البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

حينئذ معنى قوله : « والواسطة غير معقولة » أنّ الواسطة بين الواجب والحادث ـ بمعنى أنّه لا يمكن استناد الحادث إليه ـ غير معقولة ؛ لكونه منه ولو بالإمكان وذلك كاف ، أو نقول بأنّه قد يكون موجبا بالنسبة إلى غير الحادث ، مختارا بالنسبة إليه ، وهو واسطة بين قول الحكيم والمتكلّم ، فهي أيضا غير معقولة ؛ لأنّه إمّا قادر أو موجب.

ثمّ إنّه يتراءى من قوله : « ولمّا لم يثبت عند المصنّف » (١) أنّه يعترض على المصنّف بالتنافي والتناقض ؛ حيث قال : لا دليل على امتناع العقل (٢) ، مع أنّه قال : لا قديم سوى الله ، وأنّ جميع ما سوى الله حادث (٣).

وهو بريء عن ذلك ؛ فإنّ مجرّد تجويز العقل من حيث هو هو لا يدلّ على عدم امتناعه والدليل عليه على تقدير قدمه ، وهو ظاهر وإن قال القائل بوجود العقل بقدمه وأنّ الحادث إنّما يكون ماله مادّة ومدّة على ما ذكر في شرح المواقف وغيره (٤) ، ولم يلزم قول المصنّف (٥) بذلك ، وهو ظاهر.

ثمّ اعلم أنّ الدليل المذكور منقوض ـ خصوصا على ما ذكره في المواقف (٦) ـ بكونه مختارا فينفيه أيضا ؛ لأنّه ينقل الكلام إلى الإرادة ، فيلزم التسلسل ، أو استغناء الحادث عن المؤثّر والترجيح بلا مرجّح ، أو نفي الحادث ؛ فإنّ الإرادة بمنزلة شرط حادث. وهذا من أعظم أدلّتهم وأقواها على الإيجاب.

قال في المواقف : « احتجّ الحكماء ـ ( أي على إيجابه تعالى ) ـ بوجوه كثيرة :

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠.

(٢) قال المحقّق نصير الدين : « أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ، وأدلّة وجوده مدخولة ». انظر : « تجريد الاعتقاد » : ١٥٥.

(٣) « تجريد الاعتقاد » : ١٢٠. وفيه : « ولا قديم سوى الله ».

(٤) « شرح المواقف » ٤ : ٥ ـ ٦ ؛ « شرح المقاصد » ٢ : ١٤.

(٥) قال في « تجريد الاعتقاد » : ١٢٠ : « ولا يفتقر الحادث إلى المدّة والمادّة وإلاّ لزم التسلسل ».

(٦) « المواقف » ضمن « شرح المواقف » ٨ : ٥٣.

٨١

الأوّل : قيل (١) : إنّما عبّر بالأوّل ؛ لأنّه الذي يعوّلون عليه أنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين المقدورين له إمّا لذاتها ، كتخصيص بعض الجسم بشكل معيّن ولون مخصوص دون ما عداه فيستغني الممكن عن المرجّح ، وأنّه ينسدّ باب إثبات الصانع. وأيضا يلزم قدم الأثر. وإمّا لا لذاتها ، فيحتاج إلى مرجّح آخر فيلزم التسلسل (٢).

وأنت تعلم أنّ هذا على طريق الاستدلال لا يصحّ ؛ فإنّ غاية ما يلزم التسلسل في الحوادث والإرادات التي قد تكون متفرّقة مرتّبة ، وهو غير باطل عندهم.

وأمّا إلزاما للمتكلّم ، فلهم أن يقولوا بعدم احتياج الإرادة إلى مرجّح وعلّة ما ، أو يقولوا بجواز الترجيح بلا مرجّح كما صرّح به في المواقف وغيره (٣).

قال : والجواب أنّ تعلّقها إنّما هو بذاتها كما بيّنّا في طريقي الهارب وقدحي العطشان.

قولكم : فيستغني الممكن عن المرجّح ، قلنا : لا يلزم من ترجيح القادر لأحد مقدوريه بلا مرجّح ترجّح الممكن في حدّ ذاته من غير المرجّح.

وبالجملة ، فالترجيح بلا مرجّح غير الترجيح بلا مرجّح ، ولا يلزم من صحّته صحّته (٤) ، فتأمّل فيه ؛ فإنّه قيل باستلزام الترجيح بلا مرجّح الترجّح ، وقد يمنع ذلك ، فتأمّل.

وقال أيضا : قولكم : يلزم قدم الأثر ، قلنا : ممنوع ، وإنّما يلزم في الموجب الذي إذا اقتضى شيئا لذاته اقتضاء دائما ؛ إذ نسبته إلى الأزمنة سواء. وأمّا القادر ، فيجوز أن تتعلّق قدرته بالإيجاد في ذلك الوقت دون غيره » (٥).

__________________

(١) القائل هو الشريف الجرجاني في « شرح المواقف » ٨ : ٥٣.

(٢) « شرح المواقف » ٨ : ٥٣ ـ ٥٤ ، نقله بتصرف.

(٣) « شرح المواقف » ٨ : ٥٤ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٩٧.

(٤) « المواقف » ضمن « شرح المواقف » ٨ : ٥٤.

(٥) نفس المصدر السابق ، ص ٥٥.

٨٢

ويمكن أن يختار أنّه لا لذاتها ؛ بل للعلم بالمنفعة والمصلحة المترتّبة على ذلك الشيء الذي خلق على ذلك الوجه وذلك الزمان ، فالعلم هو داع ومرجّح وسبب لتعلّق الإرادة ، والإيجاد ـ وإن وجب بذلك ـ لا يخرج عن القادريّة ؛ لأنّه بالإرادة والاختيار ، وهو غير مناف للاختيار ، وهو ظاهر ، وقد ذكروه أيضا ، فتأمّل ؛ فإنّ علم الواجب في الأزل بأنّ في إيجاد شيء معيّن على وجه معيّن في وقت معيّن نفعا ومصالح لا في غيره لا يضرّ الاختيار ، بل ولا وجوب الإرادة ، فيختار لذلك ويوجده حينئذ وإن وجب الفعل بعد الإرادة بالعلم وعدم احتياج العلم إلى علّة غير الذات ، فتأمّل فيه ، فلا يحتاج إلى ما اختاره في « المواقف » أيضا من قوله : « وربما يقال : الفعل مع الدواعي أولى بالوقوع ولا ينتهي إلى الوجوب » مع تضعيفه بقوله : « وقد عرفت ضعفه » (١) ؛ لأنّه قد ذكر قبله « أنّ الفعل لا يوجد بالأولويّة ، بل لا بدّ من الانتهاء إلى الوجوب » (٢) على أنّه قد يمنع ذلك ، فتأمّل (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وبالجملة ، فمراد المصنّف ـ ظاهرا ـ أنّه ثبت فيما سبق أنّ العالم ـ بمعنى جميع ما سوى الله ـ حادث ، فيحتاج إلى محدث قادر ، وذلك القادر إن كان غير الله تعالى ، يلزم الواسطة بين الله وما سواه ، والواسطة غير معقولة ، فثبت أنّ ذلك القادر هو الله تعالى ، فثبت عقلا أنّه تعالى قادر موصوف بصفة القدرة.

