البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

والتفصيلي عبارة عن وجودها في الخارج بجميع ما لها من الأحوال الخارجيّة.

[ علم الواجب تعالى بذاته وبما سواه بالعلم الحضوري ]

والواجب تعالى عالم بذاته بالعلم الذي هو عين ذاته ؛ لأنّ العلم عبارة عن منشأ انكشاف الأشياء ، وذاته تعالى كذلك ؛ لأنّ انكشافها حادث بحدوثها ، فلا بدّ له من مرجّح ، فهو إمّا غير ذاته ، أو ذاته.

ولا سبيل إلى الأوّل ، وإلاّ يلزم احتياج الواجب ونقصه ، فتعيّن الثاني ، فذاته منشأ لانكشاف الأشياء ، فهو العلم ، ومن الأشياء ذاته ، فهو عالم بذاته على ما هي عليه ، ويلزم من ذلك كونه عالما بجميع الأشياء على ما هي عليه من الكلّيّات والجزئيّات والمجرّدات والمادّيّات : الموجودات منها ، والمعدومات حتّى مفهوم الممتنعات ؛ لكونه من الممكنات ، وذاته وغير ذاته ؛ لوجود جميعها في مرتبة ذاته ، بمعنى أنّ ذاته موجودة حقيقة وهي علّة لجميع الممكنات التي منها مفهوم المعدومات ، الموجود في الذهن ، وذاته تعالى حاضرة عنده تعالى ، بمعنى عدم غيبوبة ذاته عن ذاته ، وحيث كان ذاته علّة لجميع الممكنات وكان حضور علّة المعلوم كافيا في العلم بالمعلوم قبل وجوده الخاصّ به ، لزم علمه تعالى بذاته وبما سواه بالعلم الحضوريّ ، بمعنى حضور المعلوم عند العالم ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم ، وحضور علّة المعلوم بهذا المعنى عند العالم في مرتبة ذاته.

وقال بعض (١) الأعلام : علمه تعالى على عدّة أقسام :

__________________

(١) نقل المحقّق الخوانساريّ نحو هذا القول عن بعض المحقّقين. انظر « الحاشية على حاشية الخفري على شرح التجريد » : ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

ولمزيد الاطّلاع عن مراتب علم الواجب تقدّست أسماؤه راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢ و ٣١٧ ـ ٣١٨ ؛ « المبدأ والمعاد » للصدر الشيرازيّ : ١٢٤ ـ ١٢٨ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ٢٩٠ ـ ٣٠٦ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥٥٠ ـ ٥٥٤ ؛ « شرح المنظومة » : ١٧٥ ـ ١٧٧.

١٢١

منها : العناية ، وهي عبارة عن علمه تعالى بالأشياء في مرتبة ذاته علما مقدّسا عن شوب الإمكان والتركيب بحيث تنكشف له الموجودات الواقعة في عالم الإمكان على أتمّ نظام وهي على بسيط واجب لذاته قائم بذاته ناشئ عنه العلوم التفصيليّة ، لا أنّها فيه.

ومنها : القضاء ، ويقال له : « أمّ الكتاب » وهو عبارة عن صور علميّة لازمة لذاته بلا جعل وتأثير وتأثّر ، وليست من أجزاء العالم ؛ إذ ليس لها جهة عدميّة ، والإمكانات واقعيّة ، فهو صور علم الله قائمة بالذات ، باقية ببقاء الله تعالى ، وهو الذي لا يردّ ولا يبدّل.

ومنها : القدر ، ويقال له : « كتاب المحو والإثبات » وهو عبارة عن وجود صور الموجودات في عالم النفس السماويّ على الوجه الجزئيّ ، مطابقة لما في موادّها الخارجيّة الشخصيّة ، مستندة إلى أسبابها وعللها ، واجبة بها ، لازمة لأوقاتها المعيّنة وأمكنتها المخصوصة ، ويشملها القضاء شمول العناية للقضاء ، بمعنى أنّ العالي إجمال للسافل ، والسافل تفصيل للعالي ، ومحلّهما اللوح والقلم ، الأوّل على سبيل الانفعال ، والثاني على سبيل الفعل والحفظ.

واللوح على قسمين : الأوّل : اللوح المحفوظ. والثاني : لوح المحو والإثبات.

والأوّل : عبارة عن النفس الكلّيّة الفلكيّة سيّما الفلك الأقصى ؛ إذ كلّ ما جرى في العالم ، أو يجري مكتوب مثبت فيها ، وكونها لوحا محفوظا باعتبار انحفاظ صورها الفائضة عليها على الدوام.

والثاني : عبارة عن النفوس المنطبعة الفلكيّة فإنّه تنتقش فيها صور جزئيّة متشخّصة بأشكال وهيئات مقدّرة مقارنة لأوقات معيّنة على مثال ما يظهر في المادّة الخارجيّة ، وهذه الصور ـ لجزئيّتها وشخصيّتها ـ متبدّلة متجدّدة مستمرّة على نسق واحد ، كالكبريات الكلّيّة.

