البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ما يوجد في كلّ وقت ، فلا يعقل المعدوم منها في الأعيان (١) إلى آخره ، فهو دليل آخر على امتناع كون الصورة المادّيّة ـ من حيث هي مادّيّة ـ معقولة له تعالى ، مبنيّ على تحقّق المضيّ والاستقبال بالنسبة إليه تعالى على الوجه الذي قد مرّ آنفا ، فهذا الكلام المنقول من الشفاء مع المنقول من الرسالة المنسوبة إليه على ما وجّهناه مشتمل على أربع دلائل على عدم تحقّق العلم الحضوريّ ، فتعيّن العلم الحصوليّ ؛ لامتناع الأقسام الأخر بالاتّفاق.

وقد يستدلّ على العلم الحصوليّ بأنّ ذاته تعالى علّة للأشياء وهو عالم بذاته ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ؛ فيجب تحقّق العلم بالأشياء في الأزل ، والعلم لا معنى له إلاّ انكشاف المعلوم إمّا بذاته وإمّا بصورته بالضرورة والاتّفاق ، ولا يمكن تحقّق ذوات الأشياء في الأزل ، وإلاّ لزم قدم الحوادث ، فتعيّن تحقّق صورها فيه ، ولا يمكن قيامها بذواتها ولا بموجود آخر ؛ لما مرّ غير مرّة ، فتعيّن قيامها بذاته تعالى ، وهو المطلوب.

ويمكن أنّ يستدلّ بأنّ العلم صفة كمال لا محالة ، فهو صفة حقيقيّة ؛ إذ لا كمال له تعالى بالإضافيّات (٢) ، فيجب أن يكون عين ذاته تعالى أو قائمة (٣) بذاته من ذاته ؛ لامتناع أن يكون ما هو كمال له تعالى ثابتا له من خارج ، لكنّ العلم التفصيليّ بالأشياء يمتنع كونه عين ذاته تعالى ، فتعيّن كونه قائما بذاته من ذاته ، فيجب أن يكون صورا زائدة على ذوات الأشياء قائمة بذاته تعالى ؛ لكون العلم الحضوريّ عين ذوات الأشياء المباينة لذاته تعالى ، ويجب أيضا كونها متقدّمة على ذوات الأشياء ؛ لأنّ العلم المتأخّر عن ذوات الأشياء يكون مستفادا منها كعلمنا بالأشياء ، فيلزم كون ما هو كمال له تعالى مستفادا من خارج ، فتعيّن كون علمه تعالى بالأشياء

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) في « شوارق الإلهام » : « بالإضافات ».

(٣) التأنيث باعتبار الصفة.

٢٢١

فعليّا متقدّما على ذوات الأشياء قائما بذاته تعالى من ذاته ، وهو المطلوب.

فإن قلت : قد مرّ أنّ كماله ومجده تعالى ليس بتلك الصور ، بل بأن تفيض عنه تلك الصور ، فكماله ومجده إذن بذاته لا بأمر زائد على ذاته ، فكيف يكون تلك الصور (١) كمالا له تعالى؟!

قلت : لا ريب في كون تلك الصور ـ لكونها علما ـ كمالا له تعالى ، لكنّ المراد ممّا مرّ أنّ تلك الصور لمّا كانت فائضة عن ذاته تعالى ، كان كماله تعالى في الحقيقة بذاته لا بأمر زائد على ذاته ، بخلاف ما لو كانت مستفادة من غيره ؛ فإنّه حينئذ يلزم أن يكون كماله بغيره لا بذاته.

ومن هنا ظهر ـ ظهورا بيّنا ـ معنى كون ذاته موضوعة لتلك الصور ، ومتّصفة بتلك اللوازم ؛ لكون تلك الصور واللوازم صادرة عنه تعالى ، لا لكونها حاصلة فيه على ما مرّ في كلام الشيخ غير مرّة.

[ المبحث ] التاسع : ناقض صاحب المطارحات (٢) القائلين بالعلم الحصوليّ بما حاصله : أنّ القول بارتسام الصور في ذاته تعالى على الترتيب العلّيّ يستلزم أن يكون تعالى منفعلا عن الصورة الأولى ؛ لكونها علّة لاستكمال ذاته تعالى بحصول الصورة الثانية.

وأمّا أنّ تلك الصور كمالات له تعالى فلأنّ تلك الصور ـ لكونها ممكنات لا محالة ـ يكون حصولها له تعالى بالقوّة لا بالفعل نظرا إلى ذواتها ، فلذاته تعالى قوّة الاتّصاف بها باعتبار ذواتها الممكنة ، ولا ريب في أنّ كون ذاته تعالى بالقوّة ـ من أيّ جهة كانت ـ نقص ، وزوال تلك القوّة إنّما يحصل بوجود تلك الصور بالفعل في ذاته ،

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « فكيف حكمت بكون تلك الصور ... ».

(٢) « المطارحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٤٧٧ ـ ٤٨٩.

٢٢٢

فوجودها كمال له تعالى ، ومزيل النقص مكمّل ، وكلّ صورة سابقة من تلك الصور تكون مكمّلة لذاته تعالى بحصول الصورة اللاحقة على ما يقتضيه الترتيب العلّيّ.

ودفعه (١) أستادنا قدس‌سره أمّا أوّلا ، فبجريان دليله في صورة صدور الموجودات عنه تعالى فينتقض به.

وأمّا ثانيا فبأنّ فعليّة تلك الصور إنّما هي من جهة المبدأ ووجوبها مترتّب على وجوبه ، وليس هناك فقد ولا قوّة أصلا ، ولا لتلك الصور إمكان من الجهة المنسوبة إليه تعالى ، وإنّما يلزم الانفعال لو كان فيضان تلك الصورة على ذاته عن غيره تعالى وليس كذلك (٢) ، هذا.

وممّا اعتمد عليه أستادنا قدس‌سره في كتاب المبدأ والمعاد (٣) في ردّ مذهب الشيخ ـ بعد تزييفه ما أورده المصنّف وغيره عليه ـ هو أنّه يلزم على هذا المذهب صدور الكثير عن الواحد الحقيقيّ. (٤).

