البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

العلم ، وما ذكر في الكتب لم يتنقّح لي ، فوقعت لي ليلة من الليالي خلسة في شبه نوم لي فإذا أنا بلذّة غاشية ، وبرقة لامعة ، ونور شعشعانيّ مع تمثّل شبح إنسانيّ ، فرأيته فإذا هو غياث النفوس وإمام الحكمة ، المعلّم الأوّل على هيئة أعجبتني ، وأبّهة أدهشتني ، فتلقّاني بالترحيب والتسليم حتّى زالت دهشتي ، وتبدّلت بالأنس وحشتي ، فشكوت إليه من صعوبة هذه المسألة ، فقال : ارجع إلى نفسك تنحلّ لك.

فقلت : وكيف؟ فقال : إنّك مدرك لنفسك ، فإدراكك لذاتك بذاتك ، أو غيرها؟ فيكون لك إذن قوّة أخرى ، أو ذات تدرك ذاتك ، والكلام عائد وظاهر استحالته ، وإذا أدركت ذاتك بذاتك ، أباعتبار أثر في ذاتك؟ فقلت : بلى.

قال : فإن لم يطابق الأثر ذاتك ، فليس صورتها ، فما أدركتها ، فقلت : فالأثر صورة ذاتيّ ، قال : صورتك لنفسك مطلقة ، أو متخصّصة بصفات أخرى؟ فاخترت الثاني ، فقال : كلّ صورة في النفس هي كلّيّة وإن تركّبت أيضا من كلّيّات كثيرة ، فهي لا تمنع الشركة لنفسها ، وإن فرض منعها تلك فلمانع آخر ، وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها ، فليس هذا الإدراك بالصورة.

فقلت : أدرك مفهوم أنا فقال : مفهوم أنا من حيث هو مفهوم أنا لا يمنع وقوع الشركة فيه ، وقد علمت أنّ الجزئيّ ـ من حيث هو جزئيّ لا غير ـ كلّيّ « وهذا » و « أنا » و « نحن » و « هو » لها معان كلّيّة من حيث مفهوماتها المجرّدة دون إشارة جزئيّة.

فقلت : فكيف إذن؟

فقال : فلمّا لم يكن علمك بذاتك بقوّة غير ذاتك ، فإنّك تعلم أنّك أنت المدرك لذاتك لا غير ، ولا بأثر غير مطابق ، ولا بأثر مطابق (١) ، فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « لا بأثر مطابق ولا بأثر غير مطابق ».

١٦١

فقلت : زدني.

فقال : ألست تدرك بدنك الذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرّا لا تغيب عنه؟ فقلت : بلى.

قال : أبحصول (١) صورة شخصيّة في ذاتك وقد عرفت استحالته؟ فقلت : لا ، بل على أخذ صفات كلّيّة ، قال : وأنت تحرّك بدنك الخاصّ ، وتعرفه بدنا خاصّا جزئيّا ، وما أخذت من الصورة نفسها لا يمنع وقوع الشركة فيها ، فليس إدراكك لها إدراكا لبدنك الذي لا يتصوّر أن يكون مفهومه لغيره.

ثمّ أما قرأت من كتبنا أنّ النفس تتفكّر باستخدام المفكّرة وهي تفصل وتركّب الجزئيّات وترتّب الحدود الوسطى؟ والمتخيّلة لا سبيل لها إلى الكلّيّات ؛ لأنّها جزئيّة (٢).

فإن لم يكن للنفس اطّلاع على الجزئيّات ، فكيف تركّب مقدّماتها؟! وكيف تنزع الكلّيّات من الجزئيّات؟! وفي أيّ شيء تستعمل المتفكّرة؟ وكيف تأخذ الخيال؟ وما ذا يفيدها تفصيل المتخيّلة؟ وكيف تستعدّ بالفكر للعلم بالنتيجة؟ ثمّ المتخيّلة جزئيّة (٣) كيف تدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلّيّة؟ وأنت تعلم بتخيّلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت أنّ الوهم ينكرها (٤).

قلت : فأرشدني جزاك الله عن زمرة العلم خيرا ، قال : وإذا دريت أنّها تدرك لا بأثر يطابق ولا بصورة ، فاعلم أنّ التعقّل حضور الشيء للذات المجرّدة عن المادّة. وإن شئت قلت : عدم غيبته عنها ، وهذا أتمّ ؛ لأنّه يعمّ إدراك الشيء لذاته وغيره ؛ إذ الشيء لا يحضر لنفسه ولكن لا يغيب عنها. أمّا النفس ، فهي مجرّدة غير غائبة عن ذاتها ، بقدر تجرّدها أدركت ذاتها وما غاب عنها ، إذا لم يكن لها استحضار عينه

__________________

(١) في المصدر المذكور : « الحصول ».

(٢) في المصدر : « الجرمية ».

(٣) في المصدر : « الجرمية ».

(٤) أي ينكر المتخيّلة بل نفسها أيضا أعني الواهمة ، والإنكار لا يحصل إلاّ بالإدراك. ( منه رحمه‌الله ).

١٦٢

كالسماء والأرض ونحوهما ، فاستحضرت صورته.

أمّا الجزئيّات ففي قوى حاضرة لها. وأمّا الكلّيّات ففي ذاتها ؛ إذ من المدركات صورة كلّيّة لا تنطبع في الأجرام ، والمدرك هو نفس الصورة الحاضرة لا ما خرج عن التصوّر.

وإن قيل للخارج : إنّه مدرك فذاك بقصد ثان ، فذاتها غير غائبة عن ذاتها ، ولا بدنها جملة ما ، ولا قوى مدركة لبدنها جملة ما ، وكما أنّ الخيال غير غائب عنها ، فكذلك الصور الخياليّة ، فيدركها النفس لحضورها لا لتمثّلها في ذات النفس ، ولو كان تجرّدها أكثر ، لكان الإدراك بذاتها أكثر وأشدّ ، ولو كان تسلّطها على البدن أشدّ كان حضور قواها وأجزائها لها أشدّ.

