البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

على أنّ المدح والذّمّ قد يكونان باعتبار المحلّيّة دون الفاعليّة كالمدح والذّمّ بالحسن والقبح وسائر الغرائز ، وأنّ الثواب لمّا كان فعل الله تعالى وتصرّفا فيما هو حقّه ، لم يتوجّه سؤال لمّيّته عنه كما لا يقال : لم خلق الله الإحراق عقيب مسّ النار؟ وأنّ عدم افتراق الفعلين في المخلوقيّة لله تعالى لا ينافي افتراقهما بوجوه أخر.

ومنها : أنّ من أفعال العباد قبائح يقبح من الحكيم خلقها كالظلم والشرك ونحو ذلك.

ومنها : أنّ فعل العبد في وجوب الوقوع وامتناعه تابع لقصده وداعيته (١) وجودا وعدما ، وكلّ ما هو كذلك لا يكون بخلق الغير وإيجاده.

أمّا الصغرى فللقطع بأنّ من اشتدّ جوعه وعطشه ووجد الطعام والماء بلا صارف ، يأكل ويشرب البتّة ، ومن علم أنّ دخول النار محرق ولم يكن له داع إلى دخولها ، لا يدخلها البتّة.

وأمّا الكبرى فلأنّ ما يكون بإيجاد الغير لا يكون في الوجوب والامتناع تابعا لإرادة العبد ؛ لجواز أن لا يحدثه عند إرادته ، ويحدثه عند كراهته.

وأجيب بأنّ ما ذكر في بيان الصغرى لا يفيد الوجوب والامتناع ، بل الوقوع واللاوقوع ، فربّ فعل يتبع إرادة الغير كما للخدم والعبيد ، فينتقض الكبرى.

ولو سلّم الوجوب والامتناع فلم لا يجوز أن يكون بتبعيّة إرادة الله تعالى وقد وافقت إرادة العبد بطريق جري العادة؟

ومنها : أنّه لو كان الله تعالى خالقا لأفعال المخلوقين ، لصحّ اتّصافه بها ؛ إذ لا معنى للكافر إلاّ فاعل الكفر ، فيكون كافرا ظالما فاسقا آكلا شاربا قائما قاعدا إلى ما لا يحصى.

وأجيب بأنّ هذه الأسامي إنّما تطلق على من قام به الفعل لا على من أوجد الفعل ، ألا ترى أنّ كثيرا من الصفات قد أوجدها الله تعالى في محالّها وفاقا ،

__________________

(١) كذا ، والأولى : « داعيه ».

٤٤١

ولا يتّصف بها إلاّ المحالّ.

نعم ، لزمهم صحّة هذه التسمية بناء على أصلهم الفاسد في إطلاق المتكلّم على الله تعالى ؛ لإيجاده الكلام في بعض الأجسام.

واعلم أنّ المعتزلة لمّا أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتّبا ، ورأوا أيضا أنّ الفعل المترتّب على آخر يصدر عنهم وإن لم يقصدوا إليه ، فلم يمكنهم لهذا إسناد الفعل المترتّب إلى تأثير قدرتهم فيه ابتداء ؛ لتوقّفه على القصد ، قالوا بالتوليد (١) ، وهو أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر نحو حركة اليد وحركة المفتاح ؛ فإنّ الأولى منهما أوجبت لفاعلها الثانية سواء قصدها أو لم يقصدها ، فالأفعال عندهم تنقسم إلى مباشر ومتولّد ، فالفعل الحادث ابتداء من غير توسّط فعل آخر هو المباشر كحركة اليد ، والذي حدث بسبب فعل آخر هو المولّد كحركة المفتاح بسبب حركة اليد. واختلفوا في أنّ المولّد هل هو فعل العبد كالمباشر ، أو لا؟

فذهب المعتزلة إلى أنّه من فعلنا كالمباشر (٢).

وذهب الأشاعرة إلى أنّ المولّد من فعل الله (٣).

واختار المصنّف مذهب المعتزلة ، وقال : ( وحسن المدح ) على بعض الأفعال المولّدة ( و ) كذا حسن ( الذمّ على المتولّد ) من الأفعال ( يقتضي العلم بإضافته إلينا ).

قالت الأشاعرة : المتولّد غير مقدور لنا ؛ لأنّا لا نتمكّن من تركه ، لأنّه عند سببه ـ أعني الفعل الذي يترتّب هو عليه ـ يجب ، والواجب غير مقدور. والمعتزلة قالوا : هذا الوجوب إنّما يكون باختيار السبب ( والوجوب باختيار السبب وجوب لاحق ) لا ينافي الإمكان الذاتي ، فلا يكون منافيا لكونه مقدورا.

__________________

(١) « المغني في أبواب التوحيد والعدل » ٩ : ١١ وما بعدها ، ونقله عنهم في « شرح المواقف » ٨ : ١٥٩ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٧١ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٤٢.

(٢) « شرح الأصول الخمسة » : ٣٨٧ ـ ٣٩٠ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٥٩ ـ ١٦٨ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٧١ ـ ٢٧٣ ؛ « كشف المراد » : ٣١٤ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٣) نفس المصادر السابقة.

٤٤٢

( والذمّ في إلقاء الصبيّ عليه ، لا على الإحراق ).

جواب اعتراض ربّما يورد على دليل المعتزلة ، فيقال : إنّ حسن الذمّ والمدح لا يدلّ على إسناد المتولّد إلينا ، وذلك لأنّ حسن الذمّ للمتولّد حاصل وإن علمنا إسناده إلى غيرنا ؛ فإنّا نذمّ على إلقاء الصبيّ في النار إذا أحرق بها مع أنّا نعلم أنّ المحرق غير الملقي.

