البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

في ملكه بخلقه » قال : « فيأتيها جبرئيل بحلّة ضوء من نور العرش على مقادير ساعات النهار في طوله بالصيف ، أو قصره في الشتاء ، أو ما بين ذلك في الخريف والربيع ، قال : فتلبس تلك الحلّة كما يلبس أحدكم ثيابه ، ثمّ تنطلق بها في جوّ السماء حتّى تطلع من مطلعها ».

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ، ثمّ لا تكسى ضوءا ، وتؤمر أن تطلع من مغربها ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (١) والقمر كذلك من مطلعه ومجراه من أفق السماء ، ومغربه وارتفاعه إلى السماء السابعة ، ويسجد تحت العرش ، وجبرئيل يأتيه بالحلّة من نور الكرسيّ ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) (٢) » (٣).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إنّ الشمس تطلع ومعها أربعة أملاك : ملك ينادي : يا صاحب الخير! أتمّ وأبشر ، وملك ينادي : يا صاحب الشرّ! انزع واقصر ، وملك ينادي : أعط منفقا خلفا ، وآت ممسكا تلفا ، وملك ينضحها بالماء ، ولو لا ذلك ، لاشتعلت الأرض » (٤).

ومنها : ما روي عن الأصبغ أنّه قال : سأل ابن الكوّاء أمير المؤمنين عليه‌السلام عن المحو الذي يكون في القمر قال : « الله أكبر ، الله أكبر ، رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء ، أما سمعت الله تعالى يقول : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) (٥) » (٦) الخبر.

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة أتي بالشمس

__________________

(١) التكوير (٨١) : ٢.

(٢) يونس (١٠) : ٥.

(٣) « التوحيد » : ٢٨٠ باب ذكر عظمة الله جلّ جلاله ، ح ٧.

(٤) « بحار الأنوار » ٥٥ : ١٤٣ ، ح ٣.

(٥) الإسراء (١٧) : ١٢.

(٦) « الاحتجاج » ١ : ٦١٥ ، احتجاج علي عليه‌السلام على ابن الكوّاء ، ح ١٣٩.

٥٠١

والقمر في صورة ثورين عقيرين فيقذفان بهما ومن يعبدهما في النار ، وذلك أنّهما عبدا فرضيا » (١).

وفي حديث كعب : إنّ الشمس والقمر ثوران عقيران في النار (٢).

ومنها : ما روي عن إبراهيم بن أحمد اليقطيني ، قال : حدّثني ابن ذي العلمين ، قال : كنت واقفا بين يدي ذي الرئاستين بخراسان في مجلس المأمون وقد حضره أبو الحسن الرضا عليه‌السلام فجرى ذكر الليل والنهار ، وأيّهما خلق قبل؟ فخاضوا في ذلك فاختلفوا ، ثمّ إنّ ذا الرئاستين سأل الرضا عليه‌السلام عن ذلك وعمّا عنده فيه ، فقال له :

« أتحبّ أن أعطيك الجواب من كتاب الله أو من حسابك؟ » فقال : أريده أوّلا من جهة الحساب ، فقال : « أليس تقولون : إنّ طالع الدنيا السرطان ، وإنّ الكواكب كانت في شرقها؟ » قال : نعم ، قال : « فزحل في الميزان ، والمشتري في السرطان ، والمرّيخ في الجدي ، والزهرة في الحوت ، والقمر في الثور ، والشمس في وسط السماء في الحمل ، وهذا لا يكون إلاّ نهارا » قال : نعم ، فمن كتاب الله؟ قال : « قول الله عزّ وجلّ : ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) (٣) أي النهار يسبقه » (٤).

الفصل السادس : في علم النجوم والعمل به وحال المنجّمين

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن الحسين بن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن خصال

__________________

(١) « علل الشرائع » ٢ : ٦٠٥ ، الباب ٣٨٥ ، ح ٧٨.

(٢) « النهاية في غريب الحديث والأثر » ٣ : ٢٧٥ ، « عقر ».

(٣) يس (٢٦) : ٤٠.

(٤) « بحار الأنوار » ٥٥ : ١٦٢ ، ح ٢٠.

٥٠٢

ـ إلى أن قال ـ وعن النظر في النجوم » (١).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « قوم يقولون : إنّ النجوم أصحّ من الرؤيا ، وتلك كانت صحيحة حين لم يردّ الشمس على يوشع بن نون وعلى أمير المؤمنين عليهما‌السلام ، فلمّا ردّ الله عليهما ضلّ فيها علماء النجوم » (٢).

وعنه عليه‌السلام أيضا أنّه قال في جواب من سأله عن النجوم : « ما يعلمها إلاّ أهل بيت من العرب وأهل بيت من الهند » (٣).

ومنها : ما روي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أنّه قال : « الذنوب التي تظلم الهواء : السحر ، والكهانة ، والإيمان بالنجوم ، والتكذيب بالقدر (٤).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الساعة ، فقال : عند إيمان بالنجوم وتكذيب بالقدر (٥).

قيل : هذا يومئ إلى أنّ الإيمان بالنجوم متضمّن للتكذيب بالقدر.

ومنها : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « أربعة لا تزال في أمّتي إلى يوم القيامة : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة » (٦).

