المسائل العلميّة وأقسام الأدلّة ................................. ٧ ـ ١٤

المقصد الثالث في الأصل الأوّل من أصول الدين

التوحيد / معناه.................................................... ١٧ ـ ٢٤

الفصل الأوّل : في وجوده تعالى........................................ ٢٥ ـ ٤٢

الفصل الثاني : في صفاته تعالى......................................... ٤٣ ـ ٤٥

المطلب الأوّل : في بيان الصفات الثبوتيّة..................................... ٤٥

المسألة الأولى : في القدرة................................................ ٤٥

المقدّمة الأولى : في تعريف القدرة والإيجاب المقدّمة................ ٤٥ _٤٨

الثانية : في بيان القدم والحدوث................................ ٤٨ ـ ٦٠

في إثبات القدرة ، بمعنى أنّه تعالى صاحب القدرة................. ٦٠ ـ ٧٧

دلائل النافين لقدرة الله والجواب عنها......................... ٧٧ ـ ١٠٦

في عموم قدرته تعالى...................................... ١٠٦ ـ ١١٣

المسألة الثانية : في علمه تعالى........................................... ١١٣

تعريف العلم ، أقسامه ومراتبه.............................. ١١٤ ـ ١٢١

علم الواجب تعالى بذاته وبما سواه عين ذاته.................. ١٢١ ـ ١٥٨

في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء............................... ١٥٨ ـ ١٩٤

في معنى قولهم : إنّه تعالى لا يعلم غيره وإنّه عالم بجميع المخلوقات. ١٩٤ـ٢٠٥

مباحث متعلّقة بالمقام لتوضيح المرام.......................... ٢٠٥ ـ ٢٣٠

تكميل عرشيّ : في بيان حقيقة الوجود...................... ٢٣٠ ـ ٢٣٣

تدقيق إلهاميّ : في حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى....... ٢٣٣ ـ ٢٣٥

في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة....................... ٢٣٥ ـ ٢٥٢

٥

المسألة الثالثة : في أنّه تعالى حيّ................................. ٢٥٢ ـ ٢٥٤

المسألة الرابعة : في إرادته تعالى.................................. ٢٥٥ ـ ٢٧٠

المسألة الخامسة : في سمعه وبصره................................ ٢٧٠ ـ ٢٧٣

المسألة السادسة : في كلامه تعالى................................ ٢٧٣ ـ ٢٨٠

المسألة السابعة : في أنّه تعالى صادق.............................. ٢٨٠ ـ ٢٨٣

المسألة الثامنة : في أنّه تعالى قديم أزليّ.................................... ٢٨٣

المطلب الثاني : في أنّ الأوصاف الثمانية عين الذات................ ٢٨٤ ـ ٢٩٠

المطلب الثالث : في بيان الصفات السلبيّة.......................... ٢٩٠ ـ ٣٠٤

في نفي الرؤية عنه تعالى........................................ ٣٠٤ ـ ٣٢٥

المطلب الرابع : في بيان صفات الجمال............................ ٣٢٦ ـ ٣٣٠

أنّه تعالى واحد من جميع الجهات................................ ٣٣٠ ـ ٣٤٢

تذنيبان................................................................. ٣٤٢

الأوّل : في فرق الصوفيّة ومذاهبهم.............................. ٣٤٢ ـ ٣٥٠

الثاني : فيما ورد من الأحاديث في التوحيد....................... ٣٥٠ ـ ٣٦٤

الفصل الثالث : في العدل.......................................... ٣٦٥ ـ ٣٦٨

المقام الأوّل : في نفي الظلم عنه تعالى............................. ٣٦٨ ـ ٣٧٤

المقام الثاني : في حسن أفعاله تعالى................................ ٣٧٤ ـ ٣٩٣

المقام الثالث : في غاية أفعاله تعالى................................ ٣٩٣ ـ ٤١٤

المقام الرابع : في اختيار العباد في أفعالهم........................... ٤١٤ ـ ٤٥٢

المقام الخامس : في وجوب اللطف عليه تعالى....................... ٤٥٢ ـ ٤٦٩

تذنيب : في خلق العالم................................................. ٤٦٩

الفائدة الاولى : في حدوث العالم وبدء خلقه.................. ٤٦٩ ـ ٤٧٦

الفائدة الثانية : براهين إبطال التسلسل...................... ٤٧٦ ـ ٤٩٢

الفائدة الثالثة : في خلق العالم العلوي........................ ٤٩٢ ـ ٥٠٩

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر........................ ٥٠٩ ـ ٥٣٧