ثمّ قال لي : اعلم أنّ العلم كمال للموجود (١) من حيث مفهومه ، ولا يوجب تكثّرا ، فيجب للواجب وجوده [ لأنّه كمال للوجود (٢) من حيث هو وجود (٣) ، ولا يوجب تكثّرا ، فلا يمتنع ، والممكن العامّ على واجب الوجود يجب له ؛ إذ لا يمكن بالإمكان الخاصّ شيء عليه ، فيوجب فيه جهة إمكانيّة ، فيتكثّر ] (٤).

ثمّ قال : فواجب الوجود ذاته مجرّدة عن المادّة وهو الوجود البحت والأشياء حاضرة له على إضافة مبدئيّة تسلّطيّة ؛ لأنّ الكلّ لازم ذاته ، فلا يغيب عنه ذاته ، ولا لازم ذاته ، وعدم غيبته عن ذاته أو لوازمه مع التجرّد عن المادّة هو إدراكه كما قرّرناه في النفس.

ورجع الحاصل في العلم كلّه إلى عدم غيبة الشيء عن المجرّد عن المادّة صورة كانت أو غيرها ، فالإضافة جائزة في حقّه تعالى ، وكذلك السلوب ، ولا يخلّ بوحدانيّته تكثّر أسمائه بهذه السلوب والإضافات ، ولو كان لنا على غير بدننا سلطنة

__________________

(١) في المصدر : « للوجود ».

(٢) في « شوارق الإلهام » : « للموجود ... موجود ».

(٣) في « شوارق الإلهام » : « للموجود ... موجود ».

(٤) العبارة لم ترد في « التلويحات ».

١٦٣

كما على بدننا ، لأدركناه كإدراك البدن كما سبق من غير حاجة إلى صورة ، فتعيّن من هذا أنّه بكلّ شيء محيط ، وإدراك أعداد الوجود هو نفس الحضور له والتسلّط من غير صورة ومثال. ثمّ قال لي : كفاك في العلم هذا (١) انتهى كلام التلويحات.

وقال في حكمة الإشراق : لمّا تبيّن ـ يعني على قاعدة الإشراق ـ أنّ الإبصار ليس من شرطه انطباع شبح أو خروج شيء ، بل يكفي عدم الحجاب بين الباصر والمبصر ، فنور الأنوار ظاهر لذاته على ما سبق بيانه في كلّ مجرّد وغيره ظاهر له ، فلا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض ؛ إذ لا يحجبه شيء عن شيء ؛ فعلمه وبصره واحد (٢).

وقال أيضا : علمه بذاته هو كونه نورا لذاته وظاهرا لذاته ، وعلمه بالأشياء كونها ظاهرة له إمّا بأنفسها أو بمتعلّقاتها التي هي مواضع الشعور المستمرّ للمدبّرات العلويّة وذلك ـ أي علمه بالأشياء ـ إضافة ـ لكونه عبارة عن ظهور الأشياء ـ وعدم الحجاب سلبيّ.

والذي يدلّ على أنّ هذا القدر ـ أي ظهور الأشياء له ـ كاف في علمه بها هو أنّ الإبصار إنّما كان بمجرّد إضافة ظهور الشيء للمبصر مع عدم الحجاب ، فإضافته إلى كلّ ظاهر له ، إبصار وإدراك له ، وتعدّد الإضافات العقليّة ـ التي له إلى الأشياء الكثيرة ـ لا يوجب تكثّرا في ذاته (٣). انتهى كلام حكمة الإشراق.

ومختار المصنّف هذا المذهب كما أشرنا إليه ؛ قال في شرح رسالة العلم : والحقّ أنّه ليس من شرط كلّ إدراك أن يكون بصورة ذهنيّة ؛ وذلك لأنّ ذات العاقل إنّما تعقل نفسه بعين صورته التي بها هي هي.

وأيضا المدرك للصورة الذهنيّة إنّما يدركها بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى ،

__________________

(١) « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٧٠ ـ ٧٣.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠.

(٣) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٢.

١٦٤

وإلاّ لتسلسل ، ولزم مع ذلك أن يجتمع في المحلّ الواحد صور متساوية في الماهيّة ، مختلفة بالعدد فقط ، وذلك محال.

فإذن إنّما يحتاج في الإدراك إلى صورة المدرك. أمّا الاحتياج إلى صورة ذهنيّة ، فقد يكون حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك ، وعدم الحضور يكون ، إمّا لكون المدرك غير موجود أصلا ، أو لكونه غير موجود عند المدرك ، أي يكون بحيث لا يصل إليه الإدراك البتّة ، وذلك إنّما يكون بسبب شيء من الموانع العائدة إمّا إلى المدرك نفسه ، أو آلة الإدراك ، أو إليهما جميعا (١).

ثمّ قال : وإدراك الأوّل تعالى إمّا لذاته ، فيكون بعين ذاته لا غير ، ويتّحد هناك المدرك والمدرك والإدراك ، ولا تتعدّد إلاّ بالاعتبارات التي تستعملها العقول.

وإمّا لمعلولاتها القريبة منه فيكون بأعيان ذوات تلك المعلولات ؛ إذ لا يتصوّر هناك عدم حضورها بالمعاني المذكورة أصلا ، وتتّحد هناك المدركات والإدراكات ، ولا يتعدّدان إلاّ بالاعتبار ، ويغايرهما المدرك.

وإمّا لمعلولاته البعيدة كالمادّيّات والمعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت ، أو تتعلّق بموجود ، فيكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا وبالذات ، وكذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركيها ؛ وذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر ، والمدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه ، فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ، ولا في السماء ، ولا أصغر منها ولا أكبر ، فيكون ذوات معلولاته مرتسمة بجميع الصور وهي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين ، وتارة باللوح المحفوظ ، ويسمّيها الحكماء بالعقول الفعّالة ، ولا يلزم على هذا التقدير شيء من المحالات المذكورة والمذاهب الشنيعة (٢). انتهى كلامه.

__________________

(١) « شرح رسالة العلم » : ٢٨.

(٢) « شرح رسالة العلم » : ٢٨ ـ ٢٩.

١٦٥

وستعلم تلك المحالات والشنائع عن قريب.

