البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

كتعدّدها في العلم الإنسانيّ ، وذلك أنّه تعدّد ليس شأن العقل منّا إدراكه ، ولذلك أصدق ما قال القوم : إنّ للعقول حدّا تقف عنده ولا تتعدّاه وهو العجز عن التكييف الذي في ذلك العلم.

وإنّما امتنع عندنا إدراك ما لا نهاية له بالفعل ؛ لأنّ المعلومات عندنا منفصل بعضها عن بعض ، فأمّا إن وجد هاهنا علم يتّحد فيه المعلومات ، فالمتناهية وغير المتناهية في حقّه سواء ، هذا كلّه ممّا يزعم القوم أنّه ممّا قام البرهان عليه عندهم ، وإذا لم نفهم نحن من الكثرة في العلم إلاّ هذه الكثرة وهي منتفية عنه ، فعلمه واحد لكن تكييف هذا المعنى وتصوّره بالحقيقة ممتنع على العقل الإنسانيّ ؛ لأنّه لو أدرك الإنسان هذا المعنى ، لكان عقله هو عقل البارئ تعالى وذلك مستحيل.

ولمّا كان العلم بالشخص عندنا هو العلم بالفعل ، علمنا أنّ علمه هو أشبه بالعلم الشخصيّ منه بالعلم الكلّي وإن كان لا كلّيّا ولا شخصيّا. ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى : ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (١) وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.

وقال أيضا : القوم إنّما نفوا أن يعرف غيره من الجهة التي بها ذلك الغير أخسّ وجودا ؛ لئلاّ يرجع المعلول علّة والأشرف وجودا أخسّ وجودا ؛ لأنّ العلم هو المعلوم ، ولم ينفوه من جهة أنّه يعرف ذلك الغير بعلم أشرف وجودا من العلم الذي نعلم نحن به الغير ، بل واجب أن يعلمه من هذه الجهة ؛ لأنّها الجهة التي من قبلها وجود الغير عنه.

وبالجملة ، لئلاّ يشبه علمه علمنا ـ الذي في غاية المخالفة له ـ فابن سيناء إنّما رام أن يجمع بين القول بأنّه لا يعلم إلاّ ذاته ، ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف ممّا يعلمها به الإنسان ؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته ، وذلك بيّن من قوله : « إنّ علمه

__________________

(١) سبأ (٣٤) : ٣.

٢٠١

بنفسه وبغيره ـ بل بجميع الأشياء ـ هو ذاته. وإن كان لم يشرح هذا المعنى كما شرحناه وهو قول جميع الفلاسفة أو اللازم عن قول جميعهم.

ثمّ قال في موضع آخر : الكلام في علم البارئ تعالى بذاته وبغيره ممّا يحرّم على طريق الجدل في حال المناظرة فضلا عن أن يثبت في كتاب ؛ فإنّه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل هذه الدقائق ، وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهيّة عندهم ؛ فلذلك كان الخوض في هذا العلم محرّما عليهم ؛ إذ كان الكافي في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما أطاقته أفهامهم ، ولذلك لم يقتصر الشرع ـ الذي قصده الأوّل تعليم الجمهور في تفهيم هذه الأشياء في البارئ تعالى ـ بوجودها في الإنسان كما قال تعالى : ( لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ) (١) بل واضطرّ إلى تفهيم معان في البارئ تعالى بتمثيلها في الجوارح الإنسانيّة مثل قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ) (٢) وقوله : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) (٣) فهذه المسألة هي خاصّة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق.

ولذلك لا يجب أن تثبت في كتاب إلاّ في الموضوعة على الطريق البرهانيّ ، وهي التي شأنها أن تقرأ على ترتيب بعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهانيّ إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلّة وجود هذه الفطرة في الناس.

فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي تلك الأشياء سموم لها فإنّ السموم إنّما هي أمور مضافة ؛ فإنّه قد يكون سمّا في حقّ حيوان شيء هو غذاء في حقّ حيوان آخر ، وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان.

ثمّ قال : ولكن إذا تعدّى الشرير الجاهل فسقى السمّ من هو في حقّه سمّ على أنّه

__________________

(١) مريم (١٩) : ٤٢.

(٢) يس (٣٦) : ٧١.

(٣) ص (٣٨) : ٧٥.

٢٠٢

غذاء ، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد بضاعته في شفائه ، ولذلك استجزنا نحن التكلّم في مثل هذه الكلّيّات ، وإلاّ فما كنّا نرى أنّ ذلك يجوز لنا ، بل هو من أكبر المعاصي أو من أكبر الفساد في الأرض ، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة ، وإذا لم يكن بدّ من الكلام في هذه المسألة ، فلنقل في ذلك بحسب ما تبلغه قوّة الكلام في هذا الموضع ، فنقول :

إنّ القوم لمّا نظروا إلى جميع المدركات ، وجدوا أنّها صنفان : صنف مدرك بالحواسّ وهي أجسام قائمة بذواتها ، مشار إليها ، وأعراض مشار إليها في تلك الأجسام. وصنف مدرك بالعقل وهي ماهيّات تلك الأمور المحسوسة وطبائعها أعني الجواهر والأعراض ، فلمّا تميّزت لهم الأمور المعقولة من الأمور المحسوسة وتبيّن لهم أنّ في المحسوسات طبيعتين : إحداهما قوّة ، والأخرى فعل ، نظروا أيّ الطبيعتين هي المتقدّمة للأخرى ، فوجدوا أنّ العقل مقدّم على القوّة ؛ لكون الفاعل متقدّما على المفعول ، ونظروا في العلل والمعلولات أيضا فأفضى بهم الأمر إلى علّة أولى هي بالفعل السبب الأوّل لجميع العلل ، فلزم أن تكون فعلا محضا ، وأن لا يكون فيها قوّة أصلا ؛ لأنّه لو كان فيها قوّة ، لكانت معلولة من جهة وعلّة من جهة ، فلم تكن أولى.

ولمّا كان كلّ مركّب من صفة وموصوف فيه قوّة وفعل ، وجب عندهم أن لا يكون الأوّل مركّبا من صفة وموصوف.

