البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

المتضايفان الواقعان في تلك السلسلة متساويين ، ويتمّ الدليل ؛ ضرورة أنّ مضايف العلّيّة الواقعة في تلك القطعة هو المعلوليّة الواقعة فيها ، لا ما يقع فيما تحت القطعة من الأفراد ، مثلا إذا كان زيد علّة لعمرو وعمرو لبكر ، فمضايف معلوليّة عمرو هو علّيّة زيد ، لا غير ، بل الاثنان منها على التوالي متضايفان يتحقّق بينهما إضافة شخصيّة لا تتحقّق في غيرهما ، فالمضايف للمعلول الأخير المأخوذ في تلك القطعة هو العلّيّة القريبة التي فوقه لا غير ، فافهم.

والاعتراضات الواردة على هذا الدليل ـ من اعتباريّة المتضايفين وغيرها ـ مدفوعة بما مهّدناه من المقدّمات بعد التأمّل ، فلا نطيل الكلام بالتعرّض لدفعها.

البرهان الثالث : ما أبداه بعض الأزكياء من المعاصرين ، وسمّاه برهان العدد والمعدود ، وهو عندي متين.

وتقريره : أنّه لو تحقّقت أمور غير متناهية ـ سواء كانت مجتمعة في الوجود ، أم لا ، وسواء كانت مترتّبة ، أم لا ـ تحقّق لها عدد ؛ لأنّ حقيقة العدد هي مجموع الوحدات ، ولا ريب في تحقّق الوحدات وتحقّق مجموعها في السلسلة فيعرض العدد للجملة لا محالة ؛ إذ لا حقيقة للعدد إلاّ مبلغ تكرار الوحدات ، فيظهر من التأمّل في المقدّمات ذلك المطلوب أيضا كما لا يخفى.

وكلّ مرتبة يمكن فرضها من مراتب الأعداد على سبيل الاستغراق الشموليّ فهي متناهية ؛ لأنّه يمكن فرض مرتبة أخرى فوقها ، وإلاّ لزم أن تقف مراتب العدد ، وهو خلاف البديهة ، بل هي محصورة بين حاصرين : أحدهما الوحدة ، والآخر تلك المرتبة المفروضة أخيرا ، فالمعدود أيضا وهو مجموع السلسلة غير المتناهية أيضا ـ متناهية ؛ لأنّه لا يمكن أن يعرض للمجموع ـ بحيث لا يشذّ منه فرد ـ إلاّ مرتبة واحدة من مراتب العدد من جهة واحدة ، وكلّ مرتبة يمكن فرضها فهي متناهية كما مرّ.

نعم ، لو أمكن فرض جميع المراتب اللاّيقفيّة بالعدد ، وأمكن تصوّر خروج جميع

٤٨١

المراتب اللاّيقفيّة إلى الفعل ، وأمكن عروض أكثر من مرتبة واحدة للعدد للجملة الواحدة من جهة واحدة ، أمكن عروض العدد غير المتناهي لهذه الجملة لكنّه محال ؛ لأنّه لا يمكن أخذ المجموع من الأمور اللاّيقفيّة ، ولا يتصوّر خروج الجميع إلى الفعل ولو على سبيل التعاقب ، وإلاّ لزم أن يقف وهذا خلف ، وقد التزمه النظّام في أجزاء الجسم (١) بل نقول مفهوم اللاّيقفيّة ومفهوم المجموع متنافيان كما قرّر في محلّه.

وهذا البرهان واضح المقدّمات ، يجري في المجتمعة والمتعاقبة والمترتّبة وغير المترتّبة بلا تأمّل ، وكذا جريان برهان التطبيق والتضايف ظاهر بعد الرجوع في المقدّمات الممهّدة ، والنظر الجميل في التقريرات السابقة.

وذهب المحقق الطوسيّ في التجريد إلى جريان التطبيق والتضايف (٢) فيها. وقال في نقد المحصّل ـ بعد تضييف أدلّة المتكلّمين على إبطال التسلسل في المتعاقبة ـ : فهذا حاصل كلامهم في هذا الموضع. وأنا أقول : إنّ كلّ حادث موصوف بكونه سابقا على ما بعده ، ولاحقا بما قبله والاعتباران مختلفان ، فإذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدأة من الآن ـ تارة من حيث كلّ واحد منهما سابق ، وتارة من حيث هو بعينه لاحق ـ كانت السوابق واللواحق المتباينتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ، لا نحتاج في تطابقهما إلى توهّم تطبيق ، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع النزاع فيه ، فإذن اللواحق متناهية في الماضي ؛ لوجوب انقطاعها قبل انقطاع السوابق ، والسوابق زائدة عليها بمقدار متناه ، فتكون متناهية أيضا (٣). انتهى.

واعترض عليه بأنّه في التطبيق لا بدّ من وجود الآحاد على نحو التعدّد والامتياز. أمّا في الخارج ، فليس. وأمّا في الذهن ، فكذلك ؛ لعجز الذهن عن ذلك ، وكذا

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٣ : ٣٥.

(٢) « تجريد العقائد » : ١٥٤.

(٣) « نقد المحصّل » : ٢٠٩.

٤٨٢

لا يمكن للعقل تحصيل الامتياز ، ووجود كلّ واحد في الأوقات السابقة على زمان التطبيق لا يفيد ؛ لأنّه يرجع إلى تطبيق المعدوم ؛ فإنّ الوجود ضروريّ في التطبيق.

وأيضا لا بدّ في الانطباق من وجود مجموع الآحاد ، وذلك المجموع لا يمكن وجودها ؛ لأنّ ذلك المجموع لم يكن موجودا قبل الحادث الأخير وبعده ، ولم يبق شيء منه موجودا.