ومنها : ما روي عن سعيد بن جبير ، قال : استقبل أمير المؤمنين دهقان من دهاقين الفرس فقال له بعد التهنئة : يا أمير المؤمنين! تناحست النجوم الطالعات ، وتناحست السعود بالنحوس ، فإذا كان مثل هذا اليوم ، وجب على الحكيم الاختفاء ، ويومك هذا

__________________

(١) « الخصال » ٢ : ٤١٨ باب التسعة ، ح ١٠.

(٢) « بحار الأنوار » ٥٥ : ٢٤٢ ، ح ٢٢.

(٣) « الكافي » ٨ : ٣٣١ ، ح ٥٥.

(٤) « معاني الأخبار » : ٢٧١ ، ح ٢.

(٥) « الخصال » ١ : ٦٢ باب الاثنين ، ح ٨٧.

(٦) نفس المصدر : ٢٢٦ باب الأربعة ، ح ٦٠.

٥٠٣

يوم صعب ، وقد انقلب منه كوكبان ، وانقدح من برجك النيران ، وليس من الحرب لك بمكان ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« ويحك يا دهقان المنبئ بالآثار المحذّر من الأقدار! ما قصّة صاحب الميزان وقصّة صاحب السرطان؟ وكم المطالع من الأسد والساعات من المتحرّكات؟ وكم بين السواري والذراري؟ » قال : سأنظر وأومأ بيده إلى كمّه وأخرج منه أسطرلابا ينظر فيه ، فتبسّم عليه‌السلام ، فقال : « أتدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصين ، وانفرج برج ماجين ، وسقط سور سرانديب ، وانهزم بطريق الروم بأرمينية ، وفقد دنّان اليهود بإيلة ، وهاج النمل بوادي النمل ، وهلك ملك إفريقية ، أكنت عالما بهذا؟ » فقال : لا يا أمير المؤمنين ، فقال : « البارحة سعد سبعون ألف عالم ، وولد في كلّ عالم سبعون ألفا ، والليلة يموت مثلهم ، وهذا منهم » وأومأ بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثي ـ لعنه الله ـ وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين ، فظنّ الملعون أنّه يقول : خذوه ، فأخذ بنفسه فمات.

فخرّ الدهقان ساجدا ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ألم أرك من عين التوفيق؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، فقال : « أنا وصاحبي لا شرقيّ ولا غربيّ ، نحن ناشئة [ القطب ] (١) وأعلام الفلك ، وأمّا قولك : « انقدح من برجك النيران » فكان الواجب أن تحكم به لي ، لا عليّ ، أمّا نوره وضياؤه فعندي ، وأمّا حريقه ولهبه فذهب عنّي ، فهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا » (٢).

الفصل السابع : في حقيقة الملائكة وصفاتهم وشئونهم وأطوارهم

اعلم أنّه ذكر في هذا المقام أخبار :

منها : ما روي بالإسناد إلى أبي محمّد العسكريّ فيما احتجّ رسول الله به

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) « مناقب آل أبي طالب » ٢ : ٦٢ ـ ٦٣.

٥٠٤

على المشركين : « والملك لا تشاهده حواسّكم ؛ لأنّه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ، ولو شاهدتموه ـ بأن يزداد في قوى أبصاركم ـ لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر » (١).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل : أنّ الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ فقال : « والذي نفسي بيده ملائكة الله في السماوات أكثر من عدد التراب في الأرض ، وما في السماء موضع قدم إلاّ وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الأرض شجر ولا مدر إلاّ وفيها ملك موكّل بها ، يأتي الله كلّ يوم بعلمها والله أعلم بها ، وما منهم أحد إلاّ ويتقرّب كلّ يوم إلى الله بولايتنا أهل البيت عليهم‌السلام ، ويستغفر لمحبّينا ، ويلعن أعداءنا ، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب إرسالا » (٢).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الملائكة على ثلاثة أجزاء : فجزء لهم جناحان ، وجزء لهم ثلاثة أجنحة ، وجزء لهم أربعة أجنحة » (٣).

وحكى في « البحار » (٤) عن « الكافي » (٥). « ولعلّ المراد أنّ أكثر الملائكة كذلك ، ولا ينافي ما ورد من كثرة أجنحة بعض الملائكة » (٦).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « في خبر المعراج قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصعد جبرئيل فصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال : إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال الله عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) (٧) وتحته سبعون ألف ملك ، وتحت كلّ ملك سبعون ألف ملك ، ثمّ مررت » و

__________________

(١) « الاحتجاج » ١ : ٥٤ ، احتجاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على عبد الله بن أبي أميّة ، ح ٢٢.

(٢) « بحار الأنوار » ٥٦ : ١٨٦ ، ح ٧.

(٣) « الخصال » ١ : ١٥٣ باب الثلاثة ، ح ١٩١.

(٤) « بحار الأنوار » ٥٦ : ١٧٨ ، ذيل ح ١١.

(٥) « الكافي » ٨ : ٢٧٢ ، ح ٤٠٢.

(٦) هذا كلام صاحب البحار.

(٧) الصافّات (٣٧) : ١٠.

٥٠٥

ساق الحديث إلى أن قال : « حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلاّ ضاحكا مستبشرا حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر خلقا أعظم منه ، كريه المنظر ظاهر الغضب ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا مالك خازن النار ».

