البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

كلّ من الإحكام والتجرّد

ثمّ استناد الكلّ بالتعدّد

دليل علم أكمل العلوم

وذلك الأخير ذو العموم

بمعنى أنّ الله تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة في العالم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم.

أمّا الصغرى ، فبالحسّ والعيان ؛ لظهور آثار الحكمة والإتقان في العالم العلويّ والسفليّ من البسيط والمركّب الجماديّ والنباتيّ والحيوانيّ والأنفس والآفاق المشتملة على لطائف الصنع وبدائع الترتيب والمصالح والمنافع كما يطّلع عليه أهل علم الهيئة والتشريح ، بل يحكى عن أهل علم التشريح أنّهم وجدوا اثني عشر ألفا من الخواصّ في بدن الإنسان. إلى غير ذلك من الحكم كما يشير إليه ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

وتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر(١)

وأمّا الكبرى فبالضرورة العقليّة ؛ لاستحالة وقوع المحكم المتقن من غير العالم.

وأنّ الله تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد عالم بذاته وبغيره.

أمّا الصغرى فلوجوب الوجوب المنافي للاحتياج الذي هو من لوازم عدم التجرّد.

وأمّا الكبرى فلأنّ التجرّد مستلزم لصحّة المعقوليّة والعاقليّة ؛ لإمكان المقارنة بحصوله معقولا أو عاقلا للآخر كما تقدّم.

وأنّ الله تعالى واجب وما سواه ممكن ، وكلّ ممكن مستند إلى الواجب تعالى بلا واسطة أو بواسطة.

والله تعالى عالم بذاته بالعلم التّام ـ بمعنى حضور ذاته عنده وعدم غيبوبة ذاته عن ذاته ـ وذاته علّة تامّة لجميع ما سواه ، والعلم التامّ بالسبب التامّ سبب تامّ للعلم

__________________

(١) الديوان المنسوب للإمام عليّ عليه‌السلام : ١٧٨.

١٤١

التامّ بالمعلول العامّ من الكلّيّ والجزئيّ وأحوالهما وكيفيّاتهما وكمّيّاتهما ونحو ذلك من الموجودات الخارجيّة والذهنيّة ، فلا يعزب عنه شيء من الممكنات ، بل الممتنعات.

وهذا معنى قوله : « والأخير عامّ » بمعنى أنّه يقتضي العلم بالكلّيّات والجزئيّات المجرّدة والمادّيّات.

وقال الفاضل اللاهيجيّ رحمه‌الله (١) : « أشار بقوله : والإحكام ، والتجرّد ، واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم. إلى دليلين مشهورين :

أوّلهما : في المشهور للمتكلّمين وهو يدلّ على ثبوت علمه تعالى بأفعاله أوّلا ، وبواسطته على ثبوت علمه بذاته. وإنّما قلنا : في المشهور ؛ لأنّ الحكماء أيضا يستدلّون به كما ستعلم.

وثانيهما : للحكماء وهو بالعكس من الأوّل ، أعني أنّه يدلّ على ثبوت علمه بذاته أوّلا ، وبواسطته على ثبوت علمه بمعلولاته.

أمّا الأوّل : فتقريره أنّ أفعاله تعالى محكمة متقنة ، وكلّ من كان فعله محكما متقنا ، فهو عالم.

أمّا الكبرى فبديهيّة بعد الاستقراء والاختبار ؛ فإنّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة ، لم يشكّ في أنّها صادرة عن علم ورويّة لا محالة.

فإن قيل : كيف يمكن ادّعاء الضرورة في الكبرى وقد أسند جمع من العقلاء الحكماء عجائب خلقة الحيوان وتكوّن تفاصيل الأعضاء إلى قوّة عديمة الشعور سمّوها المصوّرة؟!

قلنا : خفاء الضروري على بعض العقلاء جائز ، على أنّهم لم يجعلوا المصوّرة

__________________

(١) « شوارق الإلهام » ٥٠٩.

١٤٢

مستقلّة في ذلك ، بل هم معترفون بكونها مسخّرة تحت إرادة صانع خبير ـ جلّت صنعته ـ كما صرّح به الشيخ في مواضع من الشفاء (١) وسائر كتبه (٢) ، وقد مرّ في مبحث القوى وفي مبحث إثبات الغايات للطبيعيّات من هذا الكتاب (٣) ، هذا.

وأمّا الصغرى فلما في خلق الأفلاك والعناصر وأنواع الحيوان والنبات والمعادن على انتظام واتّساق ومن عجائب الصنع وغرائب التدبير وآثار الإتقان والإحكام بحيث تحار فيها العقول والأفهام ، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام ، على ما شهد بذلك علم الهيئة والتشريح ، وعلم الآثار العلوية والسفلية ، وعلم الحيوان والنبات.

وإلى جميع ذلك أشير في قوله تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٤) فكيف إذا رقي إلى عالم الروحانيّات والمجرّدات النفسيّة والعقليّة مع أنّ الإنسان لم يؤت من العلم إلاّ قليلا ، ولم يجد إلى كثير منه سبيلا.

ناهيك في ذلك قول أفضل البشر بعد سيّدهم في خطبة من خطب نهج البلاغة : « وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيّب عنّا منه ، وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه أعظم ، فمن فرّغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، وكيف ذرأت خلقك ، وكيف علّقت في الهواء سماواتك ، وكيف مددت على مور الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا ، وسمعه والها ، وفكره حائرا » (٥) هذا.

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيّات ١ : ٤٨ وما بعدها ، والإلهيّات : ٢٨٣ ، الفصل الخامس من المقالة السادسة.

(٢) « شرح الإشارات والتنبيهات » ٢ : ٢٢٧ ـ ٢٢٩ و ٣ : ١٥ و ٣٦١.

(٣) أي « شوارق الإلهام » : ٢٤٠ ـ ٢٥١.