وتقرير الجواب : أنّ الذمّ للإلقاء ، لا للإحراق ؛ فإنّ الإحراق عند الإلقاء حسن ؛ لما فيه من مراعاة العادة وعدم انتقاضها.

[ في القضاء والقدر ]

( والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال ، أو الإلزام صحّ في الواجب خاصّة ، أو الإعلام صحّ مطلقا ).

اشتهر بين أكثر أهل الملل أنّ الحوادث بقضاء الله وقدره وهذا يتناول أفعال العباد ، فإن كان المراد بالقضاء والقدر هو الخلق ـ قال الله تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (١) أي خلقهنّ. وقال الله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (٢) أي خلقها ـ لزم المحال ـ أي كون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ـ وهو باطل عند القدريّة.

وإن كان المراد بهما الإيجاب والإلزام ـ كما في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٣) ، وقوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) (٤) ـ فيكون الواجبات بالقضاء والقدر دون البواقي. وهذا معنى قوله : صحّ في الواجب خاصّة.

وإن كان المراد بهما الإعلام والتبيين ـ كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي

__________________

(١) فصّلت (٤١) : ١٢.

(٢) فصّلت (٤١) : ١٠.

(٣) الإسراء (١٧) : ٢٣.

(٤) الواقعة (٥٦) : ٦٠.

٤٤٣

الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ) (١) الآية ، وقوله تعالى : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (٢) أي أعلمناها بذلك وكتبناه في اللوح المحفوظ ـ فعلى هذا جميع الأفعال بالقضاء والقدر. وإليه أشار بقوله : صحّ مطلقا.

( وقد بيّنه أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الأصبغ ).

إشارة إلى ما روى الأصبغ بن نباتة من أنّ شيخا قام إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بعد انصرافه من صفّين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال : والذي خلق [ الحبّة ] (٣) وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلاّ بقضاء الله وقدره.

فقال الشيخ : أحتسب عنائي ما أرى من الأجر شيئا ، فقال عليه‌السلام : مه أيّها الشيخ عظّم الله أجركم من مسيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين.

فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال : ويحك لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ولو كان كذلك ، لبطل الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، ولم يأت مذمّة من الله لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشيطان ، وشهود الزور وأهل العمى عن الثواب ، وهم قدريّة هذه الأمّة ومجوسها إنّ الله أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، فلم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلاّ بهما؟

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٤.

(٢) الحجر (١٥) : ٦٠ ؛ النمل (٢٧) : ٥٧.

(٣) الزيادة أضفناها من المصدر.

٤٤٤

قال : هو الأمر من الله ، والحكم من ذي الحكم ، ثمّ تلا قوله : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (١). وظاهر أنّ هذا الحديث (٢) لا يوافق شيئا من المعاني المذكورة ، فإيراده للتأييد محلّ نظر.

( والإضلال : إشارة إلى خلاف الحقّ ، وفعل الضلالة ، والإهلاك ؛ والهدى مقابل له. والأوّلان منتفيان عنه تعالى ) يعني يطلق الإضلال على معان ثلاثة :

الأوّل : الإشارة إلى خلاف الحقّ.

الثاني : فعل الضلالة.

الثالث : الإهلاك.

والهدى مقابل له ، فيطلق على مقابلات المعاني الثلاثة المذكورة : الإشارة إلى الحقّ ، وفعل الهداية ، وعدم الإهلاك. والإضلال بالمعنيين الأوّلين منتف عنه ؛ لأنّه قبيح ، والله تعالى منزّه عن القبائح.

وأمّا الهدى فيجوز أن يسند إليه بالمعاني الثلاثة ، فما ورد في الآيات من إسناد الإضلال إليه تعالى فهو بالمعنى الثالث ، أعني الإهلاك والتعذيب ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (٣) وقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) (٤) وقوله تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) (٥) وغير ذلك.

وأمّا الأشاعرة فالإضلال عندهم بمعنى خلق الكفر والضلال بناء على أنّه لا يقبح منه تعالى شيء (٦).

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٢٣.

(٢) « الكافي » ١ : ١٥٥ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح ١ ؛ « التوحيد » : ٣٨٠ ـ ٣٨٢ باب القضاء والقدر ، ح ٢٨ ؛ « غوالي اللآلئ » ٤ : ١٠٨ ، ح ١٦٣.

(٣) الرعد (١٣) : ٢٣ ؛ الزمر (٣٩) : ٢٣ ؛ غافر (٤٠) : ٣٣.

(٤) الأعراف (٧) : ١٧٨.

(٥) البقرة (٢) : ٢٦.

(٦) « شرح المقاصد » ٤ : ٣٠٩ ـ ٣١١.

٤٤٥

( وتعذيب غير المكلّف قبيح ).

اختلفوا في أنّ الله تعالى هل يعذّب غير المكلّف ، أم لا؟ فذهب الحشويّة إلى أنّه تعالى يعذّب أطفال الكفّار (١).

وردّه المصنّف بأنّ تعذيب غير المكلّف قبيح عقلا فلا يصدر من الله تعالى.

واحتجّت الحشويّة بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى حكاية عن نوح عليه‌السلام : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً ) (٢) والكافر والفاجر يعذّبهما الله تعالى.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( وكلام نوح عليه‌السلام مجاز ) فإنّه سمّاه فاجرا كفّارا ؛ تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.