ثمّ ساق الحديث إلى قوله : « ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس وإذا جميع الدنيا بين ركبتين وإذا بيده لوح من نور مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا وشمالا مقبلا عليه كهيئة الحزين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا ملك الموت ، فقال رسول الله : ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل الله أمره عجبا نصف جسده النار ، والنصف الآخر ثلج ، فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار وهو ينادي بصوت رفيع ويقول : سبحان الذي كفّ حرّ هذا النار ، فلا تذيب الثلج ، وكفّ برد هذا الثلج ، فلا يطفئ حرّ هذه النار ، اللهمّ يا مؤلّف بين الثلج والنار ، ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين ، فقلت : من هذا يا جبرئيل؟ فقال : هذا ملك وكّله الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين ، يدعو لهم بما تسمع منذ خلق ، ورأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول : اللهمّ! أعط كلّ منفق خلفا والآخر يقول : اللهمّ! أعط كلّ ممسك تلفا » (١).

ومنها : ما روي عن عدّة كتب ، عن ابن عبّاس ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه جبرئيل يناجيه إذا انشقّ أفق السماء فأقبل جبرئيل يتضاءل ، ويدخل بعضه في بعض ، ويدنو من الأرض ، فإذا ملك قد مثّل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا محمّد! إنّ ربّك يقرئك السلام ويخيّرك بين أن تكون ملكا وبين أن تكون نبيّا عبدا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأشار جبرئيل إليّ بيده أن تواضع ، فعرفت أنّه لي ناصح ، فقلت : عبد نبيّ فعرج ذلك الملك إلى السماء ، فقلت : يا جبرئيل! قد كنت أردت أن أسألك

__________________

(١) « تفسير علي بن إبراهيم » ٢ : ٤ ـ ٧ ذيل الآية من سورة الإسراء (١٧).

٥٠٦

عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة ، فمن هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا إسرافيل خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافّا قدميه لا يرفع طرفه ، بينه وبين الربّ سبعون نورا ما منها نور يدنو منه أحد إلاّ احترق ، بين يديه اللوح المحفوظ ، فإذا أذن الله في شيء في السماء أو في الأرض انقطع (١) ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فيه ، فإن كان من عملي أمرني به ، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به ، فقلت : يا جبرئيل! على أيّ شيء أنت؟ قال : على الرياح والجنود. قلت : على أيّ شيء ميكائيل؟ قال : على النبات والقطر. قلت : على أيّ شيء ملك الموت؟ قال : على قبض الأنفس وما ظننت أنّه هبط إلاّ لقيام الساعة ، وما ذاك الذي رأيت منّي إلاّ خوفا من قيام الساعة » (٢).

قال في « البحار » : « وقال الرازيّ في تفسيره : إنّه لا خلاف من العقلاء في أنّ أشرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه ، كما أنّ أشرف الرتبة للعالم السفلي هو وجود الإنسان فيه إلاّ أنّ الناس اختلفوا في ماهيّة الملائكة وحقيقتهم.

وطريق ضبط المذاهب أن يقال : الملائكة لا بدّ أن تكون ذوات قائمة بأنفسها ، ثمّ إنّ تلك الذوات إمّا أن تكون متحيّزة أو لا تكون.

أمّا الأوّل ، ففيه أقوال :

أحدها : أنّها أجسام لطيفة هوائيّة تقدر على التشكّل بأشكال مختلفة ، مسكنها السماوات. وهذا قول أكثر المسلمين.

وثانيها : قول طوائف من عبدة الأوثان ، وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هذه الكواكب الموصوفة بالأسعاد والأنحاس ؛ فإنّها بزعمهم أحياء ناطقة ، وأنّ المسعدات

__________________

(١) في المصدر : « ارتفع ».

(٢) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٢٥٧ ، ح ٢٢.

٥٠٧

منها ملائكة الرحمة ، والمنحسات منها هي ملائكة العذاب.

وثالثها : قول معظم المجوس والثنويّة ، وهو أنّ هذا العالم مركّب من أصلين أزليّين وهما النور والظلمة وهما في الحقيقة جوهران شفّافان حسّاسان ، قادران مختاران ، متضادّا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النور فاضل ، خير ، نقيّ ، طيّب الريح ، كريم النفس ، يسرّ ولا يضرّ ، وينفع ولا يمنع ، ويحيي ولا يبلي ، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك. ثمّ إنّ جوهر النور لم يزل يولّد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولّد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولّد السفه من السفيه لا على سبيل التناكح ، فهذه أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيّزة جسمانيّة.

وأمّا الثاني ، فبأنّ الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ولا أجسام ، فهاهنا قولان :

أحدهما : قول طوائف من النصارى ، وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها ، المفارقة لأبدانها على نعت الصفا والخيريّة ، وذلك لأنّ هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

وثانيهما : قول الفلاسفة ، وهي أنّها جواهر قائمة بأنفسها ليست بمتحيّزة البتّة ، وأنّها بالماهيّة مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشريّة ، وأنّها أكمل قوّة منها ، وأكثر علما ، وأنّها للنفوس البشريّة جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء.

ثمّ إنّ هذه الجواهر على قسمين :

منها : ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا.