(٤) البقرة (٢) : ١٦٤.

(٥) « نهج البلاغة » ٢٩٥ ، الخطبة (١٦٠).

١٤٣

فإن قيل : إن أريد بالإحكام حسن الصنيعة ، أو مطابقة المنفعة من جميع الوجوه ، فلا نسلّم أنّ المخلوقات كذلك.

أمّا مطابقة المنفعة فلكثرة ما نشاهده في العالم من الآفات.

وأمّا حسن الصنيعة فلأنّا لا ندري أنّ تركيب السماوات والكواكب وأبدان الحيوانات على وجه أحسن ممّا هي عليه الآن ممكن ، أم لا؟ وإن أريد من بعض الوجوه ، فلا نسلّم دلالته على العلم ؛ فإنّ فعل النائم والساهي ، بل الجماد قد يستحسن وينفع من بعض الوجوه. وإن أريد شيء آخر ، فلا بدّ من بيانه.

قلت : المراد به حسن الصنيعة ومطابقة المنفعة غالبا وعلى سبيل الكثرة دون الندرة ، وما نحن بصدده كذلك ؛ إذ لا ريب في أنّ ترتيب السماوات والعناصر والكواكب سيّما الشمس والقمر ، وسيرهما في فلكيهما على وجه يقربان تارة ويبعدان أخرى ، فيتعلّق بذلك الحرّ والبرد ورطوبة الهواء ويبوسته وكثرة الأنداء والأمطار وشدّة الحرّ وإنضاج الثمار وتربية النبات وصلاح الأمزجة ترتيب مطابق للمنفعة ، مستحسن الصنعة غالبا.

وكذلك القول في أعضاء الحيوان وما ذكره الأطبّاء فيها وفي مواضعها من الحكم اللطيفة ، فإذا عنى بالإحكام مجموع الأمور الثلاثة ، فلا يرد فعل الساهي والنائم ؛ لكونه نادرا جدّا.

وكذلك الحركات الصادرة عن الجمادات إمّا أن لا تكون كثيرة ، أو لا تكون مستحسنة ، وإن كانت مستحسنة لم تكن مطابقة للمنفعة. كذا في « نقد المحصّل ». (١)

ولا بدّ أن نذكر هاهنا شيئا ممّا ذكره الحكماء في بيان حكمته تعالى في ترتيب هذا النظام المشاهد ، وأنّه في غاية الإتقان ونهاية الإحكام.

قال الشيخ في كتاب المبدأ والمعاد : « لمّا كان علم الأوّل بنظام الخير في الوجود

__________________

(١) « نقد المحصّل » : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

١٤٤

علما لا نقص فيه ، وكان ذلك العلم سببا لوجود ما هو علم به ، حصل الكلّ في غاية الإتقان ، لا يمكن أن يكون الخير فيه إلاّ ما هو عليه ، ولا شيء ممّا يمكن أن يكون له إلاّ وقد كان له ، فكلّ شيء من الكلّ على جوهره الذي ينبغي له ، فإن كان فاعلا فعلى فعله الذي ينبغي ، وإن كان مكانيّا فعلى مكانه الذي ينبغي ، وإذا كان الخير فيه هو أن يكون منفعلا قابلا للأضداد ، فقوّته مقسومة بين الضدّين على البدل ، وإذا كان أحدهما بالفعل فهو الآخر بالقوّة ، والذي بالقوّة حقّ أن يصير بالفعل مرّة ، ولكلّ ذلك أسباب معدّة. وما عرض له من ذلك أن يزول عن كماله بالقسر فإنّ فيه قوّة تردّه إلى الكمال ، وجعلت الأسطقسّات قابلة للقسر حتّى يمكن فيها المزاج ، ويمكن بقاء الكائنات منها بالنوع ؛ فإنّ ما أمكن بقاؤه بالعدد أعطي السبب المستبقي له على ذلك ، وكانت القسمة العقليّة توجب باقيات بالعدد وباقيات بالنوع ، فوفّى الكلّ وجوده ، ورتّبت الأسطقسّات مراتبها ، فأسكن النار منها أعلى المواضع وفي مجاورة الفلك ، ولو لا ذلك لكان مكانها في موضع آخر ، وعند الفلك مكان جرم آخر يلزمه السخونة ؛ لشدّة الحركة ، فيتضاعف الحارّ بالفعل وبغليان سائر الأسطقسّات ، فيزول العدل.

ولمّا كان يجب أن يغلب في الكائنات ـ التي تبقى بالنوع ـ الجوهر اليابس والصلب ، ومكان كلّ كائن حيث يكون الغالب عليه ، وجب أن يكون الأرض أكثر بالكمّ في الحيوان والنبات ، ومع ذلك فقد كان يجب أن يكون مكانها أبعد من الحركات السماويّة ؛ فإنّ تلك الحركة إذا بلغت بتأثير الأجساد غيّرتها وأفسدتها ، فوضعت الأرض في أبعد المواضع عن الفلك ، وذلك هو الوسط ، وإذا كان الماء يتلو الأرض في هذا المعنى وكان مكانا أيضا لكثير من الكائنات وكان مشارك الأرض في الصورة الباردة ، جعل الماء يتلو الأرض ، ثمّ الهواء بهذا السبب ، ولأنّه يشارك النار في الطبيعة.

ولمّا كانت الكواكب أكثر تأثيرها بوساطة الشعاع النافذ عنها وخصوصا الشمس

١٤٥

والقمر وكانت هي المدبّرة لما في هذا العالم ، جعل ما فوق الأرض من الأسطقسّات مشفّا لينفذ فيها الشعاع ، وجعلت الأرض ملوّنة بالغبرة ليثبت عليها الشعاع ولم يحط بها الماء فيستقرّ عليها الكائنات.

