البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

مدخل فيه ؛ فإنّه حينئذ يكون فعلا لغيره ، ولا يكون له اختيار فيه.

مثاله ما إذا ألجأ ظالم أحدا إلى فعل بحيث لا يمكنه الترك وإذا مال آخر إلى ذلك الفعل بسبب غضب لا يقدر به على الترك ، فيصدق عليهما أنّهما لا يتمكّنان من الترك ولكن أحدهما بإلجاء الغير ، والآخر من غير إلجاء.

والحاصل : أنّ ذات العبد علّة فاعليّة لوجوب الفعل بإعداد معدّ أو شرطيّة شيء ، لا أنّ غيره علّة فاعليّة له ، فلمّا كان العبد فاعلا للفعل ووجوبه ، لم يكن الفعل مخلوقا لله تعالى ، ولمّا كان فاعليّته لوجوب الفعل بسبب داع مستند بوسائط كثيرة إلى الله تعالى ، لم يكن الفعل مفوّضا إليه ، وهذا معنى كون الأمر بين الأمرين.

فإن قلت : ذات العبد مخلوق لله ، ففعله أيضا مخلوق له تعالى.

قلت : هذا ليس معنى الجبر ، بل معناه أن يكون الفعل مخلوقا له تعالى بلا واسطة وإن كان بآلة.

فإن قلت : هذا وإن لم يكن جبرا لكن يترتّب عليه ما يترتّب على الجبر من قبح التعذيب على العصيان.

قلت : هذا إذا كان خلق العاصي للعصيان بالذات. أمّا لو كان خلقه بالذات للمصلحة ولزم مفسدة العصيان بالعرض ، فلا.

والأولى الاعتماد بما ذكرناه أوّلا من كون الإرادة اختياريّة بالمعنى المذكور.

وقد روي عن حريز بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « الناس في القدر على ثلاثة أوجه :

رجل يزعم أنّ الله أجبر خلقه على المعاصي ، فهذا قد ظلّم الله تعالى في حكمه ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد وهّن سلطان الله ، فهو كافر.

ورجل يزعم أنّ الله تعالى كلّف العباد ما يطيقونه ولم يكلّفهم ما لا يطيقونه ، فإذا

٤٢١

أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهو مسلم بالغ » (١).

وما دلّ على كون المعاصي من العباد غير قادح فيما ذكرنا ، كما لا يخفى ؛ لكون المشيئة التكوينيّة منهم من غير المشيئة التكليفيّة من الله تعالى ، كما في الخيرات.

ويشهد على مدخليّة المشيئة من الله ومن العبد ـ مضافا إلى ما ذكر ، وقوله تعالى : ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (٢) وقوله عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (٣) ـ نحو قوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (٤) أيضا على وجه ؛ إذ يستفاد منه أنّ المشيئة التكوينيّة من العبد بالنسبة إلى الفعل الاختياريّ مقترنة بالمشيئة التكوينيّة من الله باعتبار إعطاء الأسباب وإبقائها كالحياة والقدرة والجوارح وإن لم تقترن بالمشيئة التكليفيّة عن الله في الشرور كالخيرات.

اعلم : أنّ التفويض قد يطلق على معان أخر :

منها : تفويض الخلق والرزق إلى الأئمّة من جهة اعتقاد كمالهم ورفعتهم وملاحظة صدور خوارق العادات عنهم ، إلى غير ذلك.

وهو فاسد ؛ لما لا يخفى.

ومنها : تفويض تقسيم الأرزاق.

ومنها : تفويض الأحكام والأفعال إليه بأن يثبت ما رآه حسنا ، ويردّ ما رآه قبيحا ، فيخيّر إليه إثباته وردّه مثل إطعام [ الجدّ ] السدس (٥) ، وإضافة الركعتين في الرباعيّة ، والواحدة في المغرب ، والنوافل أربعا وثلاثين سنّة ، وتحريم كلّ مسكر عند تحريم الخمر ونحو ذلك. وظاهره مناف لظاهر ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) (٦) إلاّ أن يقال : إنّ

__________________

(١) « التوحيد » : ٣٦٠ باب نفي الجبر والتفويض ، ح ٥.

(٢) البقرة (٢) : ٢٥٦.

(٣) مرّ تخريجه في ص ٤١٩ ، التعليقة ٢.

(٤) الإنسان (٧٦) : ٣٠ ؛ التكوير (٨١) : ٢٩.

(٥) في مسألة إرث الأجداد مع وجود الأبوين. راجع « الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية » ٨ : ١٢٢.

(٦) النجم (٥٣) : ٣.

٤٢٢

الوحي تابع لإرادته كما يظهر من قوله : ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) (١).

ومنها : تفويض الإرادة بأن يريد شيئا لحسنه ، ولا يريد شيئا لقبحه كإرادة تغيير القبلة فأوحى الله بما أراد.

ومنها : تفويض القول بما هو أصلح له وللخلق وإن كان الحكم الأصلي خلافه ، كما في صورة التقيّة.

ومنها : تفويض أمر الخلق ، بمعنى أنّه أوجب عليهم طاعته في كلّ ما يأمر وينهى سواء علم وجه الصحّة أم لا ، بل ولو كان بحسب ظاهر النظر عدم الصحّة ، فيكون الواجب عليهم القبول على وجه التسليم ؛ والمراد في هذا الفنّ هو المعنى الأوّل (٢).

