البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

تعالى حسنة سواء كانت مبتدأ بها أو بطريق المجازاة ، وسواء تعقّبها عوض ، أو لا (١).

وذهب الثنويّة إلى قبح جميع الآلام لذاتها وهي صادرة عن الظلمة (٢).

واختار المصنّف أنّ بعض الآلام يصدر منّا خاصّة كالآلام الصادرة عن بعض المكلّفين بالنسبة إلى من لا جرم له ، وبعضها حسن يصدر من الله تعالى ومنّا ، وعلّة حسنه إمّا الاستحقاق ، أو اشتماله على نفع زائد على الألم ، أو على دفع ضرر زائد عليه ، أو كونه على مقتضى العادة كما يفعله الله تعالى في الحيّ إذا ألقيناه في النار ، أو كونه واقعا على وجه الدفع كما إذا وقع دفعا للصائل (٣) فإنّا إذا علمنا اشتمال الألم على واحد من هذه الأمور حكمنا بحسنه قطعا ، والألم الذي يفعله الله تعالى ابتداء ـ وهو المشتمل على النفع الحاصل للمتألّم ـ مشروط باللطف للمتألّم أو لغيره ؛ لأنّ خلوّه عن النفع يستلزم الظلم ، وعن اللطف يستلزم العبث وهما قبيحان على الله تعالى.

( ويجوز في المستحقّ كونه عقابا ) أي يجوز أن يقع الألم على المستحقّ مثل الفسّاق والكفّار بطريق العقاب ، ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلّفين كما في الحدود.

( ولا يكفي اللطف في ألم المكلّف في الحسن ).

يعني أنّ اللطف غير كاف في ألم المكلّف لكونه حسنا ، بل لا بدّ فيه أن يقع في مقابلته عوض من حصول نفع أو دفع ضرر ؛ لأنّ الطاعة الواقعة لأجل الألم بسبب اللطف تقابل الثواب المستحقّ ، فيبقى الألم مجرّدا عن النفع ، فيكون قبيحا.

( ولا يحسن مع اشتمال اللذّة على لطفه ).

يعني أنّ الألم لا يحسن إذا كان اللّذّة مشتملة على اللطف الذي في الألم ؛ لأنّ

__________________

(١) « شرح الأصول الخمسة » : ٤٨٣ ؛ « كشف المراد » : ٣٢٩ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٥٥ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٧٩.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) الصائل : الواثب والمهاجم.

٤٦١

الألم إنّما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلاّ ذلك الألم ، ولو أمكن الوصول إلى المنفعة بدون الألم ، كان الألم ضررا وهو قبيح.

( ولا يشترط في الحسن اختيار المتألّم بالفعل ) أي لا يشترط في حسن الألم الواقع ابتداء من الله تعالى اختيار المتألّم العوض الزائد عليه بالفعل ؛ لأنّ اعتبار الاختيار إنّما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيار المتألّمين ، فأمّا النفع البالغ إلى حدّ لا يتفاوت فيه اختيار المتألّمين ؛ لكونه زائدا ، فهو حسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل ، وهذا هو العوض المستحقّ عليه تعالى.

( والعوض نفع مستحقّ خال عن تعظيم وإجلال ).

أراد أن يشير إلى عوض الألم الواقع ابتداء وأحكامه ، فقال : « العوض نفع مستحقّ خال عن تعظيم وإجلال » والنفع يجوز أن يقع تفضّلا من غير سابقة استحقاق ، ويجوز أن يقع بعد استحقاق ، فقوله : « مستحقّ » يخرج النفع المتفضّل ؛ فإنّه لا يكون عوضا. وقوله : « خال عن تعظيم وإجلال » يخرج الثواب.

( ويستحقّ عليه تعالى بإنزال الآلام ، وتفويت المنافع لمصلحة الغير ، وإنزال الغموم ـ سواء استندت إلى علم ضروريّ أو مكتسب أو ظنّ لا ما يستند إلى فعل العبد ـ وأمر عباده بالمضارّ أو إباحته ، وتمكين غير العاقل ، بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار والقتل عند شهادة الزور ).

أراد أن يشير إلى الوجوه التي يستحقّ بها العوض على الله تعالى :

منها : إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره ؛ فإنّه يجب على الله تعالى عوضه ، وإلاّ لكان ظلما ، والظلم قبيح على الله تعالى.

ومنها : تفويت المنافع على العبد إذا كان التفويت من الله تعالى لمصلحة الغير ؛ لأنّه لا فرق بين إنزال المضارّ وتفويت المنافع.

ومنها : إنزال الغموم بأن يخلق الله تعالى أسباب الغمّ ؛ لأنّه بمنزلة الضرر سواء كان الغمّ مستندا إلى علم ضروريّ كنزول مصيبة أو وصول ألم ، أو مستندا إلى علم

٤٦٢

مكتسب ؛ لأنّه تعالى هو الباعث على النظر ، فيكون الله تعالى سببا للغمّ ، فكان العوض عليه ، أو كان مستندا إلى ظنّ كأن يغتمّ عند أمارة وصول مضرّة أو فوات منفعة ؛ فإنّه هو الناصب لأمارة الظنّ ، فيكون الغمّ بسببه ، فيجب عليه تعالى العوض.

قوله : « لا ما يستند إلى فعل العبد » أي الغمّ المستند إلى العبد نفسه من غير سبب من الله تعالى لا عوض فيه على الله تعالى وذلك مثل أن يبحث العبد ، فيعتقد ـ جهلا ـ بنزول ضرر أو فوات منفعة ؛ لأنّه لا عوض فيه.