الثاني : أنّ الأطفال يستخدمهم أهل الجنّة ، والخدمة عقوبة.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( والخدمة ليست عقوبة للطفل ) بل يكون إصلاحا له كالفصد (٣) والحجامة.

والثالث : أنّ حكم الطفل حكم أبيه ؛ لأنّه منع من الدفن والتوارث والتزويج والصلاة عليه كأبيه ، فيعذّبه الله تعالى كأبيه.

والمصنّف أجاب عنه بقوله : ( والتبعيّة في بعض الأحكام جائزة ) ولا يلزم منه التبعيّة في سائر الأحكام كالتعذيب.

[ في حسن التكليف ووجوبه ]

( والتكليف حسن ؛ لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه )

اختلفوا في أنّ التكليف حسن ، أو لا (٤)؟ واختار المصنّف الأوّل ، واحتجّ عليه بأنّ

__________________

(١) « كشف المراد » : ٣١٨.

(٢) نوح (٧١) : ٢٧.

(٣) الفصد : شقّ العرق ، « لسان العرب » ٣ : ٣٣٦ ( فصد ).

(٤) « المحصّل » : ٤٨٤ ـ ٤٨٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ؛ « كشف المراد » : ٣١٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٧٤.

٤٤٦

التكليف مشتمل على مصلحة لا تحصل بدونه وهي استحقاق التعظيم ؛ فإنّ التفضّل بالتعظيم من غير الاستحقاق قبيح.

واعترض عليه بوجوه :

الأوّل : أنّ التكليف لأجل إيصال النفع بمثابة جرح الإنسان ، ثمّ تداويه ، فكما أنّ ذلك قبيح ، فكذلك التكليف.

وأجيب بأنّ الجرح مضرّة صرفة ، والتداوي لا يكون إلاّ للتخلّص من تلك المضرّة ، بخلاف التكليف ؛ فإنّ فيه منافع عظيمة ، ليس هو (١) التخلّص من المشقّة الحاصلة بسببه. وإلى ذلك أشار بقوله : ( بخلاف الجرح ، ثمّ التداوي )

الثاني : أنّ التكليف لأجل إيصال النفع بمثابة المعاوضات وهي يشترط فيها رضاء المتعاوضين ، فكذلك التكليف ينبغي أن يشترط فيه رضاء المكلّف والمكلّف ، والتكليف ، بدون رضاء المكلّف قبيح.

وأجيب بأنّ الرضى في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في المعاملات ، بخلاف التكليف ؛ فإنّ الثواب الحاصل بسببه لم يختلف العقلاء في اختياره ، فلم يحتج إلى رضاء المكلّف.

الثالث : أنّا لا نسلّم أنّ التكليف لأجل إيصال النفع ، لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا على النعمة السابقة؟

وأجيب بأنّ التكليف لو كان شكرا لخرجت النعمة ؛ بسبب وقوع المشقّة في مقابلتها عن كونها نعمة.

وإلى هذين الجوابين أشار بقوله : ( والمعاوضات ، والشكر باطل ، ولأنّ النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنّة ، النافع استعمالها للرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية وتذكّر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب ).

__________________

(١) أي نفع التكليف.

٤٤٧

أراد أن يشير إلى حسن التكليف على طريقة حكماء الإسلام.

بيان ذلك : أنّ الله خلق الإنسان بحيث لا يستقلّ وحده بأمور معاشة ؛ لاحتياجه إلى غذاء ولباس ومسكن وسلاح ، وغير ذلك من الأمور التي كلّها صناعيّ لا يقدر عليها صانع واحد مدّة حياته ، وإنّما تيسّر بجماعة يتعاضدون ويتشاركون في تحصيلها ، بأن يعمل كلّ لصاحبه بإزاء ما يعمل له الآخر ، مثلا يزرع ذاك لهذا ، ويخبز هذا لذاك ويخيط واحد لآخر ، ويتّخذ الآخر الإبرة له ، وعلى هذا قياس سائر الأمور ، فيتمّ أمر معاشه باجتماع من بني نوعه.

ولهذا قيل : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ؛ فإنّ التمدّن باصطلاحهم عبارة عن هذا الاجتماع ، وهذا الاجتماع لا ينتظم إلاّ إذا كان بينهم معاملة وعدل ؛ لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من يزاحمه فيه ، وذلك يدعوه إلى الجور على الغير ، فيقع من ذلك الهرج والمرج ، فيختلّ أمر الاجتماع ونظامه ، وللمعاملة والعدل جزئيّات غير محصورة لا تنضبط إلاّ بوضع قوانين هي السنّة والشرع ، فلا بدّ من شارع ليسنّ السنن وذلك على الوجه الذي ينبغي.

ثمّ إنّهم لو تنازعوا في وضع السنّة لوقع الهرج ، فينبغي أن يمتاز الشارع منهم باستحقاق الطاعة لينقاد الباقون له في قبول السنّة والشرع منه ، وهذا الاستحقاق إنّما يتقرّر باختصاصه بآيات تدلّ على أنّه من عند الله ، وتلك هي المعجزات.

ثمّ إنّ الجمهور من الناس يستحقرون اختلال (١) الشرع إذا استولى عليهم الشوق إلى مشتهياتهم ، فيقدمون على المعصية ومخالفة الشرع ، فإذا كان للمطيع ثواب ، وللعاصي عقاب يحملهم الخوف والرجاء على الطاعة وترك المعصية ، كان انتظام الشريعة أقوى ممّا إذا لم يكن كذلك ، فوجب عليهم معرفة الشارع والمجازي.