والقول بوجودها في مجموع الأوقات على سبيل التدريج كالحركة القطعيّة ، يدفعه أنّ وجود الكلّ في جميع الأوقات على هذا النحو يستلزم وجود الكلّ بدون شيء من أجزائه.

وفيه بحث ؛ إذ يكفي لوجود هذا الكلّ وجود أجزائه في أجزاء زمان الكلّ. انتهى.

والتحقيق : أنّ الموجود قد يوجد في طرف الزمان وهو الدفعيّات ، وقد يوجد في نفس الزمان وهو التدريجيّات ، والأمور التدريجيّة مجموعها موجودة في مجموع زمان وجودها على سبيل الانطباق ، وليس المجموع موجودا في أبعاض الزمان ، ولا في آن من الآنات ، فإن سئل : الحركة في اليوم هل هي موجودة في آن من آنات اليوم المفروض ، أو شيء من ساعاته؟ فالجواب أنّها ليست بموجودة أصلا ، بل في مجموع اليومين ، وقد بيّن ذلك بوجه شاف في مظانّه ، وانطباق الحوادث المتعاقبة الزمانيّة بعضها على بعض من قبيل الثاني.

فالتطبيق موجود في كلّ الزمان ، ولا في آن فآن ، والانطباق حكمه حكم المنطبقين كانطباق الحركة على الزمان وانطباق الحركة على المسافة ، وهذا ظاهر.

ألا ترى أنّ الكرة المدحرجة على سطح مستو تنطبق دائرة من محيط الكرة على المسافة جزما ، وانطباقها لا يمكن أن يكون في آن ؛ لأنّه لا يمكن التماسّ بين المستدير والمستوي إلاّ بنقطة ، فظهر أنّ انطباقهما تدريجي في كلّ الزمان ، أو لا تعلم أنّ الحركة والزمان متطابقان تدريجا في كلّ زمان الحركة ، ولو لم ينطبق الزمان على

٤٨٣

الحركة ، لم يكن مقدارا لها سواء كانا موجودين في الخارج ، أولا.

ويمكن الجواب أيضا على القول بعدم وجود الزمانيّات بأنّه لا شكّ أنّ الآحاد المتعاقبة في إحدى السلسلتين منطبقة في الواقع على آحاد السلسلة الأخرى التي كانتا هما معا في الوجود في أزمنة وجودهما وإن لم يكونا موجودين حال حكمنا ، ووجودهما حال الحكم غير لازم في جريان البرهان ، بل وجودهما حين الانطباق ، وليس من قبيل تطبيق المعدوم على المعدوم ، بل من قبيل الحكم بانطباق المعدوم في حال الحكم على المعدوم الموجودين معا في حال الانطباق وذلك مثل سائر الأحكام الصادقة على الأمور الماضية.

وقيل أيضا : إنّ التطبيق يتوقّف على الترتيب ، وهو يتوقّف على تحقّق أوصاف ونسب وإضافات يسلكها في سلك الترتيب ، وفي المتعاقبة لا يوجد ذلك ؛ فإنّه فيما عدا الحادث الأخير لا يوجد شيء من طرفي النسبة ، وفي الحادث الأخير لا يوجد إلاّ طرف واحد ، فلا يتحقّق النسبة أيضا ؛ ضرورة أنّها فرع المنتسبين.

فإن قلت : لعلّ الاتّصاف في الذهن كما قالوا في اتّصاف أجزاء الزمان بالتقدّم والتأخّر.

قلت : لمّا كانت الحوادث لا نهاية لها ، فلا يمكن التفصيل في الأذهان ، فالمبادئ العالية والوجود الإجماليّ غير كاف ؛ لعدم الامتياز فيه. انتهى.

والجواب أنّه يجزم العقل بأنّ حوادث زمان الطوفان في الخارج قبل حوادث زمان البعثة وقبل الحوادث اليومي بلا ريب ، ولا يتفرّع على اعتبار العقل ، كيف؟ وهم معترفون بأنّ الحادث المتقدّم علّة معدّة للحادث المتأخّر بالعلّيّة والمعلوليّة الخارجيّة ؛ فإنّ العلّة ما لم توجد في الخارج من حيث إنّها علّة ، لم يوجد المعلول في الخارج وهما متضايفان.

فظهر أنّ النسبة بالعلّيّة والمعلوليّة متحقّقة بين المعلول والعلّة المعدّة ، ووجودها السابق وعدمها علّة ، فتحقّقت النسبة بين المعدوم والموجود.

٤٨٤

والحقّ أنّ طرفي النسبة لا يمكن أن يكونا معدومين بالعدم المطلق ، وإذا تحقّقا نوع تحقّق ـ وإن لم يجتمعا في الوجود ـ فإنّ العقل يجوّز تحقّق النسبة بينهما ، ولم ينقبض عنه. ومن تصوّر حقيقة وجود الأعراض التدريجيّة ، تصوّر كيفيّة النسبة بين أجزائها المتعاقبة ، وقلّ استبعاده ، وأذعن بها.

ثمّ إنّ النسبة بالتقدّم والتأخّر بين أجزاء الزمان في الواقع من غير فرعيّة ولا اعتبار العقل وتصوّره ، واتّصافها بالصفات الثبوتيّة ، والحكم بالأحكام النفس الأمريّة ، بل الخارجيّة المستلزمة لثبوت المثبت له في الواقع ممّا لا يشكّ فيه أحد ، وليس من الأحكام المتفرّعة على اعتبار العقل ، الحاصلة بعد فرضه ، وليس بحاصل بالفعل إلاّ بعد الفرض ؛ فإنّه لو كان كذلك ، لكان حكم العقل بأنّ هذا الجزء متقدّم ، وذلك متأخّر في الخارج من الأحكام الكاذبة ؛ لأنّه في الخارج ليس كذلك في الحقيقة.