بيانه : أنّ صورة العقل الأوّل تكون حينئذ واسطة في صدور العقل الأوّل وفي صدور صورة العقل الثاني معا عن الواجب ، فيكون قد صدر عن الواحد بوساطة أمر واحد ـ هو صورة العقل الأوّل ـ أمران ، هما : ذات العقل الأوّل ، وصورة العقل الثاني معا.

ولا يجوز أن يقال : ذات العقل الأوّل إنّما صدرت عن الواجب من حيث ذاته لا بوساطة الصورة ، وصدرت صورة العقل الثاني عنه بواسطة الصورة ، فلا يلزم صدور الاثنين عن الواحد من جهة واحدة ، بل من جهتين ؛ وذلك لأنّه يلزم أن لا يكون علم الواجب بالعقل الأوّل علما فعليّا ، وهو خلاف مذهبه ، وقادح فيما لأجله ذهب إلى العلم الحصوليّ.

__________________

(١) لا زال الكلام للمحقّق اللاهيجي في « شوارق الإلهام ».

(٢) لا زال الكلام للمحقّق اللاهيجي في « شوارق الإلهام ».

(٣) « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٩٩ ـ ٢٠٩.

(٤) « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٩٩ ـ ٢٠٩.

٢٢٣

وعندي أنّ ذلك ضعيف ؛ لأنّ صدور صورة العقل الثاني ليس بوساطة صورة العقل الأوّل ، بل بوساطة ذات العقل الأوّل ؛ فإنّ وجود العقل الأوّل لمّا كان من لوازمه وجود العقل الثاني ، والعلم بالعلّة والملزوم مستلزم للعلم بالمعلول واللازم صار العلم بالعقل الأوّل ـ أعني صورته ـ مستلزما للعلم بالعقل الثاني أعني بصورته ، وإنّما يلزم كون صدور صورة العقل الثاني بوساطة صورة العقل الأوّل لو كان وجود العقل الثاني من لوازم صورة العقل الأوّل ، وليس كذلك ، بل هو من لوازم وجود العقل الأوّل.

وهذا معنى كلام الشيخ في التعليقات حيث نقلناه (١) سابقا لبيان ترتيب السبب والمسبّب من قوله : مثال ذلك أنّه تعالى علّة لأن عرف العقل الأوّل ، ثمّ إنّ العقل الأوّل هو علّة لأن عرف لازم العقل الأوّل ، فهو تعالى وإن كان سببا لأن عرف العقل ولوازمه ، فبوجه ما صار العقل الأوّل علّة لأن عرف لوازم العقل الأوّل (٢). انتهى.

وممّا اعتمد عليه أيضا أستادنا ـ قدس‌سره ـ أنّه لو كان علمه بالأشياء بحصول صورها فيه لم يخل إمّا أن تكون تلك اللوازم لوازم ذهنية له أو خارجيّة ، أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين.

لا سبيل إلى الأوّل والثالث ؛ إذ لا يتصوّر للواجب إلاّ نحو واحد من الوجود ، وهو الوجود الخارجيّ الذي هو عين ذاته ، واللوازم الخارجيّة لا تكون إلاّ حقائق خارجيّة لا صورا علميّة ذهنيّة ، وذلك خلاف ما فرضناه ؛ لأنّ الصور العلميّة تكون جواهرها جواهر ذهنيّة وأعراضها أعراضا ذهنيّة وإن كان الكلّ ممّا يعرض لها في الخارج مفهوم العرض كما سلف تحقيقه (٣).

وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنّ انقسام اللازم إلى الأقسام الثلاثة إنّما يصحّ حيث يكون

__________________

(١) انظر ص ١٧٤ ـ ١٧٥ من هذا الجزء.

(٢) « التعليقات » : ١٥٢.

(٣) « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ١٠٤ ـ ١٠٧.

٢٢٤

للملزوم ماهيّة غير الوجود ، والواجب تعالى ليس له ماهيّة سوى الوجود ، على ما مرّ في الأمور العامّة ، لكن يشبه أن يكون حكم معقولاته تعالى حكم اللوازم الذهنيّة ؛ لأنّها إنّما تلزمه من حيث عقله تعالى لذاته لا مطلقا ، وعقله لذاته وإن كان عين ذاته لكنّ الاعتبار مختلف ، فهو باعتبار عقله لذاته يلزمه أن يعقل الأشياء ؛ لكون ذاته علّة للأشياء ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، وذوات الأشياء تلزمه باعتبار ذاته ، ومعقولات الأشياء تلزمه باعتبار عقله لذاته.

وعلى هذا تكون جواهر تلك المعقولات جواهر ذهنيّة وأعراضها أعراضا ذهنيّة وإن كان ممّا يصدق عليه مفهوم العرض بحسب الخارج بلا إشكال.

[ المبحث ] العاشر : ذهب جماعة في كيفيّة العلم قبل الإيجاد إلى أنّ ذاته تعالى علم تفصيليّ ببعض الموجودات وهو المعلول الأوّل ، وعلم إجماليّ بسائرها (١).

وبيّن ذلك بعضهم (٢) بما محصّله : أنّ العلم بمعنى ما به الانكشاف لا يجب أن يكون حقيقة المعلوم مساوية له في الماهيّة ، بل قد يكون كما في علم الشيء بالكنه ، وقد لا يكون كما في علم الشيء بالوجه.

وما يقال ـ أنّ حضور غير حقيقة الشيء أو حصوله لا يفيد العلم به ، والمعلوم في الحقيقة في المعلوم بالوجه إنّما هو كنه الوجه لا ذي الوجه ـ فإن أريد أنّ ذا الوجه ليس معلوما أصلا ، فممنوع ، والسند ظاهر. وإن أريد أنّه ليس معلوما بالكنه فممنوع ولا يضرّنا ، ولا يلزم في صورة العلم بالمعدوم تعلّق العلم بالمعدوم الصرف ؛ فإنّ المعدوم الصرف هو الذي لا يكون بحقيقته ولا بما ينكشف به حاصلا للعالم.

ثمّ إنّ العلم الفعليّ ما يكون سببا لوجود المعلوم ومقدّما عليه بالذات أو

__________________

(١) « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ شرح المنظومة ، قسم الفلسفة : ١٦٥.

(٢) هو الأمير نظام الدين أحمد. منه رحمه‌الله.