ومنها : أي من الوجوه التي يستحقّ بها العوض على الله تعالى أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو إباحته سواء كان الأمر للإيجاب كالذبح للهدي والكفّارة والنذر ، أو الندب كالضحايا ؛ فإنّ العوض يجب على الله تعالى ؛ لأنّ الأمر بالإيلام يستلزم الحسن ، والألم إنّما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في حدّ العظم (١) جدّا.

ومنها : تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش للإيلام ؛ فإنّ العوض يجب على الله تعالى ؛ لأنّه مكّنه وجعله مائلا إلى الإيلام مع إمكان عدم الميل ، ولم يجعل له عقلا يميّز به الألم لحسن من الألم القبيح ، فكان ذلك بمنزلة الإغراء ، فيقبح منه أن لا يوصل إليه عوضا ، وهذا بخلاف الإحراق إذا ألقينا صبيّا في النار واحترق ، أو شهد أحدنا شهادة زور ، فقتل بسببها ؛ فإنّ العوض يجب علينا لا على الله.

أمّا إلقاء الصبيّ في النار ، فلأنّ فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة ، والله قد منعنا من إلقائه ونهانا عنه ، فصار الملقي كأنّه أوصل الألم إليه ، فلذا يجب على الملقي العوض دونه. وأمّا شهادة الزور ، فلأنّ الشهود أوجبوا بشهادتهم على الإمام إيصال الألم من جهة الشرع فصاروا كأنّهم فعلوا.

( والانتصاف ) أي انتصاف المظلوم من الظالم ( واجب عليه ) أي على الله تعالى

__________________

(١) في المصدر : « في العظم جدّا ».

٤٦٣

( عقلا ) لأنّه لو لم ينتصف لأدّى إلى إضاعة حقّ المظلوم ؛ لأنّه تعالى مكّن الظالم وخلّى بينه وبين الظلم مع أنّه تعالى يقدر على منعه وما مكّن المظلوم من مكافأته ، فلو لم ينتصف منه لضاع حقّ المظلوم ، والتالي باطل ؛ لأنّ تضييع حقّ المظلوم قبيح عقلا ( و ) واجب ( سمعا ) أيضا ؛ لما ورد في القرآن من أنّ الله تعالى يقضي بين عباده بالحقّ (١).

( فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم دون عوض في الحال يوازي ظلمه (٢) ) فإن لم يكن له عوض تفضّل الله عليه بالعوض المستحقّ عليه ، ودفعه إلى المظلوم ( فإن كان المظلوم من أهل الجنّة ، فرّق الله أعواضه على الأوقات ) على وجه لا يتبيّن له انقطاعها فلا يتألّم به ( أو تفضّل الله عليه ) أي على المظلوم ( بمثلها ) أي بمثل الأعواض عقيب انقطاعها ؛ لئلاّ يتألّم بانقطاعها.

( وإن كان ) المظلوم ( من أهل العقاب ، أسقط الله بها ) أي بتلك الأعواض ( جزءا من عقابه ) يوازي تلك الأعواض ( بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرّق الناقص على الأوقات ) ولا يحصل له السرور بحصول التخفيف.

وفي بعض النسخ « بحيث يظهر له التخفيف » وهو سهو من الناسخ.

( ولا يجب دوامه ) أي دوام العوض ( لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ) أي لأنّ العوض إنّما يحسن ؛ لأنّه يشتمل على نفع زائد على الألم زيادة يختار معه (٣) المتألّم ألمه ومثل هذا النفع الزائد لا يستدعي أن يكون دائما ؛ لجواز أن يكون بحيث يختاره المتألّم مع كونه منقطعا ، فلا يجب دوامه. وهذا مذهب أبي هاشم (٤).

__________________

(١) قال تعالى : « والله يقضي بالحقّ ». غافر (٤٠) : ٢٠.

(٢) في المصدر : « الظلم ».

(٣) في المصدر : « معها ».

(٤) « كشف المراد » : ٣٣٦ ـ ٣٣٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٥٨ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

٤٦٤

وذهب أبو عليّ الجبائي (١) إلى أنّه يجب دوام العوض ؛ لأنّه لو انقطع لوجب أن يوصل إليه عاجلا ؛ لأنّ المانع من الإيصال في الدنيا هو انقطاع الحياة (٢) المانع من دوامه وقد انتفى.

وردّه المصنّف بقوله : ( ولا يجب حصوله في الدنيا ؛ لاحتمال مصلحة التأخير ) يعني لا نسلّم أنّ المانع هو الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه ، بل لا يجب حصوله في الدنيا ؛ لاحتمال أن يكون لتأخيره مصلحة غير ظاهرة ، فالمانع هو انتفاء تلك المصلحة الخفيّة.

وقال أيضا : لو انقطع العوض ، لزم دوامه وجه اللزوم : أنّه لو انقطع العوض لتألّم بانقطاعه ، فيستدعي المتألّم عوضا ، فيجب أن يوصله ، فإن لم ينقطع لزم دوامه. وإن انقطع تألّم به واستدعى عوضا آخر وهلمّ جرّا ، فثبت أنّه لو انقطع وجب دوامه ، وما يؤدّي وجوده إلى العدم يكون محالا ، فالانقطاع محال.

وردّ المصنّف ذلك أيضا بقوله : ( والألم على القطع ممنوع ، مع أنّه غير محلّ النزاع ).

يعني أنّه لا نسلّم أنّه يتألّم بسبب انقطاع العوض ؛ إذ يجوز أن ينقطع من غير أن يشعر بانقطاعه ، فلا يتألّم به. مع أنّه غير محلّ النزاع ؛ فإنّ النزاع في العوض المستحقّ على الدوام ، لا في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما.