ولمّا كان كلّ بريء عن القوّة عندهم عقلا وجب أن يكون الأوّل عندهم عقلا ، فهذه هي طريقة القوم بجملة ، فإن كنت من أهل الفطرة المعدّة لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات والفراغ ، ففرضك أن تنظر في كتب القوم وعلومهم لتقف على ما في علومهم من حقّ أو ضدّه ، وإن كنت ممّن نقصك واحد من هذه الثلاث ففرضك أن تفرغ في ذلك إلى ظاهر الشرع ولا تنظر إلى هذه العقائد المحدثة في الإسلام ؛ فإنّك إن كنت من أهلها لم تكن من أهل اليقين ، فهذا هو الذي حرّك القوم أن يعتقدوا أنّ هذه الذات ـ التي وجدوا أنّها مبدأ العالم ـ بسيطة ، وأنّها علم وعقل.

٢٠٣

ولمّا رأوا أنّ النظام الموجود هاهنا في العالم وأجزائه هو صادر عن علم متقدّم عليه ، قضوا أنّ هذا العقل والعلم هو مبدأ العالم الذي أفاده أن يكون موجودا ، وأن يكون معقولا.

وقال أيضا في موضع آخر : والمحقّقون من الفلاسفة لا يصفون علمه تعالى بالموجودات لا بكلّيّ ولا بجزئيّ ، وذلك أنّ العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول ، والعقل الأوّل هو عقل محض وعلّة ، فلا يقاس علمه على العلم الإنسانيّ ، فمن جهة ما لا يعقل غيره من حيث هو غير هو علم منفعل ، ومن جهة ما يعقل الغير من حيث هو ذاته هو علم فاعل.

وتلخيص مذهبهم أنّهم لمّا وقفوا بالبراهين على أنّه لا يعقل إلاّ ذاته ، فذاته عقل ضرورة ، ولمّا كان العقل بما هو عقل إنّما يتعلّق بالموجود لا بالمعدوم وقد قام البرهان على أنّه لا موجود إلاّ هذه الموجودات التي نعقلها نحن ، فلا بدّ أن يتعلّق علمه بها ، وإذا وجب أن يتعلّق علمه بهذه الموجودات ، فإمّا أن يتعلّق بها على نحو تعلّق علمنا بها ، وإمّا أن يتعلّق بها على وجه أشرف من جهة تعلّق علمنا بها ، وتعلّق علمه بها على نحو تعلّق علمنا بها مستحيل ، فوجب أن يكون تعلّق علمه بها على نحو أشرف ووجود أتمّ لها من النحو الذي تعلّق علمنا بها ؛ لأنّ العلم الصادق هو الذي يطابق الوجود ، فإن كان علمه أشرف من علمنا ، فعلم الله يتعلّق بالموجود بجهة أشرف من الجهة التي يتعلّق علمنا بها.

فللموجود إذن وجودان : وجود أشرف ، ووجود أخسّ ، والوجود الأشرف هو علّة الوجود الأخسّ ، وهذا هو معنى قول القدماء : إنّ البارئ تعالى هو هذه الموجودات كلّها وهو المنعم بها والفاعل لها ؛ ولذلك قال رؤساء الصوفيّة : لا هو إلاّ هو ، ولكن هذا كلّه هو من علم الراسخين في العلم ، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلّف الناس اعتقاد هذا ، ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي ، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم ، كما أنّ من كتمه عن أهله فقد ظلم ، فأمّا أنّ الشيء الواحد له

٢٠٤

أطوار من الوجود ، فذلك معلوم من النفس. انتهى ما أردنا من كلماته التي التقطناها من مواضع متفرّقة ؛ لكونها متلائمة بحسب المرام ، وملائمة جدّا للمقام.

مباحث متعلّقة بالمقام ، ممّا يزيد الاطّلاع عليها في توضيح المرام

[ المبحث ] الأوّل : اعترض الإمام الرازيّ في المباحث المشرقيّة على الحكماء ـ حيث ذهبوا إلى أنّ علوم المجرّدات بذواتهم هي نفس ذواتهم ـ بأنّه لو كان كذلك ، لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها وليس كذلك ؛ إذ إثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشّم إقامة برهان ، وبيان إثبات علمها غير بيان إثبات وجودها ، وكذا ليس من أثبت وجود البارئ أثبت علمه بذاته ، بل يلزمه إقامة حجّة أخرى له (١).

وأجاب عنه أستادنا صدر المتألّهين قدس‌سره في كتابه الموسوم بالمبدإ والمعاد بأنّ معقوليّة الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعليّة الوجود والاستقلال ، أي كونه غير قائم بشيء آخر ، فالجوهر المفارق لمّا كان بحسب الوجود العينيّ غير موجود لشيء آخر ، بل موجودا لذاته ، كان معقولا لذاته ، وإذا حصلت ماهيّته في عقل آخر صارت بهذا الاعتبار موجودة لشيء آخر وجودا ذهنيّا لا لذاته ، فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاته ، وإذا لم يكن ذاته بهذا الاعتبار ـ أي باعتبار وجودها في ذلك العاقل ـ عاقلة لذاتها ، فكيف يعقلها ذلك العاقل عاقلة لذاتها بهذا الاعتبار؟!

ومحصّل القول : أنّ عالميّة الجوهر المجرّد لذاته عين وجوده لا عين ماهيّته ، فلا يلزم من ذلك أنّ من عقل ماهيّته عقلها عاقلة لذاتها إلاّ فيما يكون وجوده عين ماهيّته كالواجب تعالى ، لكن لمّا استحال ارتسام حقيقته تعالى في ذهن من الأذهان بالكنه ، لا يلزم من تعقّلنا له تعقّلنا عقله لذاته ، بل يحتاج إلى استيناف بيان وبرهان (٢).

__________________

(١) « المباحث المشرقيّة » ١ : ٤٦١.

(٢) « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ٨٦.

٢٠٥

واعترض بعضهم أيضا بأنّا نعلم بالضرورة أنّ كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجيّ مغاير لنفس حقيقة الأشياء ، فلا يكون نفس حقيقة العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم شيء بنفسه ؛ فإنّ كلّ شيء في نفسه هو هو ، فلو تغيّر عمّا هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته ، فلا بدّ في كون الشيء عالما بنفسه ـ مثلا ـ من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميّته ، فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط.