والقلم عبارة عن الجواهر القدسيّة ، وهي العقول المترتّبة في الشرف والكمال

١٢٢

على مرتبة في القرب منه تعالى إلى العقل العاشر المؤثّر بنوريّته الضعيفة في النفوس السماويّة والناطقة باعتبار كونها مصوّرة لصور المعلومات ، ناقشة في قوابل النفوس والأجرام على وجه التجدّد. وهذه أصول وفروعها كلّ ما في الوجود من موضع شعور كالنفوس والقوى الحيوانيّة الوهميّة والخياليّة وغيرها من المدارك والمشاعر.

نعم ، العقلاء لا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء.

وبالجملة ، العلم على أقسام خمسة :

الأوّل : العلم الحصوليّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحصول صورة ذلك المعلوم في ذلك العالم ، وهو المسمّى بعلم اليقين.

الثاني : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع المغايرة بينهما بالذات كالعلم.

الثالث : العلم الحضوريّ ، بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور علّة ذلك المعلوم عند العالم كالعلم بالمحسوسات وبالآثار الاستقباليّة للمحسوسات عند العلم بكنه تلك المحسوسات. وهذان القسمان مسمّيان بعين اليقين.

الرابع : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم للعالم بحضور ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع عدم التغاير بينهما إلاّ بالاعتبار كعلمنا بأنفسنا.

الخامس : العلم الحضوريّ بمعنى ظهور المعلوم عند العالم بحضور علّة ذلك المعلوم عند ذلك العالم مع عدم المغايرة بينهما إلاّ بالاعتبار كعلمنا بالآثار الاستقباليّة لأنفسنا عند علمنا بكنه أنفسنا. وهذان القسمان يسمّيان بحقّ اليقين.

وعلم الله تعالى من قبيل العلم الحضوريّ كما ذكرنا.

وما دلّ على أنّه لمّا وقع المعلوم وقع العلم عليه (١) ـ مع أنّه معارض بما دلّ على

__________________

(١) إشارة إلى ما رواه الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه‌السلام في « التوحيد » : ١٣٩ باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح ١.

١٢٣

خلافه من أنّ الله تعالى كان عالما والعلم ذاته ولا معلوم (١) ـ محمول على أنّ المعلوميّة حصلت للمعلوم في مقام الوجود الخارجيّ أو في مقام الذات بمعنى أنّه عالم أزل الآزال كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : « ولا معلوم » مع أنّ العقل القاطع سيّما عند التطابق مع النقل يدفع الظاهر ، مضافا إلى أنّ نفس النقل الأقوى مقدّم ، وأنّ الخبر الواحد عند عدم التطابق مع العقل غير حجّة في المسائل الاعتقاديّة والعلميّة كما لا يخفى ، وبالجملة فالعاقل إن عجز عمّا ذكرنا لا بدّ أن يعتقد أنّه عالم بالأشياء قبلها وإن لم يعلم كيفيّة علمها لا أن يقول بمقالته (٢) ؛ فإنّ ذلك لو لم يكن بيّن الفساد وبعيدا عن الصواب ، فلا أقلّ من كونه محلّ الارتياب.

وقال الشيخ المعاصر (٣) في رسالة « حياة النفس » في مبحث علم الله تعالى هذه العبارة :

« وعلمه قسمان : علم قديم هو ذاته ، وعلم حادث وهو ألواح المخلوقات ، كالقلم واللوح وأنفس الخلائق.

فأمّا العلم القديم ، فهو ذاته تعالى بلا مغايرة ولو بالاعتبار ؛ لأنّ هذا العلم لو كان حادثا كان تعالى خاليا منه قبل حدوثه ، فيجب أن يكون قديما لا يخلو إمّا أن يكون هو ذاته بلا مغايرة ، أولا ، فإن كان هو ذاته بلا مغايرة ، ثبت المطلوب ، وإن كان غير ذاته ، تعدّدت القدماء وهو باطل.

وأمّا العلم الحادث ، فهو حادث بحدوث المعلوم ؛ لأنّه لو كان قبل المعلوم ، لم يكن علما ؛ لأنّ العلم الحادث شرط تحقّقه وتعلّقه أن يكون مطابقا للمعلوم ، وإذا لم يوجد المعلوم لم يحصل المطابقة التي هي شرطه ، وأن يكون مقترنا بالمعلوم ، وقبله لم يتحقّق الاقتران ، وأن يكون واقعا على المعلوم ، وقبله لم يتحقّق الوقوع.

__________________

(١) وهي رواية الكلينيّ في « الكافي » ١ : ١٠٧ باب صفات الذات ، ح ١.

(٢) أي بمقالة الشيخ المعاصر.

(٣) هو الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائيّ المعاصر للمؤلّف.

١٢٤

وهذا العلم الحادث هو فعله ومن فعله ومن جملة مخلوقاته ، وسمّيناه علما لله تبعا لأئمّتنا عليهم‌السلام واقتداء بكتاب الله تعالى حيث قال : ( عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) (١) وقال : ( قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) (٢) ».