ألا ترى أنّه يصحّ الحكم على الذوات غير المتناهية من الحركة والزمان بالتقدّم والتأخّر والقسمة. والانتزاع الإجماليّ غير كاف لاتّصاف كلّ جزء جزء بالتقدّم والتأخّر ، والتفصيل يعجز عنه العقل عندهم ، فكيف تكون هذه الاتّصافات بعد فرض الأجزاء كما ذهبوا إليه؟!

وقد ذهب بعض المحقّقين في جواب شكّ من قال لم اتّصف هذا الجزء من الزمان بالتأخّر وذاك بالتقدّم؟ إلى أنّ هذه الاتّصافات مستندة إلى هويّات الأجزاء وتشخّصاتها الحاصلة لها ، فكما أنّه لا يصحّ السؤال بأنّ زيدا لم صار زيدا ، وعمرا عمرا؟ لا يصحّ السؤال بأنّه لم صار أمس أمس ، واليوم اليوم؟

وذهبوا أيضا إلى أنّ اختلاف أجزاء الفلك بالقطب والمنطقة مستند إلى هويّة الأجزاء ، ليس بفرض الفارض ، بل موجود فيه حقيقة ، ولكنّ الأجزاء وهويّاتها موجودة بوجود الكلّ بوجود واحد. وكما أنّ أجزاء الجسم وتشخّصاتها موجودة بوجود الجسم بوجود قارّ ، كذلك أجزاء الزمان والحركة موجودة بوجود الكلّ

٤٨٥

بوجود تدريجي بلا تفاوت.

والمناقشة في هذه ناشئة من عدم تصوّر الوجود التدريجي كما ينبغي ، فلا ينافي اتّصال الزمان والحركة إذا كانت موجودة بوجود واحد ؛ فإنّ هذا النوع من الاختلاف لا يستلزم القسمة بالفعل ، والانفصال بعد الاتّصال (١) بوجود الكلّ.

ثمّ إنّهم قاطبة صرّحوا بأنّ الصفة لا يجب تحقّقها في طرف الاقتصار (٢) ، والمحكوم به لا يجب وجوده في الحكم (٣) مع أنّه نسبة.

وذهبوا أيضا إلى تساوي نسبة الممكن إلى طرفي الوجود والعدم ، وإلى صحّة الاتّصاف بنحو العمى من الأمور العدميّة في الخارج إلى غير ذلك من النظائر. ولا يخفى أنّه يمكن إجراء جميع ما ذكرنا ـ من جريان هذا الدليل في المتعاقبة ـ في جريان سائر البراهين فيها ، ولا نطيل بالتعرّض لخصوص كلّ منها.

البرهان الرابع : ما أورده الشيخ الكراجكي ـ روّح الله روحه ـ في الكنز بعد ما أورد برهان التطبيق بوجه مختصر أنيق ، قال : دليل آخر على تناهي ما مضى ، وهو أنّه قد مضت أيّام وليال وقفنا اليوم عند آخرها فلا تخلو إمّا أن تكون الأيّام أكثر عددا من الليالي ، أو الليالي من الأيّام ، أو يكونا في العدد سواء ، فإن كانت الأيّام أكثر من الليالي ، تناهت الليالي ؛ فإنّها أقلّ منها واقتضى ذلك تناهي الأيّام أيضا ؛ لبطلان اتّصالها قبل الليالي بغير ليال بينها ، فوجب على هذا الوجه تناهيهما معا.

وإن كانت الليالي أكثر من الأيّام ، كان الحكم فيهما نظير ما قدّمناه من تناهي الأوّل ، فتناهى الأيّام ؛ لزيادة الليالي عليها ، ويقتضي ذلك تناهي الليالي أيضا ؛ لما مرّ ، فيلزم تناهيهما معا.

__________________

(١) في المصدر : « الاتّحاد ».

(٢) كذا ، وفي المصدر : « في ظرف الاتّصاف » وهو الصحيح.

(٣) كذا ، والمراد في ظرف الحكم.

٤٨٦

وإن كانت الأيّام والليالي في العدد سواء ، كانا بمجموعهما أكثر عددا من إحداهما بانفراده ، وهذا يشهد بتناهيهما ؛ إذ لو كان كلّ واحد منهما في نفسه غير متناه ، ما تصوّرت العقول عددا أكثر منه ، وقد علمنا أنّ الأيّام مع الليالي أكثر عددا من أحدهما ، وهذا موضح عن تناهيهما.

وبهذا الدليل نعلم أيضا تناهي جميع ما مضى من الحركات والسكنات ، ومن الاجتماعات والافتراقات ، ومن الطيور والبيض والشجر والحبّ ، وما يجري مجرى ذلك (١). انتهى.

ثمّ اعلم : أنّه يمكن إبطال ما ادّعوه ـ من التسلسل في الأمور المتعاقبة ، بل في غير المترتّبة أيضا ـ بوجوه أخرى نذكر بعضها :

الأوّل : أنّهم قالوا بالحوادث غير المتناهية التي كلّ سابق منها علّة معدّة للاّحق على سبيل الاستغراق ، وأنّ إيجاد الواجب تعالى لكلّ منها مشروط بالسابق تحقيقا للإعداد ، وتصحيحا لارتباط الحادث بالقديم ، وأنّه تعالى ليس بموجب تامّ لواحد منها.