( ولا يجب إشعار صاحبه ) أي المستحقّ للعوض ( بإيصاله عوضا ) بخلاف الثواب ؛ فإنّه يجب أن يقارن التعظيم ، ولا يحصل التعظيم إلاّ بأن يشعر بأنّه ثواب له.

( ولا تتعيّن منافع ) لأن يكون عوضا ، بل يجوز أن يوصل عوضا كلّ ما يحصل

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) في المصدر و « أ » : « هو الدوام مع انقطاع الحياة ».

٤٦٥

فيه نفع بخلاف الثواب ؛ فإنّه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلّف من ملاذّه كالأكل والشرب واللبس والتناكح ؛ لأنّه يرغب به في تحمّل المشاقّ بخلاف العوض.

( ولا يصحّ إسقاطه ) أي لا يجوز إسقاط العوض ممّن وجب عليه العوض لا في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا. هذا مذهب أبي هاشم (١).

وذهب أبو الحسين إلى أنّه يصحّ إسقاطه إن كان علينا إذا استحلّ الظالم من المظلوم وجعله المظلوم في حلّ بخلاف العوض عليه تعالى ؛ فإنّ إسقاطه عنه عبث ؛ لعدم انتفاعه به (٢).

( والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حدّ الرضا عند كلّ عاقل ).

يعني أنّ العوض إذا وجب عليه تعالى ، يجب أن يكون زائدا على الألم زيادة تنتهي إلى حدّ يرضى به كلّ عاقل. ( و ) إن كان العوض ( علينا ، يجب مساواته ) للألم ؛ لأنّ الزائد على قدر ما يستحقّ عليه من الضمان يكون ظلما.

( وأجل الحيوان الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه ، والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه ) أي لو لا القتل يجوز موته في ذلك الوقت وحياته أيضا.

وقال أبو الهذيل : يموت البتّة في ذلك الوقت (٣).

وقال الأشاعرة (٤) : يعيش.

وقال كثير من المعتزلة : بل يعيش البتّة إلى أمد هو أجله (٥).

( ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلّف ) أي يجوز أن يكون أجل

__________________

(١) « كشف المراد » : ٣٣٨.

(٢) نفس المصدر.

(٣) « كشف المراد » : ٣٤٠ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣١٤.

(٤) نفس المصادر.

(٥) نفس المصادر.

٤٦٦

الإنسان لطفا لغيره من المكلّفين ، ولا يجوز أن يكون لطفا للمكلّف نفسه ؛ لأنّه بالأجل ينقطع التكليف من المكلّف ، وعند انقطاع التكليف لا يكون اللطف متحقّقا.

( والرزق ما صحّ الانتفاع به ، ولم يكن لأحد منعه منه ) فطعام البهيمة قبل أن تستهلكه بالمضغ والبلع لا يكون رزقا لها ؛ لأنّ للمالك منعها منه ، والحرام أيضا لا يكون رزقا ؛ لأنّ الله تعالى منع من الانتفاع به وما كان حلالا مباحا ، فما أتى العبد منه بنصب وتعب فالعبد هو الرازق لنفسه والله ليس رازقا له في ذلك الرزق. وأمّا ما أتاه منه بغير فعله ، فهو من الله ، والرازق له في ذلك الرزق هو الله تعالى.

( والسعي في تحصيله قد يجب ) عند الحاجة ( وقد يستحبّ ) إذا طلب التوسعة على نفسه وعياله ( وقد يباح ) عند قصد تكثير المال من غير ارتكاب منهيّ عنه ( وقد يحرم ) عند ارتكاب المنهيّات كالغصب والسرقة والربا.

والرزق عند الأشاعرة هو ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به (١) ، فيدخل رزق الإنسان والدوابّ وغيرهما من المأكول وغيره ـ مباحا أو حراما ، مملوكا أو غير مملوك ـ ويخرج ما لم ينتفع به وإن كان السوق للانتفاع ؛ لأنّه يقال فيمن ملك شيئا وتمكّن الانتفاع به ولم ينتفع : إنّ ذلك لم يصر رزقا. وعلى هذا يصحّ « إنّ كلّ أحد يستوفي رزقه » و « لا يأكل أحد رزق غيره ، ولا الغير رزقه ».

وذهب بعضهم إلى أنّ الرزق هو ما تولّى به (٢) الحيوان من الأغذية والأشربة لا غير (٣).

( والتسعير (٤) تقدير العوض الذي يباع به الشيء ) طعاما كان أو غيره ( وهو رخص وغلاء ، ولا بدّ من اعتبار العادة واتّحاد الوقت والمكان ) في الرخص

__________________

(١) « شرح المواقف » ٨ : ١٧٢ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣١٨.

(٢) في المصدر وهامش « أ » : « يربّى به ».

(٣) « شرح المواقف » ٨ : ١٧٢.

(٤) في المصدر و « كشف المراد » : « والسعر ».

٤٦٧

والغلاء ؛ فإنّ انحطاط العوض إنّما يكون رخصا إذا كان الانحطاط عمّا جرت العادة بكونه عوضا في ذلك الوقت وذلك المكان ، وكذا ارتفاع العوض إنّما يكون غلاء إذا كان الارتفاع عمّا جرت العادة بكونه عوضا في ذلك الوقت وذلك المكان.