وقال في شرح الإشارات : العاقل كما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو هو ، فلا يحتاج أيضا في إدراك ما يصدر عن ذاته لذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر ، التي بها هو هو ، واعتبر من نفسك أنّك تعقل شيئا بصورة تتصوّرها ، أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا ، بل بمشاركة ما من غيرك ، ومع ذلك فأنت لا تعقل تلك الصورة بغيرها ، بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك ، بل ربما تتضاعف اعتباراتك المتعلّقة بذاتك أو بتلك الصورة على سبيل التركّب ، وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال ، فما ظنّك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه؟

ولا تظنّنّ أنّ كونك محلاّ لتلك الصورة شرط في تعقّلك إيّاها ؛ فإنّك تعقل ذاتك مع أنّك لست بمحلّ لها ، بل إنّما كان كونك محلاّ لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة لك ، الذي هو شرط في تعقّلك إيّاها ، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك ، حصل التعقّل من غير حلول فيك ، ومعلوم أنّ حصول الشيء لفاعله في كونه حصولا لغيره ليس دون حصول الشيء لقابله ، فإذن المعلولات الذاتيّة للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير أن تحلّ فيه ، فهو عاقل إيّاها من غير أن تكون هي حالّة فيه (١).

ثمّ قال : وقد علمت أنّ الأوّل عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلاّ في اعتبار المعتبرين على ما مرّ ، وحكمت أنّ عقله لذاته علّة لعقله لمعلوله الأوّل ، فإذن حكمت بكون العلّتين ـ أعني ذاته وعقله لذاته ـ شيئا واحدا في الوجود من غير تغاير يقتضي كون أحدهما مباينا للأوّل والثاني متقرّرا فيه ،

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

١٦٦

فكما حكمت بكون التغاير في العلّتين اعتباريا محضا ، فاحكم بكونه في المعلولين كذلك ، فإذن وجود المعلول الأوّل هو نفس تعقّل الأوّل إيّاه من غير احتياج إلى صورة مستأنفة تحلّ ذات الأوّل ، تعالى عن ذلك.

ثمّ لمّا كانت الجواهر العقليّة تعقل ما ليس بمعلولات لها بحصول صور فيها وهي تعقل الأوّل الواجب ، ولا موجود إلاّ وهو معلول للأوّل الواجب ، كانت جميع صور الموجودات الكلّيّة والجزئيّة على ما عليه الوجود حاصلة فيها ، والأوّل الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل بأعيان تلك الجواهر والصور وكذلك الوجود على ما هو عليه ، فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرّة من غير لزوم محال من المحالات المذكورة (١). انتهى كلام شرح الإشارات.

وفيه وجوه من البحث ؛ فإنّ قياس الوجود الصادر عن العاقل لذاته في عدم الحاجة إلى صورة زائدة ، على العاقل لذاته في ذلك قياس مع الفارق ؛ فإنّ العاقل إنّما لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة زائدة ؛ لمكان الاتّحاد. وأمّا الصادر المباين ، فليس بهذه المثابة ، وكذا قياس الصادر عن العاقل بالاستقلال على الصورة الحاصلة في النفس بالمشاركة ؛ فإنّ الصورة الحاصلة إنّما لا تحتاج إلى صورة أخرى ؛ لأنّ الحصول هناك متحقّق بالقيام ، وهو كاف في العلم ، بخلاف الصادر المباين.

والحاصل : أنّ الحصول الذي يكفي في تحقّق العلم ـ على ما هو المسلّم ـ إنّما هو الحصول المتحقّق في ضمن الاتّحاد أو القيام ، وأمّا كفاية مطلق الحصول على أيّ نحو كان في ذلك ، فممنوعة ، وعلى من يدّعيه الإثبات. وسيأتي ما يتّضح به حقيقة ذلك.

وممّا ذكرنا يظهر ما في قوله : ولا تظنّنّ ... إلى آخره ، أيضا إلى غير ذلك.

وأمّا مذهب انكسمانس ، فهو من فلاسفة الإسلام مختار معلّمهم أبي نصر و

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٠٦.

١٦٧

رئيسهم ابن سينا وهو مختار أرسطو ، بل أفلاطن أيضا كما صرّح به الفارابيّ في كتاب الجمع بين الرأيين (١) ، وأوّل كلامه في المثل إلى ذلك.

أمّا الشيخ الرئيس ، فقال في إلهيّات الشفاء في فصل نسبة المعقولات إليه تعالى لبيان كون علمه تعالى بالأشياء بصورها العقليّة لا بأعيانها الخارجيّة بهذه العبارة : ولا يظنّ أنّ الإضافة العقليّة إليها إضافة إليها كيف وجدت ، وإلاّ لكان كلّ مبدأ صورة في مادّة ـ من شأن تلك الصورة أن تعقل بتدبير ما من تجريد وغيره ـ يكون هو عقلا بالفعل ، بل هذه الإضافة له إليها ـ وهي بحال ـ معقولة ، ولو كانت من حيث وجودها في الأعيان ، لكان إنّما يعقل ما يوجد في كلّ وقت ، ولا يعقل المعدوم منها في الأعيان إلى أن يوجد ، فيكون لا يعقل من نفسه أنّه مبدأ ذلك الشيء على ترتيب إلاّ عند ما يصير مبدأ ، فلا يعقل ذاته ؛ لأنّ ذاته من شأنها أن يفيض عنها كلّ وجود ، وإدراكها من حيث شأنها أنّها كذا يوجب إدراك الآخر وإن لم يوجد ، فيكون العالم الربوبيّ محيطا بالوجود الحاصل ، والممكن يكون لذاته إضافة إليها من حيث هي معقولة لا من حيث هي لها وجود في الأعيان (٢).

ثمّ أشار إلى كون علمه تعالى بالأشياء بالصور الحاصلة في ذاته ؛ حيث قال ما ملخّصه : فبقي لك النظر في حال وجودها معقولة أنّها تكون موجودة في ذات الأوّل على أنّها أجزاء ذاته ، أو على أنّها كاللوازم التي تلحقه ، أو يكون لها وجود مفارق لذاته وذات غيره ، أو من حيث هي موجودة في عقل أو نفس ، إذا عقل الأوّل هذه الصور ، ارتسمت في أيّها كان ، فيكون ذلك العقل ، أو النفس كالموضوعة لتلك الصور المعقولة ، وتكون معقولة له على أنّها فيه ، ومعقولة للأوّل على أنّها عنه ، ويعقل الأوّل من ذاته أنّه مبدأ لها.