إذا تقرّر هذا ، فنقول : لو تسلسلت المعدّات ـ على ما ذهبوا إليه ـ لا إلى نهاية لزم أن يكون وجوب كلّ واحد منها وجوبا شرطيّا ، بمعنى أنّه يجب كلّ منها بشرط وجوب سابقه ، ولا ينتهي إلى الوجوب القطعي البتّة الذي يكون تعالى [ موجبا له لذاته بدون شرط ؛ لأنّه عندهم أنّه تعالى ليس بموجب تامّ لكل واحد من المعدّات بل الحوادث مطلقا وتأثيره تعالى ] (٢) في كلّ منها موقوف على تأثيره في معدّ سابق عليه لا إلى نهاية ، فوجوب كلّ منها وجوب شرطي لا يجب حتّى يجب سابقه ، والوجوب الشرطي غير كاف لتحقّق واحد منهما (٣) ؛ فإنّه بمنزلة قضايا شرطيّة

__________________

(١) « كنز الفوائد » ١ : ٣٦.

(٢) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٣) أي من اللاحق والسابق.

٤٨٧

غير متناهية مقدّم كلّ لاحق ، تال لسابقه ؛ فإنّه ما لم ينته إلى وضع مقدّم ، لم ينتج شيئا ، ولو توقّف تأثير الواجب في كلّ حادث ، وإيجاده إيّاه على إيجاد حادث آخر ، ولم تجب لذاتها تلك الإيجادات ، لكان يجوز للواجب ترك إيجاد الحوادث بالكلّيّة وما لم يمتنع هذا الاحتمال في نفس الأمر لم يجب واحد منها في الواقع ؛ لأنّ وجوب كلّ حادث إنّما هو بشرط إيجاد حادث آخر وهكذا والكلام في ترك الإيجاد رأسا وما لم يمتنع جميع أنحاء ارتفاعه وعدماته في الواقع لم يجب وجوده.

وتوهّم بعضهم أنّه لا يمكن ارتفاع جميع الحوادث ؛ لاستلزامه ارتفاع الطبيعة القديمة المستندة بلا شرط إلى الواجب تعالى شأنه.

وهو مردود بأنّه لا يعلم استناد الطبيعة بلا شرط إلى الواجب جل شأنه ؛ لأنّ الطبيعة عندهم إذا كانت ذاتيّة لما تحتها فإنّما هي مجعولة بجعل ما هي ذاتيّة له جعلا واحدا ، ولا يمكن تعلّق جعل على حدة بالطبيعة الكلّيّة قطعا ، وجعل كلّ فرد الطبيعة عندهم إنّما هو بشرط سبق معدّ.

نعم ، لو تحقّق تأثير منفرد في الطبيعة وراء التأثير في الأفراد ، لوجب أن يكون التأثير من الواجب فيها إمّا ابتداء أو بواسطة قديمة ، وتأثير الواجب في القديم بلا واسطة وشرط ، أو بواسطة قديمة إنّما هو منشأ استحالة انعدام القديم عندهم.

فظهر أنّ سلسلة الحوادث يجب أن تنتهي إلى حادث يجب وجوده عن الواجب بلا شرط معدّ ، فتنقطع سلسلة الحوادث بأنّه لا يجوز تقدّم شرط ومعدّ من الحوادث عليه.

وكذا يمكن إجراء كثير من براهين إثبات الواجب ـ التي لا تتوقّف على إبطال الدور والتسلسل ـ هنا بأدنى تصرّف ، ولا يخفى على الفطن اللبيب ؛ فإنّ تأثير الواجب تعالى عندهم في كلّ حادث يتوقّف على معدّ ، ووجود الواجب مع عدم المعدّ في حكم قوّة فرض عدمه تعالى ـ والعياذ بالله ـ في عدم التأثير ، والعلّة التامّة

٤٨٨

عندهم هو الواجب مع المعدّ ، ومجموع المركّب من الواجب والممكن ممكن ، فالعلل التامّة لجميع الحوادث غير المتناهية ممكنات ، فكما لا ينفع التزام التسلسل في مسألة إثبات الواجب ، لا ينفع التزامه هنا أيضا ؛ إذ الأدلّة الدالّة على إثبات الواجب بدون التمسّك بإبطال التسلسل تجري هنا بأدنى التفات.

الثاني : أن نقول : على تقدير تسلسل الحوادث على سبيل التعاقب يلزم أن يتقدّم على كلّ حادث من الحوادث على سبيل الاستغراق عدم أزليّ لحادث حادث ، فالحادث الأوّل والثاني يجتمعان في العدم ؛ إذ يوجد في الواقع مرتبة من المراتب كانا معدومين فيها ، واجتمع معهما عدم الحادث الثالث ؛ ضرورة أنّ عدم كلّ حادث أزلي ، وأنّ عدم الحادث المتأخّر وإن كان أطول امتدادا من [ عدم ] الحادث المتقدّم إلاّ أنّ الكلّ متحقّق في ظرف الزمان ؛ إذ طبيعة الزمان أزليّة عندهم ، والأعدام كلّها أزليّة ، فلا بدّ من اجتماعها قطعا في زمان ما.

ويجتمع مع هذه الأعدام الثلاثة عدم الحادث الرابع ، وكذا على ترتيب الآحاد على التوالي فإمّا أن يستغرق هذا الاجتماع أعدام جميع الآحاد ، فيكون جميع الحوادث معدوما في مرتبة ما من المراتب الواقعيّة ، فتأخّر تلك الحوادث عن تلك المرتبة الواقعيّة ، ويكون الجميع معدوما في تلك المرتبة ، فيكون لها مبدأ وانقطاع وهو المطلوب. وإن لم يستغرق فينتهي إلى حادث معيّن لا يجتمع عدمه مع عدم ما قبله من الحوادث ، إمّا لأنّ هذا الحادث لا يسبقه عدمه ، فيكون قديما بالشخص ، وإمّا لأنّ الحادث الذي قبله لا يسبقه عدم أزليّ ، فيكون ذلك قديما ؛ ضرورة أنّه لو تقدّمهما عدم أزليّ ، يجب اجتماعهما مع ما تأخّر عنهما ، فتنقطع سلسلة الحوادث على أيّ تقدير.

