البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر؟ فقال عليه‌السلام :

« ذلك بما قدّمت أيديهم ، وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد ـ إلى أن قال ـ : ولو كان المولود يولد فهما عاقلا ، لأنكر العالم عند ولادته ، ولبقي حيرانا ، تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف ، وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة ، ويوما بعد يوم.

واعتبر ذلك بأنّ من سبي من بلد إلى بلد ـ وهو عاقل ـ يكون كالواله الحيران ، فلا يسرع في تعلّم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل.

ثمّ لو ولد عاقلا ، كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصّبا بالخرق مسجّى في المهد ؛ لأنّه لا يستغني عنه هذا كلّه لرقّة بدنه ورطوبته حين يولد ، ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل ـ إلى أن قال ـ : لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة ، وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكلّفات بالبرّ والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم ، ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم ؛ لأنّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم (١) ، فيتفرّقون عنهم حين يولدون ، فلا يعرف الرجل أباه وأمّه ، ولا يمتنع من نكاح أمّه وأخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهنّ ، وأقلّ ما في ذلك من القباحة ـ بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن أمّه وهو يعقل ـ أن يرى منها ما لا يحلّ له ولا يحسن به أن يراه ، أفلا ترى كيف أقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب ، وخلا من الخطأ دقيقه وجليله؟

اعرف يا مفضّل! ما للأطفال في البكاء من المنفعة ، واعلم : أنّ في أدمعة الأطفال رطوبة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر

__________________

(١) أي حفظهم وتعهّدهم.

٤٠١

وغيره ، فالبكاء يسيل تلك الرطوبة من رءوسهم ، فيعقبهم ذلك الصحّة في أبدانهم ، والسلامة في أبصارهم ، أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك؟ فهما دائبان ليسكتانه ويتوخّيان في الأمور مرضاته ؛ لئلاّ يبكي وهما لا يعلمان أنّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبة ، فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ، ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنّه لا منفعة فيه من أجل أنّهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه ؛ فإنّ كلّ ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون وكثيرا ممّا يقصر عنه علم المخلوقين محيط به علم الخالق جلّ قدسه ، وعلت كلمته.

فأمّا ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق ففي ذلك خروج الرطوبة ، التي لو بقيت في أبدانهم ، لأحدثت عليهم الأمور العظيمة كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة فأخرجته إلى حدّ البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج واللقوة وما أشبههما ، فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم ؛ لما لهم في ذلك من الصحّة في كبرهم فتفضّل على خلقه بما جهلوه ، ونظر لهم بما لم يعرفوه ، ولو عرفوا نعمه عليهم ، لشغلهم ذلك عن التمادي في معصيته ، فسبحانه ما أجلّ نعمته ، وأسبغها على المستحقّين وغيرهم من خلقه ، وتعالى عمّا يقول المبطلون علوّا كبيرا.

انظر الآن يا مفضّل! كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك ، فجعل للذكر آلة ناشزة تمتدّ حتّى تصل النطفة إلى الرحم إذ كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في غيره ، وخلق للأنثى وعاء قعر ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويتّسع له ويصونه حتّى يستحكم ، أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف ، سبحانه وتعالى عمّا يشركون؟

فكّر يا مفضّل! في أعضاء البدن أجمع ، وتدبير كلّ منها لمآرب ، فاليدان للعلاج ، والرجلان للسعي ، والعينان للاهتداء ، والفم للاغتذاء ، والمعدة للهضم ، والكبد

٤٠٢

للتخليص ، والمنافذ لتنفيذ الفضول ، والأوعية لحملها ، والفرج لإقامة النسل ، وكذلك جميع الأعضاء إذا تأمّلتها وأعملت فكرك فيها ونظرك ، وجدت كلّ شيء منها قد قدّر لشيء على صواب وحكمة ».

قال المفضّل : فقلت : يا مولاي! إنّ قوما يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة ، فقال : « سلهم عن هذه الطبيعة : أيّ شيء؟ له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذا صفته (١) ، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة ، علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه جارية على ما أجراها عليه.

فكّر يا مفضّل! في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ؛ فإنّ الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ، وذلك أنّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثمّ إنّ الكبد تقبله ، فيستحيل بلطف التدبير دما ، وينفذ إلى البدن كلّه في مجار مهيّأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء حتّى يطرد في الأرض كلّها ، وينفذ ما يخرج منه إلى مفائض قد أعدّت لذلك ، فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة.

فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلاّ تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه ، فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير ، فوصف نشوء الأبدان ونموّها في الرحم من غير يد تنالها ويدبّرها إلى الكمال » ـ إلى أن قال ـ :

__________________

(١) كذا ، وفي « بحار الأنوار » : « هذه صنعته ».

٤٠٣

« يا مفضّل! انظر إلى ما خصّ به الإنسان في خلقه تشريفا وتفضيلا على البهائم ؛ فإنّه خلق ينتصب قائما ، ويستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما ، فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع ، لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال.

انظر الآن يا مفضّل! إلى هذه الحواسّ ـ التي خصّ بها الإنسان في خلقه ، وشرّف بها على غيره ـ كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء ، ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهنّ كاليدين والرجلين ، فتعرضها الآفات ، وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعلّلها ويؤثّر فيها وينقص منها ، ولا في الأعضاء التي هي وسط البدن كالبطن والظهر ، فيعسر تقلّبها واطلاعها نحو الأشياء ، فلمّا لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع ، كان الرأس أسنى المواضع للحواسّ وهو بمنزلة الصومعة لها ، فجعل الحواسّ خمسا تلقى خمسا لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات ، فخلق البصر ليدرك الألوان ، فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها ، لم يكن فيها منفعة ، وخلق السمع ليدرك الأصوات ، فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها ، لم يكن فيها أرب ، وكذلك سائر الحواسّ.