والسبب الطبيعيّ في ذلك يبس الأرض وحفظها للشكل الغريب إذا استحال منه أو إليه ، فلا يبقى مستديرا بل مضرّسا ، ويميل الماء إلى الغور من أجزائه ، والأجرام السماويّة لم تخلق بجميع أجزائها مضيئة ، وإلاّ لتشابه فعلها في الأمكنة والأزمنة ، ولا بجميع أجزائها كثيفة ، وإلاّ لما نفذ عنها الشعاع ، بل خلق فيها كواكب ، ثمّ لم يجعل الكواكب ساكنة ، وإلاّ أفرط فعلها في موضع بعينه ، ففسد ذلك الموضع ولم يؤثّر في موضع آخر ، ففسد ذلك أيضا ، بل جعلت متحركة لينتقل التأثير من موضع إلى آخر ، ولا يبقى في موضع واحد فيفسد.

ولو كانت الحركة التي ترى لها غير سريعة ، لفعلت من الإفراط والتفريط ما يفعل السكون ، ولو كانت حركتها الحقيقيّة تلك السريعة بعينها ، للزمت دائرة واحدة وأفرط فعلها هناك ولم يبلغ سائر النواحي ، بل جعلت هذه الحركة فيها تابعة لحركة مشتملة على الكلّ ، ولها في نفسها حركة بطيئة تميل بها إلى نواحي العالم جنوبا وشمالا ، ولو لا أنّ للشمس مثل هذه الحركة لم يكن شتاء ولا صيف ولا فصول ، فخولف بين منطقتي الحركتين ، وجعلت الأولى سريعة وهذه بطيئة ، فالشمس تميل إلى الجنوب شتاء ليستولي على الأرض الشماليّة البرد ، وتتحقّق الرطوبات في باطن الأرض وتميل إلى الشمال بعد ذلك صيفا لتستولي الحرارة على ظاهر الأرض ، وتستعمل الرطوبات في تغذية النبات والحيوان ، وإذا جفّ باطن الأرض يكون البرد جاء ، والشمس مالت فتارة تحيل الأرض غذاء ، وتارة تعدّ.

ولمّا كان القمر يفعل شبيه ما يفعل الشمس من التسخين والتحليل إذا كان متبدّرا قويّ النور ، جعل مجراه في تبدّره مخالفا لمجرى الشمس ، فالشمس تكون في الشتاء جنوبيّة والبدر شماليّا لئلاّ يعدم السببان المسخّنان معا.

١٤٦

ولمّا كانت الشمس صيفا على سمت رءوس أهل المعمورة ، جعل أوجها هناك لئلاّ يجتمع قرب الميل وقرب المسافة معا ، ويشتدّ التأثير.

ولمّا كانت شتاء بعيدة عن سمت الرءوس ، جعل سمت حضيضها هناك لئلاّ يجتمع بعد الميل وبعد المسافة فينقطع التأثير.

ولو كانت الشمس دون هذا القرب ، أو فوق هذا البعد ، لما استوى تأثيرها الذي يكون عنها الآن.

وكذلك يجب أن يعتقد في كلّ كوكب وفي كلّ شيء ، ويعلم أنّه بحيث ينبغي أن يكون عليه » (١). انتهى كلام الشيخ.

وقوله : وكذلك يجب أن يعتقد ... معناه أنّه لمّا دلّ التدبير ـ التامّ المعلوم لنا في البعض ـ على علم الفاعل تعالى ، وأنّ هذا التدبير مسبّب عن علم كامل ، دلّ ذلك على التدبير في سائر أفعاله وإن لم نعلمه ، فليتدبّر.

فظهر أنّ الاستدلال بهذا الوجه غير مختصّ بالمتكلّمين ، بل هو أحرى بالحكماء ؛ لأنّ وجوه الإتقان والإحكام من التدابير الكلّيّة والمنافع الجزئيّة إنّما ظهرت بحسن سعيهم وشدّة اعتنائهم كما لا يخفى على المتدرّب في فهم العلوم الطبيعيّة والرّياضيّة ، فثبت علمه تعالى بأفعاله ، وأنّها صادرة عنه عالما بمصالحها ومنافعها.

فإن قيل : دليلكم منقوض بما قد يصدر عن بعض الحيوانات العجم من الأفعال المحكمة المتقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها كما لكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور ، وفيما بين الناس مشهور.

وكفى في ذلك ما يفعله النحل من البيوت المسدّسات المتساوية بلا مسطرة ولا فرجار ، واختيارها للمسدّس الذي هو أوسع من المثلّث والمربّع والمخمّس ،

__________________

(١) « المبدأ والمعاد » لابن سينا : ٨٨ ـ ٩٠.

١٤٧

ولا يقع بين المسدّسات فرج كما يقع بين المدوّرات وما سواها من المضلّعات ، وهذا لا يعرفه إلاّ الحذّاق من أهل الهندسة.

وكذلك العنكبوت ينسج تلك البيوت ، وتجعل لها سدى ولحمة على تناسب هندسي بلا آلة مع أنّها ليست من أولي العلم.

قلنا : لا نسلّم أنّها ليست من أولي العلم مطلقا ؛ لجواز أن يكون فيها قدر ما يهتدي إلى ذلك بأن يخلقها الله تعالى عالمة بذلك ، أو يلهمها هذا العلم حين ذلك الفعل.

قال الشيخ في طبيعيّات الشفاء : « من الواجب أن يبحث الباحث ، ويتأمّل أنّ الوهم ـ الذي لم يصحبه العقل حال توهّمه ـ كيف ينال المعاني التي في المحسوسات عند ما ينال الحسّ صورتها من غير أن يكون شيء من تلك المعاني يحسّ؟

فنقول : إنّ ذلك للوهم من وجوه : من ذلك الإلهامات الفائضة على الكلّ من الرحمة الإلهيّة مثل حال الطفل ساعة يولد في تعلّقه بالثدي ، ومثل حال الطفل إذا أفل وأقيم ، فكاد يسقط من مبادرته إلى أن يتعلّق ويعتصم بشيء لغريزة جعلها فيه الإلهام الإلهيّ ، وإذا تعرّض لحدقته بالقذى ، بادر ، فأطبق جفنه قبل فهم ما يعرض له ، وما ينبغي أن يفعل بحسبه كأنّه غريزة لنفسه لا اختيار معه ، وكذلك للحيوانات إلهامات غريزيّة.