وأجيب بأنّ كون الشيء عالما خارجيا في علم الشيء بنفسه ممنوع ، فيجوز أن يكون نفس حقيقة الشيء مصداقا لكونه عالما بنفسه من غير أن يحتاج إلى مصداق مغاير لنفسه ؛ لأنّ صدق المفهومات المتغايرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلاّ إذا استلزم ذلك الصدق تغيّرا خارجيّا في الذات ، والتغيّر الخارجيّ فيما نحن فيه ـ وهو علم الشيء بنفسه ـ ممنوع.

ولو سلّم فإنّما نسلّم في علم الشيء بغيره بعد ما لم يكن في حدّ ذاته كذلك.

[ المبحث ] الثاني : قد اتّفقوا على أنّ المعتبر في كون الشيء معقولا تجرّده عن المادّة فقط ، وفي كونه عاقلا تجرّده عن المادّة وكونه قائما بذاته معا ؛ لأنّ ما لا يكون قائما بذاته يكون حاصلا لغيره لا حاصلا لنفسه ، وما لا يكون حاصلا لنفسه فكيف يكون شيء آخر حاصلا له؟! وحقيقة العلم إنّما هو حصول شيء لشيء كما مرّ غير مرّة ، فلا يجوز كون شيء من الصور والأعراض عاقلا ، ولا يلزم كون المادّة ـ لكونها قائمة بذاتها ـ عاقلة ؛ لأنّ مرادهم من القائم بذاته أن يكون موجودا بالفعل وقائما بذاته ، ووجود المادّة في حدّ ذاتها ليس بالفعل ، بل بالقوّة ؛ فإنّ فعليّة المادّة إنّما هي بالصورة المقيمة لها لا بذاتها.

وما قيل ـ من أنّه لو كان حقيقة العلم هو الحصول ، لكان كلّ جماد عالما ؛ إذ ما من جماد إلاّ وقد حصل ماهيّته له والمعلوم من كلّ شيء إنّما هو ماهيّته ـ

٢٠٦

فمندفع بأنّ الصور الجماديّة لمّا كانت قائمة بموادّها فماهيّتها كانت حاصلة لموادّها ، لا لأنفسها على ما مرّ.

وأيضا ما هو شرط في المعقوليّة ـ أعني التجرّد عن المادّة ـ مفقود في الصور الجماديّة ؛ لكونها مقارنة لموادّها.

[ المبحث ] الثالث : قد تلخّص من تضاعيف ما ذكرنا أنّ حقيقة العلم هي حصول مجرّد لمجرّد قائم بذاته ، وذلك الحصول يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

أحدها : حصول الشيء بنفس ذاته العينيّة لشيء مستقلّ في الوجود بالفعل قائم بذاته حصولا حقيقيّا كحصول المعلول بحسب وجوده العينيّ لعلّته.

وثانيها : أن يكون ذلك الحصول حصولا حكميّا لا حقيقيّا كحصول ذات المجرّد لنفس ذاته ولا شكّ في كونه حكميا راجعا إلى كون ذات المجرّد غير فاقدة لذاتها.

وهذان القسمان هما المراد (١) بالعلم الحضوريّ ، وبهذا الاعتبار قيل : العلم هو حضور الشيء لمجرّد ، أو عدم غيبة شيء عن مجرّد.

وثالثها : حصول شيء بصورته وماهيّته ـ لا بنفس حقيقته العينيّة ـ لمجرّد قائم بذاته ، وهذا هو المسمّى بالعلم الحصوليّ المفسّر بحصول صورة الشيء في العقل. ولا شكّ عند الحكماء والمحقّقين في كفاية كلّ واحد من النحوين الأخيرين من الحصول لتحقّق العلم ، ولذلك اتّفقوا على أنّ علم العاقل بذاته إنّما هو عين ذاته ، وأنّ علمه بغيره هو بحصول صورته في العقل.

وأمّا أنّه هل يكفي النحو الأوّل من الحصول أيضا لتحقّق العلم؟ فلم يشتهر من الفلاسفة قبل صاحب الإشراق ما يدلّ على ذلك ، بل هو أوّل من صرّح (٢) به وتبعه المصنّف وجماعة من المتأخّرين ، ومنعه جماعة أخرى منهم (٣) ، وقد مرّ في كلام

__________________

(١) كذا ، والأصحّ : « المرادان ».

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠.

(٣) راجع « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٣٠.

٢٠٧

الشيخ ما يدلّ على المنع. ومرّ أيضا بعض ما قيل على ذلك من أنّ كون الحصول للفاعل آكد من الحصول للقابل لا يدلّ على كون الحصول الآكد علما ؛ لجواز أن يكون تحقّق العلم موقوفا على القيام أو لاتّحاد ، بل الحقّ أنّ حصول المعلول إنّما هو حصول لنفسه إذا كان قائما بذاته ، أو لمحلّه إذا كان قائما بالمحلّ ، وليس حصولا للعلّة إلاّ على نحو من التجوّز.

وما الفرق في ذلك بين حصول المعلول للعلّة وبين حصول العلّة للمعلول؟ فلو كان حصول المعلول للعلّة علما لكان حصول العلّة للمعلول أيضا علما ، ولكنّا عالمين بعللنا بالعلم الحضوريّ ، وليس الأمر كذلك ، فتأمّل.

وأيضا لو كان مثل ذلك الحصول ـ أعني حصول المعلوم للعلّة ـ كافيا في العلم ، لكان اعتبار القيام بذاته في العاقل ضائعا ؛ ضرورة أنّ معلول الصورة المادّيّة حاصل للصورة لا لمادّتها وإنّما يكون الحصول للصورة حصولا لمادّتها إذا كان الحصول في ضمن القيام لا مطلقا ، فيلزم كون الصور الطبيعيّة عاقلة لآثارها الصادرة عنها ؛ لكون الربط ـ الذي اكتفوا به في العاقليّة ـ حاصلا بينهما.

وأيضا يلزم بمثل ذلك كون الصورة المادّيّة عاقلة لذاتها.

[ المبحث ] الرابع : قال بعض (١) من مقلّدة صاحب الإشراق : « حقيقة العلم مساوقة للحصول والوجود مطلقا ، فكلّ موجود يكون معلوما وعالما إلاّ أن يمنع عن ذلك مانع كالحصول لغيره ، فإن اعتبر بما هو ظاهر منكشف متميّز ذو نسبة إلى أمر صالح لأن يكون هذا الشيء ظاهرا له ، منكشفا عنده ، متميّزا لديه ، كان بهذا الاعتبار معلوما ، وذلك الشيء المنسوب إليه عالما.