__________________

(١) « كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين » : ١٠٥ ـ ١٠٩.

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٤ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

١٦٨

فإن جعلت هذه المعقولات أجزاء ذاته ، عرض الكثرة في ذاته تعالى ، وإن جعلتها لواحق ذاته ، عرض لذاته أن لا يكون من جهتها واجب الوجود ؛ لملاصقته ممكن الوجود.

وإن جعلتها أمورا مفارقة لكلّ ذات ، عرضت الصور الأفلاطونيّة ، وإن جعلتها موجودة في عقل ما أو نفس ما ، عرض أنّه لما كانت تلك الأشياء المرتسمة في ذلك الشيء من معلولات الأوّل ، فيدخل في جملة ما الأوّل يعقل ذاته مبدأ له ، فيكون صدورها عنه لا على أنّه إذا عقله خيرا وجد ؛ لأنّها نفس عقله للخير ، أو يتسلسل الأمر ؛ لأنّه يحتاج أن يعقل أنّها عقلت وكذلك إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال ، فهي نفس عقله للخير ، فإذا قلنا لما عقلها : وجدت ولم يكن معها عقل آخر ولم يكن وجودها إلاّ أنّها تعقّلات ، فإنّا نكون كأنّا قلنا : لأنّه عقلها عقلها ، أو لأنّه وجدت عنه وجدت عنه ، فينبغي أن تجتهد جهدك في التخلّص عن هذه الشبهة ، وتتحفّظ أن لا يتكثّر ذاته ، ولا تبالي بأن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود ؛ فإنّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود ، بل من حيث ذاتها ، وتعلم أنّ العالم الربوبيّ عظيم جدّا (١). انتهى.

فقوله : « ولا تبالي » صريح في اختيار هذا الشقّ. وأمّا بيان عدم المبالاة بلزوم كون ذاته تعالى من هذه الجهة ممكنة الوجود ، فسيأتي ، فتأمّل ليظهر لك أنّ ما قيل نظرا إلى هذا الكلام ـ من أنّ الشيخ في الشفاء متحيّر شاكّ في أمر هذه الصورة (٢) ـ توهّم محض.

وقال أيضا : اعلم أنّ المعنى المعقول قد يؤخذ من الشيء الموجود ، كما عرض أن أخذنا عن الفلك بالرصد والحسّ صورته المعقولة ، وقد يكون الصورة المعقولة

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٤ ـ ٣٦٦ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

(٢) انظر « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٩٨.

١٦٩

غير مأخوذة من الموجود ، بل بالعكس ، كما أنّا نعقل صورة بنائيّة نخترعها ، ثمّ يكون تلك الصورة المعقولة محرّكة لأعضائنا إلى أن نوجدها ، فلا تكون وجدت ، فعقلناها ، ولكن عقلناها فوجدت ، ونسبة الكلّ إلى العقل الأوّل الواجب الوجود هو هذا ؛ فإنّه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ، ويعلم من ذاته كيفيّة كون الخير في الكلّ ، فيتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده ، لا على أنّها تابعة اتّباع الضوء للمضيء والإسخان للحارّ ، بل هو عالم بكيفيّة نظام الخير في الوجود ، وأنّه منه ، وعالم بأنّ هذه العالميّة يفيض عنها الوجود على الترتيب الذي يعقله خيرا ونظاما (١).

ثمّ قال : ولا يظنّ أنّه لو كانت للمعقولات عنده صور وكثرة ، كانت كثرة الصور التي يعقلها أجزاء لذاته ، وكيف؟ وهي تكون بعد ذاته ؛ لأنّ عقله لذاته ذاته ، ومنه يعقل كلّ ما بعده ؛ فعقله لذاته علّة عقله ما بعد ذاته ؛ فعقله ما بعد ذاته معلول عقله لذاته ، على أنّ المعقولات والصور ـ التي له بعد ذاته ـ إنّما هي معقولة على نحو المعقولات العقليّة لا النفسانيّة ، وأنّ له إليها إضافة المبدأ الذي يكون عنه لا فيه ، بل إضافات على الترتيب بعضها قبل بعض ، وإن كانت معا لا تتقدّم ولا تتأخّر في الزمان ، فلا يكون هناك انتقال في المعقولات (٢).

وقال في التعليقات :

تعليق : الأوّل تعالى يعرف كلّ شيء من ذاته ، لا على أن يكون الموجودات علّة علمه ، بل علمه علّة لها مثل أن يكون البنّاء يبدع في الذهن صورة بيت ، فيبنيه على ما هو في الذهن ، فلو لا تلك الصورة المتصوّرة من البيت في الذهن ، لم يكن ثمّ للبيت وجود ، فلم يكن صورة البيت علّة لعلم البنّاء ، بل الأمر بالعكس ، وما كان

__________________

(١) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٣ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

(٢) نفس المصدر : ٣٦٤.

١٧٠

بخلاف ذلك فإنّه كالسماء التي هي علّة لعلمنا بها ؛ فإنّ وجودها علّة لعلمنا ، وقياس الموجودات مع (١) علمه كقياس الموجودات التي نستنبطها بأفكارنا ، ثمّ نوجدها ؛ فإنّ الصور الموجودة من خارج علّتها الصور المبدعة في أذهاننا ، ولكنّ البارئ تعالى لم يكن يحتاج إلى استعمال آلة وإصلاح مادّة ، بل كما يتصوّر يجب وجود الشيء بحسب التصوّر.

وأمّا نحن ، فنحتاج ـ مع التصوّر ـ إلى استعمال آلات ، ونحتاج إلى شوق إلى تحصيل ذلك المتصوّر وطلب لتحصيلها ، فالأوّل غنيّ عن كلّ هذا.