والسبب في ذلك مناسبات موجودة بين هذه الأنفس ومبادئها هي دائمة لا تنقطع غير المناسبات التي يتّفق أن تكون مرّة ، وأن لا تكون كاستعمال العقل وكخاطر الصواب ؛ فإنّ الأمور كلّها من هناك.

وهذه الإلهامات يقف بها الوهم على المعاني المخالطة للمحسوسات فيما يضرّ وينفع ، فيكون الذئب يحذره كلّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابتها منه نكبة ، وتحذر الأسد حيوانات كثيرة ، وجوارح الطير يحذرها سائر الطير ويشنع عليها الطير

١٤٨

الضعاف من غير تجربة ، فهذا قسم (١). » ثمّ ذكر الأقسام الأخر. وفيما ذكرناه كفاية.

وعند الإشراقيّين أنّ لكلّ نوع من الجسمانيّات : البسائط والمركّبات عقلا مجرّدا مدبّرا له ذا عناية به ، معتنيا بشأنه ، حافظا إيّاه ، ويسمّون تلك العقول أرباب الطلسمات ، والطلسم عندهم عبارة عن النوع الجسمانيّ ، فكلّ من تلك العقول ربّ لطلسم أي مربّ إيّاه يربّي كلّ فرد منه ويوصله إلى كماله ، ويلهمه ويهديه إلى مصالحه (٢).

وشيخ الإشراق يؤوّل ما ذهب إليه أفلاطن ومن سبقه من الفلاسفة كهرمس وفيثاغورس وأبناذقلس من القول بالمثل إلى ذلك (٣).

وبالجملة ، فهذا السؤال ممّا يؤكّد إحكام أفعاله تعالى وإتقانها ، وتحقّق وجه الاستدلال بها على كمال علمه وتدبيره وعنايته تعالى بالمخلوقات ، كما لا يخفى.

وأمّا إيراد هذا السؤال على سبيل المنع على الكبرى ، فخارج عن القانون ؛ لادّعاء الضرورة فيها كما مرّ. وإذا ثبت علمه تعالى بأفعاله ، دلّ على علمه بذاته أيضا ؛ لأنّ كلّ من علم شيئا فله أن يعلم أنّه يعلمه ، وهذا ضروري ، وكلّ ما هو ممكن في حقّه تعالى فهو واجب له ؛ لبراءته عن القوّة والإمكان الخاصّ ، فهو يعلم ذاته بالفعل دائما وهو المطلوب.

قال الشيخ في الإشارات : إنّك تعلم أنّ كلّ شيء يعقل شيئا فإنّه يعقل بالقوّة القريبة من الفعل أنّه يعقله ، وذلك عقل منه لذاته ، فكلّ ما يعقل شيئا فله أن يعقل ذاته (٤).

واعترض عليه الإمام بأنّ العقول المفارقة ليس منها شيء بالقوّة ، فهي إنّما تعقل

__________________

(١) « الشفاء » الطبيعيات ٢ : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الظنّ السادس.

(٢) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٤٣.

(٣) نفس المصدر : ١٥٤ ـ ١٦٤.

(٤) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٢ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

١٤٩

بالفعل ، فكان الواجب أن يقول : فإنّه يمكن أن يعقله بالإمكان العامّ (١).

وأجاب عنه المصنّف بأنّ الإمكان العامّ يقع على الإمكانات البعيدة حتّى على دائم العدم من غير ضرورة ، ولذلك لم يعبّر به الشيخ عن المقصود في هذا الموضع ، وعبّر بالقوّة القريبة التي هي العقل بالفعل ، وهو الذي يقتضي أن يكون للعاقل أن يلاحظ معقوله متى شاء.

فالمراد أنّ كلّ شيء يعقل شيئا فله أن يعقل بالفعل متى شاء أنّ ذاته عاقلة لذلك الشيء ؛ وذلك لأنّ تعقّله لذلك الشيء هو حصول ذلك الشيء ، وتعقّله لكون ذاته عاقلة لذلك هو حصول ذلك الحصول له ، ولا شكّ أنّ حصول الشيء لشيء لا ينفكّ عن حصول ذلك الحصول له إذا اعتبر معتبر ، فتعقّل الشيء مشتمل على تعقّل صدور التعقّل من المتعقّل بالقوّة القريبة ، فالمشتمل على القوّة القريبة هو التعقّل لا المتعقّل. وكون المتعقّل بحيث يجب أن يكون له بالفعل ما يكون لغيره بالقوّة بسبب يرجع إلى ذاته لا ينافي ذلك (٢).

هذا ، وللمتكلّمين طريق آخر في إثبات علمه تعالى ، وهو أنّه تعالى فاعل بالقصد والاختيار ـ كما مرّ ـ ولا يتصوّر ذلك إلاّ مع العلم بالمقصود.

ويرد عليه منع استدعاء صدور الفعل الاختياريّ العلم بالمقصود ، مستندا بصدوره عن الحيوانات العجم مع خلّوها عن العلم.

وادّعاء الضرورة فيه لا يخلو عن إشكال ؛ لمكان فعل النائم والساهي ، ولا فرق بين القليل والكثير في ذلك ؛ إذ لو امتنع صدور الكثير بلا علم ، امتنع صدور الواحد ؛ لامتناع تحقّق المشروط بدون تحقّق الشرط.

فدعوى المواقف (٣) ضرورة الفرق غير مسموعة ، والمفروض أنّه لا دخل للإتقان

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٢ : ٣٨٣.

