البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

في الأزل ـ على أن يكون الأزل قيدا للاتّصاف ـ ليلزم جواز أزليّة الحادث.

ولا خفاء في أنّ المحال جواز أزليّة الحادث بمعنى إمكان أن يوجد في الأزل لا أزليّة جوازه ، بمعنى أن يمكن في الأزل وجوده في الجملة.

وهذا كما يقال : إنّ قابليّة الإله لإيجاد العالم متحقّقة في الأزل ، بخلاف قابليّته تعالى لإيجاد العالم في الأزل أي يمكن في الأزل أن يوجده ، ولا يمكن أن يوجده في الأزل ، ومعنى الكلام أن يعتبر الحادث بشرط الحدوث ، وإلاّ فلا خفاء في إمكان وجوده في الأزل.

الرابع : أنّه لو جاز اتّصافه بالحادث لزم عدم خلوّه عن الحادث ، فيكون حادثا ؛ لما سبق من أنّ كلّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

أمّا الملازمة ، فلوجهين :

أحدهما : أنّ المتّصف بالحادث لا يخلو عنه وعن ضدّه ، وضدّ الحادث حادث ؛ لأنّه ينقطع عن الحادث ، ولا شيء من القديم كذلك ؛ لما تقرّر من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وثانيهما : أنّه (١) لا يخلو عنه وعن قابليّته وهي حادثة ؛ لما مرّ من أنّ أزليّة القابليّة تستلزم جواز أزليّة قابليّة المقبول ، فيلزم جواز أزليّة الحادث ، وهو محال.

وكلا الوجهين ضعيف :

أمّا الأوّل ، فلأنّه إن أريد بالضدّ ما هو المتعارف ، فلا نسلّم أنّ لكلّ صفة ضدّا ، وأنّ الموصوف لا يخلو عن الضدّين ، وإن أريد مجرّد ما ينافيه وجوديّا كان أو عدميّا حتّى أنّ عدم كلّ شيء ضدّ له ويستحيل الخلوّ عنهما ، فلا نسلّم أنّ ضدّ الحادث حادث ؛ فإنّ القدم والحدوث إن جعلا من صفات الموجود خاصّة ، فعدم الحادث قبل وجوده ليس بقديم ولا حادث ، وإن أطلقا على المعدوم أيضا باعتبار كونه غير مسبوق بالوجود ، أو مسبوقا به ، فهو قديم ، وامتناع زوال القديم إنّما هو في

__________________

(١) أي المتّصف بالحادث.

٣٠١

الموجود ؛ لظهور زوال العدم الأزلي لكلّ حادث.

وأمّا الثاني ، فلأنّ القابلية اعتبار عقليّ معناه إمكان الاتّصاف ، ولو سلّم فأزليّتها إنّما تقتضي أزليّة جواز المقبول ـ أي إمكانه ـ لا جواز أزليّته ليلزم المحال ، وقد عرفت الفرق.

واحتجّ الخصم بوجوه :

الأوّل : الاتّفاق على أنّه تعالى متكلّم سميع بصير ، ولا يتصوّر هذه الأمور إلاّ بوجود المخاطب والمسموع والمبصر وهي حادثة ، فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته تعالى.

وأجيب بأنّ الحادث متعلّق تلك الصفات ، وأنّه إضافة يجوز تجدّدها.

الثاني : أنّ المصحّح للقيام به تعالى إمّا كونه صفة ، فيعمّ هذا المصحّح الحادث ، أو كونه صفة مع وصف القدم ، وهو كونه غير مسبوق بالعدم ، وأنّه [ سلب ] لا يصلح جزءا للمؤثّر في الصحّة ، فتعيّن الأوّل ، فيصحّ قيام الصفة الحادثة به.

والجواب منع الحصر ؛ لجواز أن يكون المصحّح حقيقة الصفة القديمة المخالفة لحقيقة الصفة الحادثة ، فلا يلزم اشتراك الصحّة.

ولو سلّم فيجوز أن يكون القدم شرطا أو الحدوث مانعا.

الثالث : أنّه تعالى صار خالقا للعالم بعد ما لم يكن وصار عالما ؛ لأنّه وجد بعد أن كان عالما بأنّه سيوجد ، فقد حدث فيه صفة الخالقيّة وصفة العلم.

وأجيب بأنّ التغيّر في الإضافات ؛ فإنّ العلم صفة حقيقيّة ، لها تعلّق بالمعلوم يتغيّر ذلك التعلّق بحسب تغيّره ، والخالقيّة من الصفات الإضافيّة ، أو من الحقيقيّة والمتغيّر تعلّقها بالمخلوق لا نفسها.

وقالت الكراميّة : أكثر العقلاء يوافقوننا في قيام الصفة الحادثة بذاته تعالى وإن أنكروه باللسان ؛ فإنّ الجبائيّة قالوا : إنّ الإرادة والكراهة حادثتان لا في محلّ ، لكنّ المريديّة والكارهيّة حادثتان في ذاته تعالى ، وكذا السامعيّة والمبصريّة تحدث

٣٠٢

بحدوث المسموع والمبصر.

وأبو الحسين يثبت علوما متعدّدة. والأشعريّة يثبتون النسخ ، وهو إمّا رفع الحكم القائم بذاته تعالى ، أو انتهاؤه ، وهما عدم بعد الوجود ، فيكونان حادثين.

والفلاسفة قالوا بوجود الإضافات مع عروض المعيّة والقبليّة المتّحدتين لذاته تعالى.

وأجيب بأنّ التغيّر في الإضافات وهو جائز كما ذكرنا آنفا ، وتحرير محلّ النزاع أنّ الصفات على ثلاثة أقسام :

حقيقيّة محضة كالحياة ، وحقيقيّة ذات إضافة كالعلم والقدرة ، وإضافيّة محضة كالمعيّة والقبليّة ؛ وفي عدادها الصفات السلبيّة.

ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغيّر في القسم الأوّل مطلقا. وأمّا القسم الثاني ، فإنّه لا يجوز التغيّر في نفسه ويجوز في تعلّقه.