ولكنّ الشارح القوشجي قال : « أقول : لم يثبت فيما سبق أنّ جميع ما سوى الله تعالى حادث ، بل إنّما ثبت حدوث الأجسام وعوارضها ، ولمّا لم يثبت عند المصنّف وجود المجرّدات أطلق القول بحدوث العالم ، لكن كما لم يثبت عنده وجود المجرّدات لم يثبت عنده عدمها أيضا ، كما قال في صدر الفصل الرابع في الجواهر المجرّدة : أمّا العقل فلم يثبت دليل على امتناعه ، وأدلّة وجوده مدخولة. فللمعترض

__________________

(١) « شرح المواقف » ٨ : ٥٥.

(٢) نفس المصدر ٣ : ١٦٤.

(٣) « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » للأردبيليّ : ٤٣ ـ ٤٩.

٨٣

أن يقول : لم لا يجوز أن يوجد الواجب تعالى بطريق الإيجاب جوهرا مجرّدا ليس بجسم ولا جسمانيّ ، قديما قادرا يكون هو الذي أوجد العالم الجسمانيّ بالقدرة والاختيار؟ » (١).

وأنا أقول : لمّا كان المصنّف من الملّيّين ، وإجماع الملّيّين على حدوث العالم ـ بمعنى جميع ما سوى الله ـ بالحدوث الواقعي المذكور يقتضي عدم الالتفات إلى احتمال الواسطة على الوجه المذكور ؛ لأنّها غير معقولة على هذا الفرض المقتضي للعلم بإخبار الصانع بأنّي أوجدت العالم على وجه الحدوث المذكور ، حكم بما ذكر.

وإلى ما ذكرنا أشار المحقّق الخفري حيث قال : « أقول : العمدة في إثبات حدوث العالم إجماع الملّيّين والحديث (٢) المشهور الذي لا دليل عقليّ يعارضه ، فليس للمتكلّمين التفات إلى هذا التجويز (٣) المخالف للإجماع والحديث ، ولهذا قال المصنّف : « والواسطة غير معقولة » أي لا دليل عقليّ عليه ، فتجويزها ـ مع أنّه مخالف للإجماع المذكور والحديث المشهور ـ غير ملتفت إليه.

وأيضا الدليل العقلي قائم بأنّ الممكن الذي لا وجود له باعتبار ذاته لا يوجد جوهرا ، وهذا ممّا يوافق كلام الحكماء.

قال بهمنيار في كتابه المسمّى بـ « التحصيل » : « وإن سألت الحقّ ، فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ الوجه من معنى ما بالقوّة ، وهذا هو صفة الأوّل تعالى لا غير ؛ إذ لو كان مفيد الوجود ما فيه معنى بالقوّة ـ سواء كان عقلا أو جسما ـ كان للعدم شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل » (٤) انتهى.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠.

(٢) هو قوله عليه‌السلام : « كان الله ولم يكن معه شيء ».

(٣) أي احتمال وجود جوهر مجرّد قديم قادر يكون واسطة. ( منه رحمه‌الله ).

(٤) « التحصيل » : ٥٢١ ـ ٥٢٢.

٨٤

فمعنى قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » أنّ الواسطة في إيجاد العالم الجسمانيّ ممّا ينفيه البرهان العقلي الدالّ على أنّ إيجاد الجواهر والأعراض المفارقة لذات الموجد ممّا هو مختصّ بالمبدإ الأوّل تعالى ، وهذا لا ينافي كون حركات العباد صادرة عنها » (١). انتهى.

وقال الفاضل اللاهيجيّ : « يعني أنّ حدوث العالم ـ بمعنى جميع ما سوى الله ـ وإن لم يكن ثابتا بالدليل العقليّ ، بل الثابت بالدليل إنّما هو حدوث عالم الأجسام فقط ، لكنّه ثابت بالإجماع والحديث اللّذين هما المعتمدان فيما لا سبيل للعقل إليه ، فالواسطة ـ أي كون بعض ما سوى الله قديما وواسطة في الإيجاد بين الله وبين سائر ما سواه ـ غير معقولة أي غير ثابتة بالدليل العقليّ ، وما لا يكون ثابتا بالدليل العقليّ إذا كان مخالفا للإجماع والحديث ، فهو باطل ، ولا يلتفت إلى تجويز الباطل عاقل.

وقد يقال (٢) : إثبات حدوث العالم بالإجماع والحديث يستلزم الدور ؛ لتوقّف حجّيّتهما على إثبات النبوّة ، المتوقّف على قدرة الواجب تعالى ، وإلاّ لجاز أن لا يقدر على عدم إظهار المعجزة على يد الكاذب.

وقد يجاب (٣) بأنّ إثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة بمعنى وقوع الفعل والترك ،

__________________

(١) « حاشية الخفري على إلهيّات شرح القوشجي » الورقة ٥ ، مخطوط.

(٢) انظر : « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » للخوانساريّ : ١٤٨.

(٣) قوله : « وقد يجاب ... ». أقول : قال الفاضل الجيلاني المدعوّ بـ « ملاّ شمسا » واسمه محمد في حاشيته على إلهيّات التجريد وشرحه وحاشية الخفري : « والحقّ أن يقال : إنّ إثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار ، لا على العلم بوجود القدرة والاختيار ؛ لأنّا نعلم بديهة أنّ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا بحسب تنزيهه تعالى عنه ، وهذا القدر كاف في إثبات النبوّة ، وبعد إثبات النبوّة يثبت صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ إثبات صدقه يثبت في كلّ ما أخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون إثبات النبوّة موقوفا على إثبات القدرة ، فقد حصل اختلاف الجهة ، فلم يلزم الدور » انتهى.