ثمّ اعلم أنّه لا شبهة في وقوع الشرور في عالم الكون والفساد ، وتلك الشرور ممكنة ، فلا بدّ لها من استنادها إلى الواجب بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ؛ دفعا للتسلسل أو الدور ، فيلزم صدور الشرّ من الواجب وهو ممتنع ، ولهذا قال الثنويّة بوجود إلهين واجبي الوجود : أحدهما فاعل الخير وهو « يزدان ». وثانيهما فاعل الشرّ وهو « أهرمن » (٣).

والجواب : أنّ الأفعال بحسب الاحتمال العقليّ على خمسة أقسام : الخير المحض ، والخير الغالب ، والخير المساوي ، والشرّ الغالب ، والشرّ المحض ؛ وصدور الأخيرين عن الواجب محال ، كما لا يخفى. وكذا الثالث ؛ للزوم العبث بعد ملاحظة تعارض الحسن والقبح وتساقطهما ، فبقي الأوّلان ، فكلّ فعل صادر عن الواجب إمّا خير محض كإيجاد العقول ، أو خير غالب كإيجاد الإنسان.

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٤٤.

(٢) انظر تفصيل أقسام التفويض في « الفوائد الرجاليّة » للوحيد البهبهاني : ٤٠.

(٣) للتعرّف على أقوال الثنويّة والمجوس راجع « الملل والنحل » ١ : ٢٣٢ و ٢٤٤ ؛ « المحصّل » : ٤١٧ ـ ٤١٨ ؛ « نقد المحصّل » : ٣٠٠ ؛ « كشف المراد » : ٢٨٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦٢ ـ ٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٢.

٤٢٣

ووجه جواز الأخير (١) أنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ اليسير [ أقبح ] (٢) وارتكاب أقلّ القبيحين جائز عقلا ، فصدور الشرّ بالذات محال من الواجب وإن كان قليلا. وأمّا صدوره منه بتبعيّة الخير فلا ، فجميع الشرور صدوره من هذا الباب ، فلا يلزم إسناد الشرور بالذات إلى الواجب ، ولا القول بوجود إلهين ، بل الحقّ أنّ الشرور ليست مستندة إلى الواجب إلاّ باعتبار أنّ فاعلها مستند إليه ، وهذا ليس استنادا في الحقيقة.

وأمّا القضاء والقدر ، فقد وقع الاتّفاق ، ووردت الأخبار على أنّ الحوادث تحدث بهما (٣) ، ومن جملتها أفعال العباد ، فيلزم عدم اختيارهم فيها ؛ لأنّ المقدّر كائن ، فهذا منشأ الإشكال.

والجواب : أنّ القضاء له معان :

منها : الخلق ، كما في قوله تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (٤) وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (٥) وهذا المعنى لا يتحقّق في جميع الحوادث ؛ إذ قد بيّنّا أنّ أفعال العباد ليست مخلوقة لله.

والثاني : الإيجاب والإلزام ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٦) أي أوجب ، وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) (٧) أي ألزمناه. وهذا المعنى لا يكون عامّا ؛ لاختصاصه بالواجب.

والثالث : الإعلام والتبيين ، كما في قوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ) (٨) الآية.

__________________

(١) أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.

(٢) أي الأخير من الأوّلين وهو الخير الغالب.

(٣) انظر « الكافي » ١ : ١٥٥ ـ ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ؛ « التوحيد » : ٣٥٩ ـ ٣٩٠ بابا نفي الجبر والتفويض ، والقضاء والقدر.

(٤) فصّلت (٤١) : ١٢.

(٥) فصّلت (٤١) : ١٠.

(٦) الإسراء (١٧) : ٢٣.

(٧) الواقعة (٥٦) : ٦٠.

(٨) الإسراء (١٧) : ٤.

٤٢٤

وكذا القدر ، كما في قوله تعالى : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (١) أي أعلمنا بذلك وكتبنا في اللوح المحفوظ. وهذا المعنى يصحّ في جميع الحوادث.

وحاصله علم الواجب بجميع الموجودات الكلّيّة والجزئيّة ، كما يقال : إنّ القضاء علم إجماليّ كلّيّ ، والقدر علم تفصيليّ جزئيّ ، وعلمه تعالى لا يستلزم عدم الاختيار في العبد ؛ لما مرّ من أنّ العلم ليس علّة ، بل هو تابع للمعلوم بالمعنى المذكور.

وحاصله : أنّ الله تعالى أوجد العباد على وجه الاعتدال بكونهم قادرين على الفعل والترك من غير جبر وتفويض في الأمور ، بل الأمر بين الأمرين ، يدلّ على ذلك :

أوّلا : العقل ، من جهة استلزام الجبر كونه تعالى ظالما في تعذيب من يحمله على المعاصي كالقتل والزنى والشرك وغير ذلك ، واستلزام التفويض ـ مضافا إلى وهن السلطنة ـ صيرورة الممكن واجبا بالنسبة إلى الوجود بعد الوجود ، الذي يكون البقاء عبارة عنه ، وهو محال ؛ من جهة استحالة انقلاب الماهيّة ، وامتناع تعدّد الواجب ، وكون الامتياز هو الإمكان الذي هو علّة الافتقار ، فيكون العبد فاعلا للفعل بالمباشرة والعلّيّة القريبة ، ولكن بواسطة إقدار الله وإبقائه ونحو ذلك ، فلا يكون مخلوقا لله ، ولا مفوّضا إلى العبد ، بل يكون الأمر بين الأمرين ، بمعنى أنّ المجموع ـ المركّب من فعل الله التكوينيّ بإيجاد العبد وإحيائه وإعطائه الأسباب كالقدرة ونحوها وإبقائها ، ومن فعل العبد بالمباشرة ونحوها من باب الجعل للمصلحة ـ علّة لحصول الفعل الاختياريّ للعبد وإن كانت الإرادة التكليفيّة على خلاف الإرادة التكوينيّة ، فالتركيب اعتباريّ في مقام الفعل ، لا في مقام الذات حتّى يلزم نحو الوحدة أو الاتّحاد.