٢٢٥

بالطبع سواء كان علما بوجهه أو بكنهه ؛ فإنّ كون العلم مقدّما على المعلوم وسببا لوجوده لا يقتضي أن يكون علما بكنه حقيقته ، فالعلم بمعنى ما به الانكشاف عبارة عن أمر حاصل عند العالم ، له مناسبة مخصوصة إلى المعلوم ، بسببها يتميّز وينكشف ذلك المعلوم عند من حصل له ذلك الأمر سواء كان مساويا له في الماهيّة ، أو لا.

ولا ريب أنّ للعلّة مناسبة مخصوصة مع المعلول ، بها يصدر عنها ذلك المعلول المعيّن دون غيره ، فيجوز أن تكون نفس ذات العلّة علما بالمعلول ، فلا يبعد أن يكون علمه تعالى بذاته علما تفصيليّا بمعلوله الأوّل ، وإجماليّا بسائر معلولاته البعيدة بأن يعلم معلوله الأوّل قبل إيجاده علما تفصيليّا بنفس ذاته المقدّسة ، ويعلم المعلول الثاني كذلك بنفس ذات المعلول الأوّل وهكذا ، ولا يجب أن يكون علمه الفعلي التفصيليّ بجميع الموجودات في مرتبة واحدة ، بل ذلك ممتنع ؛ لامتناع أن يعلم بأمر واحد بسيط معلومات متكثّرة بخصوصيّاتها ، ممتازا بعضها عن بعض.

وعلى هذا وإن لزم احتياج الواجب في العلم التفصيليّ بأكثر الموجودات إلى معلولاتها المغايرة لذاته ، وكونه في مرتبة الذات غير عالم بحقائق الممكنات بالذات ، بل يتجدّد علمه بها بعد مرتبة الذات ، لكن احتياجه في علمه التفصيليّ إلى غيره غير ممتنع ؛ فإنّ كماله الذاتيّ إنّما هو في العلم الإجماليّ الذي هو عين ذاته ، والتغيّر في علمه إذا لم يكن بحسب الزمان بل بحسب الذات فلا دليل على امتناعه ، بل قد صرّحوا بأنّ علمه بذاته علّة لعلمه بمعلولاته ، وهذا تغيّر وتجدّد بحسب الذات. انتهى.

ولا يخفى ما فيه ؛ لأنّ الوجه يجب كونه محمولا على ذي الوجه ، متّحدا معه بوجه ما ؛ فإنّ وجه الإنسان هو الضاحك ـ مثلا ـ لا الضحك ، وليس العلّة مع معلولها الخارج عنها ، المباين لها كذلك. إلى غير ذلك على ما يظهر بالتأمّل.

٢٢٦

واكتفى بعضهم (١) بكونه إجماليّا فقط من قبيل الحالة الثالثة من الحالات الثلاث المذكورة في كتاب النفس قال :

فأمّا أن يكون من قبيل الحالة الأولى ، فهو محال ؛ لأنّ العلم المفصّل هو العلم الإنسانيّ الذي لا يجتمع اثنان منه في النفس في حالة واحدة ، بل يضادّ واحدا واحدا ؛ فإنّ العلم نقش في النفس ، فكما لا يتصوّر أن يكون في شمعة نقشان وشكلان في حالة واحدة ، لا يتصوّر أن يكون في النفس علمان مفصّلان حاضران في حالة واحدة ، بل يتعاقب (٢) على القرب بحيث لا يدرك تعاقبهما للطف الزمان ، أو يصير المعلومات الكثيرة بجملة كالشيء الواحد ، فيكون للنفس منها حالة واحدة نسبتها إلى كلّ الصور واحدة ، ويكون ذلك كالنقش الواحد.

وهذا التفصيل والانتقال لا يكون إلاّ للإنسان ، فإن فرض وجودها مفصّلا في حقّه تعالى كانت علوما متعدّدة بلا نهاية واقتضى كثرة ، ثمّ كانت متناقضات ؛ لأنّ الاشتغال بواحد يمنع من الآخر.

فإذن معنى كون الأوّل عالما أنّه على حالة بسيطة نسبتها إلى سائر المعلومات واحدة ، فمعنى عالميّته مبدئيّته لفيضان التفاصيل منه في غيره ، فعلمه هو المبدأ الخلاّق لتفاصيل العلوم في ذوات الملائكة والإنس ، فهو عالم بهذا الاعتبار ، وهذا أشرف من التفصيل ؛ لأنّ المفصّل لا يزيد على واحد ولا بدّ أن يتناهى ، وهذا نسبته إلى ما يتناهى وما لا يتناهى واحدة.

ومثاله أن نفرض ملكا معه مفاتح خزائن الأرض وهو يستغني عنها ، فلا ينتفع بذهب ولا فضّة ولا يأخذه ولكن يفيضه على الخلق ، فكلّ من له ذهب يكون منه أخذه ، وبوساطة مفتاحه وصل إليه ، فكذلك الأوّل تعالى عنده مفاتح علم الغيب

__________________

(١) نسب إلى أكثر المتأخّرين. راجع « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ « المبدأ والمعاد » : ١١٧ ـ ١١٨ ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : ١٦٧.

(٢) كذا ، والصحيح : « يتعاقبان ».

٢٢٧

يفيض العلم بالغيب والشهادة على الكلّ ، وكما يستحيل أن لا يسمّى الملك الذي بيده المفاتيح غنيّا ، يستحيل أن لا يسمّى الذي عنده مفاتح العلم عالما ، فالفقير الذي يأخذ منه دنانير معدودة يسمّى غنيّا باعتبار أنّ الدنانير في يده ؛ والملك باعتبار أنّ الدنانير من يده وبإفاضته ويفيض منه الغنى على الكلّ كيف لا يسمّى غنيّا؟! فكذلك حال العلم (١). انتهى.

واعترض عليه بأنّه لو انحصر علمه في الإجماليّ ، لزم أن لا يعلم إلاّ ذاته بخصوصها ، ولا يعلم سائر الموجودات بخصوصيّاتها ، ولا يمتاز في نظره بعضها عن بعض.

وفساده أظهر من أن يذكر.