وإن لم يعتبر بهذا الوجه واعتبر بنسبة أخرى أو بغير نسبة كان موجودا ، فالوجود

__________________

(١) هو السيّد الفاضل الأمير نظام الدين أحمد الشيرازيّ رحمه‌الله ممّا كتب هو في حاشية الكتاب. ( منه رحمه‌الله ).

٢٠٨

والحصول والعلم متّحدان بالذات ، متغايران بالاعتبار ؛ فإنّ العلم هو الحصول بوجه التميّز.

ثمّ إنّه من البيّن أنّ كل واحد من الموجودات ليس كذلك ، فلا بدّ في حصول أحد الأمرين الموجودين للآخر بوجه التميّز والانكشاف من أن تتحقّق بينهما علاقة ذاتيّة بحسب الوجود والحصول ، فيكون كلّ أمرين بينهما علاقة الحصول وربط وتعلّق من جهة الحصول عالما بصاحبه إلاّ لمانع ، وإذا لم يتحقّق بين أمرين علاقة ذاتيّة كذلك لا يكون أحدهما عالما أصلا ، فكلّ شيء مستقلّ في الوجود عالم بنفسه ؛ إذ لا علاقة آكد من الاتّحاد ، وكلّ علّة مستقلّة في الوجود عالمة بمعلولها ، وكلّ معلول كذلك عالم بعلّته إذا لم يكن المعلول جسمانيّا ، والعلّة مجرّدة ، فالجسمانيّ لا يتمكّن من أن يعلم المجرّد.

فظهر وتبيّن أنّ العلم إنّما يتحقّق بعلاقة ذاتيّة وجوديّة بين أمرين مستلزمة لحصول أحدهما للآخر وانكشافه لديه وامتيازه عنده ، وتلك العلاقة الذاتيّة الوجوديّة قد تكون بين ذات المعلوم بحسب وجوده العينيّ وذات العالم كما في العلم الحضوريّ بأنواعه ، وقد تكون بين صورة المعلوم وذات العالم كما في العلم الحصوليّ المتحقّق بحصول صورة الشيء في نفس ذات العالم أو في آلته حصولا ذهنيّا ، فالمعلوم الخارجيّ في هذه الصورة يكون معلوما بالعرض ؛ فإنّ العلاقة الوجوديّة المستلزمة للعلم في الحقيقة إنّما هي بين العالم والصورة بخلاف المعلوم بالعلم الحضوريّ بحسب وجوده العينيّ ؛ إذ المعلوم بالذات حينئذ هو نفس ذات الأمر العينيّ ؛ لتحقّق العلاقة الوجوديّة بين نفس ذات ذلك الأمر العينيّ والعالم به ، فالعلم الحضوريّ أتمّ أفراد العلم وأكملها. ومن ذهب إلى أنّ العلم بالغير منحصر في العلم الحصوليّ لا غير ، فقد أخطأ وأنكر أتمّ أفراد العلم وأكملها.

ثمّ قال : ولا يخفى على الخبير أنّه ممّا حقّقناه ـ من أنّ منشأ تحقّق العلم بين الأمرين إنّما هو علاقة ذاتيّة بينهما بحسب الوجود والحصول ـ يتّضح أنّ الأمر

٢٠٩

القائم بغيره لا يحصل له نفسه ولا غيره أصلا ، فلا يكون عالما بنفسه ولا بغيره أيضا وضوحا تامّا بحيث لا يبقى فيه ريبة لمنصف. انتهى.

أقول ـ بعد ما مرّ من وجوه ما يرد على العلم الحضوريّ ـ : إنّه لا يخفى أنّ ما ادّعاه من مساوقة الوجود والعلم دعوى من غير بيّنة ، ولم يتّضح ذلك ممّا ادّعى اتّضاحها به.

نعم ، بين العلم وبين الحصول والوجود لمن له صلاحية العلم مساوقة لا مطلقا.

وما ذكره ـ من العلاقة الذاتيّة بين موجودين ـ إن كانت سببا لحصول أحدهما للآخر ، كانت موجبة للعلم ، لكنّ الكلام في أنّ العلاقة الذاتيّة التي بين العلّة والمعلول هل هي موجبة لحصول أحدهما للآخر ، أم لا؟

وقد عرفت أنّها ليست موجبة لذلك ؛ ومع تسليم ذلك كلّه فدعوى كون العلم الحضوريّ أتمّ أفراد العلم وأكملها إنّما تتمّ لو كان العلم الحصوليّ بحصول الشبح والمثال ، لا بحصول الحقائق أنفسها على ما هو مذهب المحقّقين بأجمعهم ؛ فإنّه على تقدير حصول الحقائق بأنفسها يكون المعلوم أو المنكشف بالذات في العلم الحصوليّ هو حقائق الأشياء وماهيّاتها وفي العلم الحضوريّ هو هويّات الأشياء وإنّيّاتها ، وكيف يصحّ القول بأنّ العلم بهويّات الأشياء أتمّ من العلم بماهيّاتها سيّما في الأمور الجسمانيّة المحفوفة بالغواشي المادّيّة؟! وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : إنّ الإبصار أتمّ من العلم ، وأنّ الحسّ أكمل في باب الإدراك من العقل؟ ومن يجترئ على أمثال ذلك؟

نعم ، كثيرا ما يمثّل العلم بالبصر ، والمعقول بالمحسوس لكن للعقول العامّيّة الوهمانيّة والمدارك الجمهوريّة الهيولانيّة ، ولذلك قد شاعت الأمثال في الكلام الإلهي وكلمات الأنبياء بل الحكماء أيضا حيث كان المقصود تفهيم الجمهور. وأمّا فيما نحن بصدده فالخطب أعظم من ذلك ؛ ولذلك لم يقع التكليف بمعرفة كيفيّة علمه تعالى.

٢١٠

وأيضا حينئذ ـ أي حين كون الحاصل من الأشياء في الذهن هو حقائق الأشياء ـ فالمعلوم بالذات هو حقيقة الشيء الخارجي ، وليس المعلوم بالعرض إلاّ خصوص الفرد الخارجي من حيث هو فرد ، فما ذكره لبيان كون العلم الحضوريّ أتمّ من الحصوليّ لا يدلّ على ذلك ، هذا.