__________________

(١) النمل (٢٧) : ٥٧.

٤٢٥

وثانيا : النقل ، كما قال الله تعالى : ( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ) (١) وقال تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢) وقال تعالى : ( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) (٣) وقال تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (٤) وقال تعالى : ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٥) وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٦) وقال تعالى : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (٧) إلى غير ذلك من الآيات الآيات الدالّة على خلاف ذلك ـ كقوله : ( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (٨) و ( مَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ ) (٩) وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ) (١٠) وقوله تعالى : ( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ) (١١) ونحو ذلك ـ محمولة على كون الضلالة بالاختيار كالطبيعة الشبيهة بالوصف الخلقي المجبول عليه كقلوب البهائم ، أو على وسم قلوبهم بما يعلم به الملائكة ضلالتهم وعدم اختيارهم الإيمان ، فيذمّونهم ويمدحون عليهم (١٢) حتّى كان الله تعالى شهد على ذلك ؛ إلى غير ذلك من المحامل.

وروي عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال ـ بعد السؤال عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : ( خَتَمَ اللهُ

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٥٦.

(٢) الرحمن (٥٥) : ٢٩.

(٣) النحل (١٦) : ٣٤.

(٤) غافر (٤٠) : ١٧.

(٥) الطور (٥٢) : ١٦ ؛ التحريم (٦٦) : ٧.

(٦) الطور (٥٢) : ١٩ ؛ المرسلات (٧٧) : ٤٣.

(٧) النجم (٥٣) : ٣١.

(٨) غافر (٤٠) : ٣٣.

(٩) الزمر (٣٩) : ٣٧.

(١٠) الجاثية (٤٥) : ٣٣.

(١١) النحل (١٦) : ١٠٨.

(١٢) كذا في النسخ.

٤٢٦

عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ) (١) ـ : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : ( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٢) » (٣).

وروي عن معاوية الشامي ، قال : دخلت على عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فقلت : يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمّد أنّه قال : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين » فما معناه؟ فقال : « من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ، ثمّ يعذّبنا عليها ، فقد قال بالجبر. ومن قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام ، فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك » فقلت له : يا بن رسول الله فما أمر بين أمرين؟ قال : « وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به وترك ما نهوا عنه » فقلت له : هل لله ـ عزّ وجلّ ـ مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال : « أمّا الطاعات ، فإرادة الله تعالى ومشيئته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ».

قلت : فلله ـ عزّ وجلّ ـ فيها القضاء؟ قال : « نعم ، ما من فعل خير أو شرّ إلاّ ولله فيه قضاء ».

قلت : فما معنى هذا القضاء؟ قال : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا » (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار (٥). وفي بعضها تفسير التفويض بتفويضه تعالى إلى العباد

__________________

(١) البقرة (٢) : ٧.

(٢) النساء (٤) : ١٥٥.

(٣) « عيون أخبار الرضا » ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، الباب ١١ ، ح ١٦.

(٤) « عيون أخبار الرضا » ١ : ١٢٤ ، الباب ١١ ، ح ١٧.

(٥) « الكافي » ١ : ١٥٥ ـ ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ؛ « التوحيد » : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ باب الجبر والتفويض وباب القضاء والقدر.

٤٢٧

اختيار أمره ونهيه (١) ، وهو المشهور من المفوّضة.

وفي هذا المقام يرد على الأشاعرة القائلين بالجبر والمعتزلة القائلين بالتفويض وأمثالهم. وبالجملة فإلى مثل ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه‌الله مع بيان الشارح القوشجي بقوله : ( والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا ).

اختلفوا في أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرتهم ، أم هي واقعة بقدرة الله تعالى؟ مع الاتّفاق على أنّها أفعالهم لا أفعاله ؛ إذ القائم والقاعد والآكل والشارب وغير ذلك هو الإنسان ـ مثلا ـ وإن كان الفعل مخلوقا لله تعالى ؛ فإنّ الفعل إنّما يستند إلى من قام به ، لا إلى من أوجده.

فذهب الشيخ الأشعريّ إلى أن ليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك تأثير منه أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاّ له (٢).

وذهب الحكماء والمعتزلة إلى أنّها واقعة بقدرتهم على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار (٣).

واختار المصنّف هذا المذهب وادّعى فيه الضرورة ؛ فإنّ كلّ أحد يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، والصاعد باختياره إلى المنارة والهاوي منها ، ويعلم أنّ الأوّلين مستندان إلى قدرته واختياره ، وأنّه لولاهما لم يصدر عنه

__________________

(١) « تحف العقول » : ٤٦٣ ؛ « الاحتجاج » ٢ : ٤٩١ ـ ٤٩٢ ، احتجاجات الإمام علي بن محمد الهادي عليهما‌السلام ، ح ٣٢٨.