(٣) « شرح المواقف » ٨ : ٦٧.

١٥٠

في هذا الدليل ، فقول شارح المواقف (١) في توجيه كلام المصنّف ـ من أنّها يجوز صدور قليل من المتقن من قادر غير عالم ، ولا يجوز صدور كثير عنه ـ مبنيّ على الخلط ، كما لا يخفى.

وقال شارح المقاصد : إنّ المحقّقين من المتكلّمين على أنّ طريق القدرة والاختيار أوكد وأوثق من طريقة الإحكام والإتقان ؛ لأنّ عليها سؤالا صعبا ، وهو أنّه لم لا يجوز أن يوجب البارئ تعالى موجودا تسند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة ، ويكون له العلم والقدرة؟

ودفعه بأنّ إيجاد مثل ذلك الموجود ، وإيجاد العلم والقدرة فيه يكون أيضا فعلا محكما ، بل أحكم ، فيكون فاعله عالما لا يتمّ إلاّ ببيان أنّه قادر مختار ؛ إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدلّ على العلم ، فيرجع طريق الإتقان إلى طريق القدرة ، مع أنّه كاف في إثبات المطلوب (٢).

وفيه نظر.

ومنهم من يتمسّك في إثبات علمه تعالى بالأدلّة السمعيّة من الكتاب والسنّة والإجماع وليس بذلك ؛ إذ تصديق الرسل والكتب يتوقّف على التصديق بالعلم والقدرة.

وما قيل من أنّه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات ، حصل العلم بكلّ ما أخبروا به وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما ، ففيه أنّ دلالة المعجزة على صدق الرسل تتوقّف لا محالة على أن يكون المرسل عالما قادرا ؛ فإنّ طلب المعجزة ليس إلاّ طلب تصديق الرسول من المرسل ، فلا بدّ من كونه عالما بالطلب وقادرا على التصديق.

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) « شرح المقاصد » ٤ : ١١٢.

١٥١

نعم ، يصحّ ذلك في صفة الكلام من غير لزوم دور ؛ فإنّ صدق الرسول لا يتوقّف على كون المرسل متكلّما ؛ لصحّة الإرسال من غير تكلّم بأن ينصب ما يدلّ على المراد.

وقد يقال : لعلّ تمسّكهم بالأدلّة السمعيّة إنّما هو في عموم العلم وشموله لجميع الموجودات كلّيّة كانت أو جزئيّة ، فلا يلزم الدور ، فتأمّل.

وأمّا الثاني من الطريقين على إثبات علمه تعالى بذاته وبما سواه ـ وهو المختصّ بالحكماء ـ فتقريره أنّه تعالى مجرّد عن المادّة وغواشيها ؛ لأنّ ملابسة الغواشي المادّيّة نقص وحاجة ، فهي ممتنعة عليه تعالى ، وكلّ مجرّد عاقل لذاته ؛ لما مرّ في مبحث التعقّل من مسألة العلم من مباحث الأعراض مستقصى.

ونقول هاهنا : إنّ حقيقة التعقّل إنّما هو حصول المجرّد لمجرّد سواء كان بقيامه به ـ كما في تعقّل النفس الناطقة لمعقولاتها ـ أو بنحو آخر كما في إدراكها لذاتها ، وكلّ مجرّد قائم بذاته ؛ فإنّ ذاته حاصلة لذاته ، غير فاقدة إيّاها بالضرورة ، فذاته ـ من حيث إنّها يصدق عليها أنّها مجرّدة حاصلة لمجرّد ـ هي معقولة ، ومن حيث إنّها مجرّدة قد حصل لها مجرّد هي عاقلة ، فكلّ مجرّد عاقل لذاته ، ومعقول لذاته.

قال الشيخ في التعليقات : إذا قلت : إنّي أعقل الشيء ، فالمعنى أنّ أثرا منه موجود في ذاته ، فيكون لذلك الأثر وجود ، ولذاتي وجود ، فلو كان وجود ذلك الأثر لا في غيره ، بل فيه ، لكان أيضا يدرك ذاته ، كما أنّه لو كان وجوده لغيره أدركه الغير (١) انتهى.

وإذا ثبت هذا ثبت أنّه تعالى عاقل لذاته وعالم بها ، ثمّ إنّه تعالى علّة لجميع ما سواه ؛ لكون جميع ما سوى الله ممكنات ؛ لبرهان التوحيد ـ على ما سيأتي ـ ولوجوب انتهاء الحاجة في الممكنات إلى واجب الوجود كما مرّ.

والعلم بالعلم يستلزم العلم بالمعلول. والمراد بها أنّ العلم التامّ بالعلّة ـ أي العلم

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٤ : ١١٢.

١٥٢

بجميع جهاتها واعتباراتها اللازمة لها ـ يستلزم العلم بما يلزمها ويجب بها على ما حقّقناه فيما مرّ في مسألة العلم.

وقد يقال : الحكم بكون الفاعل العالم بذاته عالما بما صدر عنه بديهيّ ، كما قال تعالى : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) هذا ، فثبت كونه تعالى عالما بذاته وبجميع ما سواه من معلولاته اللازمة له بأيّة جهة كانت ، وهو المطلوب.

وهذا الدليل كما دلّ على ثبوت علمه تعالى بالموجودات دلّ على شمول علمه تعالى بجميع الموجودات أيضا كلّيّة كانت أو جزئيّة.

لا يقال : المعلوم بعلّته إنّما هو ماهيّة كذا ، مع كونها معلّلة بكذا ، وكلّ منهما كلّيّ ، وتقييد الكلّيّ بالكلّيّ لا يفيد الجزئيّة ، فلا يدلّ هذا الدليل على علمه بالجزئيّات ، بل بالكلّيّات فقط.