ولزم أيضا أن لا يصدر عنه موجود بالعلم ؛ إذ العلم الإجماليّ ـ كما صرّح به ـ نسبته إلى جميع الموجودات على السويّة ، فلا يصدر عنه معلول دون آخر ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح ، وعدم صدور الموجودات عنه بالعلم مناف لكون علمه تعالى فعليّا.

وبأنّه يجوز أن يعلم الواجب جميع الموجودات بعلوم كثيرة لكن بالتفات واحد ، فلا يشغله شأن عن شأن (٢).

ومنهم من قال : إنّ ذاته علم إجماليّ بجميع الموجودات ، بمعنى أنّه علم بالفعل بخصوصيّات جميع الموجودات عليه وجه يتميّز بعضها عن بعض في علمه تعالى (٣).

وعليه حمل كلام بعض العارفين ؛ حيث قال : نحو العلم هنالك على عكس نحو العلم عندنا ؛ فإنّ المعلوم هنالك يجري من العلم مجرى الظلّ من الأصل ، فما عند

__________________

(١) نحوه في « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٤٢ ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٤٣ ـ ٢٤٥.

(٣) قاله بعض المتأخّرين في الجواب عن القول السابق ، راجع « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٤٣ ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ١١٩.

٢٢٨

الله هو الحقائق المتأصّلة التي تنزل الأشياء منها بمنزلة الصور والأشباح ، فما من الأشياء عند الله أحقّ بها ممّا عند أنفسها ، فالعلم هنالك في شيئيّة المعلوم أقوى من المعلوم في شيئيّة نفسه ؛ فإنّه مشيّئ الأشياء ومحقّق الحقيقة والشيء مع نفسه بالإمكان ؛ فإنّه بين أن يكون وأن لا يكون ، ومع مشيّئه بالوجوب ، ومشيّئ الشيء فوق الشيء ؛ فإنّه الشيء ويزيد ، وإن كان فهم هذا يحتاج إلى تلطّف شديد ، وإذا كان ثبوت نفس الشيء عند العالم حضورا له ، فثبوت ما هو أولى به من نفسه أولى بذلك.

وكذا كلام المحقّق الدواني من أنّ الذي يشبه أن يكون مذهب الحكماء هو أنّ ذاته تعالى عين العلم القائم بذاته ، فهو علم بذاته وعلم بمعلولاته إجمالا.

كما قال بعضهم : إنّ الصورة المحسوسة لو قامت بنفسها ، كانت حاسّة ومحسوسة ، فهذا العلم القائم بذاته هو علم بذاته باعتبار ، وعلم إجماليّ بمعلولاته باعتبار آخر ، والحيثيّة الأولى علّة للحيثيّة الثانية فالمعلولات كلّها حاضرة له تعالى من غير أن يكون فيها كثرة بحسب ذلك الحضور ؛ فإنّ الصورة العقليّة في العلم الإجماليّ واحدة مع كثرة المعلومات على ما تقرّر في موضعه (١). انتهى.

وأورد على هذا المذهب أنّه كيف يتميّز بصورة واحدة مباينة لحقائق مختلفة تلك الحقائق المختلفة في نظر العالم؟! وهل هذا إلاّ تمايز المعدومات الصرفة (٢)؟

ومنهم من قال : إنّ ذاته تعالى علم إجماليّ بالموجودات كلّها بخصوصيّاتها لكن لا على أن يتميّز بعضها عن بعض ؛ فإنّ العلم شيء ، والتميّز شيء آخر ، والأوّل لا يوجب الثاني على ما حقّق في موضعه (٣).

وهذا أيضا بعد التسليم كالأوّل في أنّه كيف يمكن أن يعلم معلومات مختلفة

__________________

(١) انظر « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٣٨ ـ ٢٤٠ ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ١١٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) قاله بعض المتأخّرين في الإيراد على القول السابق ، كما ذكر ذلك الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٤١.

٢٢٩

بحقيقة واحدة مباينة لجميعها وإن لم يتميّز بعضها عن بعض؟! ويشتركان مع سابقهما في أنّ نسبة العلم الإجماليّ إلى جميع الموجودات على السواء ، فلا يترجّح صدور واحد دون آخر ، فلا يكون الصدور عن علم كما مرّ.

هذا آخر ما أردناه من إيراد المباحث المتعلّقة بهذا المقام ، وتلك عشرة كاملة في ذاتها ، مكمّلة للمرام ، وهو تعالى وليّ الفضل والإنعام.

تكميل عرشيّ

قد عرفت في تضاعيف ما ذكرنا في مباحث الوجود من الأمور العامّة من تحقيق مذهب الحكماء في حقيقة الوجود أنّ للوجود أفرادا حقيقيّة ، وأنّها حقائق مختلفة بالشدّة والضعف ، متّحدة مع الماهيّات في الخارج ، وزائدة عليها بحسب العقل فقط ، لا كما يقوله المتأخّرون من أنّ الوجود مفهوم مصدري اعتباري لا حقيقة له في الخارج ، وأنّ الماهيّة المتحقّقة في الخارج باعتبار صدورها عن الجاعل ونسبتها إليه وارتباطها به منشأ لانتزاع هذا المفهوم الاعتباري ؛ لئلاّ يلزم كونه اعتباريا محضا غير مطابق لما في نفس الأمر (١) ، ولا كما قاله الأشعريّ من كون الوجود مرادفا للماهيّة وعينا لها عينا وذهنا غير زائد عليها حقيقة ومفهوما (٢) ، ولا كما نسبه صاحب الإشراق إلى المشّائين من كون الوجود زائدا على الماهيّة في الخارج قائما بها كالسواد والبياض (٣) ؛ لفساد كلّ من هذه الثلاثة :

أمّا فساد الأخيرين فهو ظاهر ، ومع ظهوره مفروغ عنه في مقامه ، وقد مرّ في الكتاب مستقصى هناك.

وأمّا الأوّل فلما أومأنا إليه هناك غير مرّة.

__________________

(١) هذا القول للسهرورديّ وأتباعه. انظر « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازيّ : ١٨٥ ـ ١٩١ ؛ « التلويحات » ضمن « مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٩ و ٤١١ ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة : ١٠ ـ ١١.

(٢) « المباحث المشرقيّة » ١ : ١٣٠.

(٣) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ٦٥ ـ ٦٦.