(٢) « المحصّل » : ٤٥٥ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٢٠ ؛ « المطالب العالية » ٩ : ٩ ؛ « قواعد المرام » : ١٠٨ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٣ ؛ « النافع ليوم الحشر » : ٢٧ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٤٥ ـ ١٤٦ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٢٣.

(٣) « شرح الأصول الخمسة » : ٣٢٣ وما بعدها ؛ « نهج الحقّ وكشف الصدق » : ١٠١ ؛ « المطالب العالية » ٩ : ١٢ ؛ « قواعد العقائد » ضمن « نقد المحصّل » : ٤٥٢ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٢٤.

٤٢٨

شيء منهما بخلاف الآخرين (١) ؛ إذ لا مدخل في شيء منهما لقدرته واختياره.

والأشاعرة أجابوا بأنّ الفرق بين الأفعال الاختياريّة وغير الاختياريّة ضروريّ ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة والاختيار في الأولى وعدمهما في الثانية ، لا إلى تأثيرهما في الأولى وعدمه في الثانية ؛ إذ لا يلزم من دوران الشيء كالفعل الاختياريّ مع غيره ، كالقدرة والاختيار وجودا وعدما كون المدار علّة للدائر ، ولا من العلّيّة ـ إنّ سلّم ثبوتها ـ الاستقلال بها ؛ لجواز أن يكون المدار جزءا أخيرا من العلّة المستقلّة (٢).

وتمسّك الأشاعرة بوجوه (٣) أشار المصنّف إلى الجواب عنها :

منها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته واختياره ، لتمكّن من فعله وتركه ؛ إذ القادر ما يصحّ منه الفعل والترك ، ولتوقّف ترجيح فعله على تركه على مرجّح.

أمّا على مذهب المعتزلة القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياريّ ، فظاهر.

وأمّا على مذهب غيرهم ، فإذن لا بدّ من الإرادة الحادثة ، وذلك المرجّح لا يكون صادرا عنه باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ، ويكون الفعل عند ذلك المرجّح واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلّفه عنه ؛ لأنّه إذا لم يجب الفعل حينئذ جاز أن يوجد معه الفعل تارة ويعدم أخرى ، فتخصيص أحد الوقتين بالوجود يحتاج إلى مرجّح آخر ولا يتسلسل ، بل ينتهي إلى مرجّح يجب معه صدور الفعل عنه ، وإذا كان الفعل مع المرجّح ـ الذي لا يكون صادرا عنه باختياره ـ واجب الصدور عنه ، فيكون ذلك الفعل اضطراريّا لازما ، لا اختياريّا.

__________________

(١) في « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : « الأخيرين ».

(٢) « شرح المواقف » ٨ : ١٥٢ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٤٨ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣٤١.

(٣) « المحصّل » : ٤٥٦ ـ ٤٥٨ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٢١ ـ ٣٢٧ ؛ « المطالب العالية » ٩ : ٢١ ؛ « قواعد المرام » : ١٠٨ ـ ١٠٩ ؛ « مناهج اليقين » : ٣٤٠ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٤٨ ـ ١٥٢ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٢٧ ـ ٢٣٧ ؛ « إرشاد الطالبين » : ٢٦٥ ـ ٢٦٩.

٤٢٩

أقول : بهذا التقرير ـ حيث عمّمنا المرجّح ـ سقط الجواب بأنّ ترجيح المختار أحد المتساويين جائز ، كما في طريقي الهارب وقدحي العطشان ؛ لأنّ الإرادة صفة شأنها الترجيح والتخصيص من غير احتياج إلى مرجّح ، وإنّما المحال الترجّح بلا مرجّح ، ولم يحتج إلى ما قال صاحب المواقف من أنّ هذا الدليل إلزام على المعتزلة القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياريّ ، لا القائلين بأنّه يجوز للقادر ترجيح المساوي بل المرجوح ؛ فإنّ الهارب يتمكّن من سلوك أحد الطريقين وإن كان مساويا للآخر ، أو أصعب منه (١).

وأجاب المصنّف بقوله : ( والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب ) بمعنى أنّ القادر هو الذي يتمكّن من كلّ طرفي الفعل والترك قبل تحقّق الداعي إلى أحدهما وتعلّق الإرادة الجازمة به. أمّا بعده ، فيجب الطرف الذي تعلّق به الإرادة ، وهذا الوجوب لا ينافي القدرة ، بل يحقّقه.

وقوله : « كالواجب » إشارة إلى النقض الإجماليّ ، يعني (٢) لو تمّ هذا الدليل ، لدلّ على أنّ الواجب تعالى لا يكون ـ أيضا ـ موجدا لفعله بالقدرة والاختيار ؛ فإنّ ما ذكرتموه جار في حقّه أيضا.

وأجاب الإمام عنه بأنّ إرادة العبد محدثة ، فتفتقر إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله تعالى فيه بلا إرادة [ واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات التي يفرض صدورها عنه ، وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة ] (٣) أخرى (٤).

وردّه المصنّف بأنّه لا يدفع التسلسل المذكور (٥) ؛ إذ يقال : إن لم يمكن الترك مع

__________________

(١) « شرح المواقف » ٨ : ١٥٢.