ولا بدّ من سبب حافظ لتلك المعرقة ؛ فلذلك شرعت العبادات المذكّرة لصاحب

__________________

(١) في المصدر : « إخلال ».

٤٤٨

الشرع والمجازي ، وكرّرت عليهم حتّى يستحكم التذكّر بالتكرير ، فينبغي أن يكون الشارع داعيا إلى التصديق بوجود خالق عليم قدير ، وإلى الإيمان بشارع مرسل إليهم من عنده صادق ، وإلى الاعتراف بوعد ووعيد ، وثواب وعقاب أخرويّين ، وإلى القيام بعبادات يذكر فيها الخالق بنعوت جلاله ، وإلى الانقياد لسنّته التي يحتاج الناس إليها في معاملاتهم حتّى يستمرّ بذلك الدعوة إلى العدل المقيم لنظام أمور النوع.

وتلك السنّة ـ أعني الطريقة التي يسنّها الشارع ويدعو إليها العباد ـ استعمالها نافع في أمور ثلاثة :

الأوّل : رياضة القوى النفسانيّة بمنعها عن متابعة الشهوة والغضب المانعين عن توجّه النفس الناطقة إلى جناب القدس.

الثاني : إدامة النظر في الأمور العالية المقدّسة عن العوارض المادّيّة والكدورات الحسّيّة المؤدّية إلى ملاحظة الملكوت.

الثالث : تذكّر إنذارات الشارع ووعده للمحسن ووعيده للمسيء لإقامة العدل في الدنيا مع زيادة الأجر والثواب في الآخرة ، فهذا بيان حسن التكليف على رأي حكماء الإسلام.

( وواجب ؛ لزجره عن القبائح ) اختلفوا في أنّ التكليف واجب ، أم لا؟ فمنعه الأشاعرة بناء على أصلهم من عدم وجوب شيء على الله تعالى (١).

وأثبته المعتزلة (٢). واختاره المصنّف بأنّ التكليف زاجر عن ارتكاب القبائح ؛ لأنّ الإنسان بمقتضى طبعه يميل إلى الشهوات والمستلذّات ، فإذا علم أنّها حرام انزجر عنه ، والزجر عن القبائح واجب.

__________________

(١) « المحصّل » : ٤٨١ ـ ٤٨٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣٢١ ـ ٣٣٤ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٩٦ ـ ٢٠٠.

(٢) « شرح الأصول الخمسة » : ٥٠٧ ـ ٥٢٥ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ؛ « قواعد المرام » : ١١٥ ـ ١١٦.

٤٤٩

( وشرائط حسنه : انتفاء المفسدة ، وتقدّمه ، وإمكان متعلّقه ، وثبوت صفة زائدة على حسنه ، وعلم المكلّف بصفات الفعل وقدر المستحقّ عليه وامتناع القبيح عليه ، وقدرة المكلّف على الفعل ، وعلمه به ، وإمكانه (١) ، وإمكان الآلة ).

يشير إلى شرائط حسن التكليف : فمنها ما يرجع إلى نفس التكليف ، ومنها ما يرجع إلى الفعل المكلّف به ، ومنها ما يرجع إلى المكلّف ، ومنها ما يرجع إلى نفس المكلّف.

وأمّا ما يرجع إلى نفس التكليف ، فأمران :

الأوّل : انتفاء المفسدة بأن لا يكون التكليف مفسدة للمكلّف ، بأن يكون موجبا للإخلال بتكليف آخر له ، وأن لا يكون مفسدة لمكلّف آخر.

الثاني : تقدّم التكليف على الفعل زمانا يتمكّن المكلّف فيه من الاستقلال به ليباشر الفعل زمان وجوب إيقاعه فيه.

وأمّا ما يرجع إلى الفعل ، فأمران أيضا :

الأوّل : إمكان وجوده ، وإليه أشار بقوله : وإمكان متعلّقه ، فإنّ التكليف بالمحال خال عن الفائدة.

الثاني : اشتمال الفعل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا إن كان التكليف بفعل.

وأمّا ما يرجع إلى المكلّف فهو أن يكون عالما بصفات الفعل ؛ لئلاّ يكلّف بارتكاب القبائح واجتناب الواجب والمندوب ، وأن يكون عالما بقدر ما يستحقّ على الفعل من الثواب ؛ لئلاّ ينقض الثواب ، فيكون جورا ، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه ؛ لئلاّ يخلّ بالواجب ، فلا يثبت المستحقّ للثواب.

وأمّا ما يرجع إلى المكلّف فهو أن يكون قادرا على الفعل ، وأن يكون عالما به أو متمكّنا من العلم ، وأن يتمكّن من آلة الفعل إن كان ذا آلة.

__________________

(١) في المصدر و « كشف المراد » : « أو إمكانه » بدل « وإمكانه ».

٤٥٠

( ومتعلّقه إمّا علم ـ عقلي ، أو سمعيّ ـ وإمّا ظنّ ، وإمّا عمل ) أي ما يكلّف به قد يكون علما ، وقد يكون ظنّا ، وقد يكون عملا.

أمّا العلم ، فقد يكون عقليّا محضا نحو العلم بوجود الإله تعالى ، وبكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من الصفات التي لا تتوقّف على السمع ، وقد يكون سمعيّا لا يستقلّ العقل بتحصيله ، ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشرع وخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل العلم بأحوال المعاد.

وأمّا الظنّ فنحو كثير من الأمور ، كظنّ القبلة وغيرها.