وفيه أنّ إثبات النبوّة للمعتقد موقوف على العلم بالقدرة الواقعية ؛ للعلم بأنّ إظهار المعجزة اختياري ، بل يتوقّف العلم به على العلم بالقدرة ؛ لما لا يخفى ، فلم تختلف الجهة. ( منه رحمه‌الله ).

٨٥

بل بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ؛ فإنّه عند الحكماء أيضا يكون أفعاله تعالى مشتملة على حكم ومصالح ، فلا يجوز عليه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، وبأنّه بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق صاحبها ، فيحصل العلم بكلّ ما أخبر به حتّى بوجود الواجب.

وفي هذا تأمّل ».

ثمّ قال (١) : « مدلول كلام التحصيل أنّ ما فيه معنى ما بالقوّة لا يمكن أن يكون مفيدا للوجود ، لا أنّه لا يمكن أن يكون واسطة في الإيجاد.

وأيضا يرد عليه ما أورده المحقّق الفخري (٢) من أنّه إن أراد بالمعنى في قوله : « ما فيه معنى ما بالقوّة » الصفة المتحقّقة في الواقع ، سلّمنا الملازمة ، لكن لا نسلّم أنّ العقل كذلك ؛ لما تقرّر عندهم من أنّه ليس له حالة منتظرة. وإن أراد به أعمّ من ذلك ، حتّى يشمل الإمكان الذاتي الذي ينتزعه العقل من مجرّد ملاحظة ذات الممكن ، منعنا الملازمة مستندا بأنّه ليس للعدم ـ الذي ينسب العقل ذات الممكن إليه وإلى الوجود في الملاحظة ـ تحقّق في نفس الأمر ، حتّى يكون له شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة المحضة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل » (٣) انتهى.

وقد دقّق وأجاب عن هذا خاتم الحكماء والمجتهدين (٤) ـ على ما بلغنا ـ بالفرق بين قولنا : « معنى ما بالقوّة » ـ على التنكير ـ وقولنا : « معنى ما بالقوّة » على الإضافة ؛ فإنّ المراد من الأوّل هو أن يكون الذات بالفعل ، ويكون معنى ما وصفة ما له بالقوّة ،

__________________

(١) أي الفاضل اللاهيجي في الحاشية.

(٢) هو فخر الدين الحسيني الأسترآبادي ، وأورد ما نقله المصنّف عنه في حواشيه على شرح القوشجي للتجريد ولكن لم نعثر عليها. نعم ، نقل المحقق الخوانساريّ رحمه‌الله في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : ١٥١.

(٣) لم نعثر على حاشية اللاهيجي ، ولكن ذكر في « شوارق الإلهام » : ٥٠٩ نحو ذلك.

(٤) هو السيد الداماد رحمه‌الله على ما نقل المحقّق الخوانساري في « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : ١٥١.

٨٦

وهذا لا يكون إلاّ في المادّيّات ؛ لأنّ المجرّدات جميع صفاتها حاصلة لها بالفعل ، والمراد من الثاني أن يكون الذات والصفة ـ كلتاهما ـ داخلتين تحت مفهوم « ما بالقوّة » وهذا المعنى شامل للمادّيّات والمجرّدات ؛ إذ كلّ ممكن بما هو ممكن ومن حيث ذاته لا يكون إلاّ بالقوّة. ومراد المستدلّ هو الثاني.

ثمّ قال : « ثمّ أقول : يمكن أن يقال : معنى قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » هو أنّ استناد صدور العالم الحادث إلى الواسطة القديمة إنّما يصحّ بإرادة مفوّضة إليها ، مستندة إلى ذاتها بالاستقلال ؛ إذ لو لم يكن الإرادة مفوّضة إليها ، مستندة إلى ذاتها ، بل مستندة إلى الواجب الموجب بالمفروض ، استحال صدور الحادث عنها لا محالة ، والتفويض والاستقلال بالتأثير من الممكن باطل غير معقول » (١).

وظنّي أنّ هذا توجيه وجيه. ويمكن بعيدا أن يكون هذا هو مراد المحشّي رحمه‌الله ، فتأمّل.

وقد يوجّه (٢) قول المصنّف بتوجيهات :

منها : أنّه ردّ لما قد يقال : إنّ الواجب واسطة بين الموجب والمختار ؛ لأنّ المراد بالإيجاب هو ما نعلمه من الطبائع وهو منفيّ عنه تعالى لا محالة ، والمراد بالاختيار هو ما نعلمه من الحيوان ـ مثلا ـ وهو أيضا منفيّ عنه تعالى ؛ لكون اختيار الحيوان ممكنا واختياره يجب أن يكون واجبا ، فهو واسطة بين الموجب الذي نفهمه وبين المختار الذي نفهمه ، فأشار المصنّف إلى أنّه لا معنى للواسطة بين الموجب والمختار ؛ إذ المختار ما يكون فعله باختياره سواء كان اختياره واجبا أو ممكنا ، ألا ترى أنّ صفاته تعالى ليست كصفاتنا ، ولا يلزم ثبوت الواسطة ، فكذلك الاختيار أيضا.

__________________

(١) انظر : « شوارق الإلهام » : ٥٠٤ ، وقد ذكر هنا ما يقرب من هذا الكلام.

(٢) حول التوجيهات المذكورة على كلام المحقّق الطوسي انظر : « كشف المراد » : ٢٨١ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥٠٣ ـ ٥٠٤ ؛ « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد » للأردبيليّ : ٤٣ ـ ٤٩ ؛ « حاشية الخفري على إلهيّات شرح القوشجي » الورقة ٥ ، مخطوط.

٨٧

ومنها : أنّ حاصل الكلام هو أنّه لمّا ثبت حدوث العالم ، انتفى الإيجاب ، ولمّا انتفى الإيجاب ثبت الاختيار ؛ إذ لا واسطة بين الإيجاب والاختيار ، فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ، وذلك لأنّ موجد الشيء إمّا أن يمكن تخلّف أثره عنه وهو المختار ، أولا وهو الموجب ، ولا واسطة بين النفي والإثبات.

