البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

فبهذا التحقيق اندفع الأوّل والثاني من المفاسد.

وأمّا الثالث منها ـ وهو كونه محلاّ للمعلولات المتكثّرة (١) ـ فينحلّ إلى ثلاثة مفاسد :

أحدها : كونه محلاّ. وهذا أيضا قد اندفع به ؛ إذ لا فرق بينه وبين كونه قابلا.

وثانيها : كونه محلاّ للكثرة من حيث هي كثرة. وهذا مندفع ؛ لكون تلك الكثرة على الترتيب.

وثالثها : كونه محلاّ للمعلول من حيث هو معلول ؛ لأنّ الظاهر من مذاهب الحكماء هو اتّفاقهم على امتناع كونه تعالى محلاّ لشيء من معلولاته.

وهذا مع الوجهين الباقيين من تلك المفاسد مندفعة ، بأنّه على تقدير التسليم فالمراد من المعلول وكذا من الإيجاد ما يكون بحسب الوجود العينيّ ، فلا ينافي كونه محلاّ لمعلوله بحسب الوجود العقليّ ، ولا كونه غير مباين ، ولا كونه غير موجد لشيء من معلولاته بحسب الوجود الخارجيّ إلاّ بتوسّط ما هو حالّ فيه ومعلول له بحسب الوجود العقليّ.

وقد يجاب أيضا عن لزوم كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته تعالى بأنّه إن أراد بعدم المباينة قيام صورته بذاته تعالى ، فهو عين محلّ النزاع.

وإن أراد به كون صورته عين ذاته تعالى ـ بناء على أنّ صدور كلّ معلول إذا كان بتوسّط صورته السابقة عليه ، فلو لم يكن صورة المعلول الأوّل عين الواجب ، لزم التسلسل ـ فجوابه أنّ هذه الصورة نفس وجودها عنه نفس عقله لها ، فهي من حيث هي موجودة معقولة ، ومن حيث هي معقولة موجودة ، فنفس إيجاده تعالى إيّاها عين علمه تعالى بها ، وكلّ إيجاد لا يكون نفس العلم يحتاج إلى علم سابق. وأمّا إذا كان الإيجاد والعلم واحدا وكانت الصورة العلميّة نفس الموجود ، فلا يحتاج إلى علم سابق ؛ فإنّ الإيجاد يجب أن يكون عن علم ، ولا يجب أن يكون العلم أيضا

__________________

(١) تقدّم بيانها في ص ١٥٧.

١٨١

عن علم ، هذا.

وينبغي أن يعلم أنّ بناء العلم الحصولي على وجوب كون هذه الموجودات عن علم متعلّق بهذا النظام والترتيب الواقعين على أكمل وجوه الخيريّة وأتمّها ، وامتناع صدور مثل ذلك النظام لا عن علم به بل بمحض اتّفاق أو طبع.

وهذا العلم يجب أن يكون متقدّما على الصدور ومتعلّقا بتفاصيل النظام ، فلا يجوز كونه عين تلك الأشياء ولا كونه إجماليّا كما سيأتي ، فثبت وجوب كون هذا النظام معقولا له تعالى سابقا على صدور الأشياء وسببا له.

وهو معنى قول الشيخ : إنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود مع الترتيب الذي يفعله خيرا ونظاما (١) ، وأنّ الأشياء لمّا عقلت هكذا وجدت لا أنّها وجدت ثمّ عقلت. وهذا هو مرادهم من العناية (٢).

قال في الإشارات : فالعناية هي إحاطة علم الأوّل بالكلّ وبالواجب أن يكون عليه الكلّ حتّى يكون على أحسن النظام وبأنّ ذلك واجب عنه وعن إحاطته به ، فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأوّل الحقّ ، فعلم الأوّل بكيفيّة الصواب في ترتيب وجود الكلّ منبع لفيضان الخير في الكلّ (٣).

وقال في كتاب المبدأ والمعاد : وأمّا وجود العناية من العلل العالية في العلل السافلة ، فهي أنّ كلّ علّة عالية فإنّها تعقل نظام الخير الذي يجب أن يكون عنه في كلّ ما يكون ، فيتبع معقوله وجود ذلك النظام ، وليس يمكننا أن ننكر التدبير في أعضاء الحيوان والنبات ، والزينة (٤) الطبيعيّة ، ولا يمكننا أن نجعل القوى العالية بحيث

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٣ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ، و ٤١٥ ، الفصل السادس من المقالة التاسعة. وانظر التعليقات : ١٥٧.

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٣ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ، و ٤١٥ ، الفصل السادس من المقالة التاسعة. وانظر التعليقات : ١٥٧.

(٣) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣١٨.

(٤) في « شوارق الإلهام » و « التعليقات » : « الرتبة ».

١٨٢

تعمد (١) تكوّن هذه الفاسدات أو ما دونها فقد بيّنّا هذا ، بل الوجه المخلّص عن الباطل (٢) أنّ كلّ واحدة منها تعقل ذاته ، وهو تعقّله مبدأ النظام الذي يجب أن يكون عنه وذلك صورة ذاته ، فيجوز أن يكون ذلك بالكلّيّة للمبدإ الأوّل.

وأمّا الجزئيّات والتغاير فلا يجوز أن تنسب إليه ، فإذا كان كذلك فإنّ تعقّل كلّ واحدة منها لصورة نظام الخير ـ الذي يمكن أن يكون عنه ـ مبدأ لوجود ما يوجد عنه على نظمه ، فالصور المعقولة التي عند المبدأ مبدأ للصور الموجودة للثواني. ويشبه أن يكون أفلاطن يعني بالصور هذه الصور ، ولكن ظاهر كلامه منتقض فاسد قد فرغ الفيلسوف من بيانه في عدّة كتب ، وإذا كانت كذلك ، كانت عناية الله مشتملة على الجميع (٣). انتهى.

فظهر أنّ وجود العناية ممّا لا بدّ منه في وجود الموجودات ، وهو لا يكون إلاّ بتقدّم العلم الصوريّ بها عليها ، فأمّا وجوب كون هذه الصور المعقولة قائمة بذاته تعالى ، فإنّما لزم لاستحالة سائر الاحتمالات ، على ما مرّ فيما نقلناه عن الشيخ في رسالة منسوبة إليه. وأيضا لكون مناط المعقوليّة ـ على ما هو المعلوم المتحقّق ـ إمّا العينيّة أو القيام بالعاقل.