ثمّ هذا يرجع متكافئا ، فلو كان بصر ولم يكن ألوان ، لما كان للبصر معنى ، ولو كان سمع ولم يكن أصوات ، لم يكن للسمع موضع ، فانظر كيف قدّر بعضها يلقى بعضا ، فجعل لكلّ حاسّة محسوسا يعمل فيه ، ولكلّ محسوس حاسّة تدركه ، ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسّطة بين الحواسّ والمحسوسات لا تتمّ الحواسّ إلاّ بها كمثل الضياء والهواء ؛ فإنّه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون ، ولو لم يكن هواء يؤدّي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت ، فهل يخفى على من صحّ نظره وأعمل فكره أنّ مثل هذا الذي وصفت ـ من تهيئة الحواسّ والمحسوسات بعضها يلقى بعضا وتهيئة أشياء أخرتتم بها الحواسّ ـ لا يكون إلاّ بعمد وتقدير من لطيف خبير ».

٤٠٤

فذكر ما ينال فاقد البصر من الخلل ، وكذا فاقد السمع حتّى عدّه كالغائب وهو شاهد ، وكالميّت وهو حيّ ، فقال : « فأمّا من عدم العقل ، فإنّه يلحق بمنزلة البهائم ، بل يجهل كثيرا ممّا يهتدي إليه البهائم.

فساق الكلام إلى أن قال المفضّل : فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح ، فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟

قال عليه‌السلام : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحلّ ذلك به ولغيره بسببه كما قد يؤدّب الملوك الناس للتكميل والموعظة ، فلا ينكر ذلك عليهم ، بل يحمد من رأيهم ، ويصوّب من تدبيرهم ، ثمّ إنّ للذين ينزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت ـ إن شكروا وأنابوا ـ ما يستصغرون معه ما ينالهم منها ، حتّى أنّهم لو خيّروا بعد الموت ، لاختاروا أن يردّوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

فكّر يا مفضل! في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا ، وما في ذلك من الحكمة والتقدير ، والصواب في التدبير ، فالرأس ممّا خلق فردا ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد ، ألا ترى أنّه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر ، لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه ؛ لأنّ الحواسّ التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد.

ثمّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان ، فإن تكلّم من أحدهما ، كان الآخر معطّلا لا أرب فيه ولا حاجة إليه ، وإن تكلّم منهما جميعا بكلام واحد ، كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه ، وإن تكلّم بأحدهما بغير الذي تكلّم به من الآخر ، لم يدر السامع بأيّ ذلك يأخذ.

واليدان ممّا خلق أزواجا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة ؛ لأنّ ذلك كان يخلّ به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ، ألا ترى أنّ النجّار والبنّاء لو شلّت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته ، وإن تكلّف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان تتعاونان على العمل.

أطل الفكر يا مفضّل في الصوت والكلام وتهيئة الآلة في الإنسان ، فالحنجرة

٤٠٥

كالأنبوبة لخروج الصوت ، واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ، ألا ترى أنّ من سقطت أسنانه لم يقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة تشبه قصبة المزمار ، والرئة تشبه الزقّ الذي ينفخ فيه ليدخل الريح ، والعضلات ـ التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت ـ كالأصابع التي تختلف في فم المزمار ، فتصوغ صفيره ألحانا غير أنّه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإنّ المزمار في الحقيقة هو المشبّه بمخرج الصوت.

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف ، وفيها ـ مع الذي ذكرت لك ـ مآرب أخرى.

فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروّح عن الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو احتبس شيئا يسيرا ، لهلك الإنسان.

وباللسان تذاق الطعوم ، فيميّز بينها ، ويعرف كلّ واحد منها : حلوها من مرّها ، وحامضها من مزّها ، ومالحها من عذبها ، وطيّبها من خبيثها ، وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب.

والأسنان تمضغ الطعام حتّى يلين ويسهل إساغته وهي مع ذلك كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم ؛ واعتبر ذلك أنّك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها.

وبالشفتين يترشّف الشراب حتّى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثجّ ثجّا ، فيغصّ به الشارب ، أو ينكأ في الجوف ، ثمّ هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء ، ويطبقهما إذا شاء ففيما وصفنا من هذا بيان أنّ كلّ واحد من هذه الأعضاء ينصرف وينقسم إلى وجوه من المنافع » (١).

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٣ : ٦٢ ـ ٧٢.