أقول : الأدلّة المذكورة لو تمّت لدلّت على امتناع التغيّر في صفاته مطلقا أي من أيّ قسم كان ، وتخصيص الدعوى مع عموم الأدلّة خطأ.

( و ) يدلّ على نفي ( الحاجة ) أيضا يعني واجب الوجود لا يكون محتاجا في وجوده وفيما يتوقّف عليه وجوده إلى أمر غير ذاته ، وإلاّ لم يكن واجبا لذاته.

( و ) يدلّ على نفي ( الألم مطلقا ) يعني سواء كان مزاجيا أو عقليا ؛ فإنّ الواجب لا يتألّم أصلا ؛ لأنّ الألم إدراك المنافي من حيث هو مناف ، والله تعالى منزّه عن أن يكون شيء منافيا له ؛ إذ الشيء لا يكون منافيا لمبدئه.

( و ) يدلّ على نفي ( اللّذّة المزاجيّة ) لأنّها من توابع المزاج ، وظاهر أنّه مستحيل على واجب الوجود. وخصّ اللّذّة بالمزاجيّة ؛ لأنّ الحكماء يثبتون له (١) اللذّة العقليّة ؛

__________________

(١) أي للمزاج.

٣٠٣

فإنّهم يقولون : اللذّة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، فمن أدرك كمالا في ذاته التذّ به ، وذلك ضروريّ يشهد به الوجدان.

ثمّ إنّ كماله تعالى أجلّ الكمالات ، وإدراكه أقوى الإدراكات ، فوجب أن تكون لذّته أقوى اللذّات ، ولذلك قالوا : أجلّ مبتهج هو المبدأ الأوّل بذاته تعالى (١).

واعترض (٢) عليه بأنّه إن أريد أنّ الحالة التي نسمّيها اللّذّة هي نفس إدراك الملائم ، فغير معلوم. وإن أريد أنّها حاصلة عند إدراك الملائم ، فربما يختصّ ذلك بإدراكنا دون إدراكه ؛ فإنّهما مختلفان قطعا.

( والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا ) يعني وجوب الوجود يدلّ على نفي المعاني ، خلافا للشيخ أبي الحسن الأشعريّ (٣) ؛ فإنّه قال : إنّ لله تعالى معاني قائمة بذاته هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر ، وعلى نفي الأحوال خلافا لأبي هاشم ؛ فإنّه قال : إنّ لله تعالى أحوالا مثل العالميّة والقادريّة والمريديّة والحيّية وغيرها ، وعلى نفي الصفات الزائدة في الأعيان خلافا لطائفة من المعتزلة ؛ فإنّهم قالوا : إنّ لله تعالى صفات زائدة في الأعيان ، واختار المصنّف نفي هذه الأمور كلّها ؛ لأنّ وجوب الوجود دلّ (٤) على نفيها ؛ لأنّ هذه الأمور إن كانت واجبة لذواتها لزم تعدّد الواجب ، وقد أبطلناه. وإن كانت ممكنة لذواتها فالموجب لها إن كان هو ذات الواجب لزم أن يكون الواجب قابلا وفاعلا وهو باطل. وإن كان غيره لزم افتقار الواجب إلى غيره.

واعترض عليه بأنّه لم يثبت امتناع كون الواحد قابلا وفاعلا.

( و ) كذا وجوب الوجود يدلّ على نفي ( الرؤية ).

__________________

(١) قاله ابن سينا ، كما في « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٥٩.

(٢) المعترض هو الفخر الرازيّ انظر المصدر السابق.

(٣) راجع ص ٢٨٦ من هذا الجزء.

(٤) في المصدر : « دالّ ».

٣٠٤

ذهب الأشاعرة إلى أنّه تعالى يجوز أن يرى ، وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّها عن المقابلة والجهة والمكان. وخالفهم في ذلك جميع الفرق ؛ فإنّ المشبّهة والكراميّة إنّما يقولون برؤيته في الجهة والمكان ؛ لكونه عندهم جسما ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ولا نزاع للنافين في جواز الانكشاف التامّ العلميّ ، ولا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة من المرئيّ في العين ، أو اتّصال الشعاع الخارج من العين بالمرئيّ ، وإنّما محلّ النزاع أنّا إذا عرفنا الشمس ـ مثلا ـ بحدّ أو رسم ، كان نوعا من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعا آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسمّيها الرؤية ولا يتعلّق في الدنيا إلاّ بما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكيّة هل يصحّ أن يقع بدون المقابلة والجهة وأن يتعلّق بذات الله تعالى منزّها عن الجهة والمكان ، أولا؟

ولهم على الإمكان من المنقول قوله تعالى حكاية عن موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) (١).

والاحتجاج من وجهين :

أحدهما : أنّ موسى عليه‌السلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى مرئيّا ، لما سأل ؛ لأنّه حينئذ إمّا أن يعلم امتناعه ، أو يجهله ، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال ؛ لأنّه عبث ، وإن جهله فالجاهل بما لا يجوز على الله تعالى ويمتنع لا يكون نبيّا كليما ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه ، بل ينبغي أن لا يصلح للنبوّة ؛ إذ المقصود من البعث هو الدعوة إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة.

وثانيهما : أنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ؛ لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير.

__________________

(١) الأعراف (٧) : ١٤٣.

٣٠٥

واعترض على الأوّل بوجوه :

الأوّل : أنّ موسى عليه‌السلام لم يسأل الرؤية ، بل تجوّز بها عن العلم الضروريّ ؛ لأنّه لازمها ، وإطلاق اسم الملزوم على اللازم شائع سيّما استعمال رأى بمعنى علم وأرى بمعنى أعلم ، فكأنّه قال : اجعلني عالما بك علما ضروريّا.