وقد يستندان إلى الله تعالى بأن يقلّل جنس المتاع [ المعيّن ويكثّر رغبة الناس فيه فيحصل الغلاء ، أو يكثر جنس ذلك المتاع ] (١) ويقلّل رغبة الناس فيه فيحصل الرخص ( وقد يستندان أيضا إلينا ) (٢) كأن يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بثمن غال ظلما منه ، أو يحتكر الناس ، إلى غير ذلك من الأسباب المستندة إلينا ، فيحصل الغلاء ؛ والرخص بخلاف ذلك.

( والأصلح قد يجب على الله لوجود الداعي ) والقدرة (٣) ( وانتفاء الصارف ).

ذهب المعتزلة إلى أنّه يجب على الله تعالى ما هو أصلح لعباده (٤).

واستدلّوا على ذلك بأنّه يجب الفعل عند وجود الداعي والقدرة وانتفاء الصارف.

واعترض عليه بأنّ ذلك وجوب الفعل عنه ، بمعنى اللزوم عند تمام العلّة ، والمدّعى هو الوجوب عليه ، بمعنى استحقاق الذّمّ على الترك ، فأين هذا من ذلك؟

واعلم أنّ مفاسد هذا الباب أكثر من أن تعدّ وتحصى ولنذكر نبذا من ذلك :

منها : أنّ الأصلح بحال الكافر المبتلى بالأسقام والآفات أن لا يخلق ، أو يموت طفلا ، أو يسلب عنه عقله بعد البلوغ ، فلم لم يفعل الله ذلك بالنسبة إليه وأبقاه حتّى يفعل ما يوجب خلوده في النار؟

ومنها : أنّه يلزم منه أن يكون إماتة الأنبياء والأولياء والمرشدين ، وتبقية إبليس وذرّيّاته المضلّين إلى يوم الدين أصلح لعباده ، وكفى بهذا فظاعة.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) في « كشف المراد » : « ويستندان إليه تعالى وإلينا أيضا ».

(٣) كلمة « والقدرة » غير موجودة في المصدر وفي « أ ».

(٤) « شرح الأصول الخمسة » : ٥٠٧ ـ ٥٢٥ ؛ « كشف المراد » : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٤٦٨

ومنها : أنّه يلزم أن لا يبقى للتفضّل مجال ، ولا يكون لله تعالى خيرة في الإنعام والإفضال ، بل يكون ما يفعله تأدية للواجب كردّ وديعة ، أو دين لازم قد يستوجب على فعله شكرا ، ويكون الدعاء لدفع البلاء وكشف البأساء والضرّاء سؤالا من الله تعالى أن يغيّر ما هو الواجب عليه.

ومنها : أنّ مقدورات الله تعالى غير متناهية فأيّ قدر يضبطونه في الأصلح فالمزيد عليه ممكن ، فيلزم أن لا يمكن تأدية الله تعالى ما هو الواجب عليه ، وفساده أظهر من أن يخفى » (١).

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفريّ ، ومنكره كالأشاعرة من المذهب بريء.

تذنيب : [ في خلق العالم ]

فيه ما هو غريب ، وذكره عجيب ، وإلى الطباع قريب.

فقد ذكر غوّاص بحار الأخبار في كتاب « بحار الأنوار » في المجلّد الرابع عشر المسمّى بكتاب السماء والعالم أمورا متعلّقة بأفعال الله ونحن نذكر جملة منها من الفوائد :

[ الفائدة ] الأولى : ما يتعلّق بحدوث العالم وبدء خلقه وكيفيّته وبعض كلّيات الأمور.

قال الله تعالى في البقرة : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢).

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٥٢ ـ ٣٥٧.

(٢) البقرة (٢) : ٢٩.

٤٦٩

وفي الأنعام : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ) (١).

وفي الأعراف : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (٢).

وفي هود : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٣).

وفي الأنبياء : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ) (٤)

وفي السجدة : ( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ* ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (٥).

وفي النازعات : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها* أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها* وَالْجِبالَ أَرْساها* مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) (٦).

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١.

(٢) الأعراف (٧) : ٥٤.

(٣) هود (١١) : ٧.

(٤) الأنبياء (٢١) : ٣٠.

(٥) فصّلت (٤١) : ٩ ـ ١٢.

(٦) النازعات (٧٩) : ٢٧ ـ ٣٣.

٤٧٠

بيان :

قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) امتنان على العباد بخلق ما يتوقّف عليه أمور معاشهم ومعادهم وأبدانهم وأديانهم بالاستدلال والاختبار.

وبه يستدلّ على إباحة جميع الأشياء إلاّ ما أخرجه الدليل باستعمال اللام في كلّ جزئيّ من جزئيّات الانتفاع بقرينة مقام الامتنان ؛ لعدم الدليل على التعيين ، وعدم الفائدة في الإبهام.

و ( اسْتَوى ) بمعنى استولى وملك ، و ( فَسَوَّاهُنَ ) بمعنى عدّلهنّ وخلقهنّ مصونة من العوج والفطور. والسبع لا ينافي التسع الذي أثبتوها (١) أهل الرصد ؛ إذ الثامن والتاسع مسمّيان في لسان الشرع بالكرسيّ والعرش.

والخلق في ستّة أيّام من أيّام الدنيا ، أو الآخرة يكون كلّ يوم ألف سنة كما عن ابن عبّاس (٢) ـ مع كونه تعالى قادرا على خلقها في طرفة عين بل أقلّ ؛ فإنّ أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ـ إمّا لكون الاعتبار في التدريج أكثر ، أو ليعلّم الناس عدم الاستعجال في الأمور كما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

وهي إمّا محمولة على الحقيقة ـ بناء على أنّ الزمان حاصل من حركة الفلك الأعظم وهو ظاهر ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الله خلق الخير يوم الأحد ، وما كان ليخلق الشرّ قبل الخير ، وفي يوم الأحد والاثنين خلق الأرضين ، وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء ، وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس ، وخلق أقواتها يوم الجمعة » (٤) ـ أو على المجاز بناء على أنّه لم يكن

__________________

(١) كذا ، والأصحّ : « أثبتها ».