ومنها : أنّه إشارة إلى ردّ ما يلزم الأشاعرة القائلين بأنّ القدرة زائدة على الذات (١) فإنّها حينئذ لا تكون مستندة إلى غير الذات ، بل إلى الذات لا بالقدرة بل بالإيجاب ، فيلزم كون الواجب موجبا في البعض ـ وهو صفة القدرة ـ وقادرا في البعض ـ وهو غير ماهيّة الصفات والأفعال ـ فيلزم الواسطة ، والتزموها وهي غير معقولة ؛ لما سيجيء من أنّ صفاته تعالى عين ذاته » انتهى.

وقال شمس العلماء والمحشّين (٢) ـ بعد عنوان قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » ـ : « معنى كلامه موافق لما ذكره في نقد المحصّل (٣) ولا بأس بأن ننقل عبارته ؛ إذ قال فيه ـ بعد ما نقل هذا الاعتراض الذي ذكره الشارح عن الإمام الرازي ـ : والمعتمد في إبطالها أنّ الواسطة يمتنع أن تكون واجبة الوجود ؛ لامتناع أن يكون الواجب أكثر من واحد ، فإذن هي ممكنة وهي من جملة العالم ؛ لأنّ المراد من العالم ما سوى المبدأ الأوّل ، فإذن وقوع الواسطة بين واجب الوجود لذاته وبين العالم محال » انتهى.

وقد يقال (٤) في توجيه كلام المصنّف ـ وهو قوله : « والواسطة غير معقولة » ـ : « إنّه بعد نفي الإيجاب يتوهّم أنّه لا يلزم ثبوت الاختيار ؛ لأنّ الإيجاب الذي علمناه من الطبائع منفيّ عن الواجب جلّ شأنه ، لكن لمتوهّم أن يقول : إنّ الاختيار الذي نشاهد

__________________

(١) تقدّم في أوائل الكتاب الكلام عن مذهب الأشاعرة بزيادة الصفات على الذات.

(٢) لعلّه إشارة إلى الملاّ شمسا الجيلاني في حاشيته على التجريد.

(٣) « نقد المحصّل » : ٢٧٥.

(٤) نسب اللاهيجي هذا التوجيه إلى القيل. انظر : « شوارق الإلهام » : ٥٠٤.

٨٨

من بعض الموجودات كالإنسان ـ مثلا ـ ليس في الواجب أيضا ؛ لأنّ اختيار الواجب تعالى ليس من قبيل اختيارنا ؛ لأنّ اختياره تعالى واجب واختيارنا ممكن ، فيلزم ثبوت الواسطة بين الإيجاب الذي في الطبائع وبين الاختيار الذي فينا ، فأشار قدس‌سره إلى دفع هذا بقوله : والواسطة غير معقولة ».

وحاصله : أنّا سلّمنا أنّ اختيار الواجب ليس من قبيل اختيارنا ، بمعنى أنّه ليس ممكنا واختيارنا ممكن ، وأنّه ليس زائدا واختيارنا زائد ، لكن هذا لا يخرجه عن كونه اختيارا ، بل اللازم حينئذ أن يكون اختياره ـ جلّ ذكره ـ آكد وأقوى من اختيارنا ، ويكون اختياره فردا كاملا من الاختيارات ، ومثل ذلك أنّ الوجود إذا فرضناه قائما بذاته ، فهذا لا يخرجه عن كونه وجودا ، بل يكون فردا تامّا من الوجودات. وكالبياض مثلا ؛ فإنّه لو جاز قيامه بنفسه بدون الموضوع لكان بياضا تامّا حاصلا في نفسه ، فقس على ذلك علمه تعالى وقدرته وحياته وغيرها من الصفات الكماليّة.

وعلى هذا التوجيه يكون اعتراض الشارح على المصنّف قدس‌سره غير مقابل نشأ من سوء فهم مراده قدس‌سره ، فوجّه بعض الشارحين (١) كلام المصنّف بحيث يكون اعتراض الشارح غير مقابل أيضا.

وحاصله : أنّ موجد الشيء لا يخلو إمّا أن يكون بوجه لا يمكن أن يتخلّف عنه معلوله ، أولا ، فإن كان الأوّل كان موجبا ، وإن كان الثاني كان مختارا ، فلو لم يكن البارئ ـ سبحانه وتعالى ـ مختارا كان موجبا ؛ لأنّه لا واسطة بين كون موجد العالم قادرا وبين كونه موجبا على ما ذكرنا ، فتجويز أنّ موجد العالم لا يكون قادرا ولا موجبا ، بل يكون متوسّطا بين الإيجاب والاختيار غير معقول. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : « والواسطة غير معقولة ».

__________________

(١) ذكر اللاهيجي رحمه‌الله هذا التوجيه في « شوارق الإلهام » : ٥٠٤.

٨٩

والوجهان متقاربان.

قيل (١) : « أقول : لا يبعد كون قول المصنّف قدس‌سره إشارة إلى ردّ قول الأشاعرة الذاهبين إلى أنّ القدرة زائدة على الذات. وتوجيهه : أنّه لمّا امتنع تعدّد الواجب تكون القدرة ممكنة ، ولا يجوز أن تكون علّتها غير الذات ؛ لاستحالة احتياج الواجب في الصفة الحقيقيّة إلى أمر خارج ؛ لكونه نقصا يجب تنزيهه تعالى عنه اتّفاقا ، ولأنّ غير الذات مستند إلى الذات ، فيكون الذات موجبا في إيجاده لا قادرا ؛ لاستحالة التسلسل ، ولا يجوز أن يكون فاعلا بالاختيار للقدرة ؛ لهذا الأخير بعينه ، فيلزمهم كون الذات موجبا في البعض ، فلا يكون قادرا على الكلّ ، وليس أيضا موجبا في الكلّ وهو الواسطة بين القادر والموجب المنفيّة بقوله : « والواسطة غير معقولة. وسيجيء بيان عدم المعقوليّة في الكتاب عن قريب ، وحينئذ لا توجّه لما سيذكره الشارح » انتهى كلامه بألفاظه.

ويمكن أن يناقش بأنّه لا حسن لهذا التوجيه ؛ لأنّ ردّ مذهب الأشاعرة ، وبيان المفاسد ـ التي تلزم عليهم ـ سيجيء وهو مبحث برأسه ، وليس غرض المصنّف الإشارة إلى ردّ مذهبهم هنا ؛ لأنّه قدس‌سره سيجعل له بحثا على حدة على ما سيأتي.

ويمكن أن يقال : إنّ قول المصنّف قدس‌سره إشارة إلى جواب الاعتراض الذي أورده الشارح.