وأجيب بأنّ الرؤية وإن استعملت بمعنى العلم لكن هاهنا يمتنع حملها عليه بوجوه :

الأوّل : أنّه لو كانت بمعنى العلم لكان النظر المترتّب عليها بمعناه أيضا ، لكنّ النظر الموصول بإلى نصّ في الرؤية.

الثاني : أنّه يلزم أن لا يكون موسى عليه‌السلام عالما بربّه ضرورة مع أنّه يخاطبه ، وذلك لا يعقل ؛ لأنّ المخاطب في حكم الحاضر المشاهد.

الثالث : أنّه لا يكون الجواب حينئذ مطابقا للسؤال ؛ لأنّ قوله : ( لَنْ تَرانِي ) نفي لرؤيته تعالى ، لا للعلم الضروريّ بإجماع المعتزلة.

الثاني : أنّ الكلام على حذف المضاف ، والمعنى أرني آية من آياتك أنظر إلى آيتك.

أجيب من ذلك بأنّه لا يستقيم أمّا أوّلا ، فلأنّ الجواب حينئذ لا يطابق السؤال ؛ لأنّ قوله : ( لَنْ تَرانِي ) على ما ذكرنا من الإجماع نفي لرؤيته تعالى ، لا لرؤية آية من آياته.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ اندكاك الجبل أعظم آية من آياته تعالى ، فكيف يستقيم نفي رؤية الآية؟!.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ الآية إنما هي عند اندكاك الجبل لا استقراره ، فكيف يصحّ تعلّق رؤيتها بالاستقرار؟!

الثالث : أنّ موسى عليه‌السلام إنّما سأل الرؤية بسبب قومه لا لنفسه ؛ لأنّه كان عالما بامتناعها ، لكن قومه اقترحوا عليه وقالوا : أرنا الله جهرة ، فسأل ليمنع ، فيعلم قومه امتناعها.

٣٠٦

وأجيب بأنّه ـ مع مخالفته الظاهر ، حيث لم يقل : أرهم ينظروا إليك ـ فاسد من وجوه :

أمّا أوّلا ، فلأنّهم لمّا سألوا وقالوا : أرنا الله جهرة ، زجرهم الله تعالى وردعهم بأخذ الصاعقة ، فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية ، وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسئول ؛ لجواز أن يكون ذلك بقصدهم إعجاز موسى عليه‌السلام عن الإتيان بما طلبوه تعنّتا ، لا لامتناع ما طلبوه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ تجويز الرؤية باطل ، بل كفر عند أكثر المعتزلة ، فلا يجوز لموسى عليه‌السلام تأخير الردّ وتقرير الباطل ، ألا ترى أنّهم لمّا قالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، ردّ عليهم من ساعته بقوله : ( إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (١).

وأمّا ثالثا ، فلأنّهم إن كانوا مؤمنين بموسى عليه‌السلام مصدّقين بكلامه ، كفاهم إخباره بامتناع الرؤية من غير طلب للمحال ، ومشاهدة لما جرت من الأحوال والأهوال ، وإلاّ لم يفسد الطلب (٢) والجواب (٣) ؛ لأنّهم وإن سمعوا الجواب فهو عليه‌السلام المخبر بأنّه كلام الله تعالى.

وردّ هذا بأنّهم كانوا مؤمنين لكن لمّا لم يعلموا مسألة الرؤية ، وظنّوا جوازها عند سماع الكلام ، فاختار موسى عليه‌السلام في الردّ عليهم طريق السؤال والجواب من الله ليكون أوثق عندهم ، وأهدى إلى الحقّ ؛ وأضاف موسى عليه‌السلام الرؤية إلى نفسه دونهم ؛ لئلاّ يبقى لهم عذر ، ولا يقولوا : لو سأله لنفسه لرآه ؛ لعلوّ قدره عند الله.

الرابع : أنّه سأل الرؤية مع علمه بامتناعها ؛ لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع ، كما في طلب إبراهيم أن يريه كيفيّة إحياء الأموات.

__________________

(١) الأعراف (٧) : ١٣٨.

(٢) أي قوله : « أرني ».

(٣) أي قوله : « لن تراني ».

٣٠٧

الخامس : أنّ معرفة الله لا تتوقّف على العلم بمسألة الرؤية ، فيجوز أن يكون (١) ـ لاشتغاله بسائر العلوم والوظائف الشرعيّة ـ لم تخطر بباله هذه المسألة حتّى سألوها منه ، فطلب العلم ، أو خطرت بباله وكان ناظرا فيها وكان طالبا للحقّ ، فاجترأ على السؤال ليتبيّن له جليّة الحال.

وأجيب بأنّ التزام جهل النبيّ المصطفى بالتكلّم [ ذاهل (٢) ] في معرفة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وما يجوز عليه ويمتنع ، دون آحاد المعتزلة ومن حصّل طرفا من علم الكلام هي البدعة الشنعاء والطريقة العوجاء التي لا يسلكها أحد من العقلاء.

وعلى الوجه الثاني (٣) أيضا بأنّه لم يعلّق الرؤية على استقرار الجبل مطلقا ، أو حالة السكون ليكون ممكنا ، بل عقيب النظر ؛ بدلالة الفاء وهو حالة التزلزل والاندكاك ، ولا نسلّم إمكان الاستقرار حينئذ.

وأجيب بأنّها علّقت على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال السكون أو الحركة ، وإلاّ لزم الإضمار في الكلام.

فإن قيل : استقرار الجبل واقع في الدنيا ، فيلزم وقوع الرؤية فيها.

قلنا : المراد استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال حركة أو سكون ، لكن في المستقبل وعقيب النظر ؛ بدليل الفاء « وإن » فلا يرد السكون السابق واللاحق.

فإن قيل : وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط.

قلنا : ذلك في الشرط بمعنى ما يتوقّف عليه الشيء ، ولا يكون داخلا. وأمّا الشرط التعليقيّ فمعناه ما يتمّ به علّيّة العلّة ، وآخر ما يتوقّف عليه الشيء وما جعل بمنزلة الملزوم لما علّق عليه.