وأمّا كفاية مطلق الحضور والحصول في التعقّل ، فغير معلومة ، بل في محلّ المنع ؛ فإنّ كون حصول المعلول للعلّة أشدّ من حصول المقبول للقابل في كونه حصولا للغير ممنوع وإن كان الربط آكد.

وكون الأوّل بالوجوب والثاني بالإمكان لا يقتضي إلاّ ذلك ، وهل هذا إلاّ كما يقال : نسبة السواد إلى قابله بالإمكان وإلى فاعله بالوجوب ، والنسبة الأولى منشأ للاتّصاف فأن تكون النسبة الثانية منشأ للاتّصاف أولى.

وهذا ممّا لا يمكن للعقل تصديقه ، كيف؟ والعلم بالشيء يقتضي نسبة مخصوصة ،

__________________

(١) في المصدر : « أن نجعل القوى العالية عشيقة بعمل يتكوّن عنها هذه الفاسدات ».

(٢) في المصدر : « الباطلين ».

(٣) « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٨٤ ـ ٨٥.

١٨٣

فلا يجدي تحقّق نسبة أخرى وإن كانت آكد من الأولى على ما قيل.

وعلى تقدير تسليم كفايته في مطلق التعلّق ، فلا يكفي فيما نحن بصدده ؛ لما عرفت من وجوب تقدّم هذا التعقّل على الوجود ، فظهر ضعف مختار صاحب الإشراق في علمه تعالى (١).

وهذا وارد على مذهب ثالس (٢) أيضا ؛ فإنّه إذا كان حضور المعلولات بذواتها للعاقل غير كاف في كونها معقولات ، كان قيام صورها بما لا يكفي حضوره بذاته في كونه معقولا كذلك ، كما لا يخفى.

ويرد عليه أيضا صحّة كون زيد عالما بالأشياء بصور قائمة بذهن عمرو إلاّ أن يكون محلّ تلك المعقولات مرتبطا به تعالى ارتباط الآلة بذي الآلة ، وذلك أشنع.

وأيضا أن يكون صدور ذلك العقل الذي هو محلّ تلك الصور عن غير علم ، فلا يصدق في شأنه أنّه تعالى لمّا عقل خيرا وجد ، كما مرّ في كلام الشيخ.

فأحرى المذاهب بالقبول هو مختار الشيخ ؛ لسلامته عن المفاسد المذكورة إلى الآن كما عرفت.

وأمّا وجوب كون صفاته الكماليّة عين ذاته تعالى ، فلا ينافيه أيضا ؛ لأنّ الشيخ قد صرّح غير مرّة بأنّ كماله تعالى ومجده ليس بهذه الصور ، بل بأن يفيض عنه هذه الصور معقولة.

قال في الشفاء في صدر فصل نسبة المعقولات إليه تعالى : ثمّ يجب لنا أن نعلم أنّه إذا قيل للأوّل : عقل ، قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس ، وأنّه ليس فيه اختلاف صور مترتّبة متخالفة كما يكون في النفس ، فهو كذلك تعقّل (٣)

__________________

(١) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠. وانظر « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٣٠ ؛ « شرح المنظومة » قسم الحكمة : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) في « شوارق الإلهام » : « انكسيمايس ».

(٣) في « الشفاء » و « شوارق الإلهام » : « يعقل » بدل « تعقّل ».

١٨٤

الأشياء دفعة واحدة من غير أن يكثر بها في جوهره أو يتصوّر في حقيقة ذاته بصورها ، بل يفيض عنه صورها معقولة ، وهو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقليّته ؛ لأنّه تعقّل ذاته وأنّها مبدأ كلّ شيء [ فيعقل من ذاته كلّ شيء ] (١).

وقال في التعليقات :

تعليق : ليس علوّ الأوّل ومجده هو تعقّل الأشياء بل علوّه ومجده بأن يفيض عنه الأشياء معقولة ، فيكون بالحقيقة علوّه ومجده بحيث يخلق ، لا بأنّ الأشياء خلقه ، فعلوّه ومجده إذن بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات (٢).

وقال في رسالة الفصول :

فصل : ليس علوّ الأوّل ومجده بأن تعقّل الأشياء ، بل بأن يفيض عنه الأشياء معقولة ، فيكون بالحقيقة علوّه ومجده بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات. وكذلك الأمر في الخلق ؛ فإنّ علوّه ومجده بأنّه بحيث يخلق ، لا بأنّ الأشياء خلقها ، فعلوّه ومجده إذن بذاته (٣).

وقال التلميذ في التحصيل : وليس مجده بحيث يحصل له تلك المعقولات ، بل مجده بحيث يصدر عنه تلك المعلومات وليس هو عالما لأنّ له تلك الصور ، بل هو عالم بمعنى أنّه يصدر عنه تلك الصور (٤). انتهى.

وهذا هو ما قال المصنّف في شرح الرسالة :

كما أنّ الكاتب يطلق على من يتمكّن من الكتابة ـ سواء كان مباشرا للكتابة أو لم يكن ـ وعلى من يباشرها حال المباشرة باعتبارين ، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن من العلم ـ سواء كان في حال استحضار المعلومات أو لم يكن ـ وعلى من

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ الفصل السابع من المقالة الثامنة.

(٢) « التعليقات » : ١٧٤.

(٣) الرسالة غير متوفّرة لدينا.

(٤) « التحصيل » : ٥٧٥.

١٨٥

يكون مستحضرا حال الاستحضار باعتبارين ، فوقوع اسم العلم على الأمر الأوّل يكون بالاعتبار الأوّل ، وعلى الأمر الثاني بالاعتبار الثاني والعالم الذي يكون علمه ذاتيا فهو بالاعتبار الأوّل كأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته (١). انتهى.

واعلم أنّ هذا العقل هو الذي سمّاه المتأخّرون العلم الإجماليّ.