٢٣٠

وممّا يزيده بيانا أنّ حقيقة الجعل والصدور لا تتصحّح مع اعتباريّة الوجود ؛ لأنّ محصّل ما يتصوّر ويعقل منهما ليس إلاّ الفيض ، ولا معنى لأن يفيض من شيء ما لا يكون هو أو سنخه فيه ، فلا معنى لفيضان ماهيّة المجعول من ماهيّة العلّة ؛ لأنّ الماهيّات متضادّة متباينة موقوفة كلّ واحدة على مرتبتها غير قابلة للتشكيك والاختلاف بالشدّة والضعف ليمكن اشتمال ماهيّة على ماهيّة أخرى أو على سنخها أو شبهها ، فيعقل فيضان الأخرى من الأولى.

وما قالوا من أنّ معنى المجعوليّة هو أن يجعل الجاعل الماهيّة بحيث ينتزع منها الوجود ، ليس بشيء ؛ لأنّ تلك الحيثيّة إن كانت اعتباريّة أيضا ، فلا جدوى لها ، وإن كانت حقيقيّة من شأنها أن تفيض عن الجاعل ، فلا نعني بحقيقة الوجود سوى ذلك ؛ لأنّ التي نقول بها ليست فردا ذاتيّا للوجود المصدريّ ، بل هي فرد عرضيّ له يكون الوجود المصدريّ وجها من وجوهه ، وهي متصوّرة لنا بهذا الوجه ، لا بكنه حقيقتها ، والذي لأجله فرّوا من كون الوجود ذا فرد حقيقيّ هو توهّم قيامه على ذلك التقدير بالماهيّة بحسب الخارج قيام العرض بالموضوع ، واستحالته ظاهرة على ما سبق. فأمّا إذا قلنا بكونه عين الماهيّة في الخارج وزيادته عليها في العقل ، فلا مجال لقولهم (١) بالاستحالة.

وفرق بين قولنا : الوجود عين الماهيّة في الخارج ، وبين قولنا : ليس في الخارج إلاّ الماهيّة ، فليتدبّر. والأوّل هو ما نقوله. والثاني هو ما يقوله الانتزاعيّون.

فالحقّ الحقيق بالتصديق هو أنّ الفائض عن العلّة والصادر عنها بالذات إنّما هو وجود المعلول ، فإذا فاض الوجود من العلّة وباينها بالعدد ، يلزم أن يكون له هويّة امتاز بها عن العلّة ، وهذه الهويّة اللازمة هو المراد من الماهيّة ، فهذا الفائض من الجاعل أمر واحد في الخارج يحلّله العقل إلى أمرين :

أحدهما : ما يعبّر عنه بالكون وهو المراد من حقيقة الوجود.

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « لتوهّم » بدل « لقولهم ».

٢٣١

وثانيهما : الكائن بهذا الكون ، وهو المراد بالماهيّة ، فالمعبّر عنه بمنزلة ذات الشيء الموجود ؛ فإنّ الوجود بهذا المعنى يرادف الذات ، والمعبّر به من عوارضه ، ولفظ الوجود اسم مشترك بين هذين المعنيين. وما تواطئوا عليه ـ من كون الوجود مقولا بالتشكيك ـ هو الوجود بهذا المعنى لا الوجود الانتزاعيّ ؛ إذ لا معنى لكون الكون المصدريّ قابلا للتشكيك ، بل هو في الكلّ على السواء كما لا يخفى على الخبير ، فلنكتف هاهنا بهذا القدر من البيان ، ومن أراد الاستقصاء فليراجع ما حقّقناه في تضاعيف مباحث الوجود ، وفي نيّتنا أن نأتي برسالة مفردة لتمام التحقيق فيه بحيث ترتفع عنه جميع الأوهام والشكوك إن شاء الله العزيز.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الوجود العلّة أشدّ لا محالة من الوجود المعلول.

والمراد من الشدّة هو كون الشيء بحيث ينتزع منه أمثال شيء آخر ، فيكون الشيء الأوّل هو الشديد ، والثاني هو الضعيف ، فالأشدّ ما كأنّه يشتمل على عدّة أمثال الأضعف ، فالوجود العلّة ـ لكونه أشدّ من الوجود المعلول ـ يكون مشتملا على الوجود المعلول مع زيادة ، فالعلّة ـ التي هي مبدأ للعلل كلّها وينتهي إليها جميع المعلولات ـ كأنّها تشتمل على المعلولات كلّها ، فهي المعلولات كلّها بعنوان الوحدة ، وإذا صدرت عنها المعلولات وتباينت وتمايز بعضها عن بعض ، كانت جميعها هي العلّة بعنوان الكثرة من دون أن ينتقص من العلّة شيء ؛ إذ المعلول ليس جزءا من العلّة وبعضا منها حقيقة ، بل إنّما هو أثر منها ، وظلّ لها ، وما من المعلول في العلّة إنّما هو أصله وسنخه ؛ إذ فرق بين أن يفيض من شيء شيء ، وبين أن يقسّم شيء إلى شيء ، ومفاد العلّيّة والتأثير إنّما هو الأوّل لا الثاني ، فالوجود الواجبيّ يشتمل على جميع وجودات الممكنات التي هي عبارة عن ذواتها ، لا أقول : عن ماهيّاتها إذ فرق بين الماهيّة والذات على ما عرفت ، فعلمه تعالى بذاته عين العلم بجميع ذوات الأشياء ، وهذا هو المراد من كون ذاته تعالى علما إجماليّا بالأشياء وعقلا بسيطا لها على معنى ما حصّلناه من كلام الشيخ كما مرّ.

٢٣٢

فظهر أنّه لا يعزب عن هذا العلم ـ الذي هو عين ذاته ـ مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء بلا تكلّف وتجوّز ، لكن لمّا لم يمكن التميّز بين أمثال الضعيف التي يشتمل عليها الشديد في الخارج ؛ لكونها متّحدة بحسبه ، بل هي ـ من حيث هي متميّزة ـ إنّما هي في العقل ، لم يكف هذا العلم في صدور النظام من حيث هو نظام ؛ لاستدعائه التفصيل كما عرفت أيضا وإن كان هذا العلم علما بالماهيّات أيضا من وجه لكن ليس علما بها من حيث هي ماهيّات ؛ حيث لم تتميّز الماهيّة عن الوجود بحسب الخارج ، بل إنّما يتميّز عنه في العقل فقط ، وفي العقل البسيط لا يكون تميّز أصلا لا بين وجود ووجود ، ولا بين وجود وماهيّة ، فبالاضطرار لزم القول بالعقل التفصيليّ المتحقّق بحصول صور الماهيّات في العاقل متميّزا بعضها عن بعض وعن الوجود في علمه تعالى بالأشياء.