لا يقال : كلّ جملة متناهية يجتمع في العدم ويتحقّق عدم سابق على الجميع ، وأمّا جملة الحوادث غير المتناهية ، فلا.

لأنّا نقول : قد بيّنّا أنّ هذا الحكم مستغرق لجميع الآحاد على التوالي ، وقد مرّ في

٤٨٩

المقدّمات الممهّدة أنّ أمثال هذه الأحكام على كلّ فرد تسري إلى الجملة ، فلا مجال لهذا التوهّم.

ولك أن تقول : هاهنا سلسلتان : إحداهما سلسلة وجودات الحوادث ، والأخرى سلسلة عدماتها ، فإذا أخذنا مجموع الوجودات بحيث لا يشذّ عنها فرد ـ وكذا العدمات ـ فلا شكّ أنّ جملة العدمات ـ بحيث لا يشذّ فرد ـ متقدّمة على جملة الوجودات ؛ لتقدّم كلّ فرد منها على نظيره وعديله ، ومثل هذا الحكم يسري من الآحاد إلى الجملة ، ولأنّ جملة العدمات لمّا كان كلّ فرد منها أزليّا ، فالجملة أزليّة ، وجملة الحوادث حادثة ، وتقدّم الأزليّ على الحوادث ضروريّ ، ولا شبهة في إمكان أخذ المجموع بحيث لا يشذّ [ ؛ فإنّه ليس من قبيل الجملة اللاّيقفيّة التي لا يمكن فيها أخذ المجموع بحيث لا يشذّ ] (١) وقد أخذوا جملة الممكنات في دليل إثبات الواجب ، فيكون ممكنا ، فلا يكون في تلك المرتبة شيء من الحوادث وهو الانقطاع.

ولنا أيضا أن نقول : يتقدّم على كلّ حادث عدم أزليّ وهو عدم لهذا الحادث ، وينعدم معه جميع ما بعده من الحوادث التي هو معدّ لها ، وصدق (٢) هذا العدم يستوعب جميع آحاد سلسلة الحوادث ، وحكم الآحاد يسري إلى الجملة ، فيلزم عدم مجموع الحوادث رأسا وانقطاعها.

أو نقول : مجموع الحوادث واحد شخصيّ ؛ لأنّ كلّ جزء منه واحد شخصيّ ، وحادث أيضا ؛ لأنّ جميع أجزائه حادث ، فيلزم الانقطاع.

ونقول أيضا : السلسلة المذكورة معدّات عندهم ، والمعدّ يعتبر وجوده وعدمه في المعدود (٣) المتأخّر ، وكلاهما سابق عليه ، فنأخذ سلسلة العدمات اللاحقة السابقة

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) في المصدر : « سبق ».

(٣) في المصدر : « المعلول ».

٤٩٠

على وجود المعلولات ، ونقول : إمّا أن يستغرق سبق كلّ فرد من العدمات لكلّ فرد من وجودات الحوادث ، النظير على النظير ، فيلزم تقدّم جملة سلسلة العدمات ـ إذا أخذنا بحيث لا يشذّ منها شيء ـ على سلسلة وجودات الحوادث ، وهو يستلزم الانقطاع وتقدّم عدم اللاحق على الموجود ، وهذا خلف ، وإن لم يستغرق فينتهي إلى فرد لا يسبقه عدم المعدّ ، فتنقطع سلسلة المعدّات.

وعلى هذه التقريرات لا يتوجّه ما قيل : أنّ الأزل ليس وقتا محدودا يجتمع فيه العدمات وغيرها ، بل مرجعه إلى أنّ قبل كلّ حادث حادث إلى غير النهاية ، وهكذا عدم الحوادث ، ولا محذور فيه ؛ لأنّ اجتماع العدم الأزليّ غير المتناهي في الماضي في زمان ـ مع عدم تناهي الزمان عندهم مع مثله بالغا ما بلغ سواء كانت الأعدام متناهية ، أم لا ـ بديهيّ ، ولا يلزمنا تعيين زمان معيّن للأزل.

وكذا ما قيل : وإن تحقّق في الأزل عدم الحوادث ، لكنّه عدم كلّ حادث مقرون بوجود حادث تقدّم على ذلك الحادث أبدا ، فلا يتحقّق وقت ينتفي فيه جميع الموجودات ، ويبقى صرف العدم.

وهذا ـ مع أنّه مدفوع بما قرّرنا ـ لو تمّ فهو فساد آخر نشأ من عدم تناهي الحوادث ؛ إذ جميع المفاسد التي ذكرنا إنّما نشأت من الحوادث إلى غير النهاية.

يمكن أن يقال أيضا : إنّ الحادث اليوميّ مسبوق بعدم معدّه ، وبعدم معدّ معدّه وهكذا إلى غير النهاية ، وعدم المعدّ البعيد بواسطة أطول امتدادا من عدم المعدّ القريب ، والمعدّ البعيد بواسطتين أطول منهما ، والمعدّ الأبعد بثلاث وسائط أطول من الثلاثة ، وكلّما تمتدّ سلسلة المعدّات تزايد امتداد الأعدام اللاحقة للمعدّات ، فلو ذهبت السلسلة إلى غير النهاية ، لزم أن يمتدّ العدم اللاحق لا إلى نهاية مع أنّه عدم لاحق مسبوق بوجود المعدّ ، واستحالته ظاهرة.

وهذا برهان لطيف قويّ لا يرد عليه ما يرد على برهان السلّم ؛ لأنّ جميع الأعلام

٤٩١

غير المتناهية جزء للعلّة التامّة للحادث اليومي ، متحقّقة في الواقع ، مجتمعة ، ووجودات المعدّات متحقّقة في الواقع ، متمايزة بخلاف برهان السلّم ؛ لأنّ ازدياد الانفراج هنا على سبيل اللاّيقف ، وموقوف على فرض النقاط في الساقين.