(٢) في « ب » و « ز » : « بمعنى لو يتمّ ».

(٣) الزيادة أضفناها من « شرح تجريد العقائد » للقوشجي.

(٤) « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٢٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٥٠.

(٥) في المصدر و « أ » : « فلا يدفع التقسيم المذكور ».

٤٣٠

الإرادة القديمة ، كان موجبا لا قادرا مختارا ، وإن أمكن فإن لم يتوقّف فعله على مرجّح ، استغنى الجائز عن المرجّح ، وإن توقّف عليه ، كان الفعل معه واجبا ، فيكون اضطراريّا. والفرق الذي ذكرتموه في المدلول ـ مع الاشتراك في الدليل ـ دليل على بطلان الدليل ، وإنّما يندفع النقض إذا بيّن عدم جريان الدليل في صورة التخلّف.

وقال صاحب المواقف : في هذا الردّ نظر ؛ فإنّ مآل ما ذكر ـ من الفرق بين إرادة العبد وإرادة البارئ تعالى ـ إلى تخصيص المرجّح في قولنا : ترجيح فعله يحتاج إلى مرجّح ، بالمرجّح الحادث ، فيصير الاستدلال هكذا : إن تمكّن العبد من الفعل والترك ، وتوقّف الترجيح على مرجّح ، وجب أن لا يكون ذلك المرجّح منه ، وإلاّ لكان حادثا محتاجا إلى مرجّح آخر ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مرجّح قديم لا يكون من العبد ويجب الفعل معه ولا يكون العبد مستقلاّ فيه.

وأمّا فعل البارئ ، فهو محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معيّن ، وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون تعالى مستبدّا مستقلاّ في الفعل ، وحينئذ لا يرد النقض ويتمّ الجواب (١).

أقول : محصول الفرق أنّ المرجّح في فعل العبد يجب أن لا يكون صادرا عنه قطعا ؛ للتسلسل ، بل صادرا عن غيره ، وحينئذ لا يكون العبد مستقلاّ في فعله ، والمرجّح في فعل البارئ تعالى يجب أن يكون صادرا عنه ، فلا يلزم عدم استقلاله في فعله.

وعلى التقديرين يكون الفعل اضطراريّا لازما ؛ لأنّ الفعل مع المرجّح ـ سواء كان صادرا عن الفاعل أو عن غيره ـ يصير واجبا ، والترك معه على التقديرين يصير ممتنعا ؛ لما ذكرنا آنفا.

__________________

(١) « شرح المواقف » ٨ : ١٥١.

٤٣١

فهذا الفرق إنّما يفيد افتراق الصورتين في الاستقلال وعدمه ، وذلك لا يهمّنا ؛ لأنّه لا يفيد افتراقهما في الاضطرار وعدمه ، وهذا هو المطلوب ؛ لأنّ الناقض يدّعي لزوم كون البارئ تعالى مضطرّا في فعله لا مختارا.

على أنّ قوله : وجب أن لا يكون ذلك المرجّح منه ، وإلاّ لكان حادثا محتاجا إلى مرجّح آخر ، ممنوع ، وإنّما يلزم الاحتياج إلى المرجّح الآخر أن لو كان صادرا عنه باختياره ، أمّا إذا كان صادرا عنه لا باختياره ، فاللزوم ممنوع ، فيبطل ما ذكره من الفرق بين الصورتين بالاستقلال وعدمه أيضا.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لأفعاله ، لكان عالما بتفاصيلها ؛ إذ الإيجاد لا يتصوّر بدون العلم بالموجد ، ولهذا صحّ الاستدلال بفاعليّة الفاعل (١) على عالميّة الفاعل ، والتالي باطل ؛ لأنّ النائم يصدر عنه أفعال اختياريّة لا شعور له بتفاصيلها كمّيّاتها وكيفيّاتها ، والماشي ـ إنسانا كان أو غيره ـ تقطع مسافة معيّنة من غير شعور له بتفاصيل الأجزاء التي بين المبدأ والمنتهى ، والناطق يأتي بحروف مخصوصة على نظم مخصوص من غير شعور بالأعضاء التي هي مخارجها ، ولا بالهيئات ، ولا بالأوضاع التي تكون لتلك الأعضاء عند الإتيان بتلك الحروف ، والكاتب يصوّر الحروف والكلمات بتحريك الأنامل من غير شعور له بما للأنامل من الأعضاء والأجزاء ، أعني العظام والغضاريف والأعصاب والعضلات والرباطات ، ولا بتفاصيل حركاتها وأوضاعها التي تأتي بها تلك الصور والنقوش.

وأشار إلى الجواب عنه بقوله : ( والإيجاد لا يستلزم العلم إلاّ مع اقتران القصد ، فيكفي الإجماليّ ).

يعني لا نسلّم أنّ الإيجاد لا يتصوّر بدون العلم بالموجد ، والمثبتون لعلمه تعالى لا يستدلّون عليه بالإيجاد ، بل بإتقان الفعل وإحكامه.

__________________

(١) في هامش « ب » : « بفاعلية العالم ».