لأنّا نقول : العلم بماهيّة العلّة كما يدلّ على العلم بماهيّة المعلول ، كذلك العلم بخصوصيّة العلّة يدلّ على العلم بخصوصيّة المعلول ، وهو تعالى عالم بخصوصيّة ذاته ، وجميع الموجودات بماهيّاتها وخصوصيّاتها مستندة إليه تعالى.

قال الشيخ في النمط السابع من الإشارات : واجب الوجود يجب أن يعقل ذاته بذاته على ما حقّق ، ويعقل ما بعده من حيث هو علّة لما بعده ، ومن وجوده يعلم سائر الأشياء من حيث وجوبها في سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا (٢).

وقال المصنّف في شرحه : أشار إلى إحاطة علمه تعالى بجميع الموجودات ، فذكر أنّه يعقل ذاته بذاته ؛ لكونه عاقلا لذاته معقولا لذاته على ما تحقّق في النمط الرابع ، ويعقل ما بعده يعني المعلول الأوّل من حيث هو علّة لما بعده ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة يقتضي العلم بالمعلول ؛ فإنّ العلم بالعلّة التامّة لا يتمّ من غير العلم بكونها

__________________

(١) الملك (٦٧) : ١٤.

(٢) « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠١.

١٥٣

مستلزمة لجميع ما يلزمها لذاتها ، وهذا العلم يتضمّن العلم بلوازمها التي منها معلولاتها الواجبة بوجوبها ، ويعقل سائر الأشياء التي بعد المعلول الأوّل من حيث وقوعها في سلسلة المعلوليّة النازلة من عنده إمّا طولا كسلسلة المعلولات المترتّبة المنتهية إليه تعالى في ذلك الترتيب ، أو عرضا كسلسلة الحوادث التي لا تنتهي في ذلك الترتيب إليه تعالى ، لكنّها منتهية إليه تعالى من جهة كون الجميع ممكنة محتاجة إليه ، وهو احتياج عرضي يتساوى جميع آحاد السلسلة فيه بالنسبة إليه تعالى (١). انتهى.

وإلى هذا أشار بقوله : ( والأخير عامّ ) (٢) بخلاف الدليل الأوّل ؛ فإنّه يدلّ على علمه تعالى بما علم الإتقان فيه ممّا علم أنّه من معلولاته.

واعلم أنّ المشهور في كتب المتأخّرين تقرير هذا الدليل على أنّه دليلان :

الأوّل : أنّه تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد فهو عاقل لذاته ولغيره من المعلولات كما مرّ في مبحث التعقّل.

الثاني : أنّه تعالى عاقل لذاته ـ كما مرّ ـ وذاته علّة لما سواه ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول كما مرّ.

والشارحون أيضا حملوا كلام المصنّف على ذلك (٣).

والأوجه ما ذكرنا كما لا يخفى على من تتبّع كتب الشيخ سيّما الإشارات تتبّع فحص وإتقان.

وظاهر كلام المصنّف وإن كان يوهم التثليث لكنّ الأظهر عند التدبّر خلافه ؛ إذ ليس مجرّد استناد الكلّ إليه دليل العلم ، بل بعد الضمّ إلى الدليل الدالّ على علمه بذاته ، ولذلك حمل بعضهم قوله : والأخير عامّ ، على أنّ المراد أنّه دليل لعموم العلم.

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) « تجريد الاعتقاد » : ١٩٢.

(٣) « كشف المراد » : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٣١٢ ـ ٣١٣.

١٥٤

والأولى ـ على تقدير التثليث ـ أن نحمل قوله : واستناد كلّ شيء إليه ، على أحد دليلين آخرين دالّين على أصل العلم وعمومه ، كما ذكرهما بعض الأعلام (١) :

أحدهما : أنّه تعالى لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات التي منها العلماء مطلقا ، أو العلماء بذواتهم بلا شبهة ، كان عالما بذاته لا محالة ؛ لوجوب كون العلّة أكمل وأشرف من المعلول ، ثمّ من كونه تعالى عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات يعلم كونه عالما بجميع الموجودات.

والثاني : أنّه تعالى لمّا كان مبدأ لجميع الموجودات التي منها الصور العلميّة ، كان مبدأ لفيضان العلوم على العلماء وكان عالما بالضرورة ، إذ فيّاض العلوم وملهمها أولى بأن يكون عالما ، ثمّ من كونه عالما مطلقا يعلم كونه عالما بذاته ومن كونه عالما بذاته ومبدأ لجميع الموجودات كونه عالما بجميع الموجودات.

ولمّا أثبت كونه تعالى عالما بذاته وبما سواه ، أراد أن يجيب عن أدلّة المنكرين لعلمه تعالى وهم فرقتان من الأوائل :

الأولى : من ينفي علمه تعالى مطلقا ، متمسّكا بأنّ العلم إمّا إضافة ، أو صفة ذات إضافة ، على ما مرّ في مسألة العلم.

وعلى التقديرين يستدعي نسبة بين العالم والمعلوم ، والنسبة تستدعي المغايرة بين الطرفين ، فلا يمكن تحقّقها حيث لا مغايرة أصلا ، فلا يمكن أن يعلم ذاته ، وإذا امتنع علمه بذاته ، امتنع علمه تعالى بما سواه ؛ لأنّ علمه بغيره يستلزم (٢) علمه بذاته على ما مرّ.

والجواب منع استدعاء النسبة العلميّة المغايرة الحقيقيّة ، بل المغايرة الاعتباريّة كافية فيها كما في علمنا بذواتنا. وإلى هذا أشار بقوله : ( والتغاير اعتباريّ ).

__________________

(١) منهم المحقّق الخفري في حاشيته على شرح تجريد العقائد للقوشجي ، انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) لعلّ المراد هنا الاستلزام في مقام الإثبات دون الثبوت.