الثالث : قال بعض المحقّقين : إنّ الأمور غير المتناهية مطلقا تستلزم الأمور غير المتناهية المترتّبة ، ويلزم منه تناهي النفوس وحدوثها على بعض الوجوه كما سلف.

بيانه : أنّ المجموع متوقّف على المجموع إذا أسقط منه واحد ، وذلك المجموع على مجموع أقلّ منه بواحد ، وهكذا إلى غير النهاية ، فيجري التطبيق والتضايف بين المجموعات غير المتناهية ؛ إذ هي أمور موجودة مترتّبة » (١).

الفائدة الثالثة : فيما يتعلّق بأحوال العالم العلوي كاللوح والقلم والعرش والكرسيّ والأفلاك من السماء وما فيها من الآيات والأخبار على وجه الاختصار.

وفيها فصول :

الفصل الأوّل : فيما يتعلّق باللوح والقلم

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن سفيان الثوري ، قال : سألت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن ( ن ) فقال عليه‌السلام : « هو نهر في الجنّة ، قال الله : أجمد ، فجمد فصار مدادا ، ثمّ قال ـ عزّ وجلّ ـ للقلم : اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور ، واللوح لوح من نور ».

قال سفيان : فقلت له : يا ابن رسول الله! بيّن لي أمر اللوح والقلم والمداد فضل

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٤ : ٢٦٢ ـ ٢٧٧ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

٤٩٢

بيان ، وعلّمني ممّا علّمك الله ، فقال : « يا بن سعيد لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك ، فنون : ملك يؤدّي إلى القلم وهو ملك والقلم يؤدّي إلى اللوح وهو ملك ، واللوح يؤدّي إلى إسرافيل ، وإسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل ، وميكائيل يؤدّي إلى جبرئيل ، وجبرئيل يؤدّي إلى الأنبياء والرسل » قال : ثمّ قال عليه‌السلام : « قم يا سفيان فلا آمن عليك » (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام ما يقرب ذلك إلاّ أنّ فيه كون القلم من الشجر التي غرسها الله تعالى في الجنّة ، فقال لها : كوني قلما » (٢).

ومنها ما روي عن إبراهيم الكرخيّ ، قال : سألت جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن اللوح والقلم ، فقال : « هما ملكان » (٣).

ومنها ما سأل ابن سلام النبيّ عليه‌السلام عن ( ن ، وَالْقَلَمِ ) قال : « النون : اللوح المحفوظ ، والقلم نور ساطع وذلك قوله تعالى : ( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) (٤) ».

قال : صدقت يا محمّد! فأخبرني ما طوله؟ وما عرضه؟ وما مداده؟ وأين مجراه؟ قال : « طول القلم خمسمائة سنة ، وعرضه مسيرة ثمانين سنة ، له ثمانون سنّا ، يخرج المداد من بين أسنانه يجري في اللوح المحفوظ بأمر الله وسلطانه ».

قال : صدقت يا محمّد! فأخبرني عن اللوح المحفوظ ممّا هو؟ قال : « من زمرّدة خضراء أجوافه اللؤلؤ ، وبطانته الرحمة ».

قال : صدقت يا محمّد! ، قال فأخبرني كم لحظة لربّ العالمين في اللوح المحفوظ في كلّ يوم وليلة؟ قال : ثلاثمائة وستّون لحظة » (٥).

ومنها ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الله عزّ وجلّ أمر القلم فجرى

__________________

(١) « معاني الأخبار » : ٢٢ ـ ٢٣ باب معاني الحروف المقطّعة ... ح ١ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٥٤ : ٣٦٨ ، ح ٥.

(٢) « علل الشرائع » ٢ : ٤٠٢ ، الباب ١٤ ، ح ٢.

(٣) « معاني الأخبار » : ٣٠ باب معنى اللوح والقلم ، ح ١ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٥٤ : ٣٦٩ ، ح ٦.

(٤) القلم (٦٨) : ١.

(٥) « الاختصاص » : ٤٩ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٩ : ٣٤٢ ، ح ٢٠.

٤٩٣

على اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام ، وأنّ كتب الله كلّها فيما جرى فيه القلم ، منها هذه الكتب المشهورة في هذا العالم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ على رسله صلوات الله عليهم أجمعين » (١). الخبر.

ما ورد في بعض الأخبار ـ أنّ اللوح والقلم ملكان (٢) ـ لا ينافي ظاهره كما لا يخفى.

ويظهر من الأخبار أنّ لله لوحين : اللوح المحفوظ وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل ، ولوح المحو والإثبات ، وفيه يكون البداء (٣).

وقال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ اعتقادنا في اللوح والقلم أنّهما ملكان (٤).

الفصل الثاني : في العرش والكرسيّ

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سئل أمير المؤمنين عن قول الله : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) (٥) فقال : « إنّ السماوات والأرض وما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسيّ ، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله » (٦).

ومنها : ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّ الله لمّا خلق العرش خلق له ثلاثمائة وستّين ألف ركن ، وخلق عند كلّ ركن ثلاثمائة ألف وستّين ألف ملك لو أذن الله تعالى لأصغرهم ، فالتقم السماوات السبع والأرضين السبع ، ما كان ذلك

__________________

(١) « علل الشرائع » ١ : ١٩ ، الباب ١٧ ، ح ٢ ، وعنه في « بحار الأنوار » ١١ : ٢٢٣ ، ح ٢.

(٢) « معاني الأخبار » : ٣٠ باب معنى اللوح والقلم.

(٣) « الكافي » ١ : ١٤٦ ـ ١٤٩ باب البداء ؛ « التوحيد » : ٣٣١ ـ ٣٣٦ باب البداء.