وهذان العلمان هما المشار إليهما بالكلّ الأوّل والكلّ الثاني في كلام الفارابيّ في الفصوص على ما نقلناه (١).

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الحصول ليس هو بالمعنى المشهور ؛ فإنّ المتبادر من الحصول في المشهور هو أن يكون الصور حاصلة من الأشياء في العاقل وفيما نحن فيه الأشياء حاصلة من الصور في الخارج ، وجميع المفاسد ـ التي أوردوها على القول بالعلم الحصوليّ في الواجب ـ مبنيّة على الاشتباه بين هذين المعنيين للحصول ، فعلى هذا لو قال قائل : إنّ علمه تعالى بالأشياء ليس حصوليّا كما أنّه ليس بحضوريّ ، لكان صوابا من هذا الوجه.

تدقيق إلهاميّ

يمكن أن يدقّق النظر ويقال : إنّ حديث الصور وحصولها في ذاته تعالى إنّما هو

__________________

(١) انظر ص ١٩٢ من هذا الجزء.

٢٣٣

لتفهيم كون ذاته تعالى علما بجميع الأشياء تفصيلا ، ويتبيّن معنى عنايته بها في صدورها عنه عن علم ، وذلك لا يستدعي حصول الصور حقيقة في ذاته تعالى متميّزا بعضها عن بعض ، بل يكفي فيه كون ذاته تعالى بحيث لو اعتبرها العقل وفصل ما اشتملت هي عليه بعنوان الوحدة من الموجودات المعلولة ، لحصل في العقل الصور المتكثّرة المطابقة لتلك الموجودات حقيقة ، فعبّروا عن تلك الحيثيّة ـ المستدعية لحصول الصور في العقل بالاعتبار المذكور ـ بحصول الصور في ذاته كما هو شائع في الاعتباريّات ؛ فإنّهم يقولون : إنّ الماهيّة البسيطة مركّبة من الأجزاء العقليّة ، ومعنى التركّب هو حصول الأجزاء في المركّب ، وليس للأجزاء العقليّة ـ كالجنس والفصل ـ حصول حقيقة في الماهيّة البسيطة ، بل حصولهما في الحقيقة إنّما هو في العقل ، لكن لمّا كان ذلك الحصول في العقل بسبب ملاحظته إيّاها من جهتين منها هما : جهتا ما به الاشتراك وما به الامتياز ، جعلوا حصولهما في العقل حصولا في الماهيّة ، واعتبروها مركّبة منهما في العقل ، وكذا الحال في الاعتبارات العرضيّة للماهيّات ، وكون ذاته تعالى العالمة بذاتها بالحيثيّة المذكورة كاف في صدور الأشياء عنه تعالى عن علم.

واستدعاء صدور النظام شيئا أزيد من الحيثيّة المذكورة ممنوع ، وكذا استدعاء علمه تعالى بالماهيّات ـ من حيث هي ماهيّات ـ ذلك ؛ فإنّ كونه تعالى عالما بشيء ـ من شأنه أن يحلّله العقل إلى ماهيّة ووجود ـ كاف في علمه تعالى بالماهيّة والوجود معا ، فليتفطّن.

وبهذا يمكن أن يوجّه ما مرّ في كلام ابن رشد من أنّ ذاته تعالى ليس شيئا أزيد من عقل (١) النظام ، فليتدبّر.

وممّا يؤيّد هذا التدقيق أنّ الغزاليّ في « التهافت » نقل مذهب الشيخ على أنّه قائل

__________________

(١) في المصدر : « من تعقّل النظام ».

٢٣٤

بكون ذاته تعالى علما تفصيليّا بجميع الأشياء وأنّه متفرّد من بين الفلاسفة بذلك ولم ينسب إليه القول بحصول الصور في ذاته ، وصدّقه ابن رشد في ذلك النقل (١) إلاّ أنّه جعله موافقا للفلاسفة في ذلك على ما مرّ ، فلو لا أنّ مراد الشيخ هو ما ذكرنا ، لما صحّ ذلك النقل وتصديقه فيه مع كون كتبه ورسائله مشحونة بحديث الصور على ما عرفت ، وعلى هذا يكون ما مرّ غير مرّة في كلام الشيخ ـ من أنّ اتّصافه تعالى بتلك الصور إنّما هو من حيث هي حاصلة فيه أو أنّها حاصلة فيه من ذاته لا من غيره وأمثال ذلك ـ إشارة إلى أنّ المراد من الحصول هاهنا ليس هو المعنى المشهور المتبادر ، بل هو معنى آخر ، فليتأمّل جدّا.

وهذا هو الكلام في العلم بالكلّيّات والطبائع المرسلة والجزئيّات المجرّدة ، وهذا العلم ثابت دائما غير متغيّر أصلا كالمعلوم.

[ في كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات الماديّة المتغيّرة ]

وأمّا العلم بالجزئيّات المادّيّة المبدعة والحادثة المتغيّرة ، فقد يكون أيضا دائما غير متغيّر وإن تغيّر المعلوم وذلك إذا كان العلم بها حاصلا من أسبابها وعللها المتأدّية إليها ، فيكون تعقّلا وغير محتاج إلى آلة ، وقد يكون متغيّرا ، فيكون حادثا بعد ما لم يكن ، وزائلا بعد ما كان ، وذلك إذا كان حاصلا من وجوداتها ، فيكون إحساسا ومحتاجا إلى آلة ، وعلم البارئ تعالى بالأشياء لمّا لم يجز أن يكون حاصلا له من وجودات الأشياء ـ لما عرفت ـ وجب أن يكون علمه بالجزئيّات حاصلا له من ذاته التي هي علّة للوجودات كلّها فينتهي إليها سلسلة العلل والأسباب ، فيكون تعقّلا ويكون ثابتا غير متغيّر أصلا وإن تغيّر المعلوم ؛ فإنّه تعالى يعلم كلاّ في وقته علما ثابتا قبل ذلك الوقت وفيه وبعده ، فيعلم وجوده بالأسباب المتأدّية إليه وعدمه بالأسباب المعدمة له ، ولا يتوقّف علمه بالوجود إلى حضور الآن والزمان الذي

__________________

(١) انظر ص ١٩٠ ـ ١٩١ من هذا الجزء.