ومنها : ما هي أعلى شأنا من تدبير أجرام الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة

٥٠٨

الله ومحبّته ومشتغلة بطاعته. وهذا القسم هم الملائكة المقرّبون. ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبّرون السماوات كنسبة أولئك المدبّرين إلى نفوسنا الناطقة ، فهذان القسمان اتّفقت الفلاسفة على إثباتهما.

ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضيّة المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي ، ثمّ إنّ مدبّرات هذا العالم السفلي إن كانت خيرات فهم الملائكة ، وإن كانت شرّيرة فهم الشياطين » (١).

الفائدة الرابعة : في البسائط والعناصر وما يتعلّق بها

وفيها مقدّمة وفصول :

المقدّمة

قال في « البحار » : « اعلم أنّ المشهور بين الحكماء والمتكلّمين أنّ العناصر أربعة : النار ، والهواء ، والماء ، والأرض ، كما تشهد به الشواهد الحسّيّة والتجربيّة ، والتأمّل في أحوال التركيبات والتحليلات. ولقدماء الفلاسفة فيه اختلافات :

فمنهم : من جعل أصل العناصر واحدا والبواقي تحصل بالاستحالة ، فقيل : هو النار. وقيل : الهواء. وقيل : الماء. وقيل : الأرض. وقيل : البخار.

ومنهم : من جعله اثنين : فقيل : النار والأرض. وقيل : الماء والأرض. وقيل : الهواء والأرض.

ومنهم : من جعله ثلاثة : فقيل : النار والهواء والأرض ، وإنّما الماء هواء متكاثف ؛ وقيل : الهواء والماء والأرض ، وإنّما النار هواء شديدة الحرارة. وهذه الأقوال عندهم ضعيفة.

وقد ورد في الأخبار ما يدلّ على كون أصل العناصر ، بل الأفلاك الماء ، أو هو مع النار ، أو هما مع الهواء.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

٥٠٩

وبالجملة ، لا ريب في وجود تلك العناصر الأربعة تحت فلك القمر ، وإنّما الإشكال في وجود كرة النار. وعلى تقدير وجودها هل كانت هواء انقلبت نارا بحركة الفلك أو كانت في الأصل نارا؟ والمشهور أنّ هذه الأربعة عناصر المركّبات التامّة وأسطقسّاتها ، ومنها تتركّب ، وإليها تنحلّ.

وقيل : النار غير موجودة في المركّبات ؛ فإنّها لا تنزل عن الأثير إلاّ بالقسر ، ولا قاسر هناك. ثمّ المشهور أنّ صور البسائط باقية في المركّبات.

وقال الشيخ في « الشفاء » : لكنّ قوما اخترعوا في قريب من زماننا هذا مذهبا غريبا ، قالوا : إنّ البسائط إذا امتزجت وانفعل بعضها من بعض تأدّى ذلك بها إلى أن يخلع صورها ، فلا تكون لواحد منها صورته الخاصّة ، وليست حينئذ صورة خاصّة واحدة ، فتصير لها هيولى واحدة وصورة واحدة ، فمنهم من جعل تلك الصورة أمرا متوسّطا بين صورها. ومنهم من جعلها صورة أخرى من النوعيّات. واحتجّ على فساد هذا المذهب بوجوه تركناها.

وذهب انكساغورس وأصحابه إلى الخلط والكمون والبروز وأنكروا التغيير في الكيفيّة والصورة ، وزعموا أنّ الأركان الأربعة لا يوجد شيء منها صرفا ، بل هي تختلط من تلك الطبائع النوعيّة كاللحم والعظم والعصب ، والتمر والعسل والعنب وغير ذلك. وإنّما سمّي بالغالب الظاهر منها ، ويعرض لها عند ملاقاة الغير أن يبرز منها ما كان كامنا فيها ، فيغلب ويظهر للحسّ بعد ما كان مغلوبا غائبا ، لا على أنّه حدث ، بل على أنّه برز ، ويكمن فيها ما كان بارزا ، فيصير مغلوبا وغائبا بعد ما كان غالبا وظاهرا.

وبإزائهم قوم زعموا أنّ الظاهر ليس على سبيل البروز ، بل على سبيل النفوذ من غيره فيه كالماء مثلا ؛ فإنّه إنّما يتسخّن بنفوذ أجزاء ناريّة فيه من النار المجاورة له.

وهذان القولان سخيفان.

والمشهور عندهم أنّ العناصر يفعل بعضها في بعض ، فتستحيل في كيفيّاتها

٥١٠

وتحصل للجميع كيفيّة متوسّطة متشابهة هي المزاج ، فتستعدّ بذلك لإفاضة صورة مناسبة لها من المبدأ.

ثمّ المشهور بينهم أنّ النار التي تسطع عند ملاقاة الحجر والحديد ، أو عند احتكاك الخشبتين الرطبتين أو اليابستين إنّما هي بانقلاب الهواء الذي بينهما نارا بسبب حرارة حدثت فيه من الاصطكاك والاحتكاك ، لا بأن يخرج من الحجر أو الحديد أو الشجر نار. وظواهر الآيات والأخبار المتقدّمة لا تنافي ذلك.

وأمّا قوله عليه‌السلام في حديث هشام : « إنّ النار في الأجسام كامنة » فالمراد منها إمّا النار التي تركّب الجسم منها ومن سائر العناصر ، أو المعنى أنّ ما هو سبب لإحداث النار حاصل في الأجسام وإن انطفأت النيران المتولّدة منها وانقلبت هواء » (١) انتهى.