الفائدة الخامسة : في المواليد الثلاثة.......................... ٥٣٧ ـ ٥٥٣

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هو الواجب الوجود بالذات ، المنزّه عن صفات النقص والكدورات ، الذي له صفات الكمال والجمال ، وصفاته الذاتيّة عين الذات ، وهو المتعالي عن مطارح طائر أفكار العقول والتصوّر والتصديق بكمال الذات ، والخارج عن نتائج القياس والاستقراء والتمثيل ، بل الوهم والتخييل إلاّ بالوجوهات ، فيتصوّر التصوّر والتصديق بأنّه الواحد من جميع الجهات ، وأنّه عادل منزّه عن الظلم والقبح وفاعل المحسّنات ؛ للأغراض العائدة إلى العباد ، وهو غاية الغايات ، وخالق الأرضين ومن فيهنّ والسماوات ، وقد خلق العباد مع الاختيار من غير تفويض وإجبار في الشرور والخيرات.

والصلاة والسلام على رسوله المعصوم المبعوث إلى الثقلين مع المعجزات بالشريعة الباقية إلى يوم العرصات ، وعلى آله المعصومين المنصوبين بنصّ بعض الأخبار والآيات ، وكلّ واحد منهم أعلم عصره وأشرف المخلوقات ، وهم الذين تجب مودّتهم وطاعتهم على المؤمنين والمؤمنات ، وهم شفعاؤهم للعفو عن الخطيئات ، ودخول الجنّات والغرفات.

أمّا بعد ، فهذا هو المجلّد الثاني من البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة من تأليف خادم المذهب الجعفريّ من مذاهب الشرع المحمّديّ ، محمّد جعفر الأسترآبادي ، جعل الله عواقب أموره خيرا من المبادئ ، وهو المتعلّق ببيان المطلب الكلّي والمقصد الأصلي من مقاصد الكتاب ، الذي هو حياة أرواح الأجساد ،

٧

المتعرّض لمباحث الإلهيّات وما يتعلّق بها من أحوال النبوّة والإمامة والمعاد ، وأسأل الله أن يكتبه في صحائف الحسنات ، وأوتى بيميني يوم الحساب ، فأقول : هاؤم اقرءوا كتابيه ، إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه ، لأكون في عيشة راضية ، في جنّة عالية ، قطوفها دانية ، (١) وأدخل في خطاب ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ). (٢) وأردت أن أجمع فيه العقائد الحقّة التي أقول في حقّها : هذه سبيلي أدعو إلى الله تعالى على بصيرة أنا ومن اتّبعني. (٣)

اعلم أوّلا : أنّ المسائل العلميّة على أقسام خمسة :

الأوّل : الإجماعيّة حقيقة أو حكما.

الثاني : الاختلافيّة التي يكون المخالف فيها غير معتنى به.

الثالث : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به ، ولكنّ الثمرة المترتّبة عليها تكون غير معتدّ بها.

الرابع : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، ولكن لا يكون الدليل على الخلاف معتمدا عليه.

الخامس : الخلافيّة التي يكون المخالف فيها معتنى به والثمرة معتدّا بها ، والدليل على الخلاف معتمدا عليه. وهذا القسم ممّا ينبغي بسط (٤) الكلام فيه وإعمال القواعد فيه.

__________________

(١) من قوله : « هاؤم » إلى هنا اقتباس من الآيات ١٩ ـ ٢٣ من سورة الحاقّة (٦٩).

(٢) الحاقّة (٦٩) : ٢٤.

(٣) اقتباس من الآية ١٠٨ من سورة يوسف (١٢).

(٤) إشارة إلى أنّ الاستدلال على وجوه خمسة :

الأوّل : الوجه الأخصر بالاكتفاء بالدليل العقلي والنقلي اللبّي كالإجماع والسيرة ونحو ذلك.

الثاني : الوجه المختصر بذكر الدليل اللفظي ـ مثلا ـ وبيان دلالته ودفع الإيراد الوارد عليه.