٤٣٢

نعم ، الإيجاد بالاختيار ـ لكونه مقارنا للقصد ، والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به ـ يستلزمه ، لكنّ العلم الإجماليّ كاف ، وهو حاصل في الصور المذكورة ، لبطلان التالي.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعل نفسه بالاستقلال ، فإذا فرضنا أنّه أراد تحريك جسم في وقت معيّن ، وأراد الله تعالى سكونه في هذا الوقت ، فإمّا أن يقع المرادان جميعا وهو ظاهر الاستحالة ، أو لا يقع شيء منهما وهو أيضا محال ؛ لامتناع خلوّ الجسم في غير آن الحدوث عن الحركة والسكون ، ولأنّ التخلّف عن المقتضي لا يكون إلاّ لمانع ، ولا مانع لكلّ من المرادين سوى وقوع الآخر ، فلو امتنعا جميعا لزم أن يقعا جميعا وهو ظاهر الاستحالة.

وإمّا أن يقع أحدهما دون الآخر ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ؛ لأنّ التقدير استقلال كلّ من القدرتين بالتأثير من غير تفاوت.

وأجاب عنه المصنّف بقوله : ( ومع الاجتماع يقع مراده تعالى ).

يعني في الصورة المفروضة يقع مراده تعالى ؛ لكون قدرته أقوى ، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير ، وهو لا ينافي التفاوت في القوّة والشدّة.

ومنها : أنّ الفاعل يجب أن يكون مخالفا لفعله في الجهة التي بها يتعلّق الفعل ، وهو الحدوث ، فيجب أن يكون الفاعل للحدوث مخالفا لفعله في الحدوث والعبد محدث ، فلا يكون فاعلا للفعل الحادث.

وأجاب عنه بقوله : ( والحدوث اعتباريّ ) لا تأثير للفاعل فيه ، بل إنّما يؤثّر الفاعل في الماهيّة بأن يوجدها.

ومنها : أنّ العبد لو كان موجدا لفعل نفسه ، لجاز أن يوجد جسما أيضا ؛ لأنّ المصحّح لتعلّق الإيجاد بفعل نفسه هو الإمكان وهو متحقّق في الجسم.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( وامتناع الجسم لغيره ).

يعني أنّ امتناع صدور الجسم عن العبد بسبب الغير ، وهو أنّ الجسم لا يجوز

٤٣٣

أن يصدر عن الجسم كما بيّنّا ، فلا يلزم من تحقّق العلّة المصحّحة ـ أعني الحدوث (١) ـ جواز صدور الجسم عن العبد ؛ لتحقّق المانع.

ومنها : أنّه لو كان قادرا على إيجاد فعله ، لكان قادرا على إيجاد مثله أيضا ؛ لأنّ حكم الأمثال واحد ، لكنّا قاطعون بأنّه يتعذّر علينا أن نفعل الآن مثل ما فعلناه سابقا بلا تفاوت وإن بذلنا الجهد في التدبير والاحتياط.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( وتعذّر المماثلة في بعض الأفعال لتعذّر الإحاطة ).

يعني أنّ بعض الأفعال لا يتعذّر فيه المماثلة مثل كثير من الحركات ، وبعضها يتعذّر فيه المماثلة لكن لا بسبب عدم وقوعه بالقدرة ، بل بسبب تعذّر الإحاطة الكلّيّة بما فعل في الزمان الأوّل.

ومنها : أنّه لو كان موجدا لأفعاله ، كان بعض أفعاله خيرا من أفعاله تعالى ؛ لأنّ الإيمان فعل العبد ، وخلق المؤذيات فعل الله تعالى ، ولا شكّ أن الإيمان خير من المؤذيات.

فأجاب عنه بقوله : ( ولا نسبة في الخيريّة بين فعلنا وفعله ).

يعني أنّ النسبة في الخيريّة إنّما تكون بين المتّحدين نوعا ، وما ذكرتم ليس كذلك.

ومنها : أنّ الأمّة مجتمعون على صحّة الشكر لله تعالى ـ بل وجوبه ـ على نعمة الإيمان فلو كان الإيمان بإيجاد العبد ، لم يصحّ الشكر لله تعالى عليه ؛ إذ لا معنى لشكر العبد على فعل نفسه.

وأجاب المصنّف عنه بقوله : ( والشكر على مقدّمات الإيمان ).

يعني أنّ شكر العبد لله تعالى ليس على نفس الإيمان ، بل على إقداره وتمكينه وتوفيقه على تحصيل أسبابه.

( والسمع متأوّل ، ومعارض بمثله ).

__________________

(١) في المصدر و « أ » : « الإمكان » وهو الصحيح.

٤٣٤

يعني أنّ الدلائل السمعيّة ـ التي تمسّك الأشاعرة بها وجعلوها أنواعا باعتبار خصوصيّات ـ يكون لبعض منها دون البعض مثل (١) الورود بلفظ الخلق لكلّ شيء ، أو لعمل العبد خاصّة ، أو بلفظ « الجعل » ، أو « الفعل » ، أو بغير ذلك.

فمن الوارد بلفظ الخلق لكلّ شيء صريحا قوله تعالى : ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (٢) تمدّحا واستحقاقا للعبادة ، فلا يصحّ الحمل على أنّه خالق لبعض الأشياء كأفعال نفسه ؛ لأنّ كلّ حيوان عند المخالفين كذلك ، بل يحمل على العموم ، وتدخل فيه أعمال العبد.