ثمّ إنّ هذا البعض اعترض على ما نقلنا من الشيخ في رسالة منسوبة إليه من أنّ المعلوم لو كان هو الصور العينيّة ، لكان كلّ موجود ـ وجودا عينيّا ـ معلوما لنا ، ولكنّا لا نعلم المعدوم : بأنّ هذا كلام في نهاية الضعف ؛ فإنّه لا يلزم من جواز كون الوجود الخارجيّ معلوما في الجملة أن يكون كلّ موجود خارجيّ معلوما لكلّ أحد ؛ لجواز أن يكون معلوميّته مشروطة بشرط لا يتحقّق في كلّ موجود خارجيّ بالنسبة إلى كلّ واحد.

وأيضا لا يلزم من معلوميّة الموجود الخارجيّ انحصار المعلوم فيه حتّى يقال : لو كان الموجود الخارجيّ معلوما ، لكنّا لا نعلم المعدوم.

بل الحقّ الحقيق بالتصديق أنّ العلم بالشيء عبارة عن حصول ذلك الشيء لمن له صلاحية العالميّة ، وحصول شيء لشيء قد يكون بصورته وذلك في العلم الحصوليّ ، وقد يكون بذاته وذلك في العلم الحضوريّ ، وليس كلّ موجود خارجيّ حاصلا بذاته لكلّ أحد ، بل إنّما يحصل الموجود العينيّ بذاته لأمر تحقّق بينهما علاقة وجوديّة مستلزمة لحصوله له كالعلّيّة والمعلوليّة (١). هذا كلامه.

وأقول : مراد الشيخ هو أنّ من المعلوم المتحقّق أنّ العلم بالشيء إنّما يتحقّق بأن يحصل أثر من ذلك الشيء في العالم ، فالعلم هو ذلك الأثر الحاصل في العالم لا الموجود في الخارج ، وإلاّ ـ أعني إن لم يكن الأثر الحاصل هو العلم ، بل الموجود في الخارج ـ لزم أن لا يحصل لنا علم بالمعدوم.

وأيضا لو كان وجود الشيء في الخارج كافيا في العلم به من دون أثر يحصل منه

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « كالعلّة والمعلول ».

٢١١

في العالم ، لزم أن يكون كلّ أحد عالما بكلّ موجود يكون موجودا معه وفي زمانه ؛ إذ نسبته إلى كلّ موجود كذلك على السواء فيما له مدخل في العلم.

وما ذكره المعترض من علاقة العلّيّة والمعلوليّة لا مدخل لها في العلم أصلا ؛ إذ ليست هي ممّا يوجب حصول أحدهما للآخر حقيقة ؛ لما عرفت ممّا ذكرناه في المبحث السابق ، بل تلك العلاقة ممّا يوجب المعيّة في الوجود فقط في الحقيقة ، فلو كانت معيّة شيء مع شيء في الوجود حصولا لأحدهما عند الآخر ، لكان كلّ موجود حاصلا لكلّ موجود يكون موجودا معه وفي زمانه وكان معلوما له. هكذا يجب أن يفهم كلام الأعلام ، والله تعالى هو وليّ الفضل والإنعام.

[ المبحث ] الخامس : الظاهر ـ بل التحقيق ـ أنّ النفس الناطقة تدرك بدنها الجزئيّ وسائر آلاتها الجزئيّة بالقوّة المتخيّلة ، وكذا المتخيّلة تدرك نفسها ، ولا يلزم اجتماع المثلين في محلّها ؛ لأنّ الصور المتخيّلة ، بل الحسّيّة مطلقا إنّما هي أشباح وأمثلة للجزئيّات ، وليست حقائق لها ؛ فإنّ إدراك الحقائق شأن العقل لا الحسّ.

وبالجملة ، فهذا الاحتمال قادح في كون علم النفس بهذه الأمور بالمشاهدة الحضوريّة وجعل ذلك طريقا إلى العلم الحضوريّ للواجب بأعيان الموجودات على ما نقله صاحب الإشراق في خلسته عن إمام المشّائين (١) ، وهذا دليل على عدم الاعتماد على مجرّد الكشف الذي يدّعيه أرباب المجاهدات إلاّ ما ساعده البرهان ، وفي ذلك غنى عن ارتكاب تلك المخاطرات.

وبما ذكرنا ظهر ضعف ما زعمه الإشراقيّون من كون سائر الحيوانات ذوات نفوس مجرّدة (٢) بناء على أنّ مدار إدراك الشيء لنفسه على التجرّد ، وأنّها مدركة

__________________

(١) انظر « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٧٠ ـ ٧٣.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ٢٠٣ ـ ٢٠٧. وانظر « الأسفار الأربعة » ٨ : ٤٢ ـ ٥٣ و ٢٣٠ ـ ٢٤١.

٢١٢

لأنفسها ، وذلك لأنّ إدراك الشيء لنفسه ـ إذا كان بنفسه لا بحصول صورة ـ يستلزم التجرّد ، ولعلّ نفوس الحيوانات يدركون أنفسهم بحصول صورها في محلّ تلك النفوس كالمتخيّلة.

قال الشيخ رحمه‌الله في التعليقات : نفوس الحيوانات غير الإنسان ليست مجرّدة وهي لا تعقل ذواتها ؛ فإنّها إذا أدركت ذواتها فإنّها تدركها بقوّتها الوهميّة ، فلا تكون معقولة ، والوهم لها بمنزلة العقل من الإنسان (١). انتهى.

[ المبحث ] السادس : نفى صاحب الإشراق العلم المقدّم على الإيجادات كلّها ، وأبطل العناية رأسا ؛ زعما أنّ قبل كون الموجودات ووجودها ذهنا وخارجا كيف يتصوّر تحقّق العلم بها؟! فإنّ العلم بها لا يتصوّر بدون وجودها ذهنا أو خارجا ؛ ضرورة عدم تمايز المعدومات الصرفة ، ولا يمكن وجود الموجودات قبل وجودها ، أمّا خارجا ، فظاهر. وأمّا ذهنا ، فللزوم الكثرة في ذاته تعالى ، فليس للواجب علم فعليّ أصلا (٢). تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وذلك قادح في كون فعله تعالى اختياريّا ؛ إذ لا بدّ في الفعل الاختياريّ من مسبوقيّته بالعلم ولا يكفي مجرّد مقارنته للعلم.