٤٠٦

ثمّ ذكر فوائد أخرى كجعل منافذ البول والغائط أشراجا تضبطهما ؛ لئلاّ يجريا جريانا دائما ، فيفسد على الإنسان عيشه ، وجعل الكبد رقيقة ناعمة ؛ لقبول الصفو اللطيف من الغذاء ، وجعل المخّ الرقيق ؛ لحفظ العظام ، والدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف ؛ لضبطه فلا يفيض ، وجعل الأظفار على أطراف الأصابع ؛ وقاية لها ومعونة على العمل ، وجعل داخل الأذن ملتويا كهيئة الكواكب ليطّرد فيه الصوت حتّى ينتهي إلى السمع ولينكسر حمّة الريح فلا ينكأ في السمع ، وجعل اللحم على فخذي الإنسان ليقيه من الأرض فلا يتألّم من الجلوس عليها كما يتألّم من نحل جسمه وقلّ لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يقيه صلابتها ، وجعل مخرج الغائط موضعا مستورا بالفخذين والأليتين ، وخلق الشعر والأظفار ليخرج آلام البدن بخروجهما ، ولذلك أمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقصّ الأظفار في كلّ أسبوع ، ليسرع الشعر والأظفار في النبات ليخرج الآلام بخروجها ، وجعلهما عديمي الحسّ ؛ لئلاّ يؤلم الإنسان الأخذ منها ، وجعل الشبق ليقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، وخلق الجاذبة لقبول الغذاء وإيراده على المعدة ، والممسكة لحبس الطعام حتّى تفعل فيه الطبيعة فعلها ، والهاضمة لطبخه واستخراج صفوه ، والدافعة لدفع الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ، وإعطاء الفكر والوهم والعقل والحفظ (١) وغير ذلك (٢) ممّا لا يصدر إلاّ من مدبّر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إيّاها ، لا يعجزه شيء وهو اللطيف الخبير.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ٣ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٢) كخلق الحبّ لطعامه ، والوبر لكسوته ، والشجر لثمرته ، وتدبير الأمر في الماء والخبز اللذين هما رأسا معاش الإنسان سيّما الماء ؛ فإنّ حاجة الإنسان إليه أكثر ؛ لأنّه يحتاج إليه في شربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه ، فجعل الماء مبذولا لا يشترى لتسقط عن الإنسان المئونة في طلبه وتكلّفه ، وجعل الخبز متعذّرا لا ينال إلاّ بالحيلة والحركة ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفّه عمّا يخرجه إليه الفراغ من الاشتراء والعبث كمنع المعلّم الصبيّ عنهما وغير ذلك ممّا فيه المصلحة بتدبير الحكيم. منه ( دام ظلّه العالي ).

٤٠٧

ومثل ذلك ما يدلّ على أنّ السماء كالسقف مرفوعة ، والأرض كالبساط ممدودة ، والنجوم كالمصابيح منضودة ، والجواهر كالذخائر مخزونة ، وضروب النبات لمآربه مهيّأة ، وصنوف الحيوان في منافعه ومصالحه مصروفة ، وأنواع العوالم بتقدير ونظام وحكمة متلائمة ، فقد خلق البيضة مشتملة على الذهبة المائعة والفضّة الذائبة فلا الذهبة تختلط بالفضّة ، ولا الفضّة تختلط بالذهبة يخرج منها الطواويس وسائر الطيور من الإناث والذكور.

إلى غير ذلك كبعض فقرات بعض خطب مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام المذكورة في نهج البلاغة ؛ حيث قال عليه‌السلام : « [ ثمّ أنشأ ـ سبحانه ـ ] فتق الأجواء ، وشقّ الأرجاء ، وسكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطما [ تيّاره ]. حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة ، فأمرها بردّه ، وسلّطها على شدّه ، وقرنها إلى حدّه ، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق.

ثمّ أنشأ ـ سبحانه ـ ريحا اعتقم مهبّها ، وأدام مربّها ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار ، وإثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء ، وعصفت به عصفها بالفضاء ، حتّى عبّ عبابه ، ورمى بالزبد ركامه ، فرفعه في هواء منفتق وجوّ منفهق ، فسوّى منه سبع سماوات ، جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا ، وعلياهنّ سقفا محفوظا ، وسمكا مرفوعا.

ثمّ زيّنها بزينة الكواكب وضياء الثوابت ، وأجرى فيها سراجا مستطيرا ، وقمرا منيرا ، وجعل فيها الملائكة السفرة ، الكرام البررة.

ثمّ جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتّى لزبت ، فجعل منها صورة ذات أجزاء ووصول ، وأعضاء وفصول ، أجمدها حتّى استمسكت ، وأصلدها حتّى صلصلت.

ثمّ نفخ فيها من روحه ، فجعلها إنسانا ، وجعل له أذهانا وأركانا ولسانا وجوارح وحواسّ وعقولا يفرق بها بين الحقّ والباطل ، والملائم والمنافر ، وصفة

٤٠٨

الكمال والنقص ، فأمر الملائكة بالسجود له ، فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.

ثمّ أسكن آدم دارا أرغد فيها عيشه وحذّره إبليس وعداوته ، فاغترّه عدوّه ، ثمّ ندم فتقبّل توبته ، ثمّ اصطفى من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة زمامهم إلى أن بعث خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ اختار له من المعصومين أوصياءهم حفظة شريعته وكواشف ملّته مبيّنين للحلال والحرام ، والفرائض والأحكام كوجوب الصلاة والصيام والزكاة وحجّ البيت الحرام ، واختار من خلقه سمّاعا أجابوهم وصدّقوهم » (١).

ونحو ذلك من الأغراض العائدة إلى العباد في الآخرة بسبب المعرفة والطاعة كنعم الجنّة وتزويج المؤمن ثمانمائة عذراء وأربعة آلاف ثيّبات وزوجتين من الحور العين يرى مخّ ساقها من وراء سبعين حلّة كبدها مرآته وكبده مرآتها (٢).

ومثل ذلك ما فيه بيان كيفيّة خلق العالم وآدم وبني آدم ، ومفاده : أنّ الله خلق من نور عظمته ـ بعد أن كان ولم يكن شيء ـ نور محمّد وعليّ وذرّيّتهما المعصومين قبل الخلق بألفي عام أو أزيد على الاختلاف ، وكان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل النبيّين ميثاقا ؛ ولهذا صار أفضلهم وخاتمهم وآخرهم مبعثا ، وأنّ نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسبّح الله قبل خلق آدم بألف عام ، وأنّه تعالى خاطبه بأنّك مقصودي من خلق العالم ، ولولاك لما خلقت الأفلاك ، فسطع نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخلق منه اثنا عشر حجابا : حجاب القدرة والعظمة والعزّة والهيبة والجبروت والرحمة والنبوّة والكبرياء والمنزلة والرفعة والسعادة والشفاعة ، فدخل نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ حجاب ، فسبّح الله سنين كثيرة ، فغاص في بحر العزّة

__________________

(١) « نهج البلاغة » : ١٥ ـ ٢٠ ، الخطبة الأولى. بتفاوت.