تعليق. شبّه طاعة الموادّ والموجودات لتصوّره سبحانه بأن نتصوّر شيئا ، فإذا حصل منّا الإجماع لطلبه ، انبعثت القوّة التي في العضلات إلى تحريك الآلات من دون استعمال آلة أخرى في تحريك تلك الآلات. وهذا معنى قوله جلّ وعلا : ( كُنْ فَيَكُونُ ) (٢). (٣)

تعليق. العلم هو حصول صور المعلومات في النفس ، وليس يعنى به أنّ تلك الذوات تحصل في النفس ، بل آثار منها ورسوم ، وصور الموجودات مرتسمة في [ ذات ] (٤) البارئ تعالى ؛ إذ هي معلولات ، وعلمه بها سبب وجودها (٥).

وقال في رسالة منسوبة إليه : اعلم أنّ المعلوم ليس هو الصورة الموجودة من خارج وجودا عينيّا ؛ لأنّه لو كان كذلك ، لكان كلّ موجود وجودا عينيّا معلوما لنا ، ولكنّا لا نعلم المعدوم : لكنّا نحكم عليه حكما تصديقيّا ، كما نحكم على الخلاء بأنّه

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « قياس الموجودات إلى علّتها ».

(٢) البقرة (٢) : ١١٧ ؛ آل عمران (٣) : ٤٧ و ٥٩ ؛ الأنعام (٦) : ٧٣ ؛ النحل (١٦) : ٤٠ ؛ مريم (١٩) : ٣٥ ؛ يس (٣٦) : ٨٣ ؛ غافر (٤٠) : ٦٨.

(٣) « التعليقات » : ١٩٢.

(٤) الزيادة أثبتناها من المصدر.

(٥) « التعليقات » : ٨٢.

١٧١

غير موجود ، فلو لم يكن متصوّرا لنا ، لم نحكم عليه بشيء.

وأيضا لو كان المعدوم غير متصوّر ، لم يتحقّق الكذب في الأقوال ؛ لأنّ قولنا : هذا الكلام كذب ، معناه أنّه ليس له في الوجود الخارجيّ مطابق ، فلو كان كلّ متصوّر في الذهن معبّر عنه بعبارة أمرا موجودا في الأعيان ، لما كان لقولنا : هذا الكلام كذب ، معنى ، بل كانت الأقوال كلّها صادقة ؛ إذ لها مطابق في الوجود الخارجيّ.

فقد تبيّن بيانا واضحا أنّ المعلوم ليس هو الموجود في الأعيان ، بل ذلك معلوم بالضرورة. والقول في المحسوس أيضا هكذا. ولا أيضا أثر يحصل من حصول المعلوم في الأذهان ، بل هو نفس حصوله في الأذهان.

والدليل عليه أنّه لو كان أثرا يحصل منه لم يخل الأمر إمّا أن يكون لهذا الأثر حصول بنفسه ، أولا ، فإن كان الثاني لم يحصل العلم البتّة ، بل كان الذهن كما كان قبل حصول صورة المعلوم. وإن كان الأوّل فأيّ فرق بين الحصول الأوّل والثاني؟ فإن لم يكن العلم هو حصول الصورة الأولى ، بل أثر يحصل منه ولهذا الأثر أيضا حصول ، فيجب أن لا يكون العلم هو نفس حصول الصورة الأولى ، بل هو أثر يحصل من حصول الصورة الثانية ويتسلسل ، فيبقى أنّ العلم هو حصول الصورة المعلومة وهو مثال مطابق للأمر الموجود دون الذهن. وهذا أمر مطّرد في العلم القديم والعلوم الحادثة.

ثم قال : اعلم أنّ العلم ينقسم قسمين :

أحدهما : ما هو حادث من وجود الشيء ، مثل علمنا بالفلك.

وثانيهما : علم حادث منه وجود الشيء ، مثل علم الباني بالبناء قبل وجود البناء ، وعلم البارئ من قبيل القسم الثاني ؛ لأنّه متقدّم على وجود المعلومات ، وقد قلنا : إنّ العلم فهو نفس مثل المعلومات وصورها لا أثر يحصل منها ، وإذا كان كذلك فصور المعلومات حاصلة عنده قبل أن أبدعها وأوجدها ؛ إذ لمّا ثبت تقدّمها على المعلومات ، ولم تكن هي نفس الموجودات الخارجيّة ، ولم يجز أن تكون في

١٧٢

موضوع مفارق لذات البارئ عزّ اسمه ؛ لأنّه يحتاج إلى سبب لكونها في ذات الشيء ، فإن كان السبب ذات البارئ تعالى ، كان ذلك المسبّب ـ الذي هو صورة تلك الموجودات ـ قبل كونه في ذلك الموضوع موجودا ؛ إذ قلنا : إنّ مثل ذلك العلم متقدّم على ذوات الموجودات الخارجيّة ، فإن كان ذلك العلم المتقدّم عليه في موضوع مفارق أيضا لذات البارئ ، كان الكلام باقيا ، وهكذا إلى غير النهاية ، فيتسلسل الأمر.

ويلزم التسلسل من وجه آخر أيضا ، وهو أنّ العلم المتقدّم على كون هذه الصورة في موضوع هو وجود تلك الصور ، فيلزم أن يكون علم فعلم ، أو وجد فوجد ، وهذا محال ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن لا يكون الشيء معلوما البتّة ، وإمّا أن يكون صور تلك الأشياء أجزاء ذاته تعالى ، وهذا يؤدّي إلى تكثّر في ذات الأحد الحقّ ، تعالى عن ذلك.

فلم يبق قسم إلاّ أن تكون لوازم الذات ؛ إذ لمّا ثبت وجود تلك الصور وتقدّمها ، وثبت أنّها غير الموجودات الخارجيّة وغير موجودة في موضوع آخر ، وبطل أن تكون موجودة مفارقة للموجودات الخارجيّة وللموضوع الآخر ولذات البارئ تعالى ، فتكون في صقع من الربوبيّة على ما عني من المثل الأفلاطونيّة المزيّفة في موضعها ، وثبت أنّها ليست عين الذات الأحد الحقّ ، بل هي غيره ، فبقي أنّها لوازم الذات ؛ إذ بطلت سائر الأقسام ، فلا بدّ من تعيين هذا الباقي.