وما قيل : إنّ الفعل الإراديّ غير منفكّ عن العلم بالمراد ؛ وأمّا وجوب السبق ، فممنوع ، بل هو مثل ما يدّعي المتكلّمون أنّ الإرادة يجب أن تكون سابقة على المراد سبقا زمانيّا ، وأنّه غير مسلّم منهم ، غاية الأمر أنّ وجوب السبق الذاتيّ في الإرادة مسلّم دون العلم ، بل مقارنة الشعور والعلم للفعل الناشئة من نفس الفاعل كافية في كونه إراديّا. ففيه تأمّل ، ومع ذلك يرد عليه ما يأتي.

وكذا ما قيل : إنّ وجود المعلول في الخارج وإن كان هو عين العلم بالذات ، لكنّه يغايره بالاعتبار ، فهو من حيث إنّه علم مقدّم وسبب له من حيث كونه موجودا في

__________________

(١) « التعليقات » : ٨٢.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٣.

٢١٣

الخارج. ففيه أنّ المغايرة الاعتباريّة إنّما تتحقّق وتؤثّر حيث يعتبرها العقل ويتمايز المتغايران فيه فحيث لا عقل ولا ذهن ، فلا أثر لها أصلا.

ويرد عليهم أيضا عدم كون صفة العلم عين ذاته. وما قيل في توجيه كون صفاته تعالى عين ذاته : إنّ الصفة هاهنا بمعنى الخارج المحمول كالعالم والقادر والمريد وحينئذ فلا امتناع في كون العالم عين ذاته وإن كان العلم زائدا عليه ، فمشترك بين الواجب وغيره ؛ فإنّ صفات جميع الأشياء عين ذاته بهذا الوجه ، على ما ذكره المحقّق الدواني (١).

وقد تدفع هذه الشناعة عنهم بأنّ العلم الفعليّ له صورتان :

إحداهما أن يكون العلم من أسباب وجود المعلوم بالذات ، وهو الظاهر المشهور.

وثانيتهما أن يكون ذات العالم سببا لوجود المعلوم بالذات كما في الصورة المخترعة للعالم ؛ فإنّ نفس وجودها عنه نفس معلوميّتها له بالذات ، وذات الواجب بالنسبة إلى أعيان الموجودات من هذا القبيل ، فكما أنّ العالم يعلم الصورة الذهنيّة باختراعها ، يعلم الواجب العينيّ (٢) الخارجيّ بإيجاده ، والعلم بالصورة حصولا (٣) وبالعيني حضورا (٤) كلاهما فعليّ ، ولا يلزم الإيجاب بناء على كون مقارنة الشعور كافية في الفعل الاختياري على ما مرّ.

وفيه : أنّه على تقدير التسليم يلزم أن لا يكون صدور الموجودات عنه تعالى على نحو العناية والتدبير ؛ إذ لا يصدق حينئذ أنّها لمّا علمت خيرا وجدت ، بل لمّا علمت علمت ، أو لمّا وجدت وجدت ، والتغاير الاعتباريّ بين المعلوميّة والوجود قد عرفت أنّه لا جدوى له هاهنا ، وفساد هذا اللازم ليس بأقلّ من مفسدة الإيجاب ، بل هو عينها عند التحقيق كما لا يخفى على الخبير.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) في « شوارق الإلهام » : « العين الخارجيّ ».

(٣) في المصدر : « بالصورة حقيقة حصولا ».

(٤) في « شوارق الإلهام » : « وبالعين حضورا ».

٢١٤

ولا يلزم ذلك في صدور الصور العلميّة عنه تعالى ؛ لأنّه نفس تعقّله الخير وعلمه به ، ولا يجب كون العلم مسبوقا بالعلم ، ولا كون التدبير مسبوقا بالتدبير ، بل يجب كون الوجود مسبوقا بالعلم والتدبير.

على أنّ القائل بالصور العلميّة الحاصلة في ذاته تعالى قائل بالعلم الإجماليّ البسيط الذي هو عين ذاته تعالى ، وتلك الصور إنّما هي تفصيل له ، فتكون مسبوقة به ، فليتدبّر.

ثمّ إنّه أعني صاحب الإشراق بعد إبطال العناية جعل النظام المشاهد في عالم الأجسام لازما عن النظام الواقع بين المفارقات العقليّة الطوليّة والعرضيّة ، وأضوائها المنعكسة من بعضها إلى بعض ، وجعل ذلك بدلا عن العناية في سببيّة النظام ، صرّح بذلك في حكمة الإشراق (١).

وأنت خبير بأنّ ذلك النظام الواقع بين المجرّدات أيضا لا بدّ له من سبب وإلاّ لتسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى علمه تعالى بنظام الكلّ ، أو صدور ذلك النظام عن طبع وإيجاب ، ولا بدّ من كون هذا العلم عين ذاته تعالى أو قائما بذاته من غير لزوم مفسدة الكثرة ، على ما عرفت مفصّلا.

وأمّا المصنّف ـ قدس‌سره ـ فلم ينسج على منواله في نفي العلم المقدّم على الإيجاد ، بل أثبت العلم الإجماليّ ؛ حيث قال في شرح رسالة العلم : كما أنّ الكاتب يطلق على من يتمكّن من الكتابة سواء كان مباشرا للكتابة أو لم يكن ، وعلى من يباشرها حال المباشرة باعتبارين ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن من أن يعلم سواء كان في حال استحضار المعلوم أو لم يكن ، وعلى من يكون مستحضرا له حال الاستحضار باعتبارين ، والعالم الذي يكون علمه ذاتيّا ، فهو بالاعتبار الأوّل ؛ لأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته والعلم بهذا الاعتبار شيء واحد (٢). انتهى.

__________________

(١) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٥.

(٢) « شرح مسألة العلم » : ٢٨.

٢١٥

لكنّ العلم الإجماليّ بهذا المعنى ـ أعني التمكّن من الاستحضار ـ إنّما هو الحالة الثانية لا الثالثة وهو ليس بجيّد ؛ لمقارنة القوّة ، فتدبّر.