(٢) « تفسير علي بن إبراهيم » ٢ : ٨٢ ، ذيل الآية ١٩ من سورة الحجّ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٨ : ١٢٠ ـ ١٢٢ ، ح ١١. وراجع « ثواب الأعمال وعقاب الأعمال » : ١٤٨ ـ ١٤٩ باب ثواب قراءة سورة الإنسان ، ح ١ ، وعنه في « بحار الأنوار » ٨ : ١٩٢ ، ح ١٧١ ـ ١٧٢.

٤٠٩

ونحوها فخرج من البحار ، فنضح منه صلى‌الله‌عليه‌وآله مائة وعشرون وأربعة آلاف قطرة ، فخلق من كلّ قطرة نبيّا ، وكان أنوار النبيّين يطوفون حول نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تسبيحه لله ، فخلق من نوره صلى‌الله‌عليه‌وآله جوهرا فنصّفه ، فنظر إلى أحد النصفين نظر الهيبة ، فصار ماء عذبا حلوا ، ونظر إلى الآخر ، فخلق منه العرش ، وخلق من نور العرش الكرسيّ ، ومن نور الكرسيّ اللوح ، ومن نور اللوح القلم ، فأمر القلم أن يكتب فدهش وبعد التجلّي كتب بأمره تعالى : لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، فسأل : يا ربّ! من محمّد الذي قرنت اسمه باسمك؟ فأوحى الله إليه : أنّه من لولاه لما خلقت الخلق ، فسلّم عليه القلم ، فردّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه‌السلام ؛ ولهذا صار جواب السلام واجبا ، فخرج من الماء بخار ، فخلق منه السماوات ، وخلق من زبده الأرض والجبال لتسكن الأرض ، وخلق ملكا وحجرا عليه الملك ، وبقرا عليه الحجر ، وحوتا عليه البقر ، فنوّر العرش بنور الفضل والعدل ، فخلق من نور محمّد الشمس والقمر والنجوم ، فأمر جبرئيل أن ينزل إلى الأرض ليقبض طينا ليخلق به آدم فسبق إبليس ، فقال : إنّ الله يريد أن يخلق منك خلقا يعذّبه بالنار ، فاستعذي بالله واستغيثي به ، ففعلت كذا ، فرجع جبرئيل ، فأمر ميكائيل ، ففعل كما فعل جبرئيل ، وكذا إسرافيل.

ولمّا أمر عزرائيل ، أخذ ـ حذرا عن ترك الامتثال ـ من وجه تمام الأرض من الأبيض والأسود ونحوهما ؛ ولهذا اختلفت ألوان بني آدم ، فخلق من تلك الطينة آدم ، فأمر الملائكة بالسجود له بعد نفخ الروح ، فنفخ روحه كرها إلى الدماغ فعطس ، فقال بإقداره : الحمد لله ، فقال الله : رحمك الله ، فلمّا وصل الروح إلى ساقه أراد أن يقوم فما تمكّن ، ثمّ نفخ إلى أقدامه فجلس ، فسجد الملائكة كلّهم إلاّ إبليس ، ثمّ نام آدم ، فخلق من فضل طينته حوّاء ، فلمّا استيقظ مال إليها ، فقال الله تعالى : اخطبها ، فزوّجها الله تعالى إيّاه ، وجعل مهرها أن يصلّي على محمّد وآله عشر مرّات ، فقال لها : أقبلي إليّ ، فقالت : بل أنت ، فأمر الله تعالى آدم أن يقوم إليها ، فقام فغشيها ، فولد قابيل وهابيل ، فلمّا قتل قابيل هابيل ـ من جهة إرادة تفويض أمر الوصيّة إلى هابيل

٤١٠

مع كونه أصغر ، لا من جهة إرادة تزويج أخت كلّ من الآخر ، كما عن العامّة ـ جزع عليه جزعا قطعه عن إتيان النساء فلم يستطع أن يغشى حوّاء خمسمائة عام ، ثمّ تجلّى ما به من الجزع فغشي حوّاء ، فوهب الله له شيثا يقال له : هبة الله وهو أوّل وصيّ أوصي إليه من الآدميّين في الأرض ، ثمّ ولد له يافث ، ثمّ أنزل الله بعد إدراكهما بعد العصر يوم الخميس حوراء من الجنّة اسمها نزل ، فأمر الله أن يزوّجها من شيث فزوّجها منه ، ثمّ أنزل بعد العصر من الغد حوراء أخرى من الجنّة اسمها منزلة ، فأمر الله أن يزوّجها من يافث فزوّجها منه ، فولد لشيث غلام ، وليافث جارية ، فأمر الله بعد إدراكهما أن يزوّج ابنة يافث من ابن شيث ، ففعل ، وهكذا فعل لا بني آخرين من آدم ، ثمّ رفعهنّ الله وزوّج هؤلاء الأربعة أربعة من الجنّ ، فصار النسل منهم بتزويج بنات العمّ من أبناء العمّ ، لا من تزويج بناته من بنيه ، كما عن العامّة ؛ لجريان القلم على تحريم الأخوات على الإخوة في جميع الشرائع ، فبثّ رجالا كثيرا ونساء ، فما كان من حلم فمن آدم ، وما كان من جمال فمن الحور ، وما كان من قبح أو سوء الخلق فمن الجنّ (١).

ولا يخفى أنّ ذلك أيضا يدلّ على أنّ إيجاد الخلق معلّل بالغرض العائد إلى الخلق ؛ لحصول (٢) الرئاسة للنبيّ وإطاعتنا له ، وتحقّق الجسم للإنسان ونحو ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل.