تقريره : أنّ المختار أكمل وأتمّ من الموجب ، والمنع عليه مكابرة كما ذكره غياث المدقّقين (٢) ، والخالق أكمل من المخلوق وهذا بديهيّ أيضا ، فإذا كان كذلك لم يصحّ أن يكون المخلوق قادرا وخالقه غير قادر ، فتجويز كون الواجب غير قادر وأثره قادرا غير معقول ؛ لأنّه يستلزم أن يكون المخلوق أشرف من خالقه وأكمل منه.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ قول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » إشارة إلى دفع

__________________

(١) القائل هو فخر الدين. ( منه رحمه‌الله ).

(٢) انظر « الحاشية على إلهيّات الشرح الجديد للتجريد » : ٤٦.

٩٠

ما أورده الشارح.

وتقريره : أنّ موجد القادر المختار وخالقه يجب أن يكون قادرا كما أنّ موجد العالم يجب أن يكون عالما ، على ما سيجيء في مبحث إثبات علم الواجب جلّ شأنه ، فتجويز كون الواسطة قادرا مختارا دون موجده وخالقه غير معقول.

والوجهان متقاربان لكنّ الفرق بينهما بيّن (١).

واعلم أنّ جميع ما ذكرنا من التوجيهات لقول المصنّف : « والواسطة غير معقولة » إنّما هو على سبيل المماشاة وعدم بيان الإيجاب الذي هو محلّ النزاع بين الحكماء والمتكلّمين ، فنقول : قد عرفت فيما سبق أن الإيجاب له ثلاثة معان :

أحدها : الإيجاب الذي يكون للطبائع كالنار ، وهذا المعنى منفيّ عن الواجب جلّ شأنه بإجماع العقلاء.

وثانيها : الإيجاب الخاصّ وهو الوجوب بالنظر إلى الإرادة ، وهذا الوجوب ثابت له تعالى بإجماع الحكماء والمعتزلة ؛ لأنّه لا نزاع بين الحكماء والمتكلّمين في إثبات القدرة والاختيار ، على ما نقلنا عن المصنّف في شرح الإشارات. (٢)

وثالثها : امتناع انفكاك وجود العالم عن وجود الواجب تعالى ، وهذا المعنى ثابت له تعالى عند الحكماء القائلين بقدم العالم ، ومنفيّ عنه جلّ شأنه بإجماع المتكلّمين ، بل بإجماع الملّيين ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في المعنى الأخير ، وهذا النزاع يرجع إلى النزاع في قدم العالم وحدوثه ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه.

إذا عرفت هذا التحقيق فيمكن لك توجيه كلام المصنّف على وجه يكون مبنيّا

__________________

(١) لأنّ الوجه الأوّل من باب عدم صحّة زيادة الفرع على الأصل ، والوجه الثاني من باب عدم صحّة كون معطي الكمال فاقدا له. والوجهان وإن كانا مستندين إلى عدم صحّة نقص الفاعل الموجد للكامل إلاّ أنّ الأوّل باعتبار ملاحظة قبول الكمال من الناقص ، والثاني باعتبار ملاحظة إعطاء الكمال مع فقده ( منه رحمه‌الله ).

(٢) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٨١ ـ ٨٢.

٩١

على هذا التحقيق ، كأن يقال : إنّ هذا جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّ معترضا يعترض بأنّه بقي احتمال آخر وهو أنّه يجوز أن لا يكون الواجب جلّ شأنه موجبا بالإيجاب الذي للطبائع ، ولا موجبا بالإيجاب الذي بالنظر إلى الإرادة والاختيار ، فلا يكون موجبا ولا مختارا ، بل يكون واسطة بينهما ، فيكون موجبا بإيجاب آخر بينهما.

فأجاب بأنّ الواسطة غير معقولة. ووجه عدم المعقوليّة هو أنّه إن لم يكن له شعور وإرادة واختيار في فعله فيكون كالطبائع ، وإن كان له شعور وإرادة واختيار في فعله فيكون مختارا.

وأيضا سيجيء البرهان على إثبات القدرة والاختيار له جلّ شأنه ، فلا معنى للواسطة أصلا.

ويمكن حمل كلام المصنّف على وجه آخر وهو أنّ هذا ردّ على القول بأنّ النزاع بين الحكماء والمتكلّمين في أمرين : أحدهما في الإيجاب والاختيار.

وثانيهما في القدم والحدوث.

وحاصل الردّ هو أنّ الإيجاب الذي للطبائع منفيّ عنه جلّ شأنه بإجماع العقلاء وإثبات القدرة والاختيار ، والإيجاب بسبب الإرادة والاختيار مشترك بين الحكماء وأكثر المتكلّمين ، والواسطة بين الإيجاب الذي للطبائع وبين الإيجاب الذي بالإرادة والاختيار غير معقولة ، فلا يتصوّر النزاع في الإيجاب ، فبقي أن يكون النزاع منحصرا في قدم العالم وحدوثه ، فالنزاع بين الحكماء والمتكلّمين ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه ؛ لأنّ الواسطة غير معقولة.

وهذا توجيه وجيه موافق لما ذكره المصنّف قدس‌سره في شرح الإشارات من أنّه لا نزاع بين الحكماء والمتكلّمين في إثبات القدرة والاختيار للواجب جلّ شأنه ، بل النزاع بينهما في قدم العالم وحدوثه (١).

__________________

(١) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٨١ ـ ٨٢.

٩٢

ثمّ قال بعد عنوان قول الشارح القوشجي : « أقول : لم يثبت فيما سبق ... » : « هذا الاعتراض إنّما نشأ من عدم فهم غرض المصنّف ؛ لأنّ المصنّف لم يقل : وجود العالم بعد عدمه لما سبق ينفي الإيجاب ، حتّى يرد عليه أنّه لم يثبت فيما سبق إلى آخر ما ذكره الشارح.

وبالجملة ، ليس في كلام المصنّف إشارة إلى تعليل هذا المطلب بشيء أصلا ، فكيف يصحّ الجزم بأنّ تعليله يكون بما سبق ثمّ الاعتراض عليه؟!

ويحتمل أن يكون تعليل هذا المطلب بالإجماع والحديث النبويّ المشهور (١) الدالّ صريحا على هذا.

ولمّا كان المشهور أنّ دليل وجود العالم بعد عدمه هو الإجماع والحديث النبويّ المشهور الدالّ صريحا على هذا ، لم يصرّح المصنّف قدس‌سره بهما ؛ لأنّ الشهرة كفت مئونة الذكر ، وقد عرفت سابقا توجيهات أخر لكلام المصنّف بحيث يندفع بها اعتراض الشارح » انتهى كلامه في هذا المقام وهو جيّد ؛ لما لا يخفى.