وأنت إن لم تدرك حقيقة هذا فلا بأس ؛ لأنّ خطر العلم أضيق من أن يكون له إلى مثل ذلك الجناب تعالى مطمح نظر لا سيّما في دار الغربة ، فلا يلتمس من نفسك شيئا عجز عنه الملائكة المقرّبون والأنبياء المرسلون. انتهى ملخّصا.

وقال في الإشارات ما محصوله : إنّ إدراك الشيء مطلقا ـ سواء كان بآلة أو بغير آلة ـ هو أن تكون حقيقته متمثّلة عند المدرك ، حاضرة عند ما به الإدراك سواء كان ذاته أو آلته ، فإن كان تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك وآلته ، كان حقيقة ما لا وجود له بالفعل في الأعيان ـ مثل كثير من الأشكال الهندسيّة ،

١٧٣

بل كثير ممّا لا يمكن وجوده من الأمور الفرضيّة ـ غير متحقّقة أصلا ، فيمتنع تعلّق الإدراك ، هذا خلف ، فبقي أن يكون مثال حقيقة مرتسمة في ذات المدرك أو آلته غير مباين لهما (١).

وقال أيضا ـ بعد إبطال اتّحاد العاقل مع المعقول على ما مرّ في مسألة العلم ـ :

فيظهر لك من هذا أنّ كلّ ما يعقل فإنّه ذات موجودة تتقرّر فيها الجلايا تقرّر شيء في شيء آخر (٢).

ثمّ قال : ولعلّك تقول : إن كانت المعقولات لا تتّحد بالعاقل ولا بعضها مع بعض ، ثمّ قد سلّمت أنّ واجب الوجود يعقل كلّ شيء ، فليس واحدا حقّا ، بل هناك كثرة ، فنقول : إنّه لمّا كان يعقل ذاته بذاته ، ثمّ يلزم قيّوميّته عقلا بذاته لذاته أن يعقل الكثرة ، جاءت الكثرة لازمة متأخّرة لا داخلة في الذات مقوّمة ، وجاءت أيضا على ترتيب ، وكثرة اللوازم من الذات ـ مباينة أو غير مباينة ـ لا تثلم الوحدة ، والأوّل تعالى تعرض له كثرة لوازم إضافيّة وغير إضافيّة وكثرة سلوب ، وبسبب ذلك كثرت الأسماء ولكن لا تأثير لذلك في وحدانيّة ذاته تعالى (٣). انتهى.

والمراد من الترتيب ما بيّنه في التعليقات حيث قال : الأوّل تعالى هو سبب في لزوم المعلومات له ووجوبها عنه لكن على ترتيب وهو ترتيب السبب والمسبّب ؛ فإنّه مسبّب الأسباب وهو سبب معلوماته ، فيكون بعض الشيء مقدّما علميّته له على بعض ، فيكون بوجه ما علّة لأن عرف الأوّل معلولها ، وبالحقيقة فإنّه علّة كلّ معلوم وسبب لأن علم كلّ شيء.

مثال ذلك أنّه علّة لأن عرف العقل الأوّل ، ثمّ إنّ العقل الأوّل هو علّة لأن عرف لازم العقل الأوّل ، فهو وإن كان سببا لأن عرف العقل الأوّل ولوازمه ، فبوجه ما صار

__________________

(١) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٧.

(٢) نفس المصدر.

(٣) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

١٧٤

العقل الأوّل علّة لأن عرف [ الأوّل ] (١) لوازم العقل الأوّل (٢). انتهى.

ثمّ إنّ المصنّف في شرح الإشارات ردّ على الشيخ ، فقال : لا شكّ في أنّ القول بتقرّر لوازم الأوّل في ذاته قول بكون الشيء فاعلا وقابلا معا ، وقول بكون الأوّل موصوفا بصفات غير إضافيّة ولا سلبيّة ، وقول بكونه محلاّ لمعلولاته الممكنة المتكثّرة ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وقول بأنّ معلوله الأوّل غير مباين لذاته ، وبأنّه تعالى لا يوجد شيئا ممّا يباينه بذاته ، بل بتوسّط الأمور الحالّة فيه ، إلى غير ذلك ممّا يخالف الظاهر من مذهب الحكماء. والقدماء القائلون بنفي العلم عنه تعالى ، وأفلاطن القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها ، والمشّاءون القائلون باتّحاد العاقل والمعقول إنّما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني (٣). انتهى.

أقول ـ وبالله التوفيق ـ : قد حقّقنا فيما مرّ من مباحث العلّة والمعلول أنّ المراد من القبول في قولهم : الواحد لا يكون فاعلا وقابلا ، هو القبول الانفعاليّ ، أعني القبول من الغير ؛ فإنّ القابل هذا القبول يجب أن يتعرّى في حدّ ذاته عن المقبول ، والفاعل لا يمكن أن يتعرّى في حدّ ذاته عن المفعول ؛ ضرورة أنّ المفعول فائض عنه وصادر منه ويمتنع فيضان الشيء عن العاري عن ذلك الشيء ، وكذا يمتنع قبول الشيء من الغير ما لا يتعرّى في حدّ ذاته عنه.

وهذا معنى قولهم في الاستدلال على هذا المطلب : إنّ نسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ، ونسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ، فلو اجتمعا في شيء واحد ، لزم اجتماع الوجوب والإمكان في شيء واحد من جهة واحدة.

وأمّا قبول الشيء المقبول عن نفسه ، فلا يستدعي تعرية عنه في حدّ ذاته ، بل يمتنع ذلك فيه ، فلا ينافي كونه مفعولا لذلك الشيء كما أنّه مقبول له.

__________________

(١) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٢) « التعليقات » : ١٥٣.

(٣) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٣٠٤.

١٧٥

وهذا معنى قول الشيخ : إنّ عاقليّته تعالى لهذه المعقولات إنّما هي لكونها صادرة عنه لا لكونها حاصلة فيه (١) ، وذلك لأنّ المتبادر من الحصول في الشيء هو أن يكون حاصلا فيه من غيره لا من ذاته.