وأيضا الاستقرار حال الحركة ممكن بأن يحصل بدل الحركة السكون ، ومن

__________________

(١) الضمير المستتر راجع إلى موسى عليه‌السلام.

(٢) الكلمة غير موجودة في المصدر.

(٣) أي واعترض على الوجه الثاني من وجوه الاحتجاج.

٣٠٨

المعقول أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرهما من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، وذلك ظاهر ، ونرى الجواهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ؛ ولهذا نميّز الطويل عن العريض ، ونميّز الطويل عن الأطول ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ؛ لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة ، فالطول إن قام بجزء واحد منها ، فذلك الجزء يكون أكبر حجما من الجزء الآخر ، فتقبل القسمة ، هذا خلف. وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض بمحلّين وهو محال ، فرؤية الطول هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم ، فيثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة ، لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود وانتفائها عند العدم ؛ فإنّ الأجسام والأعراض لو كانت معدومة لاستحال كونها مرئيّة بالضرورة والاتّفاق ، ولو تحقّق أمر مصحّح حال الوجود غير متحقّق حال العدم لكان اختصاص الصحّة بحال الوجود ترجيحا بلا مرجّح ؛ لأنّ نسبة الصحّة ـ على تقدير استغنائها عن العلّة ـ إلى طرفي الوجود والعدم على السواء وهذه العلّة المصحّحة للرؤية لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ؛ لكون معلولها مشتركا بينهما ، وإلاّ لزم تعليل الأمر الواحد ـ وهو صحّة كون الشيء مرئيّا ـ بالعلل المختلفة وهي الأمور المختصّة إمّا بالجوهر ، وإمّا بالعرض ، وهو غير جائز ؛ لما مرّ في مبحث العلل.

وهذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ؛ إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ؛ فإنّ الأجسام لا توافق الألوان في صفة عامّة يتوهّم كونها مصحّحة سوى هذين ، لكنّ الحدوث لا يصلح أن يكون علّة للصحّة ؛ لأنّه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق ، والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلّة ؛ لأنّ التأثير صفة إثبات ، فلا يتّصف به العدم ولا ما هو مركّب منه.

فإذن العلّة المشتركة هي الوجود ليس إلاّ ، وأنّه مشترك بينهما وبين الواجب ؛ لما تقدّم من اشتراك الوجود بين الموجودات كلّها ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في

٣٠٩

الواجب ، فيجوز أن يرى ذاته تعالى ، وهو المطلوب.

أقول : شمول الرؤية للجواهر ممنوع ، وما ذكرنا من دليله ـ مع ابتنائه على إثبات الجوهر الفرد ـ مبنيّ على امتناع قيام عرض واحد بمحلّين وهو مسلّم بمعنى أن يقوم عرض بتمامه بمحلّ ، ثمّ يقوم ذلك العرض بتمامه بمحلّ آخر لا بمعنى أن يقوم عرض واحد بمجموع محلّين من حيث المجموع ، فإنّه ليس بممتنع ، واللازم هو القيام بالمعنى الثاني دون الأوّل.

وبعد تسليمه فقد اعترض عليه بوجوه يندفع (١) بما دلّ عليه كلام إمام الحرمين (٢) من أنّ المراد بالعلّة هاهنا ما يصلح لتعلّق الرؤية ، لا المؤثّر في الصحّة على ما فهمه الأكثرون.

فالاعتراض الأوّل : أنّ الصحّة معناها الإمكان وهو أمر اعتباريّ لا يفتقر إلى علّة موجودة ، بل يكفيه الحدوث الذي هو أيضا اعتباريّ.

ووجه اندفاعه : أنّ ما لا تحقّق له في الأعيان لا يصلح متعلّقا للرؤية بالظاهر.

الثاني : أنّه لا حصر للمشترك بينهما في الحدوث والوجود ؛ فإنّ الإمكان أيضا مشترك ، فلم لا يجوز أن يكون هو العلّة؟

ووجه اندفاعه : أنّ الإمكان أمر اعتباريّ لا تحقّق له في الخارج ، فلا يكفي تعلّق الرؤية به.

وأيضا علّة الصحّة يجب أن تكون مختصّة بحال الوجود ، والإمكان ليس كذلك ؛ فإنّ المعدوم متّصف بالإمكان ، فيلزم أن يصحّح رؤيته وهو باطل بالضرورة.

الثالث : أنّ صحّة رؤية الجوهر لا تماثل صحّة رؤية العرض [ أو ذات أحدهما ليس هو الآخر (٣) ] فلم لا يجوز أن يعلّل كلّ منهما بعلّة على الانفراد؟

__________________

(١) الضمير يرجع إلى الاعتراض لا الوجوه ، أي يندفع الاعتراض.

(٢) « شرح المقاصد » ٤ : ١٨٩.

(٣) في المصدر : « إذ لا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر ».

٣١٠

ولو سلّم تماثلهما فالواحد النوعيّ قد يعلّل بعلّتين مختلفتين كالحرارة بالشمس والنار ، فلا يلزم أن يكون للمعلول المشترك علّة مشتركة. وما ذكرنا ـ من أنّ الأمر الواحد لا يعلّل بالعلل المختلفة ـ إنّما هو في الواحد بالشخص (١).

ووجه اندفاعه : أنّ متعلّق الرؤية لا يجوز أن يكون هو من خصوصيات الجوهريّة والعرضيّة ، بل يجب أن يكون ممّا يشتركان فيه ؛ للقطع بأنّا قد نرى وندرك له هويّة ما من غير أن ندرك كونه جوهرا أو عرضا فضلا عن أن ندرك ما هو زيادة خصوصيّة لأحدهما ، ككونه إنسانا أو فرسا ، سوادا أو خضرة ، بل ربما نرى زيدا بأن يتعلّق رؤية واحدة بهويّته من غير تفصيل لما فيه من الجواهر والأعراض ، ثمّ قد نفصّله إلى ما له من تفاصيل الجواهر والأعراض ، وقد نغفل عن التفاصيل بحيث لا نعلمها عند ما سئلنا عنها وإن استقصينا في التأمّل ، فعلم أنّ ما يتعلّق به الرؤية هو الهويّة المشتركة لا الخصوصيّات التي بها الافتراق. وهذا معنى كون علّة صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض.