ثمّ قال ـ بعد عنوان ما حكى الفاضل الخفري عن بهمنيار من قوله : « كان للعدم شركة في إفادة الوجود ... » ـ : « تحرير هذا البرهان وتوضيحه على وجهه أنّ كلّ ممكن بما هو ممكن وباعتبار ذاته بذاته لا يكون إلاّ بالقوّة الصرفة ، وليس له بهذا الاعتبار استشمام رائحة من الفعل أصلا وهو ظاهر جليّ ، فلا بدّ أن يكون لكلّ ممكن مخرج من القوّة إلى الفعل ، ولا بدّ أن يكون ذلك المخرج ممّا هو مخرج من القوّة إلى الفعل بالفعل من كلّ الوجوه ، وإلاّ يلزم أن يكون للقوّة دخل في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل وهو باطل بالبديهة ، فيلزم أن يكون المخرج المذكور بالفعل من كلّ الوجوه ، والفعليّة من كلّ الوجوه إنّما هي صفة الأوّل تعالى شأنه ، فثبت من هذا أنّ مقتضي الفعليّة والوجود ليس إلاّ الواجب جلّ سلطانه.

__________________

(١) مضى تخريج الحديث في ص ٥١ و ٦٤.

٩٣

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الممكن بعد اكتساب الوجود من الواجب جلّ شأنه ، وبعد خروجه من القوّة إلى الفعل يفيض الوجود على ممكن آخر؟

قلت : مسلك التحليل يبطل هذا الاحتمال. بيان ذلك : أنّ العقل يحلّل الممكن الموجود إلى ما بالقوّة ، وإلى ما بالفعل ، ثمّ نقول : إنّ ما بالقوّة لا دخل له في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل فيطرحه خلف قاف ثمّ ينظر إلى ما بالفعل ، فلو كان مشوبا بالقوّة ، فيخلّله أيضا وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما بالفعل المحض ، وليس هذا إلاّ الواجب بالذات جلّ ذكره.

فظهر من هذا سرّ ما وقع في الكتاب الكريم الإلهي ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) ، ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (٢) و ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٣) وصحّة قول من قال : إنّ الإمكان علّة للحاجة إلى علّة ما في بادئ الرأي وأوّل النظر ، وبعد الفحص وتعمّق النظر ينكشف أنّ الإمكان علّة للاحتياج إلى علّة واجبة الوجود بالذات.

فإن قيل : إذا كان موجد جميع الأشياء هو الواجب جلّ ذكره ، فينهدم بنيان التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب وغيرها.

قلت : لا منافاة بين ما حكم عليه البرهان واقتضاه ، وبين كون العبد فاعلا مختارا ، الذي هو مناط صحّة التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب ؛ لأنّ الذي دلّ عليه البرهان هو أنّ مفيض الفعليّة والوجود لا يكون إلاّ الواجب جلّ شأنه ، لا أنّه لا يكون ممكن موقوفا عليه بالنسبة إلى ممكن آخر ، ولا يكون ممكن جزءا لممكن آخر ، فهذا ممّا لا ينفيه البرهان ، فنقول : إنّ العبد فاعل إنّما هو بمعنى أنّه مباشر للفعل ، ويكون هو باعتبار قدرته وإرادته جزءا أخيرا من العلّة التامّة ، فقدرة العبد وإرادته لهما دخل في أفعاله ، وهذا القدر كاف في صحّة التكليف والثواب والعقاب.

__________________

(١) الرعد (١٣) : ١٦ ؛ الزمر (٣٩) : ٦٢.

(٢) الأنعام (٦) : ١٠٢.

(٣) فاطر (٣٥) : ٣.

٩٤

وما يشعر بذلك ما روي عن بعض أئمّتنا ـ صلّى الله عليهم ـ : « لا جبر ولا تفويض ـ في أفعالنا الاختياريّة ـ بل أمر بين أمرين » (١).

إلى أن قال : « وإذا عرفت بالبرهان أنّ مفيض الوجود لا يكون إلاّ الواجب جلّ سلطانه ، وأنّ الإمكان بالفحص والبرهان علّة للاحتياج إلى الواجب بالذات لا إلى علّة ما مطلقا ، فاعلم أنّ سلسلة الممكنات المترتّبة إذا لوحظت باعتبار أنّ كلّ واحد واحد منها بحسب جوهر ذاته الممكنة مجعول الواجب بالذات ، تكون بهذا الاعتبار سلسلة عرضيّة ، وجميع آحاد تلك السلسلة متساوية في الفاقة والاستناد إليه جلّ شأنه ابتداء بلا واسطة ، وإذا لوحظت تلك السلسلة باعتبار أنّ بعضها مربوط ببعض آخر ومتوقّف عليه من حيث الشرطيّة والمشروطيّة والسببيّة والمسبّبيّة ـ بناء على أنّ بعضا لمّا كان ناقصا في حدّ ذاته بحيث يمتنع استناده إليه جلّ شأنه بدون الشروط والأسباب ، فيحتاج إلى الشروط والأسباب ليمكن له الاستناد إليه جلّ شأنه ـ تكون سلسلة طوليّة منتهية إليه تعالى بالضرورة البرهانيّة ، فالممكنات باعتبار السلسلة الطوليّة يختلف مراتب احتياجها إلى الواجب جلّ سلطانه ، فكلّ ما كان أبعد عن جنابه تعالى يكون احتياجه إليه جلّ شأنه أكثر ؛ لأنّه يحتاج إلى جنابه تعالى في إفاضة وجود نفسه وإفاضة وجود شرائطه وأسبابه ؛ لنقصانه عن أن يستند إليه جلّ شأنه بدون تلك الشروط والأسباب ، وكلّ ما كان أقرب يكون احتياجه أقلّ ؛ ولهذا قال بعض الأكابر من الحكماء : كلّما كان المعلول أبعد كان الفيض والخير أكثر ، وكلّما كان المعلول أقرب كان الفيض والخير أقلّ فالعقل الأوّل والنظام (٢) الجملي يستندان إلى الواجب جلّ سلطانه بلا واسطة ، فلا يتصوّر سلسلة طوليّة بالقياس إليهما بل المتصوّر بالقياس إليهما هو السلسلة العرضيّة ، وبالقياس

__________________

(١) « الكافي » ٢ : ١٦٠ باب الجبر والقدر ... ح ١٣ ؛ « التوحيد » : ٣٦٢ باب نفي الجبر والتفويض.