قال في الشفاء في فصل سابق على الفصل المذكور : وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء ، وإلاّ فذاته إمّا متقوّمة بما يعقل ، فيكون تقوّمها بالأشياء ، وإمّا عارض لها أن تعقل ، فلا تكون واجبة الوجود من كلّ وجه وهذا محال. ويكون لو لا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له حال لا يلزم عن ذاته بل عن غيره ، فيكون لغيره فيه تأثير. والأصول السابقة تبطل هذا وما أشبهه (٢).

وقال في التعليقات :

تعليق : نفس تعقّله لذاته نفس وجود هذه الأشياء عنه ، ونفس وجود هذه الأشياء نفس معقوليّتها له على أنّها عنه (٣).

تعليق : هو يعقل الأشياء لا على أنّها تحصل في ذاته كما نعقلها نحن ، بل على أنّها تصدر عن ذاته وأنّ ذاته سبب لها (٤).

تعليق : إن ورد على ذات البارئ تعالى شيء من الخارج يكون ثمّة انفعال ويكون هناك قابل له ؛ لأنّه يكون بعد ما لم يكن ، وكلّ ما يفرض أنّه يكون له بعد ما لم يكن فإنّه يكون ممكنا فيه ، فبطل أن يكون واجب الوجود ، فيؤدّي ذلك إلى تغيّر في ذاته أو تأثير من خارج فيه فإذن تعقّل كلّ شيء من ذاته (٥).

تعليق : هذه الموجودات من لوازم ذاته ، ولوازمه فيه بمعنى أنّه يصدر عنه ، لا أنّه

__________________

(١) « التعليقات » : ١٥٣ ، وانظر « الشفاء » الإلهيّات : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة.

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

(٣) « التعليقات » : ١٥٣.

(٤) « التعليقات » : ١٥٣.

(٥) نفس المصدر : ١١٧.

١٧٦

يصدر عن غيره فيه ثمّ قبله قبول انفعال.

وقولنا : فيه ، يعتبر على وجهين : أحدهما أن يكون فيه عن غيره. والآخر أن يكون فيه لا عن غيره ، بل فيه من حيث يصدر عنه (١).

تعليق : الأوّل ـ تعالى ـ يعقل الأشياء والصور على أنّه مبدأ لتلك الصور الموجودة المعقولة ؛ فإنّها فائضة [ عنه ] (٢) مجرّدة غاية التجريد ليس فيه اختلاف صور مترتّبة متخالفة ، بل يعقلها بسيطة ومعا لا باختلاف ترتيب وليس يعقلها من خارج. وكما أنّ وجود الأوّل مباين لوجود الموجودات بأسرها ، فكذلك تعقّله مباين لتعقّل الموجودات ، وكذلك أحواله ، فلا يقاس حال من أحواله إلى حال ما سواه فهكذا يجب أن يعقل حتّى يسلم من التشبيه تعالى عن ذلك (٣).

تعليق : إضافة البارئ ـ عزّ اسمه ـ إلى هذه المعقولات إضافة محضة معقولة ، لا إضافة المادّة إلى الصورة ـ أي القابل ـ أو وجود الصورة في المادّة ، بل الإضافة له إليها وهي معقولة لا من حيث هي موجودة ؛ لأنّه يعقلها من ذاته لا من خارج ، ويعقل من ذاته أنّه مبدأ لها ، وإن كان تعقّلها من حيث هي موجودة يكون إمّا أن يكون لا يعقل ذاته ويكون مدرك الشيء عند وجوده ، أو لا يكون مبدأ لها وهذا محال ؛ فإنّه يعقل ذاته وإدراكه لها من حيث شأنها أن يفيض عنها كلّ موجود ، وهذا الإدراك للذات يوجب الإدراك للأمر اللازم لذاته ، وهو صدور المعقولات عنه (٤).

تعليق : القابل يعتبر فيه وجهان : أحدهما أن يكون يقبل شيئا من خارج ، فيكون ثمّة انفعال في هيولى تقبل ذلك الشيء الخارج. وقابل (٥) من ذاته لما هو في ذاته

__________________

(١) نفس المصدر : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٢) الزيادة أضفناها من المصدر.

(٣) « التعليقات » : ١٢١.

(٤) نفس المصدر : ١٢٥.

(٥) هذا هو الوجه الثاني.

١٧٧

لا من خارج ، فلا يكون ثمّة انفعال ، فإن كان هذا الوجه الثاني صحيحا ، فجائز أن يقال على البارئ تعالى (١).

تعليق : وجوده ـ تعالى ـ مباين لسائر الوجودات ، وتعقّله لسائر التعقّلات ؛ فإنّه يعقله على أنّه عنه ، وتعقّل غيره على أنّه فيه (٢).

تعليق : اللازم ما يلزم الشيء لأنّه هو ولا يقوّم الشيء ، واللوازم كلّها على هذا ، أي تلزم ملزومها لأنّه هو (٣).

تعليق : لوازم الأوّل تكون صادرة عنه لا حاصلة فيه فلذلك لا يتكثّر بها ؛ لأنّه مبدؤها فلا يرد عليه من خارج ، ومعنى اللزوم أن يلزم شيء شيئا بلا واسطة شيء ، ولوازم الأوّل لمّا كان هو مبدؤها كانت لازمة له وصادرة عنه ، لا لازمة له عن غيره حاصلة فيه ، وصفاته لازمة لذاته على أنّها صادرة عنه لا على أنّها حاصلة فيه ؛ فلذلك لا يتكثّر بها فهو موجبها ، فتلك اللوازم وتلك الصفات تلزم ذاته لأنّه هو ـ أي هو سببها ـ لا شيء آخر ، واللوازم التي تلزم غيره لا تلزمه لأنّه هو فاللوازم كلّها حقيقتها أنّها تلزم الشيء لأنّه هو (٤).

تعليق : لازم الأوّل لا يجوز إلاّ أن يكون واحدا بسيطا ؛ فإنّه لا يلزم عن الواحد إلاّ واحد ، ثمّ اللازم الآخر يكون لازم لازمه ، ثمّ يكون الأمر على ذلك ويكون كثرة اللوازم على هذا الوجه (٥).