(٢) « تفسير القرآن العظيم » لابن كثير ٢ : ٢٢٩ ، ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف (٧).

(٣) نقل نحوه عن سعيد بن جبير. انظر « معالم التنزيل » ٢ : ٤٨١ ؛ « زاد المسير » ٣ : ١٤٣ ؛ « مجمع البيان » ٤ : ٢٦٩ ، ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف (٧).

(٤) « الكافي » ٨ : ١٢٧ ، ح ١١٧.

٤٧١

قبل وجود الشمس يوم حقيقي ، فالمراد مقدارها أو مقدار حركة الفلك.

والقول بأنّ الزمان المادّي له زمان مجرّد كالنفس للجسد خارج عن طور العقل.

ومثله ما حكي عن الرازيّ من أنّ المراد ستّة أحوال : ذات السماء وصفاتها ، وذات الأرض وصفاتها ، وذات ما بينهما وصفاتها (١).

ومعنى قوله : ( « وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » ) يفهم ممّا تقدّم.

ومعنى الفتق بعد الرتق الفصل بعد الوصل بجعل كلّ منهما سبعا ، أو فتق السماء بالمطر ، والأرض بالنبات كما في الخبر (٢) ، أو الرتق مجاز عن العدم ، والفتق مجاز عن الوجود.

والمراد بخلق الأرض في يومين مقدارهما ، أو أنّه خلق لها أصلا مشتركا ، ثمّ خلق لها صورا صارت بها أنواعا.

ويستفاد من بعض الأخبار أنّه كان عرش الله على الماء فأحدث الله في ذلك الماء سخونة ارتفع منه زبد ودخان ، فأحدث من الزبد الأرض ، ومن الدخان السماوات (٣).

والتناقض الظاهريّ ـ المستفاد من الآيات بدلالة بعضها على تقدّم خلق الأرض على السماء وبعضها بالعكس ـ مدفوع بأنّ خلق الأرض متقدّم ، ودحوها متأخّر ، كما يشهد عليه قوله تعالى : ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) (٤).

وعن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيّته ، ثمّ خلق محمّدا وعليّا وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق جميع

__________________

(١) « مفاتيح الغيب » ٩ : ١٣٦ ، ذيل الآية ٤ من سورة السجدة (٣٢).

(٢) « مجمع البيان » ٧ : ٨٢ ، ذيل الآية ٣٠ من سورة الأنبياء (٢١) ؛ « تفسير علي بن إبراهيم » ٢ : ٦٩ ـ ٧٠ ؛ « الكافي » ٨ : ٩٥ ، ذيل الحديث ٦٧ ؛ « الاحتجاج » ٢ : ١٨١ ـ ١٨٢ ، ح ٢٠٧.

(٣) « تفسير عليّ بن إبراهيم » ١ : ٣٢٩.

(٤) النازعات (٧٩) : ٣٠.

٤٧٢

الأشياء ، فأشهدهم خلقها ، وأجرى طاعتهم عليها » (١).

وعن الرسول أنّه احتجّ على الدهريّة ، فقال : « ما دعاكم إلى القول بأنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟ » فقالوا : لا نحكم إلاّ بما نشاهد ، ولم نجد للأشياء محدثا (٢) ، فحكمنا بأنّها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء ، فحكمنا بأنّها لا تزال.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفوجدتم لها قدما ، أم وجدتم لها بقاء أبدا؟ فإن قلتم : إنّكم وجدتم ذلك ، أثبتّم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا ، دفعتم العيان وكذّبكم العالمون الذين يشاهدونكم ».

قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبدا ، قال : « أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ » فقالوا : لا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فإذن ينقطع أحدهما عن الآخر ، فيسبق أحدهما ، فيكون الثاني جاريا بعده » قالوا : كذلك هو ، فقال : « قد حكمتم بحدوث ما تقدّم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما ، فلا تنكروا لله قدرة ».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه ، أم غير متناه؟ فإن قلتم : غير متناه ، فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله ، وإن قلتم : إنّه متناه ، فقد كان ولا شيء منهما » قالوا : نعم ، قال لهم : « أقلتم : إنّ العالم قديم ليس بمحدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ » قالوا : نعم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فهذا الذي نشاهده من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر ؛ لأنّه لا قوام للبعض إلاّ بما يتّصل به ألا ترون البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض ، وإلاّ لم يتسق

__________________

(١) « الكافي » ١ : ٤٤١ باب مولد النبيّ ... ح ٥.

(٢) كذا في النسخ ، وفي بحار الأنوار : « حدثا ». والأولى : « حدوثا ».

٤٧٣

ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما ترون؟ فإن كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم ، فأخبروني أن لو كان محدثا كيف يكون؟ وكيف كان إذا كان تكون صفته؟ ».

قال : فبهتوا وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلاّ وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنّه قديم ، فوجّهوا وقالوا : سننظر في أمرنا. الخبر (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على حدوث العالم ، مثل ما حكي عن ابن طاوس قال :

« وجدت في صحف إدريس من نسخة عتيقة : أوّل يوم خلق الله ـ جلّ جلاله ـ يوم الأحد.