قيل : إنّ الهويّة المطلقة المشتركة بين خصوصيّات الهويّات أمر اعتباريّ كمفهوم الماهيّة والحقيقة ، فلا يتعلّق بها الرؤية أيضا ، وأنّ المدرك من زيد في تلك الصورة هو خصوصيّة ذاته الموجودة إلاّ أنّ إدراكها إجماليّ لا يتمكّن به على تفاصيلها ؛ فإنّ مراتب الإجمال متفاوتة قوّة وضعفا ، فليس يجب أن يكون كلّ إجمال وسيلة إلى تفصيل أجزاء المدرك وما يتعلّق به من الأحوال.

الرابع : أنّه بعد ثبوت كون الوجود هو العلّة وكونه مشتركا بين الجوهر والعرض وبين الواجب ، لا يلزم من صحّة رؤيتهما صحّة رؤيته ؛ لجواز أن يكون خصوصيّة الجوهريّة أو العرضيّة شرطا لها ، أو خصوصيّة الواجبيّة مانعة عنها.

ووجه اندفاعه : أنّ صحّة الرؤية عند تحقّق ما يصلح متعلّقا لها ضروريّة ،

__________________

(١) في المصدر : « الواحد الشخصيّ ».

٣١١

بل لا معنى لصحّة الرؤية إلاّ ذلك ، ثمّ الشرطيّة أو المانعيّة إنّما تتصوّر لتحقّق الرؤية لا لصحّتها.

واعترض أيضا بوجوه أخر :

منها : لا نسلّم اشتراك الوجود بين الواجب وغيره ، كيف؟ وقد جزمتم معاشر الأشاعرة بأنّ وجود كلّ شيء عين حقيقته.

وأجاب الآمدي بأنّ المتمسّك بهذا الدليل إن كان ممّن يعتقد كون الوجود مشتركا كالقاضي وجمهور الأشاعرة (١) ، لم يرد عليه ما ذكرتموه. وإن كان ممّن لا يعتقد كالشيخ (٢) ، فهو بطريق الإلزام ، ولا يجب كون الملزم معتقدا لما تمسّك به (٣).

وقال بعض المحقّقين (٤) : مفهوم الوجود مشترك بين الموجودات كلّها عند الشيخ أيضا ، والاتّحاد الذي ادّعاه أراد به أنّ الوجود ومعروضه ليس لهما هويّتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى كالسواد بالجسم ، ولا منافاة بين كون الوجود عين الماهيّة بالمعنى الذي صوّرناه ، وبين اشتراكه بين الموجودات كلّها ، والأكثرون توهّموا أنّ ما نقل عنه من أنّ الوجود عين الماهيّة ينافي دعوى اشتراكه بين الموجودات ؛ إذ يلزم منهما معا كون الأشياء كلّها متّفقة الحقيقة ، وهو ممّا لا يقول به عاقل.

ومنها : أنّه يلزم على ما ذكرتم صحّة رؤية كلّ موجود حتّى الأصوات والطعوم والروائح والاعتقادات والقدرة والإرادة وغير ذلك من الموجودات ، وبطلانه ضروري والشيخ الأشعريّ يلتزمه ، ويقول : إنّما لا يتعلّق به الرؤية بناء على جري عادة الله بأن لا يخلق فينا رؤيتها لا بناء على امتناع ذلك ، لكن يلزم فساد آخر وهو

__________________

(١) لمزيد المعرفة حول الأقوال في اشتراك الوجود راجع « المحصّل » : ١٤٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٩ ـ ١٠ ؛ « شرح المواقف » ٢ : ١١٢ ـ ١٢٧ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٣٠٧ وما بعدها.

(٢) لمزيد المعرفة حول الأقوال في اشتراك الوجود راجع « المحصّل » : ١٤٧ ؛ « مناهج اليقين » : ٩ ـ ١٠ ؛ « شرح المواقف » ٢ : ١١٢ ـ ١٢٧ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ٣٠٧ وما بعدها.

(٣) « شرح المواقف » ٨ : ١٢٧.

(٤) هو السيد الشريف في « شرح المواقف » ٨ : ١٢٦ ـ ١٢٧.

٣١٢

أن يكون المرئيّ من كلّ موجود مفهوم الوجود المطلق المشترك بين الموجودات بأسرها.

وقال الإمام الرازيّ في نهاية العقول : من أصحابنا من التزم ذلك وقال : إنّ المرئيّ هو الوجود فقط ، وإنّا نبصر اختلاف المختلفات ، بل نعلمها بالضرورة. وهذه مكابرة لا يرضاها العقل ، بل الوجود علّة لصحّة كون الحقيقة المخصوصة مرئيّة (١).

ومنها : نقض الدليل بصحّة المخلوقيّة بأنّها مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولا مشترك بينهما يصلح علّة لذلك سوى الوجود ، فيلزم صحّة مخلوقيّة الواجب ، تعالى الله عن ذلك.

وأجيب بأنّها أمر اعتباريّ محض لا يقتضي علّة ؛ إذ ليست ممّا يتحقّق عند الوجود وينتفي عند العدم كصحّة الرؤية.

سلّمنا ، لكنّ الحدوث يصلح هاهنا علّة ؛ لأنّ المانع من ذلك في صحّة الرؤية إنّا هو امتناع تعلّق الرؤية بما لا تحقّق له في الخارج. وأمّا النقض بصحّة الملموسيّة فقويّ.

أقول : إنّ تعلّق الرؤية بشيء بمعنى كونه مرئيّا يقتضي كونه من الأمور العينيّة لا من الاعتبارات المحضة ، كذلك تعلّق الخلق بشيء بمعنى كونه مخلوقا يقتضي كونه مخلوقا يقتضي كونه ممّا له تحقّق في الأعيان ؛ فإنّ الأمور الاعتباريّة المحضة لا تكون مخلوقة.