بيانه ما قاله الشيخ في كتاب النفس من طبيعيّات الشفاء حيث قال :

« تصوّر المعقولات على وجوه ثلاثة :

أحدها : التصوّر الذي يكون في النفس مفصّلا منظّما ، وربما كان ذلك التفصيل والنظام غير واجب ، بل يصحّ أن يغيّر ، مثاله أنّك إذا فصلت في نفسك معاني الألفاظ التي يدلّ عليها قولك : كلّ إنسان حيوان ، وجدت كلّ معنى منها كلّيّا لا يتصوّر إلاّ في جوهر غير بدنيّ ، ووجدت لتصوّرها فيه تقديما وتأخيرا ، فإن غيّرت ذلك ـ حتّى كان ترتيب المعاني المتصوّرة الترتيب المحاذي لقولك : الحيوان محمول على كلّ إنسان ـ لم تشكّ أنّ هذا الترتيب من حيث هو ترتيب معان كلّيّة لم يترتّب إلاّ في جوهر غير بدنيّ ، وإن كان أيضا يترتّب من وجه ما في الخيال ، فمن حيث المسموع لا من حيث المعقول ، وكان الترتيبان مختلفين ، والمعقول الصرف منه واحد.

والثاني : أن يكون قد حصل واكتسب لكنّ النفس معرضة عنه فليست تلتفت إلى ذلك المعقول ، بل قد انتقلت عنه مثلا إلى معقول آخر ؛ فإنّه ليس في وسع أنفسنا أن تعقل الأشياء معا دفعة واحدة.

ونوع آخر (٢) من التصوّر وهو مثل ما يكون عندك من مسألة تسأل عنها ممّا علمته أو ممّا هو قريب من أن تعلم ، فحضرك جوابها في الوقت وأنت متيقّن بأنّك تجيب عنها [ ... ] (٣) عن يقين منك بالعلم به قبل التفصيل والترتيب.

__________________

(١) « شرح مسألة العلم » : ٢٨.

(٢) هذا بمنزلة قوله : « ثالثها ».

(٣) إشارة إلى زيادة وردت في « الشفاء » ولم ترد في « شوارق الإلهام ».

١٨٦

فيكون الفرق بين التصوّر الأوّل والثاني ظاهرا ؛ فإنّ الأوّل كأنّه شيء قد أخرجته من الخزانة وأنت تستعمله ، والثاني كأنّه شيء لك مخزون متى شئت استعملته.

والثالث يخالف الأوّل بأنّه ليس شيئا مرتّبا في الفكر البتّة ، بل هو مبدأ لذلك مع مقارنته لليقين ، ويخالف الثاني بأنّه لا يكون شيئا معرضا عنه ، بل منظورا إليه نظرا ما بالفعل يقينا ؛ إذ يتخصّص معه النسبة إلى بعض ما هو كالمخزون.

فإن قال قائل : إنّ ذلك علم أيضا بالقوّة ولكن قوّة قريبة من الفعل ، فذلك باطل ؛ لأنّ لصاحبه يقينا بالفعل حاصلا لا يحتاج إلى أن يحصّله بقوّة بعيدة أو قريبة ، فذلك اليقين إمّا (١) لأنّه متيقّن أنّ هذا حاصل عنده إذا شاء علمه ، فيكون تيقّنه بالفعل بأنّ هذا حاصل بالفعل تيقّنا به بالفعل ؛ فإنّ الحصول حصول لشيء ، فيكون هذا الشيء الذي نشير إليه حاصلا بالفعل ؛ لأنّه من المحال أن يتيقّن أنّ المجهول بالفعل معلوم عنده مخزون [ ... ] (٢) فهو بهذا النوع البسيط معلوم عنده ، ثمّ يريد أن يجعله معلوما بنوع آخر.

ومن العجائب أنّ هذا المجيب حين يأخذ في تعليم غيره تفصيل ما هجس في نفسه دفعة يكون مع ما يعلّمه يتعلّم العلم بالوجه الثاني ، فيترتّب تلك الصور فيه مع ترتيب ألفاظه ، فأحد هذين هو العلم الفكري الذي إنّما يستكمل به تمام الاستكمال إذا ترتّب وتركّب. والثاني هو العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له في نفسه صورة بعد صورة لكن هو واحد عنه يفيض الصور في قابل الصور ، فذلك علم فاعل للشيء الذي نسمّيه علما فكريّا ومبدأ له وذلك هو للقوّة العقليّة المطلقة من النفس المشاكلة للعقول الفعّالة. وأمّا التفصيل ، فهو للنفس من حيث هو نفس ، فما لم يكن له ذلك ، لم يكن له علم نفسانيّ (٣). انتهى.

__________________

(١) كلمة « إمّا » غير موجودة في « الشفاء ».

(٢) إشارة إلى زيادة وردت في « الشفاء » ولم ترد في « شوارق الإلهام ».

(٣) « الشفاء » الطبيعيات ٢ : ٢١٣ ـ ٢١٥ ، الفصل السادس من المقالة الخامسة من الظنّ السادس.

١٨٧

ثمّ اعلم أنّه قد ظهر من هذا البيان أنّ التفاوت بين المعلوم بالعلم الإجماليّ البسيط ، وبين المعلوم بالعلم التفصيليّ ليس إلاّ في نحو الإدراك لا في نفس المدرك ؛ فإنّ المعلوم بالحالة الثالثة المسمّاة بالعلم الإجماليّ هو أنّ جميع ما له مدخل في الجواب عن هذه المسألة حاصل لي ، وهذه صورة علميّة واحدة مطابقة لجملة المقدّمات التي لها مدخل في الجواب من حيث الجملة وليست صورة كلّ واحدة من تلك المقدّمات ملحوظة بهذه الملاحظة فإذا أخذ في الجواب من حيث الجملة ، وليست صورة كلّ واحدة من تلك المقدّمات ملحوظة بهذه الملاحظة ، فإذا أخذ في الجواب والاستنباط تحصل كلّ مقدّمة بصورتها المخصوصة المطابقة إيّاها بخصوصها ، فتترتّب في النفس تلك المقدّمات ويتكثّر تلك الصور ، فيحصل الحالة الأولى المسمّاة بالعلم التفصيليّ الفكريّ ، فالمعلوم بكلتا الحالتين ليس إلاّ ما هو جواب عن المسألة لكن في إحداهما بصورة واحدة ، وفي الأخرى بصور متكثّرة.