وبالجملة ، فالعقل والنقل متطابقان على أنّ أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض والفوائد العائدة إلى العباد ، ولكن لمّا كان ذلك منافيا لما ذهب إليه الأشاعرة (٣) ـ من أنّه تعالى مريد لكلّ ما هو كائن حسنا كان أم قبيحا ، فعلا كان أم تركا ؛ لعدم (٤) الفائدة

__________________

(١) « تفسير علي بن إبراهيم » ١ : ٣٦ ـ ٤٢ ؛ « بحار الأنوار » ٤ : ٢٥ وما بعدها ؛ و ١١ : ٩٩ ـ ٢٤٦ و ١٥ : ٣ ـ ٣٨.

(٢) كذا في النسخ. ولا يعلم لقوله : « لحصول ـ إلى قوله ـ المتأمّل » معنى محصّل.

(٣) « المحصّل » : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ؛ « الأربعين في أصول الدين » ١ : ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٧٣ ـ ١٧٩ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٢٧٤ ـ ٢٨١.

(٤) تعليل للمنافاة.

٤١١

في فعل القبيح وترك الحسن ، والأمر بغير المراد ، والنهي عن المراد كما (١) روي مرفوعا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن (٢) ـ أشار المصنّف رحمه‌الله إلى جوابه بما اختاره وفاقا للمعتزلة (٣) من أنّه تعالى لا يريد القبيح سواء وقع أم لا ، ويريد الحسن سواء وقع أم لا. واحتجّ عليه بقوله :

( وإرادة القبيح قبيحة ، وكذا ترك إرادة الحسن ، والأمر والنهي (٤) ) بمعنى أنّ الله تعالى كما لا يفعل القبيح ، كذلك لا يريد القبيح ؛ لقبح ذلك ، وأنّه تعالى كما لا يترك الحسن ، كذلك لا يريد تركه ؛ لقبح ذلك.

وأيضا أنّه تعالى أمر الكافر بالإيمان ونهاه عن الكفر ، فلو لم يكن إيمانه مرادا ، لكان الأمر به قبيحا ، ولو لم يكن كفره مكروها ، لكان النهي عنه قبيحا ، فقوله : « والأمر » عطف على قوله : « ترك » بمعنى أنّ الأمر الحقيقي بغير المراد أيضا قبيح ، وكذا النهي عن المراد أيضا قبيح ، وقبح ذلك كلّه ببداهة العقل ، فلا حاجة إلى الدليل ، فلا يتوجّه أنّه تصرّف في ملكه حيث شاء ، وكذا المنع بأنّه ربّما لا يكون غرض الآمر الإتيان بالمأمور ، كما إذا أمر العبد امتحانا بأنّه هل يطيعه أم لا ؛ فإنّه لا يريد شيئا من الطاعة والعصيان ، واعتذارا (٥) عن ضربه بأنّه لا يطيعه فإنّه يريد منه العصيان ، وكالمكره على الأمر بنهب أمواله ، وكذا النهي.

والأولى أن يقال : إنّ الإرادة على قسمين : تكوينيّة وتكليفيّة. والإرادة التكوينيّة متعلّقة بكلّ كائن ولو بإعطاء الأسباب ، والإرادة التكليفيّة لا تتعلّق

__________________

(١) استدلال لمسلك الأشاعرة.

(٢) « الأمالي » للصدوق : ٣٩٥ ، المجلس ٧٤ ، ح ١ ؛ ونقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في « الخصال » : ٦٣١ ، ح ١٠ ؛ « عدّة الدّاعي » : ٢٨٢.

(٣) « المحصّل » : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ١٧٣ ـ ١٧٩ ؛ « شرح الأصول الخمسة » : ٤٣١ وما بعدها.

(٤) في « شرح تجريد العقائد » : ٣٤٠ أورد المتن بهذه الصيغة : « ... وكذا ترك إرادة الحسن قبيح ، وكذا الأمر بما لا يراد قبيح والنهي عمّا يراد أيضا قبيح ».

(٥) كذا في النسخ ، والصحيح ـ كما عليه القوشجي ـ : « أو اعتذارا ».

٤١٢

بما ذكر ؛ لما ذكر.

واحتجّ الأشاعرة على أنّ الله يريد القبائح بأنّه تعالى فاعل لكلّ موجود ، ومن جملة الموجودات القبائح ، فيكون مريدا لها ؛ ضرورة أنّ الإرادة هي الصفة لأحد طرفي المقدور ، والله هو المرجّح ؛ إذ لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله.

( و ) أجاب المصنّف ـ وفاقا للمعتزلة ـ عن هذا الدليل بأنّ ( بعض الأفعال مستندة إلينا ) بمعنى أنّا لا نسلّم أنّ الله تعالى فاعل لكلّ موجود بلا واسطة ؛ لكون بعض الأفعال مستندة إلينا بالضرورة كما سيأتي.

واحتجّوا على أنّ إرادة الله غير متعلّقة بما ليس بكائن بأنّه تعالى لو أراد الإيمان من الكافر والطاعة من العاصي ـ وقد صدر الكفر من الكافر ، والمعصية من العاصي ـ لزم أن لا يحصل مراد الله ، ويحصل مراد الكافر والعاصي ، فيلزم أن يكون الله تعالى مغلوبا ، والكافر والعاصي غالبين عليه.

( و ) أجاب المصنّف بأنّ ( المغلوبيّة غير لازمة ) لأنّ الله تعالى لم يرد الإيمان والطاعة مطلقا ـ ولو إجبارا ـ حتّى يلزم المغلوبيّة بسبب عدم وقوع مراده تعالى ، بل أرادهما على سبيل الاختيار وإرادة المكلّف ، ولا مغلوبيّة له تعالى في عدم الوقوع حينئذ كما لا يخفى ؛ فإنّه من لوازم الاختيار الذي أعطاه الله عباده.