وكذلك قوله تعالى : ( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (٣) وقوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (٤) وبدلالة (٥) الحصر قوله : ( هُوَ اللهُ الْخالِقُ ) (٦) والحصر فيه ظاهر إذا كان هو ضمير الشأن أو ضمير إبهام يفسّره الله.

وأمّا إذا كان الخالق صفة ، فذكر الإمام أنّه لمّا كان الله علما والعلم لا يدلّ إلاّ على الذات المخصوصة بمنزلة الإشارة ، لم يجز أن يكون الحكم عائدا إليه ؛ إذ لا معنى لقولنا : إنّ هذا المعيّن ليس إلاّ هذا المعيّن ، ويلزم أن يكون عائدا إلى الوصف على معنى أنّه الخالق لا غير (٧).

ولعمل العبد خاصّة قوله تعالى : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (٨). ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ

__________________

(١) قوله : « مثل الورود » اسم لقوله : « يكون ».

(٢) الأنعام (٦) : ١٠٢.

(٣) الرعد (١٣) : ١٦.

(٤) القمر (٥٤) : ٤٩.

(٥) عطف على قوله : « صريحا » أي بالمنطوق.

(٦) الحشر (٥٩) : ٢٤.

(٧) « شرح تجريد العقائد » : ٣٤٦.

(٨) الصافّات (٣٧) : ٩٩.

٤٣٥

خَلَقَ ) (١) احتجّ على علمه تعالى بما في القلوب من الدواعي والعقائد والخواطر بكونه خالقا لها على طريق ثبوت اللازم ، أعني العلم بثبوت ملزومه ، أعني الخلق ، وفي أسلوب الكلام إشارة إلى أنّ كلاّ من اللزوم وثبوت الملزوم واضح لا ينبغي أن يشكّ فيه ؛ ولهذا استدلّ بالآية على عدم كون العبد خالقا لأفعاله على طريق نفي الملزوم ـ أعني خلقه ـ بنفي اللازم ، أعني علمه بتفاصيلها.

وبلفظ الجعل قوله تعالى : ( وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ) (٢) ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ) (٣) ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (٤)

وبلفظ الفعل قوله تعالى : ( فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) (٥) ( يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) (٦) والله تعالى يريد الإيمان وسائر الطاعات اتّفاقا ، فيجب أن يكون موجدها هو الله تعالى.

وحمل الكلام على أنّه يفعل ما يريد فعله عدول عن الظاهر.

وبغير ما ذكر قوله : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) (٧) ( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) (٨) ( كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) (٩) ( أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) (١٠) ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (١١) ( ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ ) (١٢) إلى غير ذلك.

__________________

(١) الملك (٦٧) : ١٣.

(٢) البقرة (٢) : ١٢٨.

(٣) إبراهيم (١٤) : ٤٠.

(٤) مريم (١٩) : ٦.

(٥) البروج (٨٥) : ١٦.

(٦) إبراهيم (١٤) : ٢٧.

(٧) النساء (٤) : ٥٣.

(٨) النحل (١٦) : ٥٣.

(٩) المجادلة (٥٨) : ٢٢.

(١٠) النجم (٥٣) : ٤٣.

(١١) يونس (١٠) : ٢٢.

(١٢) النحل (١٦) : ٧٩.

٤٣٦

ومنها : ما تواتر معناه من الأحاديث الدالّة على كون كلّ كائن بتقدير الله ومشيئته (١) فجميعها متأوّل ، وقد ذكر العلماء تأويلها في المطوّلات ، ولها تأويل عامّ هو أنّ الفعل يجوز أن يسند إلى ما له مدخل في الجملة ، ولا شكّ أنّ الله تعالى مبدأ لجميع الممكنات ، ينتهي إليه الكلّ ؛ فلهذا السبب جاز استناد أفعال العباد إليه.

وأمّا الحصر عليه تعالى ـ كما يدلّ عليه بعض الآيات (٢) ـ فبحسب الادّعاء ؛ لأنّ الإقدار والتمكين وتيسير الأسباب لمّا كان منه تعالى فكأنّه هو الفاعل لا غير ، ومعارض بمثله من النصوص الدالّة على أنّ أفعال العباد بقدرتهم واختيارهم وهو أيضا أنواع :

منها : الآيات الصحيحة الصريحة في إسناد الألفاظ الموضوعة للإيجاد إلى العباد وهي : العمل ، كقوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ) (٣) ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ) (٤) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) (٥) ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها ) (٦).

والفعل ، كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ) (٧) ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٨).

والصنع ، كقوله تعالى : ( لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (٩) ( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) (١٠).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥٠ ـ ١٥٢ باب المشيئة والإرادة ؛ « التوحيد » : ٣٣٦ ـ ٣٤٤.

(٢) مرّ في ص ٤١٥.

(٣) فصّلت (٤١) : ٤٦ ؛ الجاثية (٤٥) : ١٥.

(٤) النجم (٥٣) : ٣١.

(٥) كما في البقرة (٢) : ٢٧٧ ويونس (١٠) : ٩ وغيرهما.

(٦) غافر (٤٠) : ٤٠.

(٧) البقرة (٢) : ١٩٧.

(٨) الحجّ (٢٢) : ٧.

(٩) المائدة (٥) : ٦٣.

(١٠) العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

٤٣٧

والكسب ، كقوله تعالى : ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) (١) ( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (٢) ( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (٣).

والجعل ، كقوله تعالى : ( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ ) (٤) ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ ) (٥).