وأمّا العمل فكالصلاة والزكاة وغيرهما.

( وهو منقطع ؛ للإجماع ، ولإيصال الثواب ) التكليف لا بدّ وأن ينقطع من المكلّف ؛ وذلك للإجماع المنعقد على انقطاعه ، ولأنّ التكليف لو لم ينقطع لم يمكن إيصال الثواب إلى المكلّف ، والتالي ظاهر الفساد.

وبيان الملازمة : أنّ التكليف يستدعي المشقّة ، والثواب يستدعي الخلوص عن المشقّة ، فالجمع بينهما محال ، فلو تحقّق التكليف دائما انتفى الثواب دائما ، فلم يمكن إيصاله إلى المستحقّ.

( وعلّة حسنه عامّة ) أي علّة حسن التكليف ـ وهي التعريض للثواب ـ عامّة بالنسبة إلى المؤمن والكافر ( وضرر الكافر من سوء اختياره ) ولمّا كان للسائل أن يقول : من شرائط حسن التكليف انتفاء المفسدة بالنسبة إلى المكلّف كما مرّ آنفا ، وتكليف الكافر مفسدة له ؛ لأنّه مشقّة له في الدنيا ، وعقوبة في الآخرة ، أجاب بقوله : ( وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه ) يعني أنّ هذه المفسدة للكافر لم تحصل من التكليف ، بل إنّما حصلت من سوء اختياره ، والمفسدة التي شرطنا عدمها في حسن التكليف هي المفسدة الحاصلة من التكليف.

( والفائدة ثابتة ) جواب سؤال مقدّر.

توجيهه : أنّ تكليف الكافر لا فائدة فيه ؛ لأنّ فائدة التكليف هي الثواب

٤٥١

ولا ثواب له ، فلا فائدة في تكليفه ، فكان عبثا.

تقرير الجواب : أنّا لا نسلّم أنّ تكليف الكافر لا فائدة فيه ، بل الفائدة ثابتة وهي التعريض للثواب لا الثواب ، كما بالنسبة إلى المؤمن ؛ وأمّا الثواب ، فإنّه فائدة امتثال المكلّف للمكلّف به لا فائدة التكليف » (١).

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفري ؛ ردّا على الأشاعرة والمعتزلة ؛ فإنّ العدل الذي هو مقابل الجور من أصول الدين. وأمّا العدل الذي هو مقابل الجبر والتفويض فهو من أصول المذهب الجعفري (٢) ، وصاحب المذهب من منكره بريء.

المقام الخامس :

أنّ أفعال الله تعالى مترتّبة على اللطف الواجب عليه تعالى على وفق ما هو الأصلح بحال العباد الذي لا يكون له مانع.

اعلم أنّ اللطف عبارة عن التفضّل المقرّب إلى الطاعات والمبعّد عن المعاصي بحيث لا يصل إلى حدّ الإلجاء الموجب [ لبطلان الثواب المترتّب على الفعل الاختياريّ والمبعّد عن المعاصي كذلك. (٣) ]

والدليل على ذلك أنّ اللطف متمّم للغرض الذي لا يصحّ أن يكون فعل الواجب خاليا عنه.

__________________

(١) « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٤١ ـ ٣٥٢.

(٢) للتعرّف على الأقوال في المسألة راجع « شرح الأصول الخمسة » : ٢٩٩ ـ ٣١٣ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٢٩ ـ ٢٣٥ ؛ « كشف المراد » : ٣٠٢ وما بعدها ؛ « النافع ليوم الحشر » : ٢٥ ـ ٢٦ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٣٥٢ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٨١ ـ ٢٠٠ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٨٢ ـ ٢٩٦.

(٣) الزيادة أثبتناها من « أ ».

٤٥٢

بيانه : أنّ التكليف فعل من الله تعالى ، ولا بدّ له من الغرض ، والغرض منه ليس إلاّ امتثال الأمر ، ـ الذي هو عبارة عن الطاعة ـ والانتهاء عن النواهي ، الذي هو عبارة عن ترك المعاصي ، فلا بدّ من التقريب إلى الطاعات والتبعيد عن المعاصي بالبيان ؛ ليتمّ الغرض منه ، ولا يلزم القبيح.

والحاصل : أنّ ترك اللطف نقض للغرض ، وهو قبيح ، واللطف واجب ، فإن كان ممّا لا يصدر إلاّ عن الله وجب عليه إيجاده ؛ وإن كان ممّا يمكن صدوره عن المكلّف وجب عليه إعلامه وإيجابه عليه إن كان متعلّقه غير قابل للبيان من الله بلا واسطة ، وإن كان من غيرهما فلا بدّ من العلم بوجوده منه في حسن التكليف ؛ لئلاّ يلزم نقض الغرض ، القبيح ، كما مرّ.

اعلم أنّ المصلحة ـ التي هي عبارة عمّا فيه منفعة من غير ترتّب مفسدة مانعة ، ولا يخلو فعل الله تعالى عنها كما مرّ ـ على قسمين :

إحداهما : ما يكون بالنسبة إلى جميع الموجودات وهو نظام الكلّ.

وأخراهما : مصلحة خاصّة بكلّ موجود. وعند التعارض يقدّم الأولى.

وقد اختلف في أنّ كلاّ منهما هل يجب أن يكون على وجه هو أتمّ الوجوه الممكنة ـ وهو الأصلح ـ أم لا؟.

والأوّل محكيّ عن الجمهور القائلين بالحسن والقبح العقليّين (١). والثاني عن منكريهما (٢).