ثمّ كان صباح يوم الاثنين ، فجمع الله ـ جلّ جلاله ـ البحار حول الأرض وجعلها أربعة (٢) بحار : الفرات ، والنيل ، وسيحان ، وجيحان.

ثمّ كان مساء ليلة الثلاثاء ، فجاء الليل بظلمته ووحشته.

ثمّ كان صباح يوم الثلاثاء ، فخلق الله ـ جلّ جلاله ـ الشمس والقمر ـ وشرح ذلك وما بعده شرحا طويلا وقال ـ :

ثمّ كان مساء ليلة الأربعاء ، فخلق الله ألف ألف صنف من الملائكة ، منهم على خلق الغمام ، ومنهم على خلق النار متفاوتين في الخلق والأجناس.

ثمّ كان صباح يوم الأربعاء ، فخلق الله من الماء أصناف البهائم والطير ، وجعل لهنّ رزقا في الأرض ، وخلق النار العظام وأجناس الهوامّ.

ثمّ كان مساء ليلة الخميس ، فميّز الله سباع الدوابّ وسباع الطير ، ثمّ كان صباح يوم الخميس ، فخلق الله ثمان جنان ، وجعل باب كلّ واحدة منهنّ إلى بعض.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٥٤ : ٦٨ ، ح ٤٥ و ٩ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، ح ١ ؛ « التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري » : ٥٣٤ ـ ٥٣٧ ذيل الآية ١١٢ من سورة البقرة (٢).

(٢) في هامش « ب » : « أنهار ».

٤٧٤

ثمّ كان مساء ليلة الجمعة ، فخلق الله النور الزهراء (١) ، وفتح الله مائة باب رحمة في كلّ باب جزء من الرحمة ، وو كلّ بكلّ باب ألفا من الملائكة الرحمة ، وجعل رئيسهم كلّهم ميكائيل ، فجعل آخرها بابا لجميع الخلائق يتراحمون به بينهم.

ثمّ كان صباح يوم الجمعة ، فتح الله له أبواب السماء بالغيث ، وأهبّ الرياح ، وأنشأ السحاب ، وأرسل الملائكة الرحمة للأرض ، [ و ] أمر السحاب تمطر على الأرض ، وزهرت الأرض بنباتها ، وازدادت حسنا وبهجة وغشي الملائكة النور ، وسمّى الله يوم الجمعة لذلك يوم أزهر (٢) ويوم المزيد ، وقال الله : قد جعلت يوم الجمعة أكرم الأيّام كلّها وأحبّها إليّ.

ـ ثمّ ذكر شرحا جليلا بعد ذلك ، ثمّ قال ـ : إنّ الأرض عرّفها الله ـ عزّ وجلّ جلاله ـ أنّه يخلق منها خلقا ، فمنهم من يطيعه ، ومنهم من يعصيه ، فاقشعرّت الأرض واستعطفت الله ، وسألته أن لا يأخذ منها من يعصيه ويدخله النار ، وأنّ جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ أتاها ليأخذ منها طينة آدم عليه‌السلام فسألته لعزّة الله أن لا يأخذ منها شيئا حتّى تتضرّع إلى الله تعالى ، وتضرّعت ، فأمره الله تعالى بالانصراف عنها.

فأمر الله ميكائيل عليه‌السلام فاقشعرّت وتضرّعت وسألت ، فأمره الله بالانصراف عنها فأمر الله تعالى إسرافيل بذلك ، فاقشعرّ ، وسألت ، وتضرّعت ، فأمره الله تعالى بالانصراف عنها.

فأمر عزرائيل ، فاقشعرّت وتضرّعت ، فقال : قد أمرني ربّي بأمر أنا ماض له سرّك ذاك ، أم ساءك ، فقبض منها كما أمره الله ، ثمّ صعد بها إلى موقفه ، فقال الله عزّ وجلّ له : كما وليت (٣) قبضها من الأرض وهو (٤) كاره ، كذلك تلي قبض أرواح كلّ

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأولى : « ملائكة الرحمة ».

(٢) من باب إضافة الموصوف إلى الصفة.

(٣) في « ب » : « ولّيت ».

(٤) كذا ، والأصحّ : « هي كارهة ».

٤٧٥

من عليها وكلّ ما قضيت عليه الموت من اليوم إلى يوم القيامة.

فلمّا غابت شمس يوم الجمعة ، خلق الله النعاس فغشّاه ذوات الأرض ، وجعل النوم سباتا ، وسمّى الليلة لذلك ليلة السبت ، وقال : أنا الله لا إله إلاّ أنا خالق كلّ شيء خلقت السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى في ستّة أيّام من شهر نيسان وهو أوّل شهر من شهور الدنيا ، وجعلت الليل والنهار ، وجعلت النهار نشورا ومعاشا ، وجعلت الليل لباسا وسكنا.

ثمّ كان صباح يوم السبت فميّز الله لغات الكلام يسبّح جميع الخلائق لعزّة الله جلّ جلاله ، فتمّ خلق الله ، وتمّ أمره في الليل والنهار.

ثمّ كان صباح يوم الأحد الثاني اليوم الثامن من الدنيا ، فأمر الله ملكا تعجن طينة آدم ، فخلط بعضها ببعض ، ثمّ خمّرها أربعين سنة ، ثمّ جعلها لازبا ، ثمّ جعلها حمأ مسنونا أربعين سنة ، ثمّ جعلها صلصالا كالفخّار أربعين سنة ، ثمّ قال للملائكة بعد عشرين ومائة مذ خمّر طينة آدم : إنّي خالق بشرا من طين فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فقالوا : نعم ، فقال : في الصحف ما هذا لفظه « فخلق الله آدم على صورته التي صوّرها في اللوح المحفوظ » (١).