واحتجّوا أيضا بأنّ الله تعالى علم عدم وقوع الإيمان من الكافر ، والطاعة من العاصي ، وكلّ ما علم الله وقوعه وجب وقوعه ، وكلّ ما علم عدم وقوعه امتنع وقوعه ؛ لاستحالة انقلاب علمه تعالى جهلا ، والعالم باستحالة الشيء لا يريده البتّة ؛ لقبح إرادة المحال.

( و ) أجاب المصنّف ـ رحمه‌الله ـ بأنّ ( العلم تابع للمعلوم ) كما مرّ ، فلا يؤثّر في إمكان الفعل وامتناعه ، مضافا إلى أنّ الله تعالى كما كان عالما بالعدم ، كذلك كان عالما بأنّه باختيار المكلّف ، فلو لم يكن مختارا لزم كون علمه تعالى جهلا ، وحيث كان مختارا جاز تعلّق إرادته تعالى.

٤١٣

وصل

هذا الاعتقاد أيضا من أصول المذهب الجعفريّ ، وصاحب المذهب من منكره بريء ولكنّه طاهر ظاهريّ.

المقام الرابع :

في أنّ الله تعالى خلق العباد مع القدرة والاختيار من غير تفويض وإجبار في أفعالهم الاختياريّة ، بمعنى أنّ الله تعالى أوجد العباد على وجه الاعتدال وكونهم قادرين على الفعل والترك على وجه الأمر بين الأمرين بجعلهم قادرين ومختارين بالاختيار المستند إلى اختياره تعالى ، واحتياجهم في اختيارهم ـ حين اختيارهم ـ إليه تعالى ، فهو عادل في إيجادهم كسائر أفعاله تعالى ، فأمرهم في أفعالهم الاختياريّة ليس على وجه الجبر ولا التفويض ، بل يكون الأمر بين الأمرين. وتكون العلّة مركّبة في البين من العلّة البعيدة والقريبة ، بمعنى أنّ إعطاء الأسباب وإبقاءها من الربّ ، ومباشرة العبد بالاختيار المستند إلى اختياره تعالى علّة تامّة لحصول الأفعال الاختياريّة للعباد.

وحيث كان التركيب اعتباريّا في مقام الفعل التكوينيّ لا التكليفيّ لا يلزم الحلول والاتّحاد وتعذيب الشريك القويّ للشريك الضعيف ؛ لأنّ التعذيب باعتبار الاختيار والمباشرة ممنوعة في مقام التكليف ، لا التكوين ، ولا نحو ذلك. وحيث كان العلّيّة في مقام الفعل بجعل مسبّب الأسباب ، لا يكون كونها ناقصة مستلزما للنقص في الواجب كما لا يخفى ، فيصحّ كون الأمر بين الأمرين.

اعلم أنّ في الأفعال الاختياريّة للعباد ثلاثة مذاهب :

الأوّل : مذهب الأشاعرة ، وهو القول بالجبر.

٤١٤

والثاني : مذهب المعتزلة ، وهو القول بالتفويض.

والثالث : مذهب الإماميّة ، وهو نفي الجبر والتفويض ، والقول بالأمر بين الأمرين ، وهذا أيضا مذهب الحكماء على ما حكي عنهم.

فالأشاعرة يقولون : إنّ فعل العبد ليس باختياره ، بل هو مخلوق لله وحاصل من إرادته بلا واسطة إرادة العبد ، بل إرادة العبد مقارنة للفعل من غير أن يكون لها مدخليّة في صدوره ، وتلك المقارنة تسمّى كسبا عندهم ، ويفرّقون بين الاختياريّ والاضطراريّ ـ كحركة المرتعش ـ بمجرّد المقارنة في الأوّل دون الثاني ، فعلى هذا يكون العبد مجبورا في أفعاله عندهم ؛ تمسّكا بظاهر قوله تعالى : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (١) ونحو ذلك.

وفساد هذا المذهب في غاية الظهور ؛ لاستلزامه كون التكليف عبثا ، بل قبيحا ، وبطلان الثواب والعقاب ، بل قبح العقاب سيّما عذابه الذي يقول في وصفه في كلامه : ( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار ، بل لو كان له شركة ما ، لكان ذلك قبيحا أيضا ؛ لكون ذلك ظلما وهو تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرّة كما نطقت به الآيات والأخبار ، وانعقد عليه الإجماع ، وكون الزاني واللائط والسارق والمفسد والمكذّب للرسل وقاتل الأنبياء والأوصياء والأولياء وغير ذلك من الفواحش والقبائح هو الله ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، فينسدّ إثبات باب النبوّة والشرع.

فإن قلت : استحالة صدور ما ذكر عنه تعالى بلا واسطة مسلّمة ، وبواسطة الآلة ممنوعة.

قلت : منشأ الاستحالة إن كان هو القبح العقليّ فهو عامّ مع أنّهم لا يقولون به ، وإن

__________________

(١) الصافّات (٣٧) : ٩٦.

(٢) النساء (٤) : ٥٦.

٤١٥

كان الذات فهو أيضا عامّ ، وإن كان هو العلم بعادة الله ، ففيه أنّه إذا كان عادته المستمرّة هي الفواحش كالخديعة والكذب ، فكيف يمكن دعوى العلم بخلافه ، وأنّه هو عادته؟! هذا مضافا إلى أنّه لا شبهة في أنّ الأشاعرة محسّنون ومادحون لمن أحسن إليهم ، وذامّون لمن أساء بهم ، فإن كان فاعل الإحسان والإساءة هو الله فلا وجه للذّمّ والتوبيخ والعتاب ، بل لا يقبلون اعتذار فاعل السيّئة بأنّي ما فعلته ، ولهذا لو سبّ أحد الشيخين ، أو وجد فيه علامة الرافضة يضربونه ، بل يقتلونه ويأسرونه ويحكمون بكفره وجواز أسره وبيعه وشرائه كسائر الوثاق ، فلو كان فاعل ذلك هو الله لما كان لذلك وجه.