الثالث : الوجه المتوسّط بذكر الدليل اللفظي والفحص عن معارضه وإعمال الترجيح سندا ومتنا ودلالة ومدلولا وخارجا.

٨

وثانيا : أنّه لا بدّ في كلّ مسألة استدلاليّة من ملاحظة الموضوع جنسا ونوعا وصنفا ووصفا وشخصا ، وكذا متعلّقه ، وكذا المحمول ومتعلّقه وجهة القضيّة ، وتعيين محلّ الكلام ؛ لئلاّ يصير النزاع لفظيّا ، ولا يحصل الخلط والاشتباه.

وثالثا : أنّه لا بدّ للمخاطب من الإنصات والالتفات والتخلية عن الشبهات والإدراك والإنصاف لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل.

ورابعا : أنّه لا بدّ من إعمال آداب المناظرة بترك الاعتراض عند نقل المذهب إلاّ في صورة الشبهة ، ومعرفة مقام المنع والمناقضة والنقض والحلّ والمعارضة ، بأنّ عدم تسليم مقدّمة معيّنة منع غير محتاج إلى السند ، وعدم التسليم إجمالا نقض إجماليّ ومناقضة تحتاج إلى بيان الخلل بالنقض بوجود مقتضى الدليل فيما لا يقول به المستدلّ ، بل ولا غيره ، والحل بإبطال الدليل ، وأنّ الإتيان بدليل مثبت لخلاف مدّعى المستدلّ يسمّى معارضة صرفة أو مع المنع.

وخامسا : أنّ بعض أفاضل العصر قد أفاد أنّ الأدلّة ثلاثة ، كما قال سبحانه لنبيّه : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ). (١)

فالأوّل دليل الحكمة ، وهو آلة للآية المحكمة ، أي علم التوحيد ، وهو أشرف الأدلّة ؛ ولهذا قدّمه الله تعالى ، وهو عبارة عن الدليل الكشفيّ العيانيّ الذي يخبر به المستدلّ بعد معاينة ما أراد الله من معاني ألفاظه ، لا مجرّد الألفاظ.

وشروط العلميّة ، منه (٢) أن يجمع قلبه على استماع المقصود والتوجّه إليه من غير أن يريد العناد والردّ ؛ لأنّه لو استمع وهو يريد الردّ والعناد ، كان مشتغلا بغير ما هو

__________________

الرابع : الوجه المبسوط بذكر أقوى الأدلّة مع ملاحظة السند والمتن والدلالة والفحص عن المعارض الأقوى لكنّه على الوجه المذكور.

الخامس : الوجه الأبسط بذكر جميع الأدلّة أصلا ومعارضا ، كما أشرنا إليه. ( منه رحمه‌الله ).

(١) النحل (١٦) : ١٢٥.

(٢) كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».

٩

بصدده ، فلا يفهم المراد ؛ وأن لا تركن نفسه إلى ما آنست به ؛ فإنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ ؛ وأن لا يعتمد على ما عنده من القواعد والضوابط ؛ لئلاّ يرى المرجوح راجحا وبالعكس.

وشرط العمليّة ، منه (١) أن يكون مخلصا لله ـ عزّ وجلّ ـ في توحيده وعبادته بحيث لا يكون له غرض إلاّ رضا الله في كلّ شيء.

فإذا تمّت له شروط العلم والعمل جميعا على الوجه المطابق للكتاب والسنّة ، حصل له دليل الحكمة الذي لا يعرف الله إلاّ به ؛ فإنّه آلة للمعارف الإلهيّة الحقّة ، وبه يعرف الحكماء العقلاء ، والعلماء النبلاء الواجب تعالى ؛ لأنّه الدليل الذوقيّ العيانيّ الذي يلزم منه الضرورة والبداهة بالمستدلّ عليه ؛ لأنّه نوع من المعاينة. وذلك منحصر في إدراك الفؤاد الذي يدرك الشيء مجرّدا عن جميع ما سوى محض وجود الشيء مع قطع النظر عن جميع العوارض الذاتيّة له ، وهو نور الله الذي ورد فيه : « أنّ المؤمن ينظر بنور الله » (٢) وهو على مشاعر الإنسان كالصدر ، والخيال الذي هو محلّ الصور العلميّة ، كلّيّة أو جزئيّة يرفع الجهل ، والقلب الذي هو محلّ المعاني واليقين يرفع الشكّ والريب.