تعليق : واجب الوجود لا يصحّ أن يكون فيه كثرة حتّى يكون ذاته مجتمعة من أجزاء مثل بدن الإنسان ، أو من أجزاء كلّ واحد منها قائم بذاته كأجزاء البيت من الخشب والطين ، ولا من أجزاء كلّ واحد منها غير قائم بذاته كالمادّة والصورة

__________________

(١) نفس المصدر : ١١٥.

(٢) نفس المصدر : ١٥٧.

(٣) نفس المصدر : ١٨٠.

(٤) « التعليقات » : ١٨٠.

(٥) نفس المصدر.

١٧٨

للأجسام الطبيعيّة ؛ فإنّه لو كان ذاته متعلّقا بالأجزاء لكان وجوب وجوده يتعلّق بأسباب ، وكلّ وجود يتعلّق وجوبه بأسباب لا يكون واجب الوجود بذاته.

ولا يصحّ أيضا أن يكون فيها صفات مختلفة ؛ فإنّه لو كانت تلك أجزاء لذاته ، كان الحكم فيها ما ذكر.

وإن كانت تلك الصفات عارضة لذاته ، كان وجود تلك الصفات إمّا عن سبب من خارج ويكون واجب الوجود قابلا له ، ولا يصحّ أن يكون واجب الوجود بذاته قابلا لشيء ؛ فإنّ القبول لما (١) فيه معنى ما بالقوّة.

وإمّا أن تكون تلك العوارض توجد فيه عن ذاته ، فيكون إذن قابلا كما هو فاعل.

اللهمّ إلاّ أن تكون تلك الصفات والعوارض لوازم ذاته ؛ فإنّه حينئذ لا تكون ذاته موضوعة لتلك الصفات ؛ لأنّ تلك الصفات موجودة فيه ، بل لأنّها لازمة له لأنّه هو.

وفرق بين أن يوصف جسم بأنّه أبيض ؛ لأنّ البياض يوجد فيه من خارج ، وبين أن يوصف بأنّه أبيض ؛ لأنّ البياض من لوازمه وإنّما وجد فيه لأنّه هو لو كان نحو ذلك في الجسم. وإذا أخذت حقيقة الأوّل على هذا الوجه ، ولوازمه على هذه الجهة ، استمرّ (٢) هذا المعنى فيه ، وهو أنّه لا كثرة فيه وليس هناك قابل وفاعل ، بل هو ـ من حيث هو ـ قابل فاعل.

وهذا الحكم مطّرد في جميع البسائط ؛ فإنّ حقائقها هي أنّه تلزم عنها اللوازم ، وفي ذواتها تلك اللوازم على أنّها ـ من حيث هي ـ قابلة فاعلة ؛ فإنّ البسيط عنه وفيه شيء واحد ؛ إذ لا كثرة فيه ولا يصحّ فيه غير ذلك ، والمركّب ما عنه غير ما فيه ؛ إذ هناك كثرة ، وثمّ وحدة ، وحقيقته أنّه يلزمه ذلك ، فيكون عنه وفيه شيئا واحدا ، وكلّ اللوازم هذا حكمها ؛ فإنّ الوحدة في الأوّل هي عنه وفيه لأنّها من لوازمها ، والوحدة في غيره واردة عليه من خارج ، فهي « فيه » لا « عنه » وهو هناك قابل ، وفي

__________________

(١) في « شوارق الإلهام » : « فإنّ القبول ما فيه معنى ما بالقوة ».

(٢) في « شوارق الإلهام » : « يستمرّ ».

١٧٩

الأوّل أيضا القابل والفاعل شيء واحد (١).

تعليق : النفس الإنسانيّة لا يصحّ أن تكون فاعلة للمعقولات ؛ لأنّها قابلة لها بعد أن لم تكن ومثل ذلك يجب أن يسبقه معنى ما بالقوّة ، فأمّا الشيء الذي حقيقته أنّه يلزمه المعقولات ، فلا يجب أن يكون فيه معنى ما بالقوّة ، ولمّا كانت النفس الإنسانيّة تعقل المعقولات بعد أن لم تكن متعقّلة ، كان فيها معنى ما بالقوّة (٢).

تعليق : الذي يعقل (٣) المعقولات لا يصحّ أن يكون فاعلا للمعقولات ؛ لأنّه لا يصحّ أن يكون شيء واحد فاعلا وقابلا بعد أن لم يكن قابلا وفاعلا ؛ لأنّه يسبقه معنى ما بالقوّة (٤). انتهى كلام التعليقات.

وقال تلميذه بهمنيار : وإذا كان واجب الوجود تعقّل (٥) ذاته فتعقّل أيضا لوازم ذاته ، وإلاّ فليس تعقّل ذاته بالتمام. واللوازم التي هي معقولاته وإن كانت أعراضا موجودة فيه ، فليس ممّا يتّصف بها أو ينفعل عنها ؛ فإنّ كونه واجب الوجود هو بعينه كونه مبدأ للوازمه أي معقولاته ، بل ما صدر عنه إنّما يصدر عنه بعد وجوده عنه وجودا تامّا ؛ وإنّما يمتنع أن يكون ذاته محلاّ لأعراض ينفعل عنها ، أو يستكمل بها ، أو يتّصف بها ، بل كماله في أنّه بحيث يصدر عنه اللوازم لا في أنّها توجد له ، فإذا وصف بأنّه تعقّل هذه الأمور ، فإنّه يوصف به لأنّه يصدر عنه هذه لا لأنّه محلّها ؛ ولوازم ذاته هي صور معقولاته لا على أنّ تلك الصور تصدر عنه فيعقلها ، بل نفس تلك الصور ـ لكونها مجرّدة عن الموادّ ـ تفيض عنه وهي معقولة له ، فنفس وجودها عنه نفس معقوليّتها له ، فمعقولاته إذن فعليّة (٦). انتهى كلام التحصيل.

__________________

(١) « التعليقات » : ١٨١.

(٢) نفس المصدر : ١٨٢.

(٣) في المصدر : « لا يقبل ».

(٤) « التعليقات » : ١٨٢.

(٥) في « شوارق الإلهام » و « التحصيل » : « ويعقل ذاته فيعقل ... فليس يعقل ».

(٦) « التحصيل » : ٥٧٤.

١٨٠