الفائدة الثانية ما ذكر (٢) في مقام ذكر نبذ من الدلائل العقليّة الدالّة على حدوث العالم من براهين إبطال التسلسل فقال :

« الأوّل : برهان التطبيق وهو أمّ البراهين ، وله تقريرات :

الأوّل : لو تسلسلت أمور مترتّبة إلى غير النهاية بأيّ وجه من وجوه الترتيب اتّفق كالترتيب الوضعيّ أو الطبعيّ أو بالعلّيّة أو بالزمان ـ وسواء كانت عددا ، أو زمانا ، أو كمّا قارّا ، أو معدودا ، أو حركة ، أو حوادث متعاقبة ـ فنفرض من حدّ معيّن منها

__________________

(١) « سعد السعود » : ٣٢ ـ ٣٣ ، صحائف إدريس عليه‌السلام.

(٢) أي صاحب البحار.

٤٧٦

على سبيل التصاعد مثلا سلسلة غير متناهية ، ومن الذي من فوق الأخير أيضا سلسلة أخرى ، ولا شكّ في أنّه يتحقّق هناك جملتان إحداهما جزء للأخرى ، ولا في أنّ الأوّل من إحداهما منطبق على الأوّل من الأخرى والثاني على الثاني في نفس الأمر وهكذا حتّى يستغرق التطبيق كلّ فرد فرد بحيث لا يشذّ فرد ، فإن كان في الواقع بإزاء كلّ واحد من الناقصة واحد من الزائدة ، لزم تساوي الكلّ والجزء وهو محال ، أو لا يكون ، فقد وجد في الزائدة جزء لا يكون بإزائه من الناقصة شيء ، فتتناهى الناقصة ، أوّلا ، ويلزم تناهي الزائدة أيضا ؛ لأنّ زيادتها بقدر متناه هو ما بين المبدأين وقد فرضناهما غير متناهيين ، وهذا خلف.

واعلم أنّه لا حاجة في التطبيق إلى جذب السلسلة الناقصة ، أو رفع التامّة وتحريكهما عن موضعهما حتّى تحصل نسبة المجازات (١) بين آحاد أجزاء السلسلتين ويحصل التطبيق باعتبار هذه النسبة ، بل النسب كثيرة في الواقع ، متحقّقة بين كلّ واحدة من آحاد إحدى السلسلتين مع آحاد السلسلة الأخرى بلا تعمّد (٢) من العقل ؛ فإنّه للأوّل من السلسلة التامّة نسبة إلى الأوّل من الناقصة ، وهو الخامس من السلسلة الأولى بعد إسقاط أربعة من أوّلها ، وللثاني من الأولى إلى السادس من الثانية ، وللثالث من الأولى إلى السابع من الثانية تلك النسبة بعينها ، وهكذا في جميع آحاد السلسلتين على التوالي حتّى يستغرق.

وكذا الأوّل من السلسلتين موصوف بالأوّليّة ، والثاني بالثانويّة ، والثالث بالثالثيّة وهكذا.

وباعتبار كلّ من تلك النسب والمعاني تنطبق السلسلتان في الواقع كلّ جزء على نظيره على التوالي ، ولمّا كان أوّل الناقصة منطبقا على أوّل الزائدة وتاليها على تاليها وهكذا على التوالي كلّ على نظيره حتّى يستغرق الكلّ ، ولا يمكن فوات

__________________

(١) كذا في النسخ ، والصحيح : « المحاذاة » كما في « بحار الأنوار ».

(٢) كذا ، والأصحّ : « تعمّل ».

٤٧٧

جزء من البين ؛ لترتّب الجملتين واتّساقهما ، فلا بدّ أن يتحقّق في الزائدة جزء لا يوجد في الناقصة نظيره ، وإلاّ لتساوى الجزء والكلّ ، فيلزم انقطاع الناقصة ، وزيادة الزائدة بقدر متناه.

واعترض على هذا الدليل بالنقض بمراتب العدد وكلّ متناه بمعنى لا يقف كأجزاء الجسم ، ومثل اللزوم ولزوم اللزوم وهكذا ، والإمكان ونظائرهما ؛ فإنّ الدليل يجري فيها.

والجواب : أنّ غير المتناهي اللايقفي يستحيل وجود جميع أفراده بالفعل لا لاستحالة وجود غير المتناهي ، بل لأنّ الحقيقة اللايقفيّة تقتضي ذلك ؛ لأنّه لو خرج جميع أفرادها إلى الفعل ولو كانت غير متناهية ـ يقف ما فرضنا أنّه لا يقف ، ويقسم في أجزاء الجسم الجزء الذي لا يتجزّأ ، وفي المراتب العدديّة أن لا يتصوّر فوقه عدد آخر ، وهو خلاف البديهة ، بل مفهوم الجميع ومفهوم اللايقف متناهيان كما قرّروه في موضعه. إذا قرّر هذا فنقول : لعلّه يكون وجود جميع الأفراد خارجا وذهنا مستحيلا.

نعم ، يمكن ملاحظتها إجمالا في ضمن الوصف العنوانيّ ، فلا يجري فيه البرهان ، وإنّما يتمّ النقض لو ثبت أنّ جميع مراتب الأعداد المستحيلة الخروج إلى الفعل موجودة مفصّلا مرتّبا في الواقع.