وبالجملة ، فالمراد بالفؤاد في كلام الأئمّة عليهم‌السلام هو الوجود الذي هو أثر لفعل الله ؛ فإنّه لا ينظر إلى نفسه أبدا بل إلى ربّه ؛ لأنّه أثره ، كما أنّ الماهيّة لا تنظر إلى ربّها أبدا بل إلى نفسها.

الثاني : دليل الموعظة الحسنة ، وهو آلة لعلم الطريقة والفريضة العادلة ، أي علم تهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى ، كما إذا قلت : إن اعتقدت أنّ لك صانعا ، فلا شكّ في كونك ناجيا من عقوبته ، وإن لم تعتقد فلا تقطع بنجاتك من عقوبته ،

__________________

(١) كذا في النسخ. والصحيح : « منها ».

(٢) « المحاسن » ١ : ٢٢٣ ، باب ما خلق الله تبارك وتعالى المؤمن من نوره ، ح ١.

١٠

بل يجوز أن يعذّبك ، فلا يحصل لك القطع بالنجاة إلاّ مع اعتقاد وجوده تعالى.

ومثل هذا لا يحصل به المعرفة ، وإنّما هو بيان طريق السلامة ؛ لأنّه طريق الاحتياط وفيه السلامة والنجاة ، وعلم طريقة السلوك العمليّ الذي هو روح السلوك العلميّ ، وذلك بمعرفة تهذيب الأخلاق ودوام الذكر وملازمة الأعمال والتجنّب عن الأخلاق الذميمة ، كالطمع والحرص والبخل والشحّ والسرف والتبذير والجبن والتهوّر. ومستنده القلب والعقل ، ومثاله قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (١) وأمثال ذلك.

الثالث : دليل المجادلة بالتي هي أحسن ، وهو آلة لعلم الشريعة والسنّة القائمة ، وذلك كما إذا قلت : إن كان في الموجودات قديم ، خالق وليس بمخلوق ، ثبت الواجب تعالى ، وإلاّ فلا بدّ لها من صانع ؛ إذ يستحيل أن توجد نفسها ، أو توجد بغير موجد لها. ومثل هذا لا يحصل به المعرفة الحقّة وإنّما يقطع حجّة المخالف ، بخلاف دليل الحكمة ، كما إذا قلت : إنّ كلّ أثر يشابه صفة مؤثّره ، وأنّه قائم به ـ أي بفعله ـ قيام صدور ، كالكلام ؛ فإنّه قائم بالمتكلّم قيام صدور ، وكالأشعّة والصور في المرايا ، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها ؛ لأنّه تعالى لا يظهر بذاته ، وإلاّ لاختلفت حالتاه ، ولا يكون شيء أشدّ ظهورا وحضورا وبيانا من الظاهر في ظهوره ؛ لأنّ الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصّل إلى معرفته إلاّ بظهوره ، مثل القيام والقعود ؛ فإنّ القائم أظهر في القيام من القيام وإن كان لا يمكن التوصّل إليه إلاّ بالقيام ، فتقول : يا قائم ويا قاعد ، فأنت إنّما تعني القائم لا القيام ؛ لأنّه بظهوره لك غيب عنك مشاهدة القيام أصلا ، إلاّ أن تلتفت إلى نفس القيام فيحتجب عنك القائم بالقيام.

فبهذا الاستدلال الذي هو من دليل الحكمة يكون عند العارف أظهر من كلّ

__________________

(١) فصّلت (٤١) : ٥٢.

١١

شيء ، كما قال سيّد الشهداء عليه‌السلام : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟ » (١) وتحصل به المعرفة الحقّة ولا تحصل بغيره أصلا.

وبالجملة ، فلا بدّ في هذا الدليل من إقامة البرهان على النحو المقرّر في الميزان من المقدّمات وكيفيّة الدليل ، ولا حاجة إلى التمثيل ؛ لأنّ الكتب مشحونة به ، بل لا نكاد نجد غيره إلاّ نادرا إمّا لضعف المستدلّ أو المستدلّ له أو عليه ، ولكنّ الأوّل أولى ، ثمّ الثاني ثمّ الثالث.

أقول أوّلا : إنّ الظاهر أنّ المراد من الحكمة هي المقالة المحكمة والدليل الموضّح للحقّ ، المزيل للشبهة للخواصّ ؛ فإنّ الحكمة عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر ، فيكون المراد هنا ما يوصل إليه.