والحقّ هو الأوّل ؛ لوجود الداعي ـ وهو ذات الواجب الفيّاض ؛ إذ الفيض الزائد فيض غير ما يقابل الناقض (٣) ـ ورفع المانع ؛ لأنّه المفروض ، وبلزوم (٤) ترجيح

__________________

(١) « شرح الأصول الخمسة » : ٥٠٧ ـ ٥٢٥ ؛ « كشف المراد » : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) « المحصّل » : ٤٨١ ـ ٤٨٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٣٢٩ ـ ٣٣٤.

(٣) كذا في النسخ.

(٤) كذا ، والأصحّ : « وللزوم ».

٤٥٣

المرجوح ، الذي هو قبيح ، فيجب عقلا إيجاد الأصلح ، فلا يلزم مجرّد الوجوب منه بمعنى اللزوم كما هو مقتضى الدليل الأوّل ، بل يلزم الوجوب عليه بمعنى استحقاق الذمّ على الترك أيضا ، كما هو مقتضى الدليل الثاني.

فإن قلت : إنّ الأصلح بحال الكفّار الابتلاء بالأمراض المزمنة ، بل عدم الخلق ، والموت قبل التكليف ، أو عدم العقل ؛ لئلاّ يستوجبوا خلود النار ، وهكذا الأصلح بحال العباد وجود الأنبياء والأوصياء دائما ؛ ليهتدوا بهم ، وعدم إبليس وأعوانه ؛ لئلاّ يضلّوا ، فلم يقعا (١).

قلت : وجود الكفّار وصحّتهم وبقاؤهم وعقلهم ونحو ذلك أصلح لهم من حيث إنّها من مقتضيات استحقاق خلود الجنّة ، واستحقاقهم خلود النار من جهة سوء اختيارهم لا يستلزم عدم كون ما ذكر أصلح في نفسه ، وهكذا قد يكون عدم الأنبياء والأوصياء ووجود أضدادهم أصلح للعباد ؛ لكونهما من أسباب الرياضات النفسانيّة والابتداءة (٢) في تحصيل العلوم الدينيّة ، والفوز إلى الدرجات العالية مضافا إلى أنّ مصلحة الجزء إذا تعارضت مصلحة الكلّ تقدّم مصلحة الكلّ كما أشرنا إليه ، فلعلّ [ مصلحة ] الكلّ كانت فيما ذكر.

فإن قلت : إنّ مقدورات الله تعالى غير متناهية ، فكلّ ما يفرض أصلح يكون ما فوقه ممكنا إلى غير النهاية ، فيلزم عدم إمكان تأدية الله ما هو الواجب عليه.

قلت : عدم تناهي مقدوراته إنّما هو بحسب الإمكان الذاتيّ لا الوقوعيّ ؛ للزوم المفاسد ، فكلّ أصلح لا يكون ما فوقه ممكنا بسبب نقص القابل.

فإن قلت : وجوب الأصلح يستلزم عدم استحقاقه تعالى الشكر ؛ إذ كلّ ما يفعله فهو أصلح ، وكلّ ما هو أصلح فهو واجب عليه.

__________________

(١) أي لم يقع الأصلح بحال الكافر ولم يقع الأصلح بحال المؤمن.

(٢) كذا في النسخ ، واحتمال « الأبدانية » ليس ببعيد.

٤٥٤

وأيضا يستلزم بطلان فائدة الدعاء والسؤال ، وعدم قدرته تعالى على دفع البليّات وإنجاح الحاجات ؛ إذ كلّ ما فعله فهو الأصلح الذي يكون واجبا ، ولا يمكن تغيّر الواجب.

قلت أوّلا : إنّ الوجوب هنا ليس بمعنى الاضطرار وعدم الاختبار حتّى ينافي استحقاق الشكر ، الذي هو على الفعل الاختياريّ ، ويستلزم عدم القدرة.

وثانيا : إنّ أصل الوجود غير واجب ؛ لعدم قبح ترك المقدور وإن كان فعل الأصلح ـ على تقدير اختيار الفعل على الترك ـ واجبا ؛ لقبح ترك الأحسن على تقدير الفعل مع القدرة على الأحسن.

لا يقال : أصل الوجود أيضا مبنيّ على الأصلح ، فيكون واجبا.

لأنّا نقول : تحقّق الأصلح موقوف على تحقّق ما له الأصلح وهو قبل الوجود غير متحقّق فبعد تحقّق إرادة الإيجاد وحصول نفسه يتصوّر الأصلح.

وأمّا الدعاء والسؤال ، فهما من الأسباب المقتضية للمصلحة في الأمور المعلّقيّة (١) لا الحتميّة ، فقد يكون المسئول عنه أصلح بسبب الدعاء ، فيصير واجبا حينئذ على الله تعالى.

والحاصل أوّلا : أنّ أفعال الله مترتّبة على اللطف المقرّب إلى الطاعات ، المبعّد عن المعاصي المتمّم للغرض الذي لا يصحّ أن يكون فعل الله تعالى خاليا عنه.

يدلّ على ذلك أوّلا العقل ؛ لأنّ اللطف متمّم للغرض اللازم ، فهو لازم وتركه نقص وقبيح.

وثانيا : النقل ، كما قال : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٢) وقال : ( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (٣) وقال تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولعلّ الصحيح : « المعلّقة ».

(٢) هود (١١) : ٧ ؛ الملك (٦٧) : ٢.

(٣) النور (٢٤) : ١٠.