(٤) « اعتقاد الإماميّة » ضمن « تصحيح الاعتقاد » : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٥) البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٦) « تفسير العيّاشي » ١ : ١٥٧ ، ح ٤٥٩ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٥٥ : ٣٣ ، ح ٥٢.

٤٩٤

بين لهواته إلاّ كالرملة في المفازة الفضفاضة ، وقال لهم الله : يا عبادي! احملوا عرشي هذا ، فتعاطوه فلم يطيقوا حمله ولا تحريكه ، فخلق الله بعدد كلّ واحد منهم واحدا فلم يقدروا أن يزعزعوه ، فخلق الله مع كلّ واحد عشره فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فخلق الله بعدد كلّ واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فقال الله ـ عزّ وجلّ ـ لجميعهم : خلّوه عليّ أمسكه بقدرتي ، فخلّوه فأمسكه الله عزّ وجلّ بقدرته.

ثمّ قال لثمانية منهم : احملوا أنتم ، فقالوا : يا ربّنا! لم نطقه نحن وهذا الخلق الكثير والجمّ الغفير ، فكيف نطيقه الآن دونهم؟! فقال الله عزّ وجلّ : لأنّي أنا الله ـ المقرّب للبعيد ، والمخفّف للشديد والمستهلّ للعسير ـ أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ، أعلّمكم كلمات تقولونها يخفّف بها عليكم.

قالوا : وما هي؟ قال : تقولون : بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين ، فقالوها فحملوه ، وخفّف على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قويّ.

فقال الله عزّ وجلّ لسائر تلك الأفلاك : خلّوا على هذه الثمانية عرشي ليحملوه ، وطوفوا أنتم حوله ، وسبّحوني ومجّدوني وقدّسوني ، فأنا الله القادر على ما رأيتم وعلى كلّ شيء قدير » (١).

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام أنّه قال : « في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البرّ والبحر » قال : « وهذا تأويل قوله تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) (٢) وإنّ بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان (٣) الطير المسرع مسيرة ألف عام ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعون ألف لون من النور

__________________

(١) « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ » : ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٢) الحجر (١٥) : ٢١.

(٣) أي حركة الطير.

٤٩٥

لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة ، وإنّ لله تعالى ملكا يقال له : خرقائيل له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر : هل فوق العرش شيء؟ فزاده الله تعالى مثلها أجنحة أخرى ، فكان له ستّة وثلاثون ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، ثمّ أوحى الله إليه : أيّها الملك! أن طر ، فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ، ثمّ ضاعف الله له في الجناح والقوّة فأمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا فأوحى الله إليه : أيّها الملك! لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي » (١).

الفصل الثالث : في الحجب والأستار والسرادقات

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن زيد بن وهب ، قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحجب ، فقال : « أوّل الحجب سبعة ، غلظ كلّ حجاب منها مسيرة خمسمائة عام ، وبين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام ، والحجاب الثاني سبعون حجابا ، بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام ، حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك ، قوّة كلّ ملك منهم قوّة الثقلين ، منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ، ومنها دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ، ومنها جبال ، ومنها عجاج ، ومنها ماء ، ومنها أنهار ؛ وهي حجب مختلفة غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعون ألف عام.

ثمّ سرادقات الجلال وهي ستّون سرادقا في كلّ سرادق سبعون ألف ملك ، بين كلّ سرادق مسيرة خمسمائة عام.

ثمّ سرادق العزّ ، ثمّ سرادق الكبرياء ، ثمّ سرادق العظمة ، ثمّ سرادق القدس ،

__________________

(١) « روضة الواعظين » ١ : ٤٧ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٥٥ : ٣٤ ، ح ٥٤.

٤٩٦

ثمّ سرادق الجبروت ، ثمّ سرادق الفجر ، ثمّ سرادق النور الأبيض ، ثمّ سرادق الوحدانيّة وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثمّ الحجاب الأعلى » وانقضى كلامه عليه‌السلام وسكت ، فقال له : عمر لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن (١)!.

ومنها : ما روي عن جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : « إنّ الله تعالى خلق نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسيّ واللوح والقلم والجنّة والنار ، وقبل أن خلق آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وكلّ من قال الله عزّ وجلّ في قوله : ( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) إلى قوله تعالى : ( وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) وقبل أن خلق الأنبياء كلّهم بأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألف سنة ، وخلق معه اثني عشر حجابا : حجاب القدرة ، وحجاب العظمة ، وحجاب المشيّة ، وحجاب الرحمة ، وحجاب السعادة ، وحجاب الكرامة ، وحجاب المنزلة ، وحجاب الهداية ، وحجاب النبوّة ، وحجاب الرفعة ، وحجاب الهيبة ، وحجاب الشفاعة.

ثمّ حبس نور محمّد في حجاب القدرة اثني عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان ربّي الأعلى وبحمده ، وفي حجاب العظمة أحد عشر ألف سنة وهو يقول : سبحان عالم السرّ ، وفي حجاب المشيّة عشرة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو قائم لا يلهو ، وفي حجاب الرحمة تسعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان الرفيع الأعلى ، وفي حجاب السعادة ثمانية آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو دائم لا يسهو ، وفي حجاب الكرامة سبعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان من هو غنيّ لا يفقر ، وفي حجاب المنزلة ستّة آلاف سنة وهو ويقول : سبحان ربّي الكريم ، وفي حجاب

__________________

(١) « الخصال » : ٤٠١ باب السبعة ، ح ١٠٩ ؛ « التوحيد » : ٢٧٨ باب ذكر عظمة الله عزّ وجلّ ، ح ٣.

(٢) الأنعام (٦) : ٨٤ ـ ٨٧.