مع أنّ الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته في المقام لا يمكن حصوله ظاهرا بالنسبة إلى الطائفة الذين أمر الله نبيّه أن يدعوهم به إلى سبيله تعالى.

والمراد من الموعظة الحسنة يمكن أن يكون هو الخطابات المقنعة والعبر النافعة للعوامّ. والمجادلة بالطريقة ـ التي هي أحسن طرق المجادلة ـ يمكن أن يراد منها ما يكون مع الرفق واللين وإيثار الوجه الأيسر والمقدّمات الأشهر ، أو ذكر مسلّمات الخصم مع كونها حقّة.

وثانيا : إنّ البرهان الإنّيّ بل كثيرا من الصناعات الخمس خارج عمّا أفاده ، مع أنّه أيضا من أدلّة المعرفة بل هو الغالب ، كما يشهد عليه قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... ) (٢) وقوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٣) ونحو ذلك من الآيات الدالّة على لزوم الاعتبار والاستدلال من المعلول على العلّة ، وقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٩٥ : ٢٢٦ ، ح ٣.

(٢) الأعراف (٧) : ١٨٥.

(٣) فصلت (٤١) : ٥٣.

١٢

« من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (١) إلى غير ذلك. واحتمال إرادته من الحكمة لو لم يكن أظهر فلا أقلّ من التساوي ، مع أنّ الآية الشريفة لا تقتضي حصر الأدلّة في الثلاثة كما هو المدّعى ظاهرا.

وأيضا الدليل الذوقيّ العيانيّ لو سلّم صحّته سيّما بالنسبة إلى الطائفة المذكورة من أسباب عين اليقين الذي هو من خواصّ المقرّبين ، فيلزم عدم اعتبار ما هو من أسباب علم اليقين الذي هو من وظائف عامّة المؤمنين ؛ فإنّ اليقين له أقسام :

الأوّل : علم اليقين بمراتب شتّى من جهة أسباب العلم على وجه البرهان اللمّيّ أو الإنّيّ أو الحدس أو التجربة أو نحو ذلك ممّا يتفاوت بتفاوت المقدّمات.

الثاني : عين اليقين بمراتبه.

الثالث : حقّ اليقين ، ووظيفة العامّة هو الأوّل ، وأمّا غيره فهو من وظائف الأخيار والمقرّبين.

ومنه ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « ويحك كيف أعبد ربّا لم أره؟! » (٢) وقوله عليه‌السلام : « لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا ». (٣)

ثمّ اعلم أنّ البرهان الممكن إقامته على إثبات واجب الوجود هو البرهان الإنّيّ الذي ينتقل فيه من المعلول إلى العلّة ؛ لأنّا نستدلّ من المصنوع الذي هو المعلول على الصانع الذي هو العلّة ، ولا يمكن إقامة البرهان اللمّيّ الذي ينتقل فيه من العلّة إلى المعلول ؛ إذ لا علّة له ؛ لأنّه علّة لكلّ علل.

__________________

(١) « غوالي اللآلئ » ٤ : ١٠٢ / ١٤٩ ؛ « مصباح الشريعة » : ١٣ ، الباب ٥ ، ونسبه كلّ منهما إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسبه الآمدي إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في « غرر الحكم ودرر الكلم » ٢ : ١٦٤.

(٢) انظر « المحاسن » ١ : ٣٧٣ باب جوامع التوحيد ، ح [٨١٧] ٢١٩ : « التوحيد » : ١٠٩ باب ما جاء في الرؤية ، ح ٦ ؛ « الكافي » ١ : ٩٨ باب إبطال الرؤية ، ح ٦ ؛ « الإرشاد » ١ : ٢٢٥ ؛ « الاحتجاج » ١ : ٤٩٣ / ١٢٣.

(٣) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٤٧ ؛ « غرر الحكم ودرر الكلم » ٢ : ١٤٢ ، الفصل ٧٥ ، الرقم ١ ؛ « شرح ابن ميثم البحراني على المائة كلمة لأمير المؤمنين عليه‌السلام » : ٥٢ ، الكلمة الأولى ؛ « بحار الأنوار » ٦٤ : ٣٢١.