(٢) أي جميع ما سوى الله. ( منه رحمه‌الله ).

٩٥

إلى ما عداهما يتصوّر السلسلة الطوليّة والعرضيّة جميعا.

ومن قال بهذه التحقيقات كالمحقّقين من الحكماء والمتكلّمين لو قال : إنّ بعض ممكن (١) علّة لبعض آخر ، فليس مراده إلاّ الشرطيّة والسببيّة ، لا أنّه يصحّ أن يكون ممكن علّة فاعليّة بالقياس إلى ممكن ، فلا يعترض عليه بما اعترض أبو البركات البغدادي ، وحاصل اعتراضه أنّ الحكماء يقولون تارة : لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، وتارة : إنّ العقل الأوّل علّة للعقل الثاني فبين كلاميهم تدافع (٢).

وأجاب عنه المصنّف بما حاصله : أنّ مرادهم بكون العقل الأوّل علّة للعقل الثاني ليس إلاّ السببيّة والمسبّبيّة ، والشرطيّة والمشروطيّة ، لا أنّ العقل الأوّل علّة مفيضة لوجود العقل الثاني ، والعقل الثاني يكتسب الوجود منه (٣).

ومن قال بأنّ بعض الممكنات يفيض وجود بعض آخر كالعقل الأوّل للثاني لا يقول بأنّ الإمكان علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات ابتداء ، بل علّة الانتهاء إلى الواجب بالذات ، بمعنى أنّ الممكن له احتياجان : احتياج إلى علّته القريبة ونحوها من الوسائط ، واحتياج إلى الواجب ، فليس شيء من الممكنات غنيّا عن الواجب » انتهى. وهو جيّد.

الثاني (٤) ـ أي من جملة أنواع الاعتراضات للخصم وأدلّة المخالفين وحججهم على نفي القدرة ـ أنّ اتّصاف الواجب تعالى بالقدرة ممّا يقتضي صحّة الفعل والترك ، وكلّ ما هو كذلك فهو محال.

أمّا الصغرى فواضحة ؛ لأنّها من لوازم القدرة ، بمعنى كون الشخص بحيث إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، كما لا يخفى.

__________________

(١) كذا ، والصحيح : « الممكنات ».

(٢) « المعتبر في الحكمة » ٣ : ١٦١ ـ ١٦٣ ؛ « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٢٤٩.

(٣) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٤) مرّ الأوّل في ص ٧٧.

٩٦

وأمّا الكبرى ، فلأنّ صدور الأثر عن المؤثّر إمّا واجب ، أو ممتنع لا يخلو عن أحدهما قطّ ؛ لأنّ المؤثّر إن استجمع شرائط التأثير ، فصار علّة تامّة ، وجب صدور الأثر ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وإن لم يستجمع كان ممتنعا ، فيكون إمكان الفعل والترك معا محالا ، ومستلزم المحال محال ، فالاتّصاف بالقدرة المستلزم للإمكان المحال محال ، فلا يمكن كونه تعالى قادرا.

وأشار المصنّف إلى جوابه بقوله : ( ويمكن عروض الوجوب والإمكان للأثر بالاعتبارين ) بمعنى أنّ الكبرى ممنوعة ؛ لمنع امتناع إمكان الفعل حتّى يكون الاتّصاف بالقدرة مستلزما للمحال ؛ فإنّ الأثر باعتبار ملاحظة القدرة وحدها وملاحظة ذات القادر من غير ملاحظة الإرادة ممكن ، كما أنّه ممكن بالذات ، فالشرطيّة الثانية ممنوعة ، فإنّ الأثر بشرط عدم الاستجماع للشرائط محال لا حال العدم ، بل هو حينئذ مع ملاحظة القدرة ممكن ، كما أنّه بالذات ممكن ، وباعتبار الإرادة على النحو الأصلح واجب ، وهذا وجوب بالاختيار ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يحقّقه ويدلّ على أنّ المؤثّر قادر مختار ؛ لأنّ القادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل ويترك بأن يريد الفعل فيفعل على وجه الوجوب ، ويريد الترك ، أولا يريد الفعل فيترك وجوبا ، فالأثر يعرضه الوجوب والإمكان بالاعتبارين ، بل قد يعرضه الامتناع أيضا باعتبار اشتراط عدم الشرائط كما أشرنا إليه ، فلا يكون الاتّصاف بالقدرة مستلزما للمحال حتّى يكون محالا. هكذا قرّر الشارح القوشجي (١) والعلاّمة في شرح الكتاب (٢) مع تفاوت ما.

وأورد عليه الفاضل الخفري (٣) بأنّ الوجوب الناشئ من الإرادة التي هي عين الذات ينافي القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل والترك كما هو مراد المتكلّمين ؛ لأنّ

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » : ٣١٠ ـ ٣١١.

(٢) « كشف المراد » : ٢٨٠ وما بعدها.

(٣) « حاشية الخفري على إلهيات شرح القوشجي » الورقة ٥ ، مخطوط.

٩٧

الإرادة إذا كانت عين الذات كانت لازمة لها ، فلا يمكن الترك.

نعم ، الوجوب بالاختيار والإرادة التي هي غير زائدة على الذات لا ينافي القدرة والاختيار والإرادة على تفسير الحكماء ، بمعنى إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، لكن شاء في الأزل ، ففعل فيه بالمشيئة القديمة التي هي غير زائدة على الذات ولا على العلم بالنظام الأعلى.

والحاصل : أنّ انفكاك العلّة التامّة عن المعلول في الزمان محال ، فكيف حكم بانفكاك إرادة الواجب تعالى ـ مع كونها غير زائدة على الذات ـ عن تعلّقها بالمراد في الزمان كما حكم به المتكلّمون ، فاللائق بهذا المقام إيراد تحقيق شاف كاف يوجب طرح ما قيل فيه خلف قاف (١).