٢٣٥

يختصّ الوجود به ، ولا علمه بالعدم إلى حضور الآن والزمان الذي يختصّ به العدم ، فلا مدخل في علمه تعالى ماض ولا مستقبل ولا حال.

قال الشيخ في إلهيّات الشفاء : ولأنّه مبدأ كلّ وجود ، فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للوجودات (١) التامّة بأعيانها والوجودات (٢) الكائنة الفاسدة بأنواعها أوّلا ، وبتوسّط ذلك بأشخاصها.

ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيّرات مع تغيّرها من حيث هي متغيّرة عقلا زمانيّا مشخّصا ، بل على نحو آخر نبيّنه ؛ فإنّه لا يجوز أن يكون تارة يعقل عقلا زمانيّا منها أنّها موجودة غير معدومة ، وتارة يعقل عقلا زمانيّا أنّها معدومة غير موجودة ، فيكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقليّة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات.

ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهيّة المجرّدة (٣) وبما يتبعها ممّا لا يتشخّص ، لم تعقل بما هي فاسدة.

وإن أدركت بما هي مقارنة لمادّة وعوارض مادّة ووقت وتشخّص وتركيب ، لم تكن معقولة ، بل هي محسوسة أو متخيّلة ، ونحن قد بيّنّا في كتب أخرى أنّ كلّ صورة لمحسوس وكلّ صورة خياليّة فإنّما تدرك من حيث هي محسوسة ومتخيّلة بآلة متجزّئة ، وكما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له ، كذلك إثبات كثير من التعقّلات ، بل الواجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلّيّ ، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصيّ ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض. وهذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة (٤).

ثمّ أشار إلى بيان النحو الآخر الذي عليه يجب أن يكون تعقّله لهذه المتغيّرات ،

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « الموجودات ».

(٢) في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « الموجودات ».

(٣) في « شوارق الإلهام » : « المجرّدة بما ».

(٤) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٥٩ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

٢٣٦

فقال : وأمّا كيفيّة ذلك ، فلأنّه إذا عقل ذاته ، وعقل أنّه مبدأ كلّ موجود ، عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولّد عنها ، ولا شيء من الأشياء يوجد إلاّ وقد صار من جهة ما يكون (١) واجبا بسببه وقد بيّنّا هذا ، فتكون هذه الأسباب تتأدّى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئيّة ، فالأوّل يعلم الأسباب ومطابقاتها ، فيعلم ضرورة ما يتأدّى إليها ، وما بينها من الأزمنة ، وما لها من العودات ؛ لأنّه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذا ، فيكون مدركا للأمور الجزئيّة من حيث هي كلّيّة ، أعني من حيث لها صفات. وإن تخصّصت بها شخصا ، فبالإضافة إلى زمان متشخّص ، أو حال متشخّصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها ، كانت أيضا بمنزلتها ، لكنّها تستند إلى مبادئ ، كلّ واحد منها نوعه في شخصه ، فيستند (٢) إلى أمور شخصيّة ، وقد قلنا : إنّ مثل هذا الاستناد قد يحصل للشخصيّات رسما ووضعا (٣) مقصورا عليها (٤) و (٥).

ثمّ أورد لذلك مثالا ، فقال :

« كما أنّك تعلم حركات السماويّات كلّها ؛ فأنت تعلم كلّ كسوف وكلّ اتّصال وكلّ انفصال جزئيّ يكون ، بعينه ، ولكنّه على نحو كلّيّ ؛ لأنّك تقول في كسوف ما : إنّه كسوف يكون بعد زمان حركة يكون لكذا من كذا شماليّا نصفيّا ينفصل القمر منه إلى مقابله كذا ، ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق له أو متأخّر عنه مدّة كذا ، وكذلك بين حال الكسوفين الآخرين حتّى (٦) لا تقدّر عارضا من عوارض تلك الكسوفات إلاّ علمته ، ولكنّك علمته كلّيّا ؛ لأنّ هذا المعنى يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كلّ واحد منها يكون حاله تلك الحال ، لكنّك تعلم بحجّة ما أنّ ذلك

__________________

(١) كلمة « يكون » ليست في « الشفاء ».

(٢) كذا ، والأولى : « تستند ».

(٣) في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « رسما ووصفا ».

(٤) في الطبعة الحجريّة من « الشفاء » : « مقصودا عليها ».

(٥) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

(٦) في « شوارق الإلهام » : « حتّى لا نتصوّر ».

٢٣٧

الكسوف لا يكون إلاّ واحدا بعينه.

وهذا لا يدفع الكلّيّة إن تذكّرت ما قلناه قبل ، ولكنّك مع هذا كلّه لم يجز أن تحكم في هذا الآن بوجود هذا الكسوف أولا وجوده إلاّ أن تعرف جزئيّات الحركات بالمشاهدة الحسّيّة (١).

ثمّ قال : فإن منع مانع أن يسمّى هذا معرفة للجزئيّ من جهة كلّيّة ، فلا مناقشة معه ؛ فإنّ غرضنا الآن في غير ذلك ، وهو في تعريفنا أنّ الأمور الجزئيّة كيف تعلم وتدرك علما وإدراكا يتغيّر معهما العالم ، وكيف تعلم وتدرك علما واحدا وإدراكا لا يتغيّر معهما العالم ؛ فإنّك إذا علمت أمر الكسوفات كما توجد أنت ، أو لو كنت موجودا دائما ، كان لك علم لا بالكسوف المطلق ، بل بكلّ كسوف كائن ، ثمّ كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغيّر منك أمرا ؛ فإنّ علمك في الحالين يكون واحدا ، وهو أنّ يكون كسوفا له وجود بصفات كذا بعد كسوف كذا ، أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا ، في مدّة كذا ، ويكون بعد كذا ، وبعده كذا ، ويكون هذا القصد (٢) منك صادقا قبل ذلك الكسوف ومعه وبعده ، فأمّا إن أدخلت الزمان في ذلك ، فعلمت في آن مفروض أنّ هذا الكسوف ليس بموجود ، ثمّ علمت في آن آخر أنّه موجود ، لم يبق علمك ذلك عند وجوده ، بل كان يحدث علم آخر ، ويكون فيك التغيّر الذي أشرنا إليه ، ولم يصحّ أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبل الانجلاء وأنت زمانيّ وآنيّ ، والأوّل الذي لا يدخل في زمان وحكمه ، فهو بعيد أن يحكم حكما في هذا الزمان ، وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم جديد أو معرفة جديدة (٣).