١٣

وزعم بعض أهل الإشراق إمكان إثباته بالبرهان اللمّيّ بملاحظة حقيقة الوجود. (١)

وهو كما ترى ؛ فإنّ الاستدلال إمّا بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق ، وبصفاتها على صفاته ـ كما عن المتكلّمين ـ أو بوجود الحركة على محرّك وبامتناع اتّصال الحركات لا إلى نهاية على وجود محرّك أوّل غير متحرّك ووجود مبدأ أوّل ـ كما عن الحكماء الطبيعيّين ـ أو بالنظر في الوجود ، وأنّه واجب أو ممكن ـ كما عن الحكماء الإلهيّين ـ وكلّ ذلك برهان إنّيّ ؛ لكون الكلّ باعتبار الوجود الخارجيّ المعلوم الذي هو المعلول.

والحاصل : أنّه ينبغي لطالب كلّ علم أن يعرف قبل الشروع فيه أمورا خمسة :

الأوّل : ماهيّته بنفسه ورتبته وشرافته حتّى يكون على بصيرة وشوق في تحصيله ، ولا يخرج حين البحث عن الفنّ.

الثاني : موضوعه ؛ ليكون على بصيرة ، ولئلاّ يبحث عن غيره فيخرج عن الفنّ.

الثالث : محموله ؛ لئلاّ يحمل غيره على ذلك الموضوع فيخرج عن الفنّ.

الرابع : مدركه ؛ لئلاّ يستدلّ بغيره.

الخامس : غرضه وفائدته ؛ ليكون على شوق موجب للاهتمام وعدم صيرورة سعيه عبثا.

فاعلم : أنّه قال المصنّف العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ :

__________________

(١) نسبه المحقّق الخوانساري قدس‌سره إلى القيل ، كما في « الحاشية على حاشية الخفري على التجريد » : ٦٧.

١٤

( المقصد الثالث )

في الأصل الأوّل من أصول الدين

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : في وجوده تعالى

الفصل الثاني : في صفاته تعالى

الفصل الثالث : في العدل

١٥
١٦

( المقصد الثالث )

في الأصل الأوّل من أصول الدين

وهو التوحيد الذي هو كمال الواجب الوجود بالذات في الذات.

اعلم : أنّ التوحيد ـ بحسب المعنى التصوّري ـ عبارة عن نسبة المكلّف الواجب الوجود بالذات إلى الوحدة من جميع الجهات :

كالوحدة باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس الذي هو عبارة عمّا به الاشتراك في الذات ، والفصل الذي هو عبارة عمّا به الامتياز.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزاء الأجزاء العقليّة من المادّة والصورة.

والوحدة باعتبار الأجزاء الخارجيّة العنصريّة الرئيسة أو غيرها.

والوحدة باعتبار الذات والصفات.

والوحدة باعتبار الأفراد والجزئيّات ، بمعنى أنّه لا شريك له في الذات ، ولا شبيه له في الصفات ، ولا تعدّد ولا تكثّر له في الذات ، ويندرج فيه توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الذات والصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد العبادة.

بيان ذلك : أنّه روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ووجهان يثبتان فيه. فأمّا

١٧

اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّه تشبيه ، عزّ وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود لا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ». (١)

وقد يقال : مراتب التوحيد عبارة عن نفي استحقاق إله آخر للعبادة ، ونفي وجوده ، ونفي إمكانه ، وإثبات الثلاثة لله تعالى.

وقد يقال : إنّ التوحيد توحيد الأحديّة كما للعصاة ، وتوحيد الفردانيّة كما للولاة.

وقد يقال : إنّه علميّ يظهر بالبرهان ، وعينيّ يثبت بالوجدان ، وحقّي اختصّ بالرحمن.

وقد يقسم إلى القشر ، وقشر القشر ، واللبّ ، ولبّ اللبّ.

والأوّل : كإيمان عموم المسلمين ، وهو التصديق بمعنى الكلمة.

والثاني : كإيمان المنافقين.

والثالث : كإيمان المقرّبين ، وهو بأن يشاهد ذلك بطريق الكشف ، ويرى أشياء كثيرة صادرة من الواحد القهّار.

والرابع : إيمان الصدّيقين ، وهو بأن لا يرى في الوجود إلاّ واحدا حتّى لا يرى نفسه.