ونظير ذلك في التصوّرات تصوّر المحدود كالإنسان ؛ فإنّه يكون بصورة واحدة ، وتصوّر الحدّ كالحيوان الناطق ؛ فإنّه بصور متعدّدة ، فالأوّل علم إجماليّ بحقيقة الإنسان ، والثاني علم تفصيليّ بها ، والمعلوم في كلا الحالين ليس إلاّ حقيقة الإنسان. يدلّ على ذلك صريحا قول الشيخ : وكان الترتيبان مختلفين والمعقول الصرف واحد (١).

هذا ، فما أبعد عن الحقّ من زعم أنّ العلم الإجماليّ بهذا المعنى حالة متوسّطة بين العقل المحض الذي هو العلم بالمعلومات مفصّلة ، متميّزا بعضها عن بعض ، وبين القوّة المحضة التي هي حالة اختزان المعلومات وحصول الأمر المسمّى بالملكة ؛ فإنّه علم بجملة مخصوصة من معلومات متعدّدة من حيث الجملة ، ومبدأ التفاصيل علوم متعلّقة بخصوصيّات تلك المعلومات ، فهو بالفعل من حيث إنّه علم بجملة تلك

__________________

(١) مرّ في ص ١٨٦ من هذا الجزء.

١٨٨

المعلومات ، وبالقوّة من حيث العلم بخصوصيّات تلك المعلومات ؛ وذلك لأنّه ليس في المثال قوّة من حيث كونه علما بحقيقة الجواب ، بل من حيث إنّ هذه الصورة الواحدة قابلة للتحليل إلى صور كثيرة كلّ واحدة من هذه الصورة الواحدة وتلك الصور الكثيرة نحو على حدة من العلم بحقيقة الجواب. والعالم بالجواب بالنحو الأوّل ليس قابلا للعلم به بالنحو الآخر ؛ فإنّ أحدهما للقوّة العقليّة الصرفة ، والآخر للقوّة النفسانيّة ، فليتفطّن.

فإذا عرفت ما ذكرناه فمعنى كونه تعالى عقلا بسيطا بالأشياء هو كون ذاته تعالى نفس العلم بالموجودات بلا تكثّر صور في ذاته ، وهذا يمكن أن يكون مراد من قال باتّحاد العاقل والمعقول ، فالاتّحاد معقول في علمه تعالى بالأشياء ، وبالجملة ، في كلّ عقل مفارق بالقياس إلى معلولاته ، وغير معقول في عقلنا بالأوّل تعالى وبالمبادئ المفارقة ومعلولاتها. وهذا ما وعدناك سابقا في مبحث إبطال الاتّحاد من مسألة العلم.

وأمّا أنّه كيف يمكن ذلك ـ أعني كون ذاته تعالى علما بالأشياء المستلزم لمطابقتها إيّاها ـ ، فسيأتي منّا بيانه إن شاء الله.

والشيخ أيضا غير غافل عن ذلك ـ أعني عن اتّحاد العاقل والمعقول بالمعنى المذكور ـ بل صرّح به في التعليقات حيث قال :

تعليق : لا محالة أنّه تعالى يعقل ذاته ويعقلها مبدأ للموجودات ، فالموجودات معقولات له وهي غير خارجة عن ذاته ؛ لأنّ ذاته مبدأ لها ، فهو العاقل والمعقول وليصحّ هذا الحكم فيه ولا يصحّ فيما سواه ؛ فإنّ ما سواه يعقل ما هو خارج عن ذاته (١).

تعليق : كلّ ما يعقل عن ذاته فإنّه هو العقل والمعقول والعاقل ، وهذا الحكم

__________________

(١) « التعليقات » : ١٥٩.

١٨٩

لا يصحّ إلاّ في الأوّل. وأمّا ما يقال ـ أنّا إذا عقلنا شيئا فإنّا نصير ذلك المعقول ـ فهو محال ؛ فإنّه يلزم أن نكون إذا عقلنا البارئ نتّحد معه ونكون هو ، فهذا الحكم لا يصحّ إلاّ في الأوّل ؛ فإنّه يعقل ذاته ، وذاته مبدأ المعقولات ، فهو يعقل الأشياء من ذاته ، فكلّ شيء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل (١).

وقال في المبدأ والمعاد : وليس كون الكلّ عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكلّ عنه لا لمعرفة ولا رضى منه ، وكيف يصحّ هذا وهو عقل محض يعقل ذاته؟ فيجب أن يعقل أنّه يلزمه وجود الكلّ عنه ؛ لأنّه لا يعقل ذاته إلاّ عقلا محضا ومبدأ أوّلا. وتعقّل وجود الكلّ عنه على أنّه مبدؤه هو ذاته لا غير ذاته ؛ فإنّ العقل والعاقل والمعقول فيه واحد ، وذاته راضية لا محالة بما عليه ذاته ، ولكن تعقّله الأوّل وبالذات أنّه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود ، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون ، لا عقلا خارجا عن القوّة إلى الفعل ، ولا عقلا منتقلا من معقول إلى معقول ؛ فإنّ ذاته بريئة عمّا بالقوّة من كلّ وجه على ما أوضحنا قبل ، بل عقلا واحدا معا ، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود أنّه كيف يمكنه ، وكيف يكون وجود الكلّ على مقتضى معقولة ؛ فإنّ الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها ـ على ما علمت ـ علم وقدرة وإرادة.

وأمّا نحن ، فنحتاج في تنفيذ ما نتصوّره إلى قصد وإلى حركة وإلى إرادة ، وهذا لا يحسن فيه ، ولا يصحّ ؛ لبراءته عن الاثنينيّة (٢). انتهى.

فالشيخ مع تفطّنه لذلك ذهب إلى القول بالعلم الصوري ؛ تحقيقا لأمر العناية وتحصيلا للعلم الذي هو سبب النظام ومقدّم عليه ؛ فإنّ العلم بالنظام وأمر العناية إنّما يتمّ بالعلم التفصيليّ ولا يكفي الإجماليّ فقط ، وأيضا فرارا من الشناعة الواردة على

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٧٥ ـ ٧٦.