وبالجملة ، فالمواضع التي لا محيص لهم عن الإنكار في إسناد الفعل إلى العبد ومذمّته أكثر من أن تحصى ، كمن قصّر في حفظ ماله ، أو أتلفه عبثا ، أو نحو ذلك.

وأيضا نعلم بالوجدان ـ بل الضرورة والعيان ـ أنّا نقدر أن نضرب أحدا ، وأن لا نضربه ونحو ذلك بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا لم نفعل ، وإنكار ذلك تكذيب الوجدان والضرورة.

وبالجملة ، فالقول بالجبر مناف لبعث الرسل وإتمام الحجّة وبسط التكاليف والوعد والوعيد والمبالغة فيهما وفي التبليغ والاهتمام التامّ في الإرشاد والهداية والموعظة والنصيحة والجدّ والجهد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود والقصاص والديات ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

وكذا البناء على التقصير وعدمه ، والتفرقة بين المعذور وغيره ، والفرق بين العمد والنسيان ، والخطأ والغفلة ، والغرور والجهل ، والاختيار والاضطرار ونحو ذلك.

وكذا كون المباشر في أكثر الصور أقوى ، والسبب في بعضها أقوى وأمثاله.

وكذا لا يكون لقوله تعالى : ( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١)

__________________

(١) النحل (١٦) : ١١٨.

٤١٦

وقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (١) و ( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٢) ( أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى ) (٣) ونحو ذلك معنى وهي لكثرتها تأبى عن وصول يد التأويل إليها.

فإن قلت : قد ورد في الآيات والأخبار ما يقتضي القول بالجبر كالآية المذكورة ونحوها من الآيات والأخبار والأدعية.

قلت أوّلا : إنّها لا تدلّ إلاّ على إسناد (٤) أفعال العباد إلى الله تعالى في الجملة ، وهي أعمّ من الاستناد على وجه التأثير بلا واسطة ، والاستناد على وجه التأثير بواسطة ، والمرجعيّة والمفيد هو الأوّل لا الثاني ، والعامّ لا دلالة له على خصوص بعض الأفراد.

وثانيا : إنّها ـ لمعارضتها الأدلّة العقليّة والنقليّة الكثيرة التي لا حصر لها ـ لا بدّ من تأويلها بخلاف ما ذكرنا ؛ فإنّها ـ مع عدم وجود الداعي على تأويلها ، بل وجود الداعي على إبقائها على ظواهرها ـ لا يصل إلى أكثرها يد التأويل ، مضافا إلى أنّ قدرته تعالى عامّة ، فيقدر على خلق مخلوق قادر وإن كان قدرته مستندة إليه تعالى ، فالمقتضي ـ وهو عموم قدرته ـ موجود ، والمانع مفقود ، فلا بدّ من خلق مخلوق قادر.

فإن قلت : إنّه تعالى لمّا كان في الأزل عالما بفعل العبد ، فلو كان العبد قادرا بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لزم كون علمه تعالى جهلا في صورة عدم الفعل ، فهو المانع عن كون العبد مختارا.

قلت : هذا مردود بالنقض والحلّ.

__________________

(١) العصر (١٠٣) : ٢.

(٢) الأنعام (٦) : ١٦٤ ؛ الإسراء (١٧) : ١٥ ؛ فاطر (٣٥) : ١٨ ؛ الزمر (٣٩) : ٧.

(٣) النجم (٥٣) : ٣٩.

(٤) في « أ » : « استناد ».

٤١٧

أمّا النقض فبأفعاله تعالى ؛ لأنّه تعالى عالم بأنّه يفعل في الاستقبال فعلا خاصّا ، فلو كان في ذلك الفعل عند إيجاده مختارا قادرا على الفعل والترك ، لزم صيرورة علمه جهلا في صورة الترك ، وكذا العلم الحاصل من عادة الله الذي يستدلّون به ، ولا يجوّزون التخلّف فيه ، فما هو جوابك فهو جوابنا.

وأمّا الحلّ فبأنّ علمه تعالى في الأزل حاصل بأنّ المعلوم الفلانيّ فيما لا يزال يتحقّق ، فالعلم يطابق المعلوم ، بمعنى أنّ العبد لمّا يكون فيما لا يزال فاعلا للفعل الخاصّ بالاختيار ، علم تعالى في الأزل ذلك ، لا أنّه لمّا علمه ، صار كذا ، بل لمّا كان كذا ، علمه ، مضافا إلى أنّه تعالى يكون في الأزل عالما بفاعليّة الفاعل واختياره معا ، فلو لم يكن مختارا ، لزم كون علمه تعالى جهلا.

فإن قلت : لعلّ المانع أمر آخر وهو أنّ فعل العبد إن كان لازم الصدور ، فلا يكون اختياريّا ، وإن كان ممّا يجوز صدوره وعدمه ، فإن افتقر إلى مرجّح ، فمع المرجّح يعود التقسيم بأنّه إن كان لازما فاضطراريّ ، وإلاّ احتاج إلى مرجّح آخر ، ولزم التسلسل ، وإن لم يفتقر إلى مرجّح ، بل يصدر منه تارة ولا يصدر أخرى من دون مرجّح في الحالين وصدور أمر من الفاعل ، فهو اتّفاقي ، فلا يكون اختياريّا أيضا.

قلت : هذا أيضا مردود بالنقض والحلّ.

أمّا النقض فبأفعال الواجب.

وأمّا الحلّ فباختيار الشقّ الثاني من الترديد الأوّل ، والشقّ الأوّل من الترديد الثاني.