أقول : الإرادة الموجبة للتأثير هي المشيئة الزائدة الحادثة لا ما هو عين الذات كما مرّت إليه الإشارة ، فترتفع المنافاة ، مضافا إلى ما يقال من أنّ المعلول هو الأمر الذي يتعلّق به العلم بالأصلح وهو الحادث في الوقت المعيّن ، لا القديم الأزلي حتّى يلزم وجوده في الأزل ، فيلزم قدم العالم حتّى على القول بكون الإرادة زائدة قديمة ؛ لأنّ الأصلح بحال المعلول هو الوجود الحدوثيّ لا الأزليّ مع جواز (٢) كون الوجود الأزليّ ممتنعا كشريك البارئ ، فلا يصير متعلّق الإيجاد ؛ لنقص القابل لا الفاعل ، أو لاقتضاء تحقّق جزأي القدرة تعلّق المشيئة بالترك والعدم في الجملة ، فيصير ممتنعا بالعرض ، فلا يرد ما أورده جمال العلماء (٣) من أنّ الوجود الأزليّ للممكن إذا كان ممتنعا بذاته ، فذاته لا بدّ أن يقتضي العدم ، فإن اقتضى العدم مطلقا ، فيجب أن يكون معدوما دائما ، وإلاّ يلزم الانقلاب. وإن اقتضى العدم في وقت ، فآل الأمر إلى مدخليّة الوقت ، فلا بدّ من القول بقدم الزمان ، وحينئذ فلا حاجة إلى التمسّك بما ذكر ؛ إذ

__________________

(١) انتهى كلام الخفري.

(٢) هذا كلام أحد تلامذة السيد الداماد رحمه‌الله. انظر : « الحاشية على حاشية الخفري على الشرح الجديد » : ١٥٩ و ٣٤٩.

(٣) هو الآقا جمال الخوانساري رحمه‌الله. انظر المصدر السابق : ١٥٩.

٩٨

القول بقدم الزمان يكفي لتصحيح ربط الحادث بالقديم.

وقال شمس المحشّين : « وتقرير الدليل على وجه يكون كلام المصنّف جوابا له هو أنّ القدرة والاختيار على الفعل والأثر الذي هو المعلول فرع إمكان ذلك الأثر ، وإمكان ذلك الأثر محال ؛ لأنّ الأثر إمّا واجب الوجود أو ممتنع الوجود ؛ لأنّ الفاعل إمّا مستجمع لجميع شرائط التأثير ، أولا ، فإن كان مستجمعا لها فالأثر واجب الوجود ، وإن لم يكن مستجمعا لها كان الأثر ممتنع الوجود ، فلم يتحقّق إمكان الأثر حتّى تصحّ القدرة عليه.

وتقرير الجواب : أنّ الأثر ممكن بالنظر إلى ذاته ، وواجب بالنظر إلى استجماع شرائط الفاعل ، وممتنع بالنظر إلى عدم استجماع الشرائط ، والإمكان الذاتي لا ينافي الوجوب بالغير أو الامتناع بالغير ، والتنافي إنّما يكون بين الإمكان الذاتي والوجوب الذاتي والامتناع الذاتي.

وعلى ما قرّرنا لا وجه لقول الشارح (١) : « وهذا ما يقال : إنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » ؛ لأنّ النافي للقدرة إنّما يكون دليله بالنظر إلى جانب المعلول ، فقول الشارح : « وهذا ما يقال أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار » إنّما يناسب لجواب الدليل الثاني.

وأيضا : الإمكان في عبارة المصنّف منسوب إلى الأثر نفسه لا إلى صدور الأثر كما ذكره الشارح ، فتوجيه الشارح ليس بوجيه ، فتأمّل ».

الثالث : أنّ القدرة على الأثر ـ بمعنى التمكّن على فعله وتركه ـ إمّا حال وجود الأثر ، وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكّن من الترك ؛ وإمّا حال عدمه ، فيجب عدمه ، فلا يتمكّن من الفعل ، فلا يتحقّق القدرة ، فلا يكون الصانع قادرا.

وأشار المصنّف إلى جوابه بقوله : ( ويمكن اجتماع القدرة على المستقبل مع

__________________

(١) أي القوشجي. انظر : « شرح تجريد العقائد » : ٣١١.

٩٩

العدم في الحال ) بمعنى أنّ القدرة حال عدم الأثر ، لكنّها عبارة عن التمكّن على الفعل في ثاني الحال ، فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه ؛ إذ القدرة حال عدم الأثر ـ لا بشرط العدم ـ على فعل الوجود في الاستقبال لا في الحال ؛ لامتناع اجتماع النقيضين ، وعلى تركه بإبقاء العدم على حاله.

والإيراد (١) ـ بأنّ الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال ؛ لأنّه مشروط بالاستقبال الممتنع في الحال ، وإذا كان كذلك ، فلا قدرة عليه في الحال ، وعند حصول الاستقبال يعود الكلام مدفوع بأنّ القدرة لا تتعلّق بالوجود في الاستقبال في الحال ، بل في الاستقبال ، بمعنى أنّ القدرة التي هي صفة الفاعل القادر ـ في الحال ـ الذي هو ظرف العدم ـ والوجود ـ الذي هو صفة المعلول والمقدور ـ في الاستقبال ، فلا يلزم نفي القدرة.

قال الفاضل اللاهيجي رحمه‌الله :

« وذكر المصنّف في نقد المحصّل (٢) أنّ هذا الجواب لا يصحّ من قبل الأشعري ؛ لأنّ القدرة عنده مع الفعل لا قبله ، بل هذا الجواب إنّما هو جواب أصحابنا القائلين بتقدّم القدرة على الفعل »

ثمّ قال : « لكنّه فيه إشكالان :

أحدهما : أن يقال : إنّ التمكّن أمر إضافي ، والإضافة تستلزم تحقّق المضافين ، فلا يجوز ثبوت التمكّن الآن مع أنّ أحد المضافين ليس بمتحقّق الآن.

والجواب عنه : أنّا لا نسلّم أنّ هذا من الإضافات التي يمتنع تحقّقها إلاّ عند تحقّق المضافين ، ولم لا يجوز أن يكون التمكّن كالعلم ؛ فإنّه لا يفتقر إلى تحقّق المضافين ولذلك يعلم واحد منّا ما يقطع بأنّه لا تحقّق له ، وكالإرادة ؛ فإنّ الواحد منّا يريد ما لا يتحقّق بعد مع أنّ العلم لا يعقل إلاّ بين عالم ومعلوم ، والإرادة إلاّ بين مريد

__________________

(١) هذا الإيراد ودفعه ذكره العلاّمة الحلّي قدس‌سره في « كشف المراد » : ٢٨٢.

(٢) « نقد المحصّل » : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

١٠٠