وإن أورد النقض بتحقّقها في علمه سبحانه ، فالجواب أنّ علمه سبحانه مجهول الكيفيّة لا تمكن الإحاطة ، وأنّه مخالف بالنوع لعلومنا ، وإنّما يتمّ النقض لو ثبت تحقّق جميع شرائط البرهان في علمه تعالى وفي المعلومات باعتبار تحقّقه في هذا النحو من العلم ، وهو ممنوع.

وفي خبر سليمان المروزيّ (١) في البداء إيماء إلى هذه الشبهة لمن فهمه. وقد مرّ

__________________

(١) « التوحيد » : ٤٤١ باب ذكر مجلس الرضا عليه‌السلام مع سليمان المروزيّ ، ح ١ ؛ « عيون أخبار الرضا » ١ : ١٧٩ ، الباب ١١٣ ، ح ١.

٤٧٨

في المجلّد الثاني والرابع.

الثاني : لو كانت الأمور المتناهية ممكنة ، لأمكن وقوع كلّ واحد من إحدى السلسلتين بإزاء واحد من الأخرى على سبيل الاستغراق إلى آخر الدليل.

وهذا الدليل جار في غير المرتّبة أيضا لكنّه في المرتّبة المتّسقة أظهر ، ومنع الإمكان الذاتيّ مكابرة ، وكيف يتوقّف الذكيّ في أنّ القادر الذي أوجده أوّلا مرتّبا يمكنه أن يوجده مرّة أخرى مرتّبا منطبقا ، وأن يرتّب غير المرتّبة؟ وإنكاره تحكّم ، ومنعه مكابرة.

الثالث : ما قرّره المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله (١) ، وهذّبه الفاضل الدواني ، ولا يرد عليه شيء من الإيرادات المشهورة ، ويكون الانطباق فيه انطباقا برهانيا لا مجال لتشكيك الوهم فيه ، وتقع فيه الزيادة والنقصان في الجهة التي فرض فيها عدم التناهي ، وهو أن يقال : تلك السلسلة المترتّبة علل ومعلولات بلا نهاية في جانب التصاعد مثلا ، وما خلا المعلول الأخير علل غير متناهية باعتبار ومعلومات غير متناهية باعتبار ، فالمعلول الأخير مبدأ السلسلة المعلوليّة والذي فوقه مبدأ السلسلة العلّيّة فإذا فرضنا تطبيقهما ـ بحيث ينطبق كلّ معلول على علّته ـ وجب أن تزيد سلسلة المعلوليّة على سلسلة العلّيّة بواحد من جانب التصاعد ؛ ضرورة أنّ كلّ علّة فرضت ، لها معلوليّة وهي بهذا الاعتبار داخلة في سلسلة المعلول ، والمعلول الأخير داخل في جانب المبدأ في سلسلة المعلول دون العلّة فلمّا لم تكن تلك الزائدة بعد التطبيق من جانب المبدأ ، كانت في الجانب الآخر لا محالة ؛ لامتناع كونها في الوسط ؛ لاتّساق النظام ، فيلزم الانقطاع ، وأن يوجد معلول بدون علّة سابقة عليه ، تأمّل ؛ فإنّه دقيق.

ويجري هذا الدليل في غير سلسلة العلل والمعلوليّة من الجمل المرتّبة ؛ فإنّ كلّ

__________________

(١) « نقد المحصّل » : ٢٠٩ ، وعنه في « الأسفار الأربعة » ٢ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

٤٧٩

جملة فإنّ آحادها موصوفة في الواقع بالسابقيّة والمسبوقيّة بأيّ نوع كان من السبق وغيرهما (١) من النسب الواقعيّة المتضايفة.

البرهان الثاني : برهان التضايف

وتقريره : لو تسلسلت العلل إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلوليّة على عدد العلّيّة ، والتالي باطل.

بيان الملازمة : أنّ آحاد السلسلة ـ ما عدا المعلول الأخير ـ لها علّيّة ومعلوليّة ، فيتكافأ عددهما ويتساوى فيما سواه وبقيت معلوليّة المعلول الأخير زائدا ، فيزيد عدد المعلوليّات الحاصلة في السلسلة على عدد العلّيّات الواقعة فيها بواحد.

وهذا الدليل يجري في كلّ سلسلة يتحقّق فيها الإضافة في كلّ فرد منها في الواقع لا بحسب اختراع العقل. وجريانه في المقادير المتّصلة مشكل ؛ فإنّ إثبات إضافة في كلّ حدّ من الحدود المفروضة فيها في الواقع مشكل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : كلّ جزء من أجزاء المقدار المتّصل متّصف في الواقع ـ لا بمجرّد الفرض ـ بصفات حقيقيّة يتّصف باعتبارها بالتقدّم والتأخّر بحسب الوضع وهما متضايفان حقيقيّان.

ويؤيّد ذلك أنّهم قد صرّحوا بانّ أجزاء الجسم موجودة في الواقع بوجود الكلّ ، وليست القسمة إيجادا للجزءين من كتم العدم بل تمييز وتعيين حدّ بين الجزءين الموجودين فيه.

وفيه : أنّه يلزم انتهاء أجزاء الجسم ، ويلزم الجزء الذي لا يتجزّأ.

ثمّ اعلم : أنّ هذا البرهان في التسلسل في أحد الجانبيين فقط ظاهر. وأمّا في التسلسل في الجانبين فقد يتوهّم عدم جريانه.

ودفعه أنّا إذا أخذنا معلولا معيّنا ، ثمّ تصاعدنا أو تسافلنا ، يجب أن يكون

__________________

(١) أي السابقيّة والمسبوقيّة.

٤٨٠