[١] فصل : في النار ، وفيه أخبار :

منها : ما روي عن المفضّل أنّه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن النيران فقال : « النيران أربعة : نار تأكل وتشرب ، ونار تأكل ولا تشرب ، ونار تشرب ولا تأكل ، ونار لا تأكل ولا تشرب ، فالنار التي تأكل وتشرب فنار ابن آدم وجميع الحيوان ، والتي تأكل ولا تشرب فنار الوقود ، والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجرة ، والتي لا تأكل ولا تشرب فنار القداحة والحاجب » (٢).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال الزنديق له : أخبرني عن السراج إذا انطفأ أين يذهب نوره؟ قال : « يذهب فلا يعود » قال : فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا فات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا؟ قال : « لم تصب القياس ؛ إنّ النار في الأجسام كائنة (٣) والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد ، فإذا ضرب

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) الحاجب ـ بالضمّ ـ : اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلاّ نارا ضعيفة مخافة الضيفان ، فضربوا بها المثل أو غير ذلك. انظر « صحاح الجوهري » مادّة ( ح. ج. ب ).

(٣) كذا في النسخ ، وفي المصدر : « كامنة ».

٥١١

أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار يقتبس منها سراج له الضوء ، فالنار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب » (١).

ومنها : الخبر : « أربعة القليل منها كثير : النار القليل منها كثير ... » (٢).

ومنها : ما حكي عن عليّ بن إبراهيم في تفسير ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) (٣) وهو المرخ والعفار (٤) يكون في ناحية بلاد العرب فإذا أرادوا أن يستوقدوا أخذوا من ذلك الشجر ، ثمّ أخذوا عودا فحرّكوه فيه فيستوقدوا منه النار (٥).

[٢] فصل : في الهواء

وفيه خبران :

الأوّل : ما روي عن صفوان الجمّال ، قال : كنت بالحيرة مع أبي عبيد الله عليه‌السلام إذ أقبل الربيع وقال : أجب أمير المؤمنين ، فلم يلبث أن عاد ، قلت : أسرعت الانصراف؟ قال : « إنّه سألني عن شيء فاسأل الربيع عنه » فقال صفوان : وكان بيني وبين الربيع لطف ، فخرجت إلى الربيع وسألته وقال : أخبرك بالعجب إنّ الأعراب خرجوا يجمعون الكمأة فأصابوا في البرّ خلقا ملقى فأتوني به فأدخلته على الخليفة ، فلمّا رآه قال : تخبيه وادع جعفرا ، فدعوته ، فقال : يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء ما فيه؟ قال : « في الهواء موج مكفوف » قال ففيه سكّان؟ قال : « نعم » قال : وما سكّانه؟ قال : « خلق أبدانهم أبدان الحيتان ، ورءوسهم رءوس الطير ، ولهم أعرفة كأعرفة الديكة ، ونغانغ كنغانغ الديكة ، وأجنحة كأجنحة الطير من ألوان أشدّ بياضا من الفضّة » فدعا

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٣٠ ، ح ٣.

(٢) نفس المصدر : ٣٢٩ ، ح ١.

(٣) يس (٣٦) : ٨٠.

(٤) هما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر.

(٥) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٣١ ، ح ٤.

٥١٢

المنصور بالطشت فإذا الخلق فيها لا يزيد ولا ينقص ، فأذن له فانصرف ، ثمّ قال للربيع : ويلك يا ربيع! هذا الشجا المتعرّض في خلقي (١) من أعظم الناس (٢).

والثاني : ما روي أنّ زرارة وهشاما اختلفوا في الهواء هو مخلوق ، أم لا؟ فرفع إلى الصادق عليه‌السلام بعض مواليه وقال : فإنّي أرى بعض أصحابنا يختلفون ، فقال : « ليس هذا بخلاف يؤدّي إلى الكفر والضلال » (٣).

تبصرة (٤) :

قد أفاد في « البحار » أنّ في عدد طبقات الهواء وسائر العناصر بين الحكماء اختلافا :

فقال نصير الملّة والدين في التذكرة : طبقات العناصر ثمان : طبقة للنار الصرفة ، ثمّ طبقة لما يمتزج من النار والهواء الحارّ تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة من السفل ، وتتكوّن فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك (٥) وما يشبهها من الأعمدة وذوات القرون ونحوها. وربما توجد هذه الأمور المتكوّنة في هذه الطبقة متحرّكة بحركة الفلك الأعظم ، ثمّ طبقة الهواء الغالب التي تحدث [ فيها ] الشهب ، ثمّ طبقة الزمهريريّة الباردة التي هي منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق ، ثمّ طبقة الهواء الحارّ الكثيف المجاور للأرض والماء ، ثمّ طبقة الماء وبعض هذه الطبقة منكشفة عن الأرض عناية من الحضرة الإلهيّة ، لتكون مسكنا للحيوانات المتنفّسة. ثمّ طبقة الأرض المخالطة لغيرها التي تتولّد فيها الجبال والمعادن وكثير من النباتات والحيوانات ، ثمّ طبقة الأرض الصرفة المحيطة بالمركز.