١٥٥

وتحقيق ذلك في الشفاء حيث قال : « واجب الوجود عقل محض ؛ لأنّه ذات مفارقة للمادّة من كلّ وجه ، وقد عرفت أنّ السبب في أن لا يعقل الشيء هو المادّة وعلائقها ، لا وجوده. وأمّا الوجود الصوريّ ، فهو الوجود العقليّ وهو الوجود الذي إذا تقرّر في الشيء صار للشيء به عقل ، والذي يحتمل نيله هو عقل بالقوّة ، والذي ناله العقل بعد القوّة هو العقل بالفعل على سبيل الاستكمال ، والذي هو له ذاته هو عقل بذاته ، ولذلك (١) هو معقول محض ؛ لأنّ المانع للشيء أن يكون معقولا هو أن يكون في مادّة وعلائقها وهو المانع عن أن يكون عقلا ، وقد تبيّن لك هذا ، فالبريء عن المادّة والعلائق ، المتحقّق بالوجود المفارق هو معقول لذاته ، ولأنّه عقل بذاته وهو أيضا معقول بذاته ، فهو معقول ذاته ، فذاته عقل وعاقل ومعقول لا أنّ هناك أشياء متكثّرة ؛ وذلك لأنّه بما هو هويّة مجرّدة عقل ، وبما يعتبر له أنّ هويّته المجرّدة لذاته ، فهو معقول لذاته ، وبما يعتبر له أنّ ذاته له هويّة مجرّدة ، فهو عاقل ذاته ؛ فإنّ المعقول هو الذي ماهيّته المجرّدة لشيء ، والعاقل هو الذي له ماهيّة مجرّدة لشيء ، وليس من شرط هذا الشيء أن يكون هو أو آخر ، بل شيء مطلقا والشيء مطلقا أعمّ من هو أو غيره ، فالأوّل باعتبارك أنّ له ماهيّة مجرّدة لشيء هو عاقل ، وباعتبارك أنّ ماهيّته المجرّدة لشيء هو معقول ، وهذا الشيء هو ذاته ، فهو عاقل بأنّ له ماهيّته المجرّدة التي لشيء هو ذاته ، ومعقول بأنّ ماهيّته المجرّدة هي لشيء هو ذاته ، وكلّ من تفكّر قليلا علم أنّ العاقل يقتضي شيئا معقولا ، وهذا الاقتضاء لا يتضمّن أنّ ذلك الشيء هو أو آخر (٢).

ثمّ قال : فقد فهمت أنّ نفس كونه معقولا وعاقلا لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ، ولا اثنين في الاعتبار أيضا ؛ فإنّه ليس تحصيل الأمرين إلاّ اعتبار أنّ ماهيّة

__________________

(١) في « الشفاء » : « وكذلك » بدل « ولذلك ».

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ، الفصل السادس من المقالة الثامنة.

١٥٦

مجرّدة لذاته ، وأنّ ماهيّته مجرّدة ذاتها لها ، وهاهنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني ، والغرض المحصّل شيء واحد بلا قسمة فقد بان أنّ كونه تعالى عاقلا ومعقولا لا يوجب فيه كثرة البتّة (١). انتهى.

الثانية : من ينفي علمه بغيره مع كونه عالما بذاته ، متمسّكا بأنّ العلم صورة مساوية للمعلوم ومرتسمة في العالم كما مرّ في مسألة العلم ، فصور الأشياء المختلفة مختلفة على ما مرّ هناك أيضا ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات الأحديّة [ وكونها فاعلة قابلة ] (٢) وكونها قابلة لتلك الصور وفاعلة لها ؛ لوجوب استنادها إليها ؛ لامتناع أن يكون تعالى محتاجا فيما هو كمال له إلى غيره.

قال المصنّف في شرح رسالة العلم : إنّ هذين المذهبين مذكوران في كتب المذاهب والآراء ، منقولان عن القدماء. (٣)

والجواب يستدعي تمهيد مقدّمة ، هي أنّ العلم على قسمين : حصوليّ وحضوريّ ؛ لأنّ العلم عبارة عن حصول المعلوم لما من شأنه أن يكون عالما ، وهو المجرّد القائم بذاته ، وذلك الحصول قد يكون بارتسام صورة المعلوم في العالم حيث لا حضور لذاته لديه ، كما في علمنا بما سوى ذواتنا وقوانا والصور المرتسمة فينا.

وقد يكون بحضوره بنفس ذاته عند العالم من غير حاجة إلى ارتسام صورته فيه وقيامها به ، وذلك كما للمعلول عند العلّة ؛ فإنّ حصوله عندها لا يتوقّف على ارتسام صورته فيها ، بل يكفي فيه حضوره بنفس ذاته لديها ؛ إذ لا انفكاك بين ذات العلّة وذات المعلول في الوجود ، فحيثما وجدت العلّة وجد المعلول معها غير منفكّ عنها.

وهذا معنى حصوله لها ، فإذا كانت العلّة مجرّدة قائمة بذاتها ، فهي لا محالة عالمة بمعلولها ، كما أنّها عالمة بذاتها ؛ لكونها غير فاقدة إيّاه كما أنّها غير فاقدة لذاتها.

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٥٨.

(٢) العبارة غير موجودة في « شوارق الإلهام » الطبعة الحجريّة.

(٣) « شرح رسالة العلم » : ٢٧.

١٥٧

وما مرّ في مسألة العلم كان من أحكام العلم الحصوليّ ؛ لكونه من الكيفيّات النفسانيّة ( و ) البحث هنالك كان منها دون العلم الحضوريّ ، فإذا ثبت ذلك ثبت أنّه ( لا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات عنده تعالى ) مرتسمة فيه ؛ لكونه علّة لذوات المعلومات غير فاقدة إيّاها ، فيكفي في علمه تعالى بها حضور ذواتها لديه وحصولها عنده ( لأنّ نسبة الحصول ) أي حصول المعلومات المعلولة له تعالى في كونه حصولا ( إليه تعالى أشدّ من نسبة حصول الصور المعقولة لنا ) الحاصلة في أنفسنا إلينا ؛ لكون تلك المعلومات معلولة له تعالى وصادرة عنه بدون مشاركة من غيره ، وكون هذه الصور صادرة عنّا ومعلولة لنا بمشاركة من غيرنا ؛ لكون أنفسنا قابلة لها فقط.