والخلق ، كقوله تعالى : ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٦) ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (٧).

والإحداث ، كقوله تعالى حكاية عن الخضر عليه‌السلام : ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (٨).

والابتداع ، كقوله تعالى : ( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ) (٩) وأمثال ذلك كثير في القرآن.

وأجيب بأنّه لمّا ثبت بالدلائل القاطعة أنّ الكلّ بقضاء الله وقدره ، وجب جعل هذه الألفاظ مجازا عن السبب العادي ، أو جعل هذه الإسنادات مجازا ؛ لكون العبد سببا لهذه الأفعال ، هذا في غير لفظ الكسب ، فإنّه يصحّ على حقيقته والخلق فإنّه بمعنى التقدير.

وأمّا على رأي الإمام ـ وهو أنّ مجموع القدرة والداعية مؤثّر في الفعل ، وذلك

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٢٥.

(٢) الطور (٥٢) : ٢١.

(٣) غافر (٤٠) : ١٧.

(٤) البقرة (٢) : ١٩.

(٥) الأنعام (٦) : ١٠٠.

(٦) المؤمنون (٢٣) : ١٤.

(٧) آل عمران (٣) : ٤٩.

(٨) الكهف (١٨) : ٧٠.

(٩) الحديد (٥٧) : ٢٧.

٤٣٨

المجموع بخلق الله من غير اختيار للعبد (١) ـ فلا مجاز ولا إشكال ، ولا استقلال للعبد ولا اعتدال.

ومنها : الآيات الدالّة على توبيخ الكفّار والعصاة ، وأنّه لا مانع من الإيمان والطاعة ، ولا ملجئ إلى الكفر والمعصية ، كقوله تعالى : ( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) (٢) ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) (٣) و ( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ) (٤) و ( فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (٥) و ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) (٦) ( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ ) (٧) ( لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) (٨) وأمثال ذلك كثيرة في القرآن.

ومنها : الآيات الدالّة في القرآن على أنّ فعل العبد بمشيئته ، كقوله تعالى : ( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٩) ( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) (١٠) ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (١١) ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) (١٢) ( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١٣).

وأجيب بما سيأتي من أنّ فعل العبد بإرادة الله تعالى ، لكنّها موافقة لإرادة العبد بطريق جري العادة ، فلذلك رتّب عليها.

__________________

(١) « المطالب العالية » ٩ : ١١.

(٢) الإسراء (١٧) : ٩٤.

(٣) البقرة (٢) : ٢٨.

(٤) ص (٣٨) : ٧٥.

(٥) الانشقاق (٨٤) : ٢٠.

(٦) المدّثّر (٧٤) : ٤٩.

(٧) آل عمران (٣) : ٧١.

(٨) آل عمران (٣) : ٩٩.

(٩) الكهف (١٨) : ٢٩.

(١٠) فصّلت (٤١) : ٤٠.

(١١) المدّثّر (٧٤) : ٣٧.

(١٢) المدّثّر (٧٤) : ٥٥ ؛ عبس (٨٠) : ١٢.

(١٣) المزّمّل (٧٣) : ١٩ ؛ الإنسان (٧٦) : ٢٩.

٤٣٩

وأمّا على رأي الإمام فالجواب ظاهر ، وهو أنّ فعل العبد بمشيئته ومشيئته بمشيئة الله ، كقوله تعالى : ( وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (١).

ومنها : الآيات الواردة في الأمر والنهي ، والمدح والذمّ ، والوعد والوعيد ، وقصص الماضين للإنذار والاعتبار.

وأجيب بما سيأتي من أنّ هذه كلّها باعتبار الكسب الصادر من العبد.

ومنها : الآيات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد إسناد الفعل إلى فاعله ، وهي أكثر من أن تحصى ، ولنبدأ من قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) (٢) إلى قوله : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) (٣).

وقد عرفت في تحرير محلّ النزاع أنّ هذا ليس من المتنازع في شيء ، والنصوص إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل اليقينيّة ، ووجب الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقليّة القطعيّة.

( والترجيح معنا ) ؛ لأنّ الشواهد القطعيّة العقليّة على وفق مدّعانا كثيرة :

منها : أنّه لو لا استقلال العبد لبطل المدح والذمّ ، والأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وفوائد الوعد والوعيد ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، والفرق بين الكفر والإيمان ، والإساءة والإحسان ، وفعل النبيّ والشيطان ، وكلمات التسبيح والهذيان وكذا بين ما يقع باختيار العبد على وفق إرادته و [ ما يقع لا باختياره وعلى وفق ] (٤) إرادة غيره مع أنّ التفرقة مدركة بالوجدان ؛ لأنّ الكلّ بخلق (٥) الله تعالى من غير تأثير للعبد فيه.

وأجيب بأنّه إنّما يرد على المجبّرة النافين لقدرة العبد واختياره ، لا على من يجعل فعله متعلّقا بقدرته وإرادته ، واقعا بكسبه وعقيب عزمه وإن كان بخلق الله تعالى ،

__________________

(١) الإنسان (٧٦) : ٣٠ ؛ التكوير (٨١) : ٢٩.

(٢) البقرة (٢) : ٣.

(٣) الناس (١١٤) : ٥ ـ ٦.

(٤) الزيادة أثبتناها من المصدر.

(٥) في هامش المصدر : « بفعل الله ».

٤٤٠