١٩٠

القدماء في نفيهم علمه تعالى بما سوى ذاته كما شنع الغزاليّ في كتاب التهافت (١) على الفلاسفة بذلك ، وقال : إنّ جميعهم قائلون به إلاّ ابن سينا وصدّقه الحكيم ابن رشد في ذلك لكن قال : إنّ مرادهم أنّه لا يعلم الأشياء من خارج ذاته لئلاّ يلزم استكماله بالغير ، بل يعلمه من ذاته ، وأنّهم لا يقولون : إنّه يعلم غير ذاته لئلاّ يتوهّم أنّه يعلمه من خارج ذاته ، وأنّ ابن سينا أراد الجمع بين القول بأنّه لا يعلم غير ذاته ، وأنّه يعلم الأشياء كلّها بأنّه يعلمها من ذاته لا من خارج ذاته ، فهو لا يعلم ما هو خارج عن ذاته ، هذا.

وأمّا المعلّم الثاني ، فقال في كتاب الجمع بين الرأيين ما ملخّصه : أنّه لمّا كان البارئ ـ جلّ جلاله ـ بإنّيّته وذاته مباينا لجميع ما سواه وذلك له بمعنى أشرف وأفضل وأعلى بحيث لا يناسبه شيء في إنّيّته ولا يشاكله ولا يشبهه حقيقة ولا مجازا ، ثمّ مع ذلك لم يكن بدّ من وصفه وإطلاق اللفظ فيه من هذه الألفاظ المتواطئة عليه ؛ فإنّ الواجب الضروري أن يعلم أنّ مع كلّ لفظة نقولها في شيء من أوصافه معنى لذاته بعيد من المعنى الذي نتصوّره من تلك الألفاظ أشرف وأعلى حتّى إذا قلنا : إنّه موجود ، علمنا مع ذلك أنّ وجوده ليس كوجود سائر ما هو دونه ، وإذا قلنا : حيّ ، علمنا أنّه حيّ بمعنى أشرف ممّا نعلمه من الحيّ الذي هو دونه ، وكذلك الأمر في سائرها.

فحينئذ نقول : لمّا كان الله تعالى حيّا مريدا لهذا العالم بجميع ما فيه ، فواجب أن يكون عنده صور ما يريد إيجاده في ذاته ، ولو لم يكن للموجودات صور وآثار في ذات الموجد الحيّ فما الذي كان يوجده؟ وعلى أيّ مثال ينحو بما يفعله ويبدعه؟ أما علمت أنّ من نفى هذا المعنى عن الفاعل الحيّ المريد ، لزمه القول بأنّ ما يوجده إنّما يوجده جزافا وعلى غير قصد ولا ينحو نحو غرض مقصود بإرادته ، وهذا من

__________________

(١) نقله عن ابن رشد في « تهافت التهافت » : ٣٤٣.

١٩١

أشنع الشناعات (١).

وقال في فصوصه :

« فصّ : واجب الوجود لا موضوع له ولا عوارض له [ ... ] فهو ظاهر (٢). يعني أنّه ظاهر بذاته على ذاته ، والمراد إثبات كونه عالما بذاته ؛ لكونه مجرّدا.

ثمّ قال :

فصّ : واجب الوجود مبدأ كلّ فيض وهو ظاهر بذاته على ذاته ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو ـ من حيث هو ظاهر ـ ينال الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد ذاته وعلمه بذاته ، [ ... ] ويتّحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته ، فهو الكلّ في حدة (٣).

فصّ : علمه الأوّل لا ينقسم ؛ لأنّه عين ذاته ، وعلمه الثاني عن ذاته إذا تكثّر لم يكن الكثرة في ذاته ، بل بعد ذاته ( وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها ) (٤) و (٥).

فصّ : كلّ ما عرف سببه من حيث يوجبه فقد عرف ، وإذا رتّبت الأسباب ، فقد انتهت أواخرها إلى الجزئيّات [ انتهاء على سبيل الإيجاب ] (٦) فكلّ كلّيّ وجزئيّ ظاهر عن ظاهريّته الأولى لكن ليس يظهر له شيء منها عن ذواتها داخلة في الزمان والآن ، بل عن ذاته والترتيب الذي عنده شخصا فشخصا بغير نهاية ، فعالم علمه بالأشياء بذاته هو الكلّ الثاني [ لا نهاية له ولا حدّ وهناك الأمر ] (٧) و (٨). انتهى ما أردناه منه.

فقوله : هو الكلّ الثاني ، إشارة إلى اعتبار [ ذاته تعالى مع العلم الصوريّ المتأخّر

__________________

(١) « الجمع بين رأيي الحكيمين » : ١٠٦.

(٢) « فصوص الحكم » للفارابيّ : ٥٣ ، الفصّ ١٠.

(٣) نفس المصدر : ٥٨ ، الفصّ ١١.

(٤) الأنعام (٦) : ٥٩.

(٥) « فصوص الحكم » للفارابيّ : ٦٠ ، الفصّ ١٤.

(٦) العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.

(٧) العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.

(٨) « فصوص الحكم » للفارابيّ : ٥٩ ، الفصّ ١٣.

١٩٢

عن ذاته ، فيكون الكلّ الأوّل هو علمه بذاته الذي هو عين ذاته وعين علمه بالموجودات بالعلم الاتّحاديّ ] (١) الإجماليّ الذي هو عين ذاته وهو المراد من ظاهريّته الأولى.

وقال أيضا :

فصّ : لا يجوز أن يقال : إنّ الحقّ الأوّل يدرك الأمور المبتدعة عن قدرته من جهة تلك الأمور كما ندرك الأشياء المحسوسة من جهة حضورها وتأثيرها فينا ، فتكون هي الأسباب لعالميّة الحقّ ، بل يجب أن يعلم أنّه يدرك الأشياء من ذاته تقدّست ؛ لأنّه إذا لحظ ذاته لحظ القدرة المستقلّة ، فلحظ من القدرة المقدور ، فلحظ الكلّ ، فيكون علمه بذاته سبب علمه بغيره (٢).

ثمّ قال :

ليس علمه بذاته مفارقا لذاته ، بل هو ذاته ، وعلمه بالكلّ صفة لذاته ليست هي ذاته ، بل لازمة لذاته ، وفيها الكثرة غير المتناهية ، فلا كثرة في الذات ، بل بعد الذات ؛ فإنّ الصفة بعد الذات لا بزمان ، بل بترتيب الوجود لكن تلك الكثرة ترتقي به ممّا يطول شرحه.