ودفع الإيراد بأنّ المرجّح هو الإرادة المسبّبة عن وجود المصلحة ونحوها ، وحينئذ يكون لازما ، ولكنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

على أنّ هاتين الشبهتين على تقدير تماميّتهما لا تنفعان الأشاعرة ؛ لأنّ مقتضاهما كون العبد غير مختار ، لا أنّ فعله فعله تعالى ، وأنّه ليس له فعل.

فإن قلت : لعلّهم يقولون : للعبد قدرة كاسبة.

٤١٨

قلت : إن لم يقولوا بتأثيرها فلا فائدة فيها ، وإن قالوا به ، يلزم بطلان مذهبهم ، مع أنّ الشنائع السابقة بحالها ؛ لأنّه تعالى هو الشريك الأقوى ، بل الفعل فعله تعالى على سبيل الاختيار لا الاضطرار ؛ إذ بمجرّد كسب العبد لا يصير ملجأ ومضطرّا إلى الفعل قطعا.

وبالجملة فما ذكرنا ممّا لا خفاء فيه على العاقل فضلا عن الفاضل.

وأمّا المعتزلة (١) ، فهم يقولون : إنّ العبد مستقلّ في إيجاد فعله بلا مدخليّة إرادة الواجب فيه. نعم ، إنّه تعالى جعله مختارا ، فيفعل باختياره مستقلاّ ، ولا يفعل كذلك ، ويقال له : التفويض ، بمعنى تفويض الله تعالى إرادة الفعل إلى العبد.

وهذا المذهب أيضا فاسد ؛ لأنّ ذات العبد وصفاته من الممكنات ، وقد بيّنّا أنّ الممكن يحتاج إلى الواجب في أصل الوجود وفي البقاء أيضا ، فهو عند الفعل محتاج في ذاته وفي قدرته وتأثيره وإرادته وسائر ما يصدر منه إلى الواجب ، ومع هذا فلا معنى للاستقلال.

وأيضا فعل العبد لا يوجد بدون المرجّح الموجب ؛ لامتناع الترجيح بلا مرجّح ، ولأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فالعلّة الموجبة إمّا ذات العبد بلا حاجة إلى أمر آخر ، أو مع الحاجة.

وعلى الأوّل يلزم امتناع تخلّف الفعل المعيّن من العبد ما دام موجودا سابقا ولاحقا ، وهو خلاف الواقع.

وعلى الثاني يبطل الاستقلال. وحيث بطل الجبر والتفويض يثبت كون الأمر بين الأمرين كما ورد : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (٢).

بيانه : أنّ كلّ فعل لا بدّ فيه ـ زيادة على ذات الفاعل ـ من أمر آخر ، وهو إرادته ،

__________________

(١) هذا قسيم لقوله في ص ٤١٥ : « فالأشاعرة ... ».

(٢) الكافي ١ : ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ... ح ١٣ ؛ « التوحيد » : ٣٦٢ باب نفي الجبر والتفويض ، ح ٨ ؛ « عيون أخبار الرضا » ١ : ١٢٤ ، الباب ١١ ، ح ١٧.

٤١٩

وحدوثها مستند إلى الحوادث المستندة إلى إرادة الحقّ ؛ لوجوب انتهاء سلسلة جميع الحوادث إلى الواجب ، فإرادة العبد علّة قريبة ، وإرادة الحقّ علّة بعيدة ، فالمباشرة من العبد والإقدار من الله تعالى ، فالأشاعرة قصروا أنظارهم إلى العلّة البعيدة ، فقالوا بالجبر ، والمعتزلة نظروا إلى مجرّد العلّة القريبة ، فمالوا إلى التفويض.

والحقّ أنّ وقوع الفعل موقوف على مجموع الإرادتين ، ولهذا يكون الأمر بين الأمرين.

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم الجبر أيضا ؛ لاستناد فعل العبد إلى ما ليس معلولا له ، بل يكون مستندا إلى الله تعالى ، ولا فرق بين إيجاد العبد فعلا بلا إرادة ، وبين إيجاده فعلا بواسطة إرادة ليس العبد مستقلاّ فيها ؛ لعدم إمكان التخلّف في الصورتين ، فلم يكن مختارا قادرا على الترك.

قلت : ما ذكرنا إيجاب بالاختيار لا إكراه وإجبار ، والإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛ لصدق أنّ العبد أراد وفعل ، وتلك الإرادة ممكنة صادرة منه بنفسها لا بإرادة أخرى ، كما أنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، وبعد حصولها المستند إلى الواجب بالأخرة يكون الفعل ممتنع الترك ، فيكون الإيجاب بالاختيار الذي لا ينافي الاختيار ؛ إذ الإيجاب المنافي له هو الإيجاب بالطبع كإحراق النار ، والجبر إنّما يتحقّق لو لم يكن لإرادة العبد مدخليّة في الفعل حتّى يكون اضطراريّا ؛ إذ لا يصدق حينئذ أنّ العبد شاء وفعل ، ولا أقلّ من أنّه شاء وفعل غيره ، وهذا ينافي كون الفعل مع المشيّة ، الذي هو معنى اختياريّته.

ولو سلّم أنّ إرادة العبد واجبة الحصول ؛ لاستنادها إلى إرادة الله الواجبة ، نقول أيضا : إنّ وجوب الإرادة المستلزم لوجوب الفعل أيضا لا ينافي الاختيار ؛ إذ المعتبر في القدرة والاختيار كون الفعل جائز الترك على تقدير عدم الإرادة وإن كان ذلك العدم ممتنعا ، وليس المعتبر كون الإرادة أيضا مقدورة ، فحيث كان فعل العبد بإرادته يكون اختياريّا وإن لم تكن الإرادة اختياريّة ، بخلاف ما إذا لم يكن لإرادته

٤٢٠