والعجب من هذا المجيب أنّه سلّم ورود النقض بصحّة الملموسيّة ، ولا وجه له غير أن يقال : تعلّق اللمس بشيء بمعنى كونه ملموسا يقتضي كونه من الموجودات الخارجيّة ، وإلاّ فصحّة الملموسيّة عبارة عن إمكان كونه ملموسا ، والإمكان من الاعتبارات العقليّة التي لا تقتضي علّة ؛ إذ ليس ممّا يتحقّق عند الوجود ، وينتفي عند

__________________

(١) حكاه عنه التفتازاني في « شرح المقاصد » ٤ : ١٩١.

٣١٣

العدم كصحّة الرؤية.

ولا تفاوت فيما ذكرنا بين صحّة الملموسيّة وصحّة المخلوقيّة ؛ إذ كلّ ما يقال في هذه يقال في تلك ، وبالعكس ، فمن أين سلّم ورود النقض بإحداهما وأجاب عن الأخرى؟

وعلى (١) الوقوع الإجماع والنصّ.

أمّا الإجماع ، فباتّفاق الأمّة قبل ظهور المخالفين على وقوع الرؤية وكون الآيات والأحاديث الواردة فيها على ظواهرها حتّى روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبائر الصحابة رضي الله عنهم.

وأمّا النصّ ، فمن الكتاب قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٢) وبيان ذلك أنّ « النظر » في اللغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة ، وجاء بمعنى التفكّر ويستعمل بفي ، وجاء بمعنى الرأفة ويستعمل باللام ، وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل بإلى ، والنظر في الآية موصول ب « إلى » فوجب حمله على الرؤية.

واعترض عليه بوجوه :

الأوّل : أنّا لا نسلّم أنّ لفظة إلى صلة للنظر ، بل هو واحد الآلاء ومفعول به للنظر بمعنى الانتظار ، فمعنى الآية نعمة ربّها منتظرة.

ولو سلّم ، فالنظر الموصول ب « إلى » قد جاء للانتظار ، قال الشاعر :

وشعث ينظرون إلى بلال (٣)

كما نظر الظماء (٤) حباء الغمام

ومن المعلوم أنّ العطاش ينتظرون مطر الغمام ، فوجب حمل النظر المشبّه على الانتظار ليصحّ التشبيه.

__________________

(١) عطف على قوله : « ولهم على الإمكان » في ص ٣٠٥.

(٢) القيامة (٧٥) : ٢٢.

(٣) في المصدر : « هلال ».

(٤) في المصدر : « ماء الغمام ».

٣١٤

وقال :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

أي منتظرات لإتيانه بالنصرة والفلاح.

وقال :

كلّ الخلائق ينظرون سجاله

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجيج الهلال.

وأجيب عنها بأنّ انتظار النعمة غمّ ؛ ولذا قيل : الانتظار موت أحمر ، فلا يصحّ الإخبار به بشارة مع أنّ سوق الآية بشارة المؤمنين وبيان أنّهم يومئذ في غاية الفرح والسرور.

على أنّ كون إلى اسما بمعنى النعمة لو ثبت في اللغة ، فلا خفاء في بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلّق النظر به ، ولهذا لم يحمل الآية عليه أحد من أئمّة التفسير في القرن الأوّل والثاني ، بل أجمعوا على خلافه.

وكون النظر الموصول بإلى سيّما المستند إلى الوجه بمعنى الانتظار ممّا لم يثبت عند الثقات ولم يدلّ عليه الأبيات ؛ لاحتمال أن يكون المعنى في الأوّل يرون بلالا (١) كما يرى الظمآن ماء وجده (٢) بعد الاشتياق. ولا يمتنع حمل النظر الوارد بلا صلة على الرؤية بطريق الحذف والإيصال ، إنّما الممتنع حمل الموصول بإلى على غيرها.

وفي الثاني أي ناظرات إلى جهة الله تعالى وهي العلوّ في العرف ، ولذلك يرفع إليه الأيدي في الدعاء ، أو ناظرات إلى آثاره من الضرب والطعن الصادرين من الملائكة التي أرسلها الله تعالى لنصرة المؤمنين يوم بدر.

وذكر بعض الرواة أنّ الرواية هكذا :

__________________

(١) في المصدر : « هلالا ».

(٢) في المصدر : « كما يرون الظماء ماء وجدوه ».

٣١٥

وجوه ناظرات يوم بكر.

وأنّ قائله شاعر من أتباع مسيلمة الكذّاب. والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بني حنيفة ؛ لأنّهم بطن من بكر بن وائل. وأراد بالرحمن مسيلمة ، وعلى هذا فالجواب ظاهر.

وفي الثالث أي يرون سجاله ، ويجوز كون النظر المجرّد من الصلة للرؤية كما مرّ آنفا.

الثاني : النظر الموصول بـ « إلى » موضوع لتقليب الحدقة ، لا للرؤية ؛ لاتّصافه بما لا يتّصف به الرؤية مثل الشدّة ، والشزر ، والازورار ، والرضى ، والتجبّر ، والذلّ ، والخشوع ، وشيء منها لا يصلح صفة للرؤية ، بل هي أحوال يكون عليها عين الناظر عند تقليب الحدقة نحو المرئيّ ، ولتحقّقه مع انتفاء الرؤية يقال : نظرت إلى الهلال فما رأيته. ولو كان بمعنى الرؤية ، لكان تناقضا ، و: لم أزل أنظر إلى الهلال حتّى رأيته. ولو حمل على الرؤية لكان الشيء غاية لنفسه ، و: أنظر كيف ينظر فلان إليّ. والناظر لا ينظر إلى الرؤية ، بل ينظر إلى تقليب الحدقة.