٤٩٧

الهداية خمسة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ذي العرش العظيم ، وفي حجاب النبوّة أربعة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ربّ العزّة عمّا يصفون ، وفي حجاب الرفعة ثلاثة آلاف سنة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت ، وفي حجاب الهيبة ألفي سنة وهو يقول : سبحان الله وبحمده ، وفي حجاب الشفاعة ألف سنة وهو يقول سبحان ربّي العظيم وبحمده.

ثمّ أظهر ـ عزّ وجلّ ـ اسمه على اللوح ، فكان [ على اللوح ] (١) منوّرا أربعة آلاف سنة ، ثمّ أظهره على العرش فكان على ساق العرش مثبتا سبعة آلاف سنة إلى أن وضعه الله تعالى في صلب آدم عليه‌السلام » (٢).

الفصل الرابع : في سدرة المنتهى والبيت المعمور

وفيه أخبار

منها : ما روي عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله : لمّا أسري بي إلى السماء انتهيت إلى محلّ سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ أمّة من الأمم ، فكنت من ربّي كقاب قوسين أو أدنى » (٣) الخبر.

ومنها : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وجنّة المأوى عندها » (٤).

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : « السجّين : الأرض السابعة ، وعلّيّون : السماء السابعة » (٥).

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) « معاني الأخبار » : ٣٠٦ ـ ٣٠٨ ، ح ١ ؛ « الخصال » ٢ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، ح ٥٥.

(٣) « تفسير علي بن إبراهيم » ١ : ٩٥ ذيل الآية ٢٨٥ من سورة البقرة (٢).

(٤) نفس المصدر السابق ٢ : ٣٣٥ ذيل الآية ١٣ من سورة النجم (٥٣).

(٥) نفس المصدر السابق ٢ : ٤١٠ ذيل الآية ٧ من سورة المطففين (٨٣).

٤٩٨

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

« البيت المعمور في السماء الدنيا ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له : الحيوان يدخل فيه جبرئيل عليه‌السلام كلّ يوم طلعت فيه الشمس ، وإذا خرج انتفض انتفاضة جرت منه سبعون ألف قطرة ، يخلق الله في كلّ قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلّوا فيه فيفعلون ، ثمّ لا يعودون إليه أبدا » (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « البيت الذي في السماء يقال له : الضراح ، وهو بفناء البيت لو سقط سقط عليه يدخله كلّ يوم ألف ملك لا يعودون إليه أبدا » (٢).

وقيل : البيت المعمور هو الكعبة ، البيت الحرام معمور بالحجّ والعمرة (٣).

وعن الحسن : وهو أوّل مسجد وضع للعبادة في الأرض.

الفصل الخامس : فيما يتعلّق بالأفلاك من السماء وما فيها

وفيه أخبار :

منها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل : ممّ خلق السماوات؟ قال : « من بخار الماء ».

وسئل : عن سماء الدنيا : ممّا هي؟ قال : « من موج مكفوف ».

وسئل : كم طول الكواكب وعرضه؟ قال : « اثنا عشر فرسخا في اثني عشر فرسخا ».

وسئل : عن ألوان السماء السبع وأسمائها ، فقال : « اسم السماء الدنيا « رفيع » وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية « قيدوم » وهي على لون النحاس ، والسماء الثالثة اسمها « الماروم » وهي على لون الشبه ، والسماء الرابعة اسمها « أرفلون » وهي

__________________

(١) « مجمع البيان » ٩ : ٢٧٢ ذيل الآية ٤ من سورة الطور (٥٢).

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نسبه إلى الحسن في « مجمع البيان » ٩ : ٢٧٢.

٤٩٩

على لون الفضّة ، والسماء الخامسة اسمها « هيفوف » وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها « عروس » وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها « عجماء » وهي درّة بيضاء » (١).

ومنها : ما سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما بال النجوم تستبين صغارا وكبارا ومقدار النجوم كلّها سواء؟ قال : « لأنّ بينها وبين سماء الدنيا بحارا يضرب الريح أمواجها فلذلك تستبين صغارا وكبارا ومقدار النجوم كلّها سواء » (٢).

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : « هذه النجوم التي في السماوات مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور طول ذلك العمود في السماء مسير مائتين وخمسين سنة » (٣).

ومنها : ما في خبر الشامي عن الرضا عليه‌السلام أنّه : « سأل رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل ، فكان فيما سأله عن طول الشمس والقمر وعرضهما ، قال : تسعمائة فرسخ في تسعمائة فرسخ » (٤).

ومنها : ما روي عن أبي ذرّ الغفاريّ ، قال : كنت آخذا بيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن نتماشى جميعا فما زلنا ننظر إلى الشمس حتّى غابت ، فقلت : يا رسول الله! أين تغيب؟ قال : « في السماء ، ثمّ ترفع من سماء إلى سماء حتّى ترفع إلى السماء السابعة العليا حتّى تكون تحت العرش ، فتخرّ ساجدة فتسجد معها الملائكة الموكّلون بها ، ثمّ تقول : يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع؟ أمن مغربي أم من مطلعي؟ فذلك قوله عزّ وجلّ : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (٥) يعني بذلك صنع الربّ العزيز

__________________

(١) « عيون أخبار الرضا » ١ : ٢٤١ ، الباب ٢٤ ، ح ١ ؛ « الخصال » ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ باب السبعة ، ح ١١.

(٢) « علل الشرائع » ٢ : ٤٧٠ ، الباب ٢٢٢ ، ح ٣٣.

(٣) « تفسير علي بن إبراهيم » ٢ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ذيل الآية ٣ من سورة الصافّات.

(٤) « عيون أخبار الرضا » ١ : ٢٤١ ، الباب ٢٤ ، ح ١.

(٥) يس (٣٦) : ٣٨.

٥٠٠