وقال في « الإشارات » : الأشياء الجزئيّة قد تعقل كما تعقل الكلّيّات من حيث

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٠.

(٢) في « شوارق الإلهام » و « الشفاء » : « العقد » بدل « القصد ».

(٣) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

٢٣٨

تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه (١) في شخصه يتخصّص (٢) به كالكسوف الجزئي ؛ فإنّه يعقل وقوعه بسبب توافي أسبابه الجزئيّة وإحاطتها بها ، ويعقلها ، كما يعقل الكلّيّات (٣) ، وذلك غير الإدراك الجزئيّ الزمانيّ لها الذي يحكم أنّه وقع الآن أو قبله ، أو يقع بعده ، بل مثل أن يعقل أنّ كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئيّ ما ، في وقت كذا وهو جزئيّ ما ، في مقابلة كذا ، ثمّ ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل إحاطة بأنّه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأوّل ؛ لأنّ هذا إدراك آخر جزئيّ يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله ، وذلك الأوّل يكون ثابتا الدهر كلّه وإن كان علما بجزئيّ ؛ فإنّ العاقل يغفل أنّه بين كون القمر في موضع كذا وبين كونه في موضع كذا يكون كسوف معيّن في وقت من زمان أوّل الحالين محدود عقله (٤) ، وذلك أمر ثابت قبل كون الكسوف ومعه وبعده (٥).

ثمّ قسّم الصفات للأشياء ، ومحصّل القسمة أنّ من الصفة ما يتغيّر بتغيّرها الموصوف ، ومنها ما لا يتغيّر بتغيّرها الموصوف ، فالثاني لا يكون متقرّرا في ذات الموصوف مثل كونك يمينا وشمالا ، والأوّل يكون متقرّرا في ذات الموصوف ، وهذه إمّا أن لا يلزمها إضافة إلى غير الموصوف وهي الصفة الحقيقيّة المحضة مثل السواد والبياض ، وإمّا أن يلزمها إضافة إلى غيره. وهذه على قسمين : ما لا يتغيّر بتغيّر المضاف إليه ، وما يتغيّر بتغيّره.

فالأوّل كالقدرة ؛ فإنّها هيئة ما للذات ، بسببها يصحّ أن يصدر عن تلك الذات فعل

__________________

(١) أي ينحصر في شخصه.

(٢) في المصدر : « يتشخّص ».

(٣) في المصدر : « وإحاطته بها وتعقّلها كما تعقل الكلّيّات ». وفي « الإشارات والتنبيهات » : « وإحاطة العقل بها أو تعقّلها كما تعقل الكلّيات ».

(٤) في « الإشارات والتنبيهات » : « ذلك » بدل « وذلك ».

(٥) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

٢٣٩

وهي تقتضي كون القادر مضافا إلى مقدور عليه ولا يتغيّر بتغيّر المضاف إليه ؛ فإنّ القادر على تحريك زيد لا يصير غير قادر في ذاته عند انعدام زيد ، ولكن يتغيّر إضافته تلك ؛ فإنّه حينئذ لا يكون قادرا على تحريك زيد وإن كان قادرا في ذاته.

والسبب في ذلك أنّ القدرة تستلزم الإضافة إلى أمر كلّيّ لزوما أوّليّا ذاتيّا ، وإلى الجزئيّات التي تقع تحت ذلك الكلّيّ لزوما ثانيا غير ذاتيّ ، بل بسبب ذلك الكلّيّ ، والأمر الكلّيّ الذي يتعلّق الصفة به لا يمكن أن يتغيّر ، فلأجل ذلك لا يتطرّق التغيّر إلى الصفة.

وأمّا الجزئيّات ، فقد تتغيّر ولتغيّرها يتغيّر الإضافات الجزئيّة العرضيّة المتعلّقة بها.

والثاني كالعلم ؛ فإنّه صورة متقرّرة في العالم تقتضيه الإضافة إلى معلومه ، ويتغيّر بتغيّر المعلوم ؛ فإنّ العالم بكون زيد في الدار يتغيّر علمه بخروجه عن الدار ؛ وذلك لأنّ العالم يستلزم الإضافة إلى معلومه المعيّن ، ولا يتعلّق بغير ذلك المعلوم بعين التعلّق الأوّل ، بخلاف القدرة ؛ فإنّ القدرة تتعلّق بالمقدور الكلّيّ أوّلا ، وبسببه بالمقدور الجزئيّ الذي يقع تحت ذلك الكلّيّ ثانيا. أمّا العلم ، فإنّه إذا تعلّق بالكلّيّ ، فلا يتعلّق بالجزئيّ الذي يقع تحت ذلك الكلّيّ البتّة إلاّ إذا استؤنف العلم وتجدّد وتعلّق بذلك الجزئيّ تعلّقا آخر ، مثلا العلم بأنّ الحيوان جسم لا يقتضي بانفراده العلم بكون الإنسان جسما ما لم يقترن إلى ذلك علم آخر هو العلم بكون الإنسان حيوانا فإذن العلم بكون الإنسان جسما علم مستأنف له إضافة مستأنفة وهيئة جديدة للنفس ، لها إضافة جديدة غير العلم بكون الحيوان جسما وغير هيئة تحقّق ذلك العلم.

ويلزم من ذلك أن يختلف حال الموصوف بالصفة التي تكون من هذا القسم باختلاف حال الإضافات المتعلّقة بها ، لا في الإضافات ، بل في نفس تلك الصفة (١).

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣١١ ـ ٣١٤.

٢٤٠