وقيل : التوحيد كامل وناقص ، والأوّل أن يعلم أنّ وجوب الوجود لا يمكن أن

__________________

(١) « التوحيد » : ٨٣ ـ ٨٤ ، باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد ، ح ٣ : « الخصال » : ٢ ، باب الواحد ، ح ١ ، وصحّحنا النقل على المصدر.

١٨

يكون لذاتين ، والثاني أن يعلم أنّ الله سبحانه واجب الوجود فقط.

ويمكن أن يقال : إنّ مراتب التوحيد خمس : توحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الذات والصفات ، وتوحيد الأفعال ، وتوحيد العبادة.

فقوله تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ) (١) إشارة إلى توحيد الذات ، وكذا قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) (٢).

وقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٣) إشارة إلى توحيد الصفات ، وكذا قوله تعالى : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (٤).

وقوله عليه‌السلام : « لم يزل الله عزّ وجلّ والعلم ذاته » (٥) الحديث ، إشارة إلى توحيد الذات والصفات ، بل توحيد الصفات أيضا.

وقوله تعالى : ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٦) وقوله تعالى : ( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (٧) وقوله تعالى : ( هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) (٨) إشارة إلى توحيد الأفعال.

وقوله تعالى : ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٩) إشارة إلى توحيد العبادة.

ومثله ما روي في « الكافي » ـ في الصحيح ـ عن هشام بن الحكم أنّه سأل

__________________

(١) النحل (١٦) : ٥١.

(٢) الإخلاص (١١٢) : ١.

(٣) الشورى (٤٢) : ١١.

(٤) الإخلاص (١١٢) : ٤.

(٥) « التوحيد » : ١٣٩ باب صفات الذات ... ح ١ : « الكافي » ١ : ١٠٧ باب صفات الذات ، ح ١.

(٦) فاطر (٣٥) : ٣.

(٧) الرعد (١٣) : ١٦.

(٨) لقمان (٣١) : ١١.

(٩) الكهف (١٨) : ١١٠.

١٩

أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها : الله ممّا هو مشتقّ؟ فقال : « يا هشام! الله مشتقّ من أله وإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد ، أفهمت يا هشام؟ » قال : قلت : زدني ، قال : « لله تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان لكلّ شيء منها إله ولكنّ الله تعالى تدلّ عليه هذه الأسماء وكلّها غيره » (١).

كما أنّ التوحيد ـ كما أشرنا ـ قد يكون باعتبار الأجزاء العقليّة من الجنس وهو ما به الاشتراك ، والفصل وهو ما به الامتياز ، بمعنى أنّه ليس له أجزاء عقليّة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة التي هي بإزائها من المادّة والصورة ، وقد يكون باعتبار الأجزاء الخارجيّة ، مثل العنصريّة الرئيسة وغيرها ، وقد يكون باعتبار الذات والصفات ، وقد يكون باعتبار الأفراد والجزئيّات.

والتوحيد الذاتي يندرج فيه التوحيد الأجزائي بملاحظة الأجزاء العقليّة والخارجيّة بإزائها وغيرها ، والتوحيد الجزئيّاتي ، بمعنى أنّه واحد لا ينقسم أصلا ، ولا شريك له في الذات ، والمتداول بين الناس خصوص التوحيد الذاتي الجزئيّاتي من غير ملاحظة التوحيد الذاتي الأجزائيّ والتوحيد الصفاتي ، والذاتي والصفاتي والأفعالي والعباداتي ، مع أنّ الجمع مهما أمكن أولى.

وبحسب (٢) المعنى التصديقي عبارة عن الاعتقاد مع الإقرار بأنّ الله ـ الذي هو الواجب الوجود بالذات ، وصاحب جميع الصفات من صفات الكمال والجمال ، والمنزّه عن صفات النقص ؛ لكونه صاحب الجلال ، وتكون صفاته الذاتيّة كوجوده ، ووجوبه عين الذات ـ واحد من جميع الجهات لا تكثّر فيه ، ولا شريك له في الذات ،

__________________

(١) « الكافي » ١ : ٨٧ باب المعبود ، ح ٢ و: ١١٤ باب معاني الأسماء واشتقاقها ، ح ٢ ، بتفاوت يسير.

(٢) مرّ التوحيد بحسب المعنى التصوّري في ص ١٧.

٢٠