والترتيب يجمع الكثرة في نظام ، فالنظام وحدة ما ، وإذا اعتبر الحقّ ذاتا وصفات كان الكلّ في وحدة ، فإذا كان كلّ كلّ متمثّلا في قدرته وعلمه ، ومنهما يحصل حقيقة الكلّ مقرّرة ، ثمّ يكثر الموادّ ، فهو كلّ الكلّ من حيث صفاته وقد اشتملت عليها أحديّة ذاته » (٣) انتهى.

فإن قلت : ما معنى قول الفارابيّ وكذا قول الشيخ : « إنّ كثرة الصور كثرة بعد الذات » وظاهر كون العرض متأخّرا عن الموضوع؟

__________________

(١) العبارات غير موجودة في « شوارق الإلهام » ، الطبعة الحجريّة.

(٢) « فصوص الحكم » للفارابيّ : ٩٧ ، الفصّ ٦٦.

(٣) نفس المصدر : ٩٩ ، الفصّ ٦٧.

١٩٣

وأيضا فأيّ فائدة لكون الصور بعد الذات إذا تأدّت كثرتها إلى كثرة الذات ؛ فإنّ الظاهر أنّ المقصود من هذا الكلام هو دفع مفسدة لزوم الكثرة في الذات باعتبار اجتماع جهتي الفعل والقبول أو جهات الصدور؟

قلت : معناه أنّ كثرة تلك الصور وقيامها بالذات إنّما هو بعد كمال الذات وتمامها ؛ لما مرّ من أنّ كماله تعالى ليس بتلك الصور ، بل بأن يفيض عنه تلك : الصور ؛ وذلك لوجوب كون العلّة غير عارية في حدّ ذاتها عن المعلول ، وإلاّ لامتنعت الإفاضة ، بخلاف سائر الصور والأعراض ؛ فإنّ قيامها بمحالّها ليس بعد كمال محالّها ؛ لكون محالّها مستكملة لا محالة بها ، فيكون في ذات تلك المحالّ قوّة القبول لها ، فلو كان صدورها أيضا عن محالّها ، لزم تحقّق الكثرة في ذوات تلك المحالّ لا محالة.

ومن هذا التحقيق ظهر أنّ كثرة صور معقولاته تعالى ليست ككثرة الصور في النفس ـ أعني التفصيل الذي لا يكون إلاّ للنفس ـ ليرد أنّ هذا التفصيل لا يكون لما ليس له نفس ، كما مرّ في كلام الشيخ ، فكيف حكموا بكونه ثابتا له تعالى ولو بعد ذاته؟! وذلك لأنّ كثرة معقولاته تعالى ليست كثرة متجدّدة زمانيّة فكريّة ليلزم من ثبوتها لشيء ثبوت النفس له. والتفصيل ـ الذي قد مرّ في كلام الشيخ أنّه لا يكون إلاّ لما له نفس ـ إنّما هو الكثرة التفصيليّة الفكريّة.

وبالجملة ، قابل العلم التفصيليّ الفكريّ ـ الذي لا بدّ أن يفيض عن الغير ـ لا يكون إلاّ النفس من حيث هي نفس.

وأمّا قبول التفصيل الفائض عن ذات العاقل ، فلا يلزم وجود النفس ، بل يكون من شأن العقل ـ من حيث هو عقل ـ قبول ذلك ، وهذا هو القبول بمعنى مطلق الموصوفيّة لا القبول المستدعي للانفعال بخلاف القبول الذي ليس إلاّ للنفس ، فليتدبّر.

زيادة بسط في المقال لمزيد تحقيق الحال

ثمّ ينبغي لنا أن نزيد في بسط الكلام ليظهر أنّ الفلاسفة من أيّ جهة يقولون : إنّه

١٩٤

تعالى لا يعلم غيره؟ ومن أيّ جهة يجب أن يقال : إنّه عالم بجميع الموجودات؟ فنقول : قال أبو الوليد محمّد بن رشد الأندلسي في كتاب جامع الفلسفة (١) ـ بعد ذكر المبادئ المفارقة ووجوب انتهائها إلى مبدأ أوّل ، وأنّ كلاّ عاقل لذاته ـ : فلينظر هل يمكن في واحد واحد منها أن يعقل شيئا خارجا من ذاته ، أم لا؟ فنقول : إنّه قد تبيّن في كتاب النفس أنّ المعقول كمال العاقل وصورته ، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره ، فإنّما يعقله على أنّه يستكمل به ، فذلك الغير مقدّم عليه وسبب في وجوده ، فمن البيّن أنّه ليس يمكن أن يتصوّر العلّة منها معلولها ، وإلاّ أمكن أن يعود العلّة معلولة ويستكمل الأشرف بالأقلّ شرفا ، وذلك محال.

ومن هنا يظهر ـ كلّ الظهور ـ أنّه إن وضع لها مبدأ أوّل ليس بمعلول لشيء ـ على ما تبيّن فيما سلف أنّه لا يتصوّر إلاّ ذاته وليس يتصوّر معلولاته وليس هذا شيئا يخصّ المبدأ الأوّل منها ، بل ذلك شيء يعمّ جميعها حتّى عقول الأجرام السماويّة ـ فإنّا لا نرى أنّها تتصوّر الأشياء التي دونها فإنّه لو كان كذلك لاستكمل الأشرف بالأخسّ ، وإذا كان الأمر على هذا ، فكلّ واحد من هذه المبادئ وإن كان واحدا ـ بمعنى أنّ العاقل والمعقول فيه واحد ـ فهي في ذلك متفاضلة ، وأحقّها بالوحدانيّة هو الأوّل البسيط ثمّ الذي يليه.

وبالجملة ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أكثر ، فهو أقلّ بساطة وفيه كثرة ما وبالعكس ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أقلّ فهو أكثر بساطة ، حتّى أنّ البسيط الأوّل بالتحقيق إنّما هو الذي لا يحتاج في تصوّر ذاته إلى شيء من خارج.

فهذا هو الذي أدّى إليه القول من أمر تصوّر هذه المبادئ إلاّ أنّه قد يلحق ذلك شناعات كثيرة إحداها أن تكون هذه المبادئ جاهلة بالأشياء التي هي لها مبادئ ،

__________________

(١) في النسخ : « الفلاسفة » وما أثبتناه من « شوارق الإلهام ».