[ المبحث ] السابع : قد ظنّ جماعة كالمحقّق الدواني في بعض رسائله وصاحب القبسات وغيرهما (١) : أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كآن واحد ، كما أنّ نسبة جميع الأمكنة إليه كأين واحد بمعنى أنّ أعيان الموجودات الزمانيّة ـ قديمة أو حادثة ـ حاضرة عنده تعالى دفعة بلا اختلاف في القبليّة والبعديّة والمعيّة والمضيّ والحال والاستقبال ؛ لكونه بريئا عن الوقوع في شيء من الأزمنة كبراءته عن الوقوع في شيء من الأمكنة ، بل هو محيط بقاطبة الزمانيّات والمكانيّات إحاطة واحدة ، وإنّما ذلك الاختلاف لها بقياس بعض (٢) إلى بعض وفيما بينها ، لا بالقياس إلى الحضور عنده تعالى والغيبة عنه ، ومثّلوا ذلك بخيط مختلف الأجزاء بالسود والبيض ؛ فإنّه إذا نظر إليه الإنسان مثلا يلاحظ مجموع تلك الأجزاء المختلفة الألوان دفعة واحدة ، ويرى الجزء الأسود في موضعه والأبيض في موضعه كليهما معا وفي آن واحد ، بخلاف الحيوان الضيّق الحدقة كالنملة ؛ فإنّه يرى كلّ جزء يصل إليه في آن وصوله ، ولا يرى الجزء الذي بعده أو قبله في هذا الآن بل في آن هو بعد ذلك الآن أو قبله ، وهذا الظنّ لعلّه متوهّم من كلام المصنّف في شرح رسالة العلم (٣) كما سننقله في بيان كيفيّة علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة وسنبيّن حقيقة الأمر فيه.

وهو منظور فيه ؛ لأنّ نسبة الزمانيّات إلى الزمان لا يجب أن تكون بانطباق فقط ، وإلاّ لم يكن الأجسام ـ التي في زمان ولا يعرض لها التغيّر ـ زمانيّة ، بل تلك النسبة

__________________

(١) انظر « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ١١٦ ـ ١٢٠ ؛ « القبسات » : ٣ و ١٥٩ ؛ « الأسفار الأربعة » ٢ : ٥٠ ـ ٥٢ و ٣ : ٤٠٧ ـ ٤١٧ ؛ « شرح المنظومة » قسم الفلسفة : ٢٠٣.

(٢) في « شوارق الإلهام » : « بعضها ».

(٣) « شرح مسألة العلم » : ٣٨ ـ ٤١.

٢١٦

إنّما هي بالمعيّة في الوجود سواء كانت منطبقة أو غير منطبقة ، فهو تعالى وإن لم يكن واقعا في الزمان لكنّه مع الزمان معيّة وجوديّة.

واختلاف نسبة الزمان إلى ما مع الزمان يتصوّر على وجهين :

أحدهما : بالتغيّر في ذات ذلك الشيء الذي مع الزمان كما هو في الأشياء المختصّة (١) الوجود ببعض الأزمان كالحادث اليومي مثلا ؛ فإنّه في اليوم ؛ لكونه معه في الوجود ، لا في الأمس والغد ؛ لفقدانه فيهما.

وثانيهما : بالتغيّر في الزمان دون ما مع الزمان كالفلك ؛ فإنّه اليوم (٢) في اليوم ؛ لكونه معه في الوجود ، دون الغد ؛ لفقدانه.

والوجه الأوّل وإن لم يتصوّر نسبته إليه تعالى ، لكن لا خفاء في تحقّق الوجه الثاني بالنظر إليه ؛ فإنّه في اليوم مع اليوم مثلا ؛ لكونه معه في الوجود دون الأمس والغد ؛ لفقدانهما لا لفقدانه ، تعالى عن ذلك ، فيتصوّر بالنظر إليه الماضي والحال والاستقبال بهذا الوجه ، إذ اليوم مثلا حال بالنظر إليه ؛ لكونه معه في الوجود حاضرا عنده ، والأمس ماض نظرا إليه ؛ لفقدانه اليوم مع تحقّقه قبل ذلك ، والغد مستقبل نظرا إليه ؛ لفقدانه اليوم مع كونه سيكون ، فالأزمنة الثلاثة وإن لم تتصوّر بالنظر إليه بالمعنى المختصّ بالحوادث ولكنّها ـ بمعنى أنّ الحال هو الزمان الحاضر الذي هو معه بالفعل ، والماضي هو الزمان المتقدّم على ذلك الزمان بالنظر إليه ، والمستقبل هو الزمان المتأخّر عنه بالنظر إليه ـ متحقّقة بلا شبهة ؛ فإنّ تحقّق الماضي والمستقبل بالنظر إلى شيء لا يقتضي كون ذلك الشيء مفقودا في الماضي والمستقبل مطلقا على ما مرّ. كذا قال سيّد المدقّقين وغيره.

وهذا مأخوذ من كلام المصنّف في نقد المحصّل ، حيث قال ما ملخّصه : أنّ القضيّة التي يدّعى استحالتها ـ وهي كون الله زمانيّا ـ تفسّر على وجهين :

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « المختلفة الوجود ».

(٢) في « شوارق الإلهام » : « اليومي في اليوم ».

٢١٧

أحدهما : أن يكون الله تعالى زمانيّا بمعنى أنّه يتغيّر أو يقبل التغيّر.

والثاني : أن يكون وجوده في أيّ حال فرض مقارنا لوجود جزء من الزمان.

وعلى هذا الوجه الثاني لا استحالة في كون البارئ تعالى زمانيّا ، وأيّ استحالة في أن يكون سبقه على هذا الجزء من الزمان ، بمعنى أنّه قارن وجوده وجود جزء آخر من الزمان لم يكن هذا الجزء متحقّقا حيث تحقّق ذلك الجزء؟

فإن قيل : هل يطلق على البارئ تعالى أنّ الزمان ظرف له ووعاء كما يطلق على عدم هذا الحادث أنّ الزمان السابق على وجوده ظرف له ووعاؤه؟

قيل : قول القائل : « إنّ عدم هذا الحادث وقع في زمان سابق على وجوده » من باب المجاز الذي دعا إليه ضيق العبارة ، وليس هناك ظرف ومظروف على الحقيقة ، وليس الزمان أمرا يتحقّق فيه معنى الاشتمال والاحتواء ليمكن أن يكون ظرفا ولا سيّما والحادث إنّما يحدث في آن ، والآن عند الأكثرين غير منقسم ، فهو أبعد من معنى الظرفيّة.