٤٥٥

حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « ما زالت الأرض إلاّ ولله ـ تعالى ذكره ـ فيها حجّة يعرف الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل الله عزّ وجلّ ، ولا تنقطع الحجّة من الأرض إلاّ أربعين يوما قبل يوم القيامة ، فإذا رفعت الحجّة أغلقت أبواب التوبة ، ولم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة أولئك شرار خلق الله وهم الذين تقوم عليهم الحجّة » (٢) إلى غير ذلك من الأدلّة العقليّة والنقليّة.

وثانيا : أنّ أفعال الله تكون على الوجه الأصلح بحال العباد إمّا بالمصلحة الخاصّة أو العامّة.

ويدلّ على ذلك أوّلا : العقل ؛ لأنّ الداعي على إيجاد الأصلح ـ وهو ذات المبدأ الفيّاض ـ موجود ، والمانع عند عدم ترتّب المفسدة مفقود ؛ ولأنّ (٣) اختيار غير الأصلح وعدم ترتّب المفسدة ترجيح للمرجوح وهو قبيح يمتنع صدوره من الله تعالى ؛ لأنّه مورد الذّمّ ، فيكون جميع أفعاله على وفق الأصلح حتّى وجود الكفّار والشيطان وغير ذلك ؛ لكونه من مقتضيات خلود الجنّة ، فالله أفاض الفيض ، والكفّار اختاروا بسوء اختيارهم ما استحقّوا بسببه خلود النار مع أنّه من جهة كونه سببا لترتّب مصلحة الكلّ وحصول كمال اللّذّة لأهل الآخرة له مصلحة زائدة.

وثانيا : النقل ، كما روي أنّه قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر ، والزكاة تسبيبا للرزق ، والصيام ابتلاء لإخلاص المحسن ، والحجّ تقوية للدين ، والجهاد عزّا للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعوامّ ، والنهي عن المنكر دعاء للسفهاء ، وصلة الأرحام منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصينا للعقل ،

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦.

(٢) « كمال الدين » ١ : ٣٣٩ ، الباب ٢٣ ، ح ٢٤.

(٣) والفرق بين الدليلين أنّ الأوّل مثبت للمدّعى بلا واسطة والثاني مثبت له عن طريق إبطال مقابل المدّعى.

٤٥٦

ومجانبة السرقة إيجابا للعفّة ، وترك الزنى تحقيقا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفا للصدق ، والسلام أمانا من المخاوف ، والأمانة نظاما للأمّة ، والطاعة تعظيما للسلطان » (١) إلى غير ذلك من الأدلّة. وإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( واللطف واجب لتحصّل الغرض به ) (٢).

« اللطف ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية بحيث لا يؤدّي إلى الإلجاء ، وهو واجب عند المعتزلة ، واختاره المصنّف ، واحتجّ عليه بأنّ اللطف به يحصل غرض المكلّف ، فيكون واجبا ، وإلاّ وجب نقض الغرض.

بيان الملازمة : أنّ المكلّف إذا علم أنّ المكلّف لا يطيع إلاّ باللطف ، فلو كلّفه من دونه ، لكان ناقضا لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعامه وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعا من التأدّب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدّب ، كان ناقضا لغرضه (٣).

( وإن كان اللطف من فعله تعالى ، وجب عليه تعالى ، وإن كان من المكلّف ، وجب عليه تعالى أن يشعره به ويوجبه ، وإن كان من غيرهما ، شرط في التكليف بالملطوف فيه العلم بالفعل. ووجوه القبح منتفية ، والكافر لا يخلو من لطف ، والإخبار بالسعادة والشقاوة ليس مفسدة ) أشار إلى الأجوبة عن اعتراضات الأشاعرة على وجوب اللطف على الله تعالى.

تقرير الأوّل منها : أنّ اللطف إنّما يجب إذا خلا عن جهات القبح ؛ لأنّ جهة المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة ، فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي يوجبونه مشتملا على جهة قبح لا يعلمونه ، فلا يكون واجبا؟

__________________

(١) « نهج البلاغة » : ٧٠٣ ـ ٧٠٤ ، قصار الحكم ، الرقم ٢٥٢.

(٢) في « كشف المراد » و « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : « ليحصل الغرض به ».

(٣) في « كشف المراد » و « شرح تجريد العقائد » : « فإن كان ».

٤٥٧

وتقرير الجواب : أنّ جهات القبح معلومة لنا ؛ لأنّا مكلّفون بتركها ، وليس هنا وجه قبح.

وتقرير الثاني : أنّ الكافر إمّا أن يكلّف مع وجود اللطف أو عدمه.

والأوّل باطل ، وإلاّ لزم أن يكون الكافر مؤمنا لا كافرا ؛ لأنّ معنى اللطف ما حصل الملطوف فيه عنده.

والثاني إمّا أن يكون عدمه مع عدم القدرة عليه ، فيلزم عجز الله تعالى ، أو مع وجودها ، فيلزم الإخلال بالواجب.

وتقرير الجواب : أنّ اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه عند حصوله ، بل اللطف ـ كما ذكرنا آنفا ـ هو ما يقرّب حصول الملطوف فيه ، ويرجّح وجوده على عدمه ، ويجوز أن يتحقّق مع وجود اللطف معارض أقوى ، فيغلب عليه كسوء اختيار الكافر.