١٩٥

فيكون صدورها عنها كما تصدر الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض مثل الإحراق الصادر عن النار ، والتبريد عن الثلج ، فلا يكون صدورها من جهة العلم ، ومحال أن يصدر عن العالم ـ من جهة ما هو عالم ـ شيء لا يعلمه.

وإلى هذا أشار بقوله جلّ وعزّ : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١).

وأيضا فإنّ الجهل نقص ، والشيء الذي في غاية الفضيلة ليس يمكن أن يوجد فيه نقص ، فهذا أقوى الشكوك التي تلحق هذا الموضع ونحن نحلّها.

فنقول : إنّه لمّا كان الفاعل إنّما يعطي المفعول شبيه ما في جوهره ، وكان المفعول يلزم فيه أن يكون غيرا وثانيا بالعدد ، وجب ضرورة أحد أمرين :

إمّا أن يكون مغايرا له بالهيولى وذلك لازم متى كان المفعول هو الفاعل بالنوع من غير تفاضل بينهما بالصورة.

وإمّا أن يكون المغايرة التي بينهما في التفاضل في النوع الواحد ، وذلك بأن يكون الفاعل في ذلك النوع أشرف من المفعول ؛ فإنّ المفعول ليس يمكن فيه أن يكون أشرف من الفاعل بالذات ؛ إذ كانت ماهيّته إنّما تحصل عن الفاعل ، وإذا كان ذلك كذلك فهذه المبادئ التي ليست في هيولى إنّما يغاير فيها الفاعل المفعول والعلّة المعلول بالتفاضل في الشرف في النوع الواحد لا باختلاف النوعيّة.

ولمّا كان العقل الذي بالفعل منّا ليس شيئا أكثر من تصوّر الترتيب والنظام الموجود في هذا العالم ، وفي جزء جزء منه ، ومعرفة شيء شيء ممّا فيه بأسبابه البعيدة والقريبة حتّى العالم بأسره ، وجب ضرورة أن لا يكون العقل الفاعل لهذا العاقل منّا غير تصوّر هذه الأشياء ؛ ولذلك ما قيل : إنّ العقل الفاعل يعقل الأشياء التي هنا لكن يجب أن يكون يعقل هذه الأشياء بجهة أشرف ، وإلاّ لم يكن بيننا وبينه فرق ، ولقصور العقل الذي فينا احتاج في عقله إلى الحواسّ.

__________________

(١) الملك (٦٧) : ١٤.

١٩٦

ولذلك متى عدمنا حاسّة ما ، عدمنا معقولها ، وكذلك متى تعذّر علينا حسّ شيء ما ، فاتنا معقوله ولم يكن حصوله لنا إلاّ على جهة الشهرة ؛ ولذلك يمكن أن تكون هاهنا أشياء مجهولة الأسباب بالإضافة إلينا هي موجودة في ذات العقل الفعّال ، وبهذه الجهة أمكن إعطاء أسباب الرؤيا وغير ذلك من الإنذارات الإلهيّة ، وإنّما كان هذا القصور لنا لمكان الهيولى.

وكذلك يلزم أيضا أن لا يكون معقول العقل الفاعل للعقل الفعّال شيئا أكثر من معقول العقل الفعّال ؛ إذ كان وإيّاه واحدا بالنوع إلاّ أن يكون بجهة أشرف وهكذا الأمر حتّى يكون المبدأ الأوّل يعقل الموجود بجهة أشرف من جميع الجهات التي يمكن أن يتفاضل فيها العقول البريئة عن المادّة ؛ إذ كان معقوله ليس هو غير المعقولات الإنسانيّة بالنوع فضلا عن سائر معقولات سائر المفارقات وإن كان مباينا بالشرف جدّا للعقل الإنساني ، وأقرب شيء من جوهره هو العقل الذي يليه ، ثمّ هكذا على الترتيب إلى العقل الإنساني.

ولو كان ما يعقل المعلول من هذه المبادئ من علّته ما يعقل العلّة من ذاتها ، لم يكن هناك مغايرة بين العلّة والمعلول ، ولما كانت كثرة لهذه الأمور المفارقة أصلا.

فقد ظهر من هذا القول أنّه على أيّ جهة يمكن أن يقال : إنّها تعقل الأشياء كلّها ؛ فإنّ الأمر في ذلك واحد في جميعها حتّى في عقول الأجرام السماويّة ، وعلى أيّ جهة يقال فيها : إنّها ليست تعقل ما دونها ، وانحلّت بهذا الشكوك المتقدّمة ؛ فإنّها بهذه الجهة يقال : إنّها عالمة بالشيء الذي صدر عنها ؛ إذ كان ما يصدر عن العالم بما هو عالم يلزم ضرورة ـ كما قلنا ـ أن يكون معلوما ، وإلاّ كان صدوره كصدور الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض.

وبهذا القول تمسّك القائلون بأنّ الله يعلم الأشياء. وبالقول الثاني تمسّك القائلون بأنّه لا يعلم ما دونه ، وذلك أنّهم لم يشعروا باشتراك اسم العلم ، فأخذوه على أنّه يدلّ

١٩٧

على معنى واحد ، فلزمهم عن ذلك قولان متناقضان على جهة ما يلزم في الأقاويل التي تؤخذ أخذا مهملا.

وكذلك الشنعة (١) التي قيلت فيما سلف تنحلّ بهذا وذلك بأنّه ليس النقص في أن نعرف الشيء بمعرفة أتمّ ولا نعرفه بمعرفة أنقص وإنّما النقص في خلاف هذا ؛ فإنّ من فاته أن يبصر الشيء بصرا رديئا وقد أبصره بصرا تامّا ليس ذلك نقصا في حقّه.

وهذا الذي قلنا هو الظاهر من مذهب أرسطو وأصحابه أو اللازم عن مذهبهم ، فقد تبيّن من هذا القول كيف تعقل هذه المبادئ ذواتها وما هو خارج عن ذواتها. انتهى كلامه في الجامع بأدنى تلخيص.