وقيل : إنّها تسع : ثامنها الطبقة الطينيّة التي تختلط فيها الأرض بالماء ، وتاسعها

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي المصدر : « هذا الشجا المعترض في حلقي من أعلم الناس ».

(٢) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٣٨ ، ح ٥.

(٣) رواه في « بحار الأنوار » ٥٤ : ١٨٢ مرسلا.

(٤) في « أ » : « فصل » بدل « تبصرة ».

(٥) جمع نيزك ، وهو جسم يخترق طبقات الجوّ ، فيحتدم ويضيء ، ثمّ يسقط على الأرض.

٥١٣

الأرض الصرفة ، والبواقي على نحو ما ذكر.

وقيل : إنّها سبع : طبقة للنار ، وطبقة للماء ، والطبقات الثلاث الأخيرة التي تعلّقت بالأرض بحالها على النحو المذكور.

والهواء ينقسم إلى طبقتين باعتبار مخالطة الأبخرة وعدمها :

إحداهما : الهواء اللطيف الصافي من الأبخرة والأدخنة والهيئات المتصاعدة من كرتي الأرض والماء ، بسبب أشعّة الشمس وغيرها من الكواكب ؛ لأنّ تلك الهيئات تنتهي في ارتفاعها إلى واحد لا تتجاوزه ، وهو من سطح الأرض في جميع نواحيها أحد وخمسون ميلا وكسر وهو قريب من تسعة عشر فرسخا ، فمن هذه النهاية إلى كرة الأثير هو الهواء الصافي وهو شفّاف لا يقبل النور والظلمة والألوان كالأفلاك.

وثانيتهما : هو الهواء المتكاثف بما فيها من الأجزاء الأرضيّة والمائيّة لكن لا يبلغ في التكاثف بحيث يحجب ما وراءه [ عن الأبصار ] وهذه الكرة تسمّى كرة البخار وعالم النسيم وكرة الليل والنهار ؛ إذ فيها تهبّ الرياح دون ما فوقها ، وهي القابلة للنور والظلمة بما فيها من الأجزاء الأرضيّة والمائيّة (١).

[٣] فصل : في الصبح والشفق

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الله تعالى خلق حجابا من ظلمة ممّا يلي المشرق ووكّل به ملكا ، فإذا غابت الشمس اغترف ذلك الملك غرفة بيده ، ثمّ استقبل بها الغرب يتبع الشفق ويخرج من بين يديه قليلا قليلا ويمضي ، فيوافي المغرب عند سقوط الشفق ، فيسرح في الظلمة ، ثمّ يعود إلى المشرق ، فإذا طلع الفجر نشر جناحيه فاستاق الظلمة عن المشرق إلى المغرب حتّى يوافي بها المغرب عند طلوع الشمس (٢).

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٢) « الكافي » ٣ : ٢٧٩ باب وقت المغرب والعشاء ، ح ٣.

٥١٤

تتمّة

قال في « البحار » : « اعلم أنّ المذكور في كتب الحكماء والرياضيين هو أنّ الصبح والشفق الأبيض والأحمر إنّما يظهر من وقوع [ ضوء ] الشمس على كرة البخار ، فالمستضيء بالشمس من كرة الأرض أكثر من نصفها دائما ؛ لما بيّن في محلّه أنّ [ الكرة ] الصغرى إذا قبلت الضوء من الكبرى ، كان المستضيء منها أعظم من نصفها ، وظلّ الأرض على هيئة مخروط يلازم رأسه مدار الشمس وينتهي في فلك الزهرة كما علم بالحساب ، والنهار مدّة كون المخروط تحت الأفق ، والليل مدّة كونه فوقه ، فإذا ازداد قرب الشمس من شرقيّ الأفق ، ازداد ميل المخروط إلى غربيّه ولا يزال كذلك حتّى يرى الشعاع المحيط به ، وأوّل ما يرى منه هو الأقرب إلى موضع الناظر ؛ لأنّه أصدق رؤية وهو موقع خطّ يخرج من بصره عمودا على الخطّ المماسّ للشمس والأرض فيرى الضوء مرتفعا عن الأفق ، مستطيلا ، وما بينه وبين الأفق مظلما ؛ لقربه من قاعدة المخروط الموجب له بعد الضوء هناك عن الناضر وهو الضوء الكاذب ، ثمّ إذا قربت الشمس جدّا ، يرى الضوء معترضا وهو الصبح الصادق ، ثمّ يرى محمرّا.

والشفق بعكس الصبح يبدأ محمرّا ، ثمّ مبيضّا معترضا ، ثمّ مرتفعا مستطيلا ، فالصبح والشفق متشابهان متشاكلان متقابلان وضعا ؛ لأنّ هيئة آخر غروب الشمس مثل أوّل طلوع الفجر ويختلفان لونا بسبب اختلاف كيفيّة الهواء المخلوط ؛ فإنّ لون البخار في جانب المشرق مائل إلى الصفار والبياض ؛ لاكتسابه الرطوبة من برودة الليل ، وفي جانب المغرب مائل إلى الصفرة ؛ لغلبة الجزء الدخاني المكتسب بحرارة النار » (١) و (٢).

__________________

(١) في المصدر : « النهار » بدل « النار ».

(٢) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٣٤.