وقال الله تعالى : ( تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (١) وتقليب الحدقة ليس هو الرؤية ، ولا ملزومها لزوما عقليّا حتّى يجب من تحقّقه تحقّقها ، بل لزوما عاديّا مصحّحا للتجوّز ، وجعله مجازا عن الرؤية ليس بأولى من حمله على حذف المضاف ، أي ناظرة إلى ثواب ربّها على ما ذكره عليّ عليه‌السلام (٢) وكثير من المفسّرين (٣).

وأجيب بأنّ النظر مع إلى نصّ في الرؤية ، بشهادة النقل عن أئمّة اللغة ، والتتبّع لموارد استعماله ، وليس حقيقة في تقليب الحدقة.

قولكم : يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره. قلنا : لا يصحّ نقله من العرب ، بل يقال :

__________________

(١) الأعراف (٨) : ١٩٨.

(٢) « تفسير الطبريّ » ١٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ؛ التفسير الكبير ١٠ : ٧٣١ ـ ٧٣٢ ؛ « مجمع البيان » ١٠ : ١٩٨ ـ ٢٠١ ؛ « الصافي » ٥ : ٢٥٦ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة القيامة (٧٥) ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٩٤ ؛ المغني » ٤ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) « تفسير الطبريّ » ١٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ؛ التفسير الكبير ١٠ : ٧٣١ ـ ٧٣٢ ؛ « مجمع البيان » ١٠ : ١٩٨ ـ ٢٠١ ؛ « الصافي » ٥ : ٢٥٦ ، ذيل الآية ٢٣ من سورة القيامة (٧٥) ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٩٤ ؛ المغني » ٤ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣١٦

نظرت إلى مطلع الهلال فلم أر الهلال. وكذا لم أزل أنظر إلى مطلع الهلال حتّى رأيت الهلال. ولو سلّم فمحمول على حذف المضاف.

والبواقي من الأمثلة كلّها مجازات ؛ حيث أطلق النظر على تقليب الحدقة إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.

وعلى تقدير كون النظر مجازا عن الرؤية يجب الحمل عليه ؛ لأنّ الأشياء التي يمكن إضمارها كثيرة كنعمه وجهته وآثاره ، ولا قرينة ـ هاهنا ـ لتعيين المراد ، فالتعيين تحكّم لا يجوز لغة ، فوجب المصير إلى المجاز المتعيّن.

ومنه قوله تعالى : ( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) (١) حقّر شأن الكفّار ، وخصّهم بكونهم محجوبين عن ربّهم ، فكان المؤمنون غير محجوبين ، وهو معنى الرؤية. والحمل على كونهم محجوبين عن رضوانه تعالى وكرامته خلاف الظاهر.

ومنه قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (٢) فسّر جمهور أئمّة التفسير « الحسنى » بالجنّة ، و « الزيادة » بالرؤية على ما ورد في الخبر (٣) ، كما سيجيء ، وهو لا ينافي ما ذكره بعض من أنّ الحسنى هي الجزاء المستحقّ ، والزيادة هي التفضيل (٤).

فإن قيل : الرؤية أجلّ الكرامة وأعظمها ، فكيف يعبّر عنها بالزيادة؟!

قلنا : للتنبيه على أنّها أجلّ من أن تعدّ في الحسنات وفي أجزية الأعمال الصالحات.

والنصّ من السنّة قوله عليه‌السلام : « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر

__________________

(١) المطفّفين (٨٣) : ١٥.

(٢) يونس (١٠) : ٢٦.

(٣) « تفسير الطبريّ » ٦ : ٥٤٩ ـ ٥٥٣ ؛ « التفسير الكبير » ٦ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ « الدرّ المنثور » ٤ : ٣٥٦ ـ ٣٦٠ ؛ « مجمع البيان » ٥ : ١٧٩ ؛ « تفسير القرآن العظيم » لابن كثير ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ؛ « الصافي » ٢ : ٤٠٠ ، ذيل الآية ٢٦ من سورة يونس (١٠).

(٤) في المصدر : « الفضل ».

٣١٧

لا تضامّون (١) في رؤيته ». (٢).

ومنها : ما روي عن صهيب أنّه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) وقال : « إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنّة! إنّ لكم عند الله موعودا يشتهي أن ينجزكموه » قالوا : ما هذا الموعود؟ ألم يثقّل موازيننا ، ويبيّض وجوهنا ، ويدخلنا الجنّة ، ويجرنا من النار؟ فيرفع الحجاب ، فينظرون إلى وجه الله عزّ وجلّ ، قال : « فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم » (٣).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينظر إلى جنّاته وأزواجه ونعمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنّة ، وأكرمهم إلى الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة ». ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٤). (٥)

وقد صحّح هذه الأحاديث من يوثق به من أئمّة الحديث إلاّ أنّها آحاد.

والمنكرون احتجّوا بوجوه عقليّة وسمعيّة بعضها يمنع صحّة الرؤية ، وبعضها وقوعها.

فالعقليّة :

منها : أنّ الرؤية إمّا باتّصال شعاع العين بالمرئيّ ، أو انطباع شبح في المرئيّ في

__________________

(١) من الضمم بمعنى الازدحام ، ويجوز أن يكون من الضيم بمعنى الظلم والفعل هنا مجهول.

(٢) « صحيح مسلم » ١ : ٤٣٩ باب فضل صلاتي الصبح والعصر ... ح ٢١١ ؛ « كنز العمّال » ١٤ : ٤٤٧ ، ح ٣٩٢٠٦ ؛ « صحيح البخاريّ » ١ : ٢٠٩ باب فضل صلاة الفجر ... ح ٥٤٧ ؛ « سنن أبي داود » ٥ : ٩٧ باب في الرؤية من كتاب السنّة ، ح ٤٧٢٩ ؛ « مسند أحمد بن حنبل » ٧ : ٦٢ ، ح ١٩٢١١.