وتقرير الثالث : أنّ اللطف لو كان واجبا عليه تعالى لما صدر عنه ما ينافيه ؛ إذ الجمع بين المتنافيين محال. أمّا صدور ما ينافي اللطف عنه تعالى ، فلأنّه تعالى أخبر بأنّ بعض المكلّفين من أهل الجنّة ، وبعضهم من أهل النار ، وكلاهما مفسدة ؛ لإفضاء الأوّل إلى الاتّكال ، والثاني إلى اليأس ، فلا يأتي بالطاعات ، بل يقدم على المعاصي.

وتقرير الجواب : أنّ هذا الإخبار ليس مفسدة ؛ لجواز أن يقترن بالإخبار بالجنّة من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعاصي والاجتناب عن الطاعات ، والإخبار بالنار إنّما هو بالنسبة إلى جاهل كأبي لهب ، والمفسدة منتفية فيه ؛ لأنّه لا يعلم صدق إخباره تعالى حتّى يفضي إلى اليأس.

( ويقبح منه تعالى التعذيب مع منعه دون الذمّ ).

المكلّف إذا منع المكلّف من اللطف قبح منه عقابه ؛ لأنّه بمنزلة الأمر بالمعصية والإلجاء إليها ، فيقبح التعذيب عنه حينئذ ؛ لأنّه على ذلك التقدير له أن يقول : لم ما لطّفت بي كما قال الله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا

٤٥٨

لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ) (١) فإنّه أخبر بأنّه لو منعهم اللطف في بعثة الرسول ، لكان لهم هذا السؤال ، ولا يكون لهم هذا السؤال إلاّ مع قبح إهلاكهم من دون البعثة ، ولا يقبح ذمّه ؛ لأنّ الذمّ حقّ يستحقّ على القبيح ، غير مختصّ بالمكلّف بخلاف العقاب المستحقّ للمكلّف ، ولهذا لو بعث الإنسان غيره على فعل القبيح ففعله ، لم يسقط من الباعث حقّ الذمّ كما أنّ لإبليس حقّ ذمّ أهل النار وإن كان هو الباعث على المعاصي.

( ولا بدّ من المناسبة ).

يعني لا بدّ وأن يكون بين اللطف والملطوف فيه مناسبة. والمراد بالمناسبة كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى حصول الملطوف فيه ؛ لأنّه لو لا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون غيره من الأفعال لطفا ، فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، ولم يكن أيضا كونه لطفا في هذا الفعل أولى من كونه لطفا في غيره من الأفعال ، وهو أيضا ترجّح من غير مرجّح.

وإلى هذين أشار بقوله : ( وإلاّ ترجّح بلا مرجّح بالنسبة إلى المنتسبين ) وعنى بالمنتسبين اللطف والملطوف فيه.

( ولا يبلغ (٢) الإلجاء ).

يعني ينبغي أن لا يبلغ اللطف في استدعاء الملطوف فيه حدّ الإلجاء ، وإلاّ لم يكن اللطف لطفا ؛ ضرورة اعتبار عدم الإلجاء في مفهومه ، كما ذكرنا.

( ويعلم المكلّف اللطف إجمالا أو تفصيلا ).

يعني يجب كون اللطف معلوما للمكلّف إمّا بالإجمال أو التفصيل ؛ لأنّه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم يعلم المناسبة بينهما ، لم يكن داعيا إلى فعل

__________________

(١) طه (٢٠) : ١٣٤.

(٢) هذا وما عطف عليه ب « أن » المقدّرة عطفا على « المناسبة » أي لا بدّ من المناسبة ، وعدم بلوغ اللطف إلى الإلجاء ، وعلم المكلّف باللطف ، وهكذا.

٤٥٩

الملطوف فيه ؛ فإن كان العلم الإجماليّ كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل ، وإن لم يكن كافيا وجب التفصيل.

أقول : فيه نظر ؛ لأنّ اللطف إنّما يكون داعيا إلى الفعل بسبب المناسبة التي بينهما في نفس الأمر سواء كان تلك المناسبة معلومة للمكلّف ، أم لا.

( ويزيد اللطف على جهة الحسن ).

يعني لا بدّ من أن يكون اللطف مشتملا على صفة زائدة على الحسن من كونه واجبا أو مندوبا.

( ويدخله التخيير ).

يعني لا يجب أن يكون اللطف فعلا معيّنا ، بل يجوز أن يكون كلّ واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة المصلحة المطلوبة من الآخر ، فيقوم مقامه ، ويسدّ مسدّه كالكفّارات الثلاث.

( ويشترط حسن البدلين ).

يعني يشترط في كلّ واحد من الأمرين ـ اللذين يكون كلّ منهما لطفا ، ويقوم مقام الآخر ـ كون كلّ منهما حسنا ليس فيه وجه قبح.

( وبعض الألم قبيح يصدر عنّا خاصّة ، وبعضه حسن يصدر عن الله تعالى وعنّا ، وحسنه إمّا لاستحقاقه ، أو لاشتماله على النفع ، أو دفع الضرر الزائدين ، أو لكونه عاديّا ، أو على وجه الدفع ، ولا بدّ في المشتمل على النفع من اللطف ).

لمّا بيّن وجوب اللطف ـ وهو ضربان : مصلحة في الدين ، ومصلحة في الدنيا ، والمصلحة في الدنيا إمّا مضرّة أو منفعة ، والمضرّة إمّا ألم أو مرض أو غلاء أو غيرها ، والمنفعة إمّا سعة في الرزق أو صحّة أو رخص أو غيرها ـ أورد مباحث هذه الأمور عقيب اللطف.

واختلف في حسن الألم وقبحه ، فذهب الأشاعرة إلى أنّ الآلام الصادرة عنه

٤٦٠