والمراد من قولنا : « إنّ عدم الحادث وقع في زمان سابق على زمان وجوده » أنّه صدق على عدم الحادث أنّه متحقّق حين صدق على زمان سابق على وجوده أنّه متحقّق ولم يكن زمان الوجود المشار إليه حينئذ متحقّقا ، ومثل هذا التفسير لا يستحيل إطلاقه على البارئ تعالى ؛ فإنّه يصدق عليه أنّه متحقّق حين صدق على جزء مخصوص من الزمان أنّه متحقّق (١). انتهى.

وأيضا : قياس الأزمنة على الأمكنة مع الفارق ؛ لتقضّي أحدهما وقرار الآخر ، وحضور الأمر التدريجي دفعة ـ ولو عند من لا يتغيّر أصلا ـ واضح البطلان ، وكيف يمكن حضور المعدوم؟! فالتمثيل المذكور غير مطابق للممثّل له إلاّ إذا كان أجزاء الخيط المذكور تدريجيّة ، ومع ذلك تكون حاضرة دفعة عند الشخص الإنسانيّ مثلا وغير حاضرة عند النملة ، ولا ريب أنّها إذا فرضت تدريجيّة لا تكون حاضرة دفعة

__________________

(١) « نقد المحصّل » : ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

٢١٨

عند الشخص الإنساني أيضا.

والحاصل : أنّه لمّا كان امتناع الإدراك في المثال المذكور ناشئا من جانب العالم ؛ لضعف قوّته ، فحيث لا ضعف أمكن الإدراك ، وامتناع الإدراك في الزمان ليس من جانب العالم ليختلف القويّ والضعيف في ذلك ، بل من جانب المعلوم ؛ لأنّه ينعدم شيئا فشيئا ، والمعدوم غير قابل للحضور ، فلا محالة لا يختلف القويّ والضعيف في ذلك.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو كان ما ظنّوه حقّا ، لما احتيج إلى الفرق بين المعلولات القريبة والبعيدة في تعلّق العلم الحضوريّ بها بكون العلم بالقريبة بذواتها وبالبعيدة بصورها القائمة بالقريبة ؛ لكون الجميع على السواء في الحضور بالقياس إليه تعالى.

لكن كلام شرح رسالة العلم (١) وشرح الإشارات (٢) صريح في الفرق بين القبيلين ، وكذا كلام حكمة الإشراق (٣) ، لكن كلام التلويحات ـ أعني قوله : وإدراك أعداد الوجود نفس الحضور له والتسلّط من غير صورة ومثال (٤) ـ ممّا يوهم الابتناء على الظنّ المذكور.

والمراد أنّه كذلك عند وجود تلك الأعداد وفي أوقات وجوداتها وإن كانت قبل أوقات وجوداتها معلومة بصورها المرتسمة في المدبّرات الفلكيّة ، كما يدلّ عليه كلامه في حكمة الإشراق (٥) على ما نقلنا ، فتفصيل مذهبهم أنّ علمه تعالى بمعلولاته القديمة ـ سواء كانت مجرّدة أو مادّيّة ـ إنّما هو بحضور ذواتها عنده تعالى أزلا وأبدا ، وبمعلولاته (٦) الحادثة بحضور ذواتها عنده في أوقات وجودها ، وأمّا قبل أوقات وجودها ، فبصورها الحاصلة في المعلولات القديمة ؛ فإنّ الحاصل في

__________________

(١) راجع ص ١٦٤ ـ ١٦٦ من هذا الجزء.

(٢) راجع ص ١٦٤ ـ ١٦٦ من هذا الجزء.

(٣) راجع ص ١٦٤ ـ ١٦٦ من هذا الجزء.

(٤) « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٧٣.

(٥) راجع ص ١٦٤ من هذا الجزء.

(٦) في « شوارق الإلهام » : « وبمعلوماته ».

٢١٩

الحاضر عند الشيء حاضر عنده أيضا. هذا هو المصرّح به في كتبهم ، كما لا يخفى على من تتبّعها.

ثمّ إنّه يمكن أن يتصوّر هذا المظنون على وجهين :

أحدهما : أن يكون القدماء بالنسبة إليه تعالى كالحوادث في تخلّل الانفكاك بينهما وإن كان بلا تقدّر (١).

وثانيهما : أن يكون الحوادث كالقدماء في عدم الانفكاك.

وإلى الأوّل نظر صاحب القبسات (٢) ، وبنى عليه حدوث العالم وسمّاه حدوثا دهريّا.

وبالنظر إلى الثاني قيل عليهم : إنّه لو كان كذلك ، لزم قدم الحوادث. وليس شيء منهما بشيء ؛ لكون كلّ منهما منقدحا بالآخر ، كما لا يخفى على المتدبّر.

[ المبحث ] الثامن : الحضور حقيقة إنّما يتحقّق لمادّي عند مادّي ، فلو كان لهذا المادّي الثاني ارتباط بمجرّد ارتباط الآلة بذي الآلة يتحقّق الحضور بالنسبة إلى ذلك المجرّد أيضا.

وأمّا حضور المادّي عند المجرّد المتبرّئ عن الآلة فممّا يتنفّر عنه العقل الصريح فضلا عن أن يتحقّقه.

وإذا عرفت هذا عرفت معنى ما نقلناه عن الشيخ من قوله : لا تظنّنّ أنّ الإضافة العقليّة إليها إضافة إليها كيف وجدت ، وإلاّ لكان كلّ مبدأ صورة في مادّة ـ من شأن تلك الصورة أن تعقل بتدبير ما من تجريد وغيره ـ يكون هو عقلا بالفعل ، بل هذه الإضافة إليها وهي ـ بحال ـ معقولة (٣).

وأمّا قوله بعد ذلك : ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان لكان إنّما يعقل

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « بلا تصوّر ».

(٢) « القبسات » : ٣ وما بعدها.

(٣) « الشفاء » الإلهيات : ٣٦٤ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

٢٢٠