(٣) « صحيح مسلم » ١ : ١٦٣ باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربّهم سبحانه وتعالى ، ح ٢٩٧ ؛ « سنن ابن ماجة » ١ : ٦٧ باب ما أنكر الجهميّة ... ح ١٨٧ ؛ « مسند أحمد بن حنبل » ٦ : ٥٠٤ ، ح ١٨٩٥٧ ؛ « سنن الترمذيّ » ٤ : ٩٢ باب ما جاء في رؤية الربّ تبارك وتعالى ... ح ٢٦٧٦ ؛ « كنز العمّال » ١٤ : ٤٤٧ ، ح ٣٩٢٠٥.

(٤) القيامة (٧٥) : ٢٢.

(٥) « مسند أحمد بن حنبل » ٢ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، ح ٥٣١٧ ؛ « سنن الترمذي » ٤ : ٩٣ باب ما جاء في رؤية الربّ ... ح ٢٦٧٧.

٣١٨

حدقة الرائي على اختلاف المذهبين ، وكلاهما في حقّ الله تعالى ظاهر الامتناع ؛ لتجرّده واختصاصهما بالجسمانيّات ، فتمتنع رؤيته.

وأجيب بمنع الحصر خصوصا في الغائب.

ومنها : أنّ شرط الرؤية ـ كما علم بالضرورة من التجربة ـ المقابلة أو ما في حكمها ، وهي مستحيلة في البارئ تعالى ؛ لتنزّهه عن المكان والجهة.

وأجيب بمنع الاشتراط سيّما في الغائب ؛ فإنّ الأشاعرة جوّزوا رؤية ما لا يكون مقابلا ولا في حكمه ، بل جوّزوا رؤية أعمى الصين بقّة أندلس.

ومنها : أنّه لو جازت لدامت لكلّ سليم الحاسّة في الدنيا والآخرة ، فيلزم أن نراه الآن وفي الجنّة على الدوام ، والأوّل منتف بالضرورة ، والثاني بالإجماع وبالنصوص القاطعة الدالّة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذّات.

وجه اللزوم : أنّ للرؤية شرائط ـ عددناها فيما سلف ـ يجب الرؤية معها ، وتمتنع بدونها ، ولا يعقل من تلك الشرائط في حقّ رؤية الله تعالى إلاّ اثنان : سلامة الحاسّة ، وكون الشيء جائز الرؤية ؛ لاختصاص ما سواهما بالجسمانيّات ، فإن كفيا في رؤيته تعالى ولم تشترط بشرط آخر غيرهما ، لزم أن نراه الآن ؛ إذ لو جاز عدم الرؤية مع تحقّق شرائطها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها ، وتجويز ذلك سفسطة.

وإن لم يكفيا في ذلك ، لزم أن لا نراه الآن ، ولا نراه في الآخرة أيضا ؛ لأنّ الشرائط التي من قبلنا سوى سلامة الحاسّة فقد ذكرنا أنّها لا تعقل بالنسبة إليه تعالى ، وقد فرضنا أنّ سلامة الحاسّة متحقّقة ، والتي من قبله تعالى لا يتصوّر فيها التغيير والتبديل ؛ لأنّ كلّ حكم ثابت له تعالى فإمّا لذاته أو لصفة لازمة لذاته ؛ لامتناع اتّصافه بالحوادث ، فلو جازت رؤيته تعالى لجازت في الحالات كلّها.

وأجيب بأنّ قولكم : تجويز ذلك سفسطة. إن أردتم بالتجويز حكم العقل بأنّه من الأمور الممكنة التي لا يلزم من فرض وقوعها محال ، فهو ليس بسفسطة ، بل هو

٣١٩

صحيح مطابق للواقع.

وإن أردتم به تردّد العقل فيه وعدم جزمه بانتفائها ، فاللزوم ممنوع ؛ فإنّ انتفاءها من العاديّات القطعيّة الضروريّة ، كعدم صيرورة أواني البيت أناسا فضلاء عالمين بأشكل العلوم كالمجسطي والمخروطات ونحو ذلك ممّا يخلق الله تعالى ؛ للعلم الضروريّ بانتفائها وإن كان ثبوتها من الممكنات دون المحالات ، وليس الجزم به ـ أي بعدم الجبل المذكور ـ مبنيّا على العلم بأنّه تجب الرؤية عند وجود شرائطها ؛ لأنّ هذا الجزم حاصل لمن لا تخطر بباله هذه المسألة ، بل لمن يجحدها ويعتقد خلافها ، ولأنّه ينجرّ إلى أن يكون ذلك الجزم نظريّا مع اتّفاق الكلّ على كونه ضروريّا ، بل نقول : قد تتحقّق شرائط رؤية شيء بأجمعها ولا نرى ذلك الشيء ؛ لأنّا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا ، وما ذلك إلاّ لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماعها.

لا يقال : أبعاد تلك الأجزاء عند البصر مختلفة ، فلا نرى ما هو أبعد.

لأنّا نقول : هذا التفاوت لا يزيد على مقدار قطر المرئيّ [ أبعد (١) ] الامتدادات الواقعة فيه ، فلو كان عدم رؤية بعض الأجزاء لأجل البعد ، وفرضنا أنّ هذا المرئيّ زاد بعده عن البصر بقدر قطره ، وجب أن لا يرى أصلا ، لكنّه يرى فلا أثر للبعد المذكور في عدم الرؤية.

قال المصنّف : لا يلزم من رؤيتنا جميع أجزائه أن نراه كبيرا ، وإنّما يلزم ذلك أن لو كان صغر المرئيّ وكبره بحسب رؤية الأجزاء وعدمها ، وليس كذلك ، بل صغر المرئيّ وكبره بحسب صغر الزاوية الجليديّة وكبرها على ما تبيّن في علم المناظر (٢).

وقال صاحب المواقف : ضعفه ظاهر ، بناء على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ؛

__________________

(١) في هامش « ب » : « أطول » بدل « أبعد ».

(٢) نقله صاحب المواقف عن بعض الفضلاء ، وفسرّه الشارح بصاحب اللباب. انظر « شرح المواقف » ٨ : ١٣٦ ـ ١٣٧.

٣٢٠