٥١٥

[٤] فصل : في السحاب والمطر والشهاب والبرق والصواعق والقوس وسائر ما يحدث في الجوّ

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن عليّ عليه‌السلام ، قال : « السحاب غربال المطر ، ولو لا ذلك لأفسد كلّ شيء يقع عليه » (١).

وعنه عليه‌السلام ما يقربه مع زيادة أنّه « ليس من قطرة تقطر إلاّ ومعها ملائكة حتّى تضعها موضعها ، ولم ينزل من السماء قطرة من مطر إلاّ بقدر معدود ووزن معلوم إلاّ ما كان يوم الطوفان على عهد نوح ؛ فإنّه نزل منها ماء منهمر بلا عدد ووزن » (٢).

ومنها : ما في تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ) (٣) أي يثيره من الأرض ، ثمّ يؤلّف بينه فإذا غلظ بعث الله رياحا فتعصره ، فينزل منه الماء وهو قوله : ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (٤) أي المطر (٥).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال عليه‌السلام : « ما أنزلت السماء قطرة من ماء منذ حبسه الله عزّ وجلّ ، ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ، ولأخرجت الأرض نباتها » (٦).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في خبر المعراج ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى السماء الدنيا وعليها ملك يقال له : إسماعيل ، وهو صاحب الخطفة التي قال الله تعالى عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٧٣ ، ح ٥.

(٢) « قرب الإسناد » : ٧٣ ؛ « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٨٠.

(٣) النور (٢٤) : ٤٣.

(٤) النور (٢٤) : ٤٣.

(٥) « تفسير علي بن إبراهيم » ٢ : ١٠٧.

(٦) « الخصال » : ٦٢٦ ؛ « بحار الأنوار » ١٠ : ١٠٤ ، ح ١٠.

٥١٦

شِهابٌ ثاقِبٌ ) (١) وتحته سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك » (٢).

ومنها : ما روي عن الرضا عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (٣) قال : « خوفا للمسافر وطمعا للمقيم » (٤).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ ربّكم يقول : لو أنّ عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد » وكان إذا سمع صوت الرعد يقول : « سبحان من يسبّح الرّعد بحمده » (٥).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن الرعد : أيّ شيء يقول؟ قال : « إنّه بمنزلة الرجل يكون في الإبل فيزجرها هاي هاي كهيئة ذلك ». وسئل عن البرق ، قال : « تلك مخاريق الملائكة تضرب السحاب وتسوقه إلى الموضع الذي قضى الله فيه المطر » (٦).

ومنها : ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « الصاعقة لا تصيب المؤمن » فقال له رجل : فإنّا رأينا فلانا يصلّي في المسجد الحرام فأصابته ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إنّه كان يرمي حمام الحرم » (٧) وعنه عليه‌السلام : « الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا » (٨).

ومنها : ما سأل ابن الكوّاء أمير المؤمنين ، فقال : يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قوس قزح ، قال : « ثكلتك أمّك يا ابن الكوّاء لا تقل : قوس قزح ؛ فإن قزح اسم

__________________

(١) الصافّات (٣٧) : ١٠.

(٢) « بحار الأنوار » ١٨ : ٣٢١.

(٣) الرعد (١٣) : ١٢.

(٤) « معاني الأخبار » : ٣٧٤ باب معنى الخوف والطمع.

(٥) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٥٦.

(٦) « الفقيه » ١ : ٥٢٥ ، ح ١٤٩٦ ؛ « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٧٩.

(٧) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٧٦ ، ح ٧.

(٨) نفس المصدر.

٥١٧

الشيطان ولكن قل : قوس الله ، إذا بدت يبدو الخصب والريح » (١).

ومنها : ما روي عن أهل الكتابين أنّهم يقولون : لمّا هبط نوح عليه‌السلام من السفينة أوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا نوح إنّي خلقت خلقي لعبادتي ، وأمرتهم بطاعتي فقد عصوني وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي فغرقتهم ، وإنّي قد جعلت قوسي أمانا لعبادي وبلادي وموثقا منّي بيني وبين خلقي يأمنون به إلى يوم القيامة من الغرق ومن أوفى بعهده منّي؟ ففرح نوح عليه‌السلام بذلك وتباشر وكانت القوس فيها سهم ووتر ، فنزع الله عزّ وجلّ السهم والوتر من القوس وجعلها أمانا لعباده وبلاده من الغرق (٢).

تتميم :

يستفاد ممّا حكى صاحب البحار عن صاحب المقاصد أنّ البخار المتصاعد قد يلطف بتحليل الحرارة أجزاءه المائيّة ، فيصير هواء ، وقد يبلغ الطبقة الزمهريريّة فيتكاثف فيجتمع سحابا ويتقاطر قطرة إن لم يكن البرد شديدا ، وإن أصابه برد شديد يجمد السحاب قبل تشكّله بشكل القطرات نزل ثلجا ، أو بعد تشكّله بذلك نزل بردا صغيرا مستديرا إن كان من زمان بعيد لذوبان الزوايا بالحركة والاصطكاك وإلاّ فكبيرا غير مستدير في الغالب وإنّما يكون البرد في الهواء الربيعيّ أو الخريفيّ لفرط التحليل في الصيفي والجمود في الشتوي. وقد لا يبلغ البخار المتصاعد الطبقة الزمهريريّة فإن كثر صار ضبابا ، وإن قلّ وتكاشف ببرد الليل فإن انجمد نزل صقيعا وإلا فطلاّ ، فنسبة الصقيع إلى الطلّ نسبة الثلج إلى المطر.