وقال في كتاب ردّ التهافت : ولمّا كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء ، وكان العقل ليس شيئا أكثر من إدراك المعقولات ، كان العقل منّا هو المعقول بعينه من جهة ما هو معقول ، ولم يكن هناك مغايرة بين العقل والمعقول إلاّ من جهة أنّ المعقولات هي معقولات أشياء ليست في طبيعتها عقلا ، وإنّما تصير عقلا بتجريد العقل صورها من الموادّ ، ومن قبل هذا لم يكن العقل منّا هو المعقول من جميع الجهات ، فإن ألقي شيء في غير مادّة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات وهو عقل المعقولات ولا بدّ ؛ لأنّ العقل ليس شيئا هو أكثر من إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها ، ولكنّه يجب فيما هو عقل مفارق أن لا يستند (٢) في عقل الأشياء الموجودة وترتيبها (٣) ، إلى الأشياء الموجودة ، ويتأخّر (٤) معقوله عنها ؛ لأنّ كلّ عقل هو بهذه الصفة فهو تابع للنظام الموجود في الموجودات ، ومستكمل به ، وهو ضرورة يقصر فيما يعقله من الأشياء ، ولذلك كان العقل منّا مقصّرا عمّا يقتضيه طبائع

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « الشبهة ».

(٢) الضمير المستتر في « يستند » راجع إلى العقل.

(٣) متعلّق بـ « لا يستند ».

(٤) عطف على « يستند ».

١٩٨

الأشياء (١) من الترتيب والنظام الموجود فيها ، فإن كانت طبائع الموجودات جارية على حكم العقل ، وكان هذا العقل منّا مقصّرا عن إدراك طبائع الموجودات ، فواجب أن يكون هاهنا علم بنظام وترتيب هو السبب في النظام والترتيب والحكمة الموجودة في موجود موجود ، وواجب أن يكون هذا العقل للنظام الذي منه هو السبب في النظام الذي في الموجودات ، وأن يكون إدراكه لا يتّصف بالكلّيّة فضلا عن الجزئيّة ؛ لأنّ الكلّيّات معقولات تابعة للموجودات ومتأخّرة عنها ، وذلك العقل الموجودات تابعة له ، فهو عاقل ضرورة بعقله من ذاته النظام والترتيب الموجود في الموجودات لا بعقله شيئا خارجا عن ذاته ؛ لأنّه كان يكون معلولا عن الموجود الذي يعقله لا علّة له وكان يكون مقصّرا.

وإذا فهمت هذا من مذهب القوم فهمت أنّ معرفة الأشياء بعلم كلّيّ هو علم ناقص ؛ لأنّه علم لها بالقوّة ، وأنّ العقل المفارق لا يعقل إلاّ ذاته ، وأنّه بعقل ذاته يعقل جميع الموجودات ؛ إذ كان عقله ليس شيئا أكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات ، فإذا أنزلت أنّ العقل الذي هنالك شبيه بعقل الإنسان ، لحقت تلك الشكوك المذكورة ؛ فإنّ العقل الذي فينا هو الذي يلحقه التعدّد والكثرة ، وأمّا ذلك العقل ، فلا يلحقه شيء من ذلك ، وذلك أنّه بريء عن الكثرة اللاحقة لهذه المعقولات ، وليس يتصوّر فيه مغايرة بين المدرك والمدرك ، وأمّا العقل الذي فينا فإدراكه ذات الشيء غير إدراكه أنّه مبدأ للشيء وكذلك إدراكه غيره غير إدراكه ذاته بوجه ما ، ولكن فيه شبه من ذلك العقل وذلك العقل هو الذي أفاده ذلك الشبه.

بيان ذلك : أنّ العقل إنّما صار هو المعقول من جهة ما هو معقول ؛ لأنّ هاهنا عقلا هو المعقول من جميع الجهات ، وذلك أنّ كلّ ما وجدت فيه صفة ناقصة فهي موجودة له من قبل موجود فيه تلك الصفة كاملة ، مثال ذلك أنّ ما وجدت فيه حرارة

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « طبائع الموجودات ».

١٩٩

ناقصة فهي موجودة له من قبل شيء هو حارّ بحرارة كاملة ، وكذلك ما وجد فيه الحياة ناقصة فهي موجودة له من قبل حيّ بحياة كاملة ، فكذلك ما وجد عاقلا بعقل ناقص فهو موجود له من قبل شيء هو عاقل بعقل كامل ، وكذلك كلّ ما وجد له فعل عقلي كامل فهو موجود له من قبل عقل كامل ، فإن كانت جميع أفعال الموجودات أفعالا عقليّة كاملة وليست ذوات عقول ، فها هنا عقل من قبله صارت أفعال الموجودات أفعالا عقليّة.

ومن لم يفهم هذا المعنى من ضعفاء الحكماء هو الذي يطلب هل المبدأ الأوّل يعقل ذاته أو يعقل شيئا خارجا عن ذاته؟ فإن وضع أنّه يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يستكمل بغيره ، وإن وضع أنّه لا يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يكون جاهلا بالموجودات.

والعجب من هؤلاء القوم أنّهم نزّهوا الصفات الموجودة في البارئ تعالى وفي المخلوقات عن النقائص التي لحقتها في المخلوقات وجعلوا العقل الذي فينا شبيها بالعقل الذي فيه ، وهو أحقّ شيء بالتنزيه.

ثمّ قال : ليس يمتنع في العلم الأوّل أن يوجد فيه مع الاتّحاد تفصيل بالمعلومات ؛ فإنّه لم يمتنع عند الفلاسفة أن يكون يعلم غيره وذاته علما مفرّقا (١) من جهة أن يكون هناك علوم كثيرة.

وإنّما امتنع عندهم أن يستكمل العقل بالمعقول المعلول عنه ، فلو عقل غيره على جهة ما نعقله نحن لكان عقله معلولا عن الموجود المعقول لا علّة له وقد قام البرهان على أنّه علّة للموجودات ، والكثرة التي نفى الفلاسفة هو أن يكون عالما لا بنفسه ، بل بعلم زائد على ذاته ، وليس يلزم من نفي هذه الكثرة عنه تعالى نفي كثرة المعلومات ، لكنّ الحقّ في ذلك هو أنّه ليس تعدّد المعلومات في العلم الأزليّ

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « مفترقا ».

٢٠٠