وأمّا العلّة الفاعلة لها المفيضة إيّاها ، فهي خارجة عن أنفسنا لا محالة ، فحصول الصور لنا حصول للقابل وهو بالإمكان ، وحصول المعلومات له حصول للفاعل المستقلّ وذلك بالوجوب ، ولا شكّ في كون الوجوب أشدّ من الإمكان ، فإذا كان الحصول هو حقيقة العلم ، وكان حصول المعقولات لنا علما ، كان حصول المعلومات له تعالى علما بالطريق الأولى.

فثبت أنّ علمه تعالى بالأشياء لا يتوقّف على ارتسام صورها فيه ليلزم التكثّر في ذاته الأحديّة ، وكونها فاعلة وقابلة.

واعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف ـ مع كونه جوابا عن الدليل المذكور ـ إشارة إلى ما هو مختاره في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء ؛ فإنّ للحكماء فيها اختلافا ، ولا بأس بأن نفصّل المقام ونبسط الكلام ، ونأتي بمرّ الحقّ في المرام فنقول :

[ في كيفيّة علمه تعالى بالأشياء ]

اختلف الحكماء في علمه تعالى بالأشياء إلى خمسة مذاهب :

[ المذهب ] الأوّل : مذهب انكسمانس الملطيّ ، وهو أنّ علمه تعالى بالأشياء إنّما

١٥٨

هو بصور زائدة على الأشياء مطابقة لها قائمة بذاته تعالى.

[ المذهب ] الثاني : مذهب ثالس الملطيّ ، وهو أنّ علمه تعالى بالأشياء بصور زائدة عليها ومطابقة لها قائمة بذات المعلول الأوّل لا بذاته كما نقل عنه في كتاب الملل والنحل أنّه قال :

إنّ القول الذي لا مردّ له هو أنّ المبدع كان ولا شيء مبدع ، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات ؛ لانّه قبل الإبداع إنّما هو فقط ، وإذا كان هو فقط ، فليس يقدح جهة وجهة حتّى يكون هو صورة ، أو حيث وحيث حتّى يكون هو ذا صورة ، والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين هو يؤيّس ما ليس بأيس ، وإذا كان هو مؤيّس الأيسات ، فالتأييس لا من شيء متقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج [ إلى ] (١) أن يكون عنده صورة.

ثمّ قال : وأيضا فلو كانت الصورة عنده ، أكانت مطابقة للموجود الخارج ، أم غير مطابقة؟ فإن كانت مطابقة فلتتعدّد تعدّد الموجودات ، ولتكن كلّيّاتها مطابقة للكلّيّات وجزئيّاتها مطابقة للجزئيّات ، ولتتغيّر بتغيّرها كما تتكثّر بتكثّرها ، وكلّ ذلك محال ؛ لأنّه ينافي الوحدة الخالصة. وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذن صورة إنّما هي شيء آخر.

ثمّ قال : لكنّه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات ، وانبعث من كلّ صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأوّل ، فمحلّ الصور ومنبع الموجودات كلّها هو ذات العنصر ، وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسّي إلاّ في ذات العنصر صورة له.

قال : ومن كمال الأوّل الحقّ أنّه أبدع مثل هذا العنصر ، فما يتصوّره العامّة في ذاته تعالى أنّ فيها الصور ـ يعني صور المعلومات ـ فهو في مبدعه ، ويتعالى بوحدانيّته

__________________

(١) الزيادة أثبتناها من المصدر.

١٥٩

وهويّته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه (١). انتهى.

[ المذهب ] الثالث : المذهب المنسوب إلى أفلاطن ، وهو أنّ تلك الصور قائمة بذواتها.

وقد اتّفقوا على بطلانها ؛ إذ لا معنى لكون الصور العلميّة قائمة بذواتها لا في محلّ ولا في موضوع ؛ لأنّها موجودات ظلّيّة لا عينيّة.

وقد بالغ الشيخ في الشفاء في إبطال المثل والتعليميّات بما لا مزيد عليه (٢) ، بل أوجب أكثرهم تأويلها ، وأحسن التوجيهات أنّها عبارة عن أرباب الطلسمات وهي الجواهر العقليّة العرضيّة المدبّرة كلّ منها لنوع من الأنواع المادّيّة المسمّاة عندهم بالطلسمات (٣).

وهذه المذاهب الثلاثة مشتركة في كون علمه تعالى بالأشياء بصورها المطابقة لها ، وهذا العلم هو المسمّى بالعلم الصوريّ (٤) ، والأوّل منها بالحصوليّ.

[ المذهب ] الرابع : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشّائين ، وهو القول باتّحاده تعالى مع المعقولات ، بناء على مذهبهم من القول باتّحاد العاقل والمعقول ، على ما مرّ في مسألة العلم من الأعراض مستقصى.

[ المذهب ] الخامس : مذهب صاحب الإشراق وهو القول بالعلم الحضوريّ الإشراقيّ ، وقد استفادها بزعمه في خلوته الذوقيّة عن روحانيّة أرسطاطاليس.

قال في التلويحات :

« كنت زمانا شديد الاشتغال ، كثير الفكر والرياضة ، وكان يصعب عليّ مسألة

__________________

(١) « الملل والنحل » ٢ : ٦٢.

(٢) « الشفاء » الإلهيّات : ٣١٧ ـ ٣٢٤ ، الفصل الثالث من المقالة السابعة.

(٣) انظر « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٤٣.

(٤) في « شوارق الإلهام » : « الحضوريّ » بدل « الصوريّ ».

١٦٠