وقد يكون السحاب الماطر من بخار كثير تكاثف بالبرد من غير أن يتصعّد إلى الزمهريريّة لمانع مثل هبوب الرياح المانعة للأبخرة من التصاعد والضاغطة إيّاها

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٧٧ ، ح ١٣.

(٢) « علل الشرائع » ١ : ٢٩ ، الباب ٢٢ ، ح ١.

٥١٨

[ إلى الاجتماع ] بسبب وقوف الجبال قدّام الريح وثقل الجزء المتقدّم وبطء حركته ، وقد يكون مع البخار المتصاعد دخان فإذا ارتفعا معا إلى الهواء البارد ـ وانعقد البخار سحابا واحتبس الدخان فيه ـ فإن بقي الدخان على حرارته قصد الصعود ، وإن برد قصد النزول.

وقد يمزّق السحاب تمزيقا عنيفا ، فيحدث عن تمزيقه ومصاكّته صوت هو الرعد ، وناريّة لطيفة هي البرق ، أو كثيفة هي الصاعقة.

وقد يشتعل الدخان الغليظ بالوصول إلى كرة النار كما يشاهد عند وصول دخان سراج منطفئ إلى سراج مشتعل ، فيرى فيه الاشتغال ، فيرى كأنّه كوكب انقضّ وهو الشهاب.

وقد يكون لغلظه لا يشتعل ، بل يحترق ويدوم فيه الاحتراق ، فيبقى على هيئة ذؤابة أو ذنب أو حيّة أو حيوان له قرون ، وربما يقف تحت كوكب ويدور مع النار بدوران الفلك إيّاها ، وربّما تظهر فيه علامات هائلة حمر وسود بحسب زيادة غلظ الدخان ، وإذا لم ينقطع اتّصال الدخان من الأرض ونزل اشتعاله إلى الأرض ، يرى كأنّ تنّينا ينزل من السماء إلى الأرض وهو الحريق (١).

وقال صاحب البحار في موضع آخر : « قال بعض المحقّقين في تحقيق ألوان القوس : توضيح المقام يستدعي مقدّمتين :

[ المقدمة ] الأولى : أنّ سائر الألوان المتوسّطة بين الأسود والأبيض إنّما تحدث عن اختلاط هذين اللونين.

وبالجملة ، الأبيض إذا رئي بتوسّط الأسود أو بمخالطة الأسود حدثت عن ذلك ألوان أخر ، فإن كان النيّر هو الغالب رئي الأحمر ، وإن لم يكن غالبا رئي الكراثيّ والأرجواني ، وغلبته في الكراثي أكثر وفي الأرجواني أقلّ.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٩١.

٥١٩

[ المقدمة ] الثانية : أنّ اللون الأسود هو بمنزلة عدم الإبصار ؛ لأنّا إذا لم نر الشمس والمضيء ظننّا أنّا نرى شيئا أسود ، فالمكان الذي يكون الأبيض فيه غالبا على ، الأسود نرى أحمر ، والمكان الذي يكون الأسود فيه غالبا نراه أرجوانيّا ، والمكان الذي فيه الأسود بين الغالب والمغلوب ، نراه كراثيا فإذا تمهّد هذا ، فنقول : إذا رأى البصر النيّر بتوسّط الغمام على تلك الشرائط رئي القوس على الأكثر ذات ألوان ثلاثة.

الأوّل : منها [ و ] هو الدور الخارج الذي يلي السماء ـ أحمر ؛ لقلّة سواده وكثرة بياضه.

والثاني ـ وهو الذي دونه : كرّاثي ؛ بتوسّطه بين الأوّل والثالث في قلّة السواد وكثرته ، وقلّة البياض وكثرته.

والدور الثالث ممّا يلي الأرض أرجوانيّ ؛ لكثرة سواده وقلّة بياضه.

وأمّا الدور الأصغر ـ الذي قد يرى أحيانا بين الدور الأحمر والكراثي ـ فإنّه ليس يحدث بنحو الانعكاس ، فإنّما يرى بمجاورة الأحمر اللون الكراثي ، والعلّة في ذلك أنّ الأبيض إذا وقع إلى جنب الأسود رئي أكثر بياضا ، ولمّا كان الدور الأحمر فيه بياض ما ، والكراثي مائلا إلى السواد رئي طرف الأحمر ـ لقربه من الكراثي ـ أكثر بياضا ، وما هو أكثر بياضا من الأحمر هو الأصفر ، فلهذا يرى طرف الدور الأحمر ، القريب من الكراثي أحمر ، وقد يظهر أحيانا قوسان معا كلّ واحدة منهما ذات ثلاثة ألوان على النحو الذي ذكرناه في الواحدة لكن وضع ألوان القوس الخارجة بالعكس من الداخلة يعني دورها الخارج الذي يلي السماء أرجوانيّ ، والذي يليه كرّاثيّ ، والذي يتلو هذا أحمر. ولا يبعد أن يكون أحد القولين عكسا للآخر » (١).

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٦ : ٣٩٥.

٥٢٠