أقول : هذا ـ مع كونه خلاف الكتاب والسنّة ونحوهما من جهة كون إطلاق العلم على الصور اللّوحيّة (٣) ونحوها لا محلّها وظروفها (٤) ـ غفلة (٥) عن أقسام العلم ؛ لأنّ العلم قد يكون حصوليّا يحصل بحصول صورة المعلوم في العالم.

وقد يكون حضوريّا حاصلا بحضور المعلوم بنفسه عند العالم مع المغايرة بينهما ، أو بدونهما ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم.

وقد يكون حضوريّا حاصلا بحضور علّة المعلوم عند العالم مع المغايرة ، كما في العلم بالنار الحاضرة بالنسبة إلى الحرارة التي لم تحسّ ؛ فإنّه إذا علم كنه النار يعلم حرارتها وغيرها من لوازمها ومعلولاتها ، أو بدون المغايرة كما إذا علمنا نفسنا بكنهها علما موجبا للعلم بمقتضياتها ، بمعنى عدم الغيبوبة ، وعلم الواجب بالنسبة إلى الممكن قبل الإيجاد من هذا القبيل ، فيكفي وجود ذات العلّة في حصول العلم بالمعلوم من غير أن يحتاج إلى القول بأنّ للممكن نحوا من الوجود في مرتبة وجود العلّة وهو سبب يحقّق العلم ؛ لاستلزام ذلك على وجه القول بوحدة الوجود ، كما يقول الصوفيّة خذلهم الله ونحن من ذلك برآء.

وإطلاق العلّة عليه تعالى صحيح. أمّا الناقصة فلنقص المعلول لا العلّة ، وأمّا

__________________

(١) طه (٢٠) : ٥٢.

(٢) ق (٥٠) : ٤.

(٣) يعني المكتوب في اللوح ، لا نفس اللوح.

(٤) كما زعمه الشيخ المعاصر.

(٥) خبر لـ « هذا ».

١٢٥

التامّة فبملاحظة المشيئة والإرادة. وعلى ما ذكره يلزم إيجاد المصنوع جهلا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

مضافا إلى أنّ القول بأنّ العلم نفس المعلوم ينافي قوله : « إنّه حادث بحدوثه ، وأنّ شرطه أن يكون مطابقا للمعلوم ، ومقترنا به ، وواقعا عليه » لعدم تصوّر مطابقة الشيء لنفسه ، واقترانه بها ، ووقوعه عليها ، فهذا أيضا يوهم التدليس والطفرة.

فإن قلت : مراده أنّه يثبت بعد وجود الأشياء أحوالها كأرزاقها وآجالها في ملكه كاللوح بمعنى أنّه يوجد فيه العلم بها وضبط حدودها حين يوجدها ، لا أنّه يوجد لنفسه علما بها ؛ لأنّه عالم بها قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها ، كما إذا كان بينك وبين زيد حساب تكون عالما به غير ناس له ومع ذلك تكتبه في الدفتر ؛ لكونه أردع عن الإنكار ، ولهذا قال موسى لفرعون : ( فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ) (١)

قلت : المراد أنّ ظاهر كلامه يقتضي ذلك من غير قرينة صارفة ، وبيان المراد من الخارج لا يدفع الإيراد ؛ فإنّه موجب للشبهة لأهل الشريعة ، مع أنّ في الكلام ما يمنع عن هذا التوجيه كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ علمه تعالى بالنسبة إلى ذاته تعالى علم حضوريّ ـ بمعنى ظهور المعلوم ـ بحضور ذلك المعلوم بنفسه عند العالم بدون المغايرة بينهما إلاّ بالاعتبار ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم كعلمنا بأنفسنا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى ما سواه من نحو الممكنات قبل إيجادها علم حضوريّ ـ بمعنى ظهور المعلوم ـ بحضور علّة المعلوم ـ وهي ذاته تعالى ـ عند العالم من غير مغايرة بينهما ، بمعنى عدم غيبوبة علّة المعلوم عن العالم ، فهو عالم بها في مقام الذات بالذات والصفات والأحوال والتغيّرات التي هي أيضا من المعلومات من غير لزوم تغيّر في الذات ؛ لكون التغيّر في المعلوم وكونه على وجهه معلوما في مقام

__________________

(١) طه (٢٠) : ٥٢.

١٢٦

الذات ، فهو في الحقيقة علم تفصيليّ وإن كان بحسب الظاهر علما إجماليّا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى ما سواه بعد الإيجاد علم حضوريّ بحضور المعلوم بنفسه عند العالم مع المغايرة بينهما بسبب الإحاطة العلميّة بالممكنات.

والأولى حصل من باب العلم الحضوريّ بحضور المعلوم عند العالم بحضوره علّة وهو الواحد عند العالم يكون التغيّر في المعلوم لا العلم لئلاّ يلزم الجهل في مرتبة الذات ، أو تحصيل الحاصل في مرتبة الممكنات ، ومثل ذلك تفاصيل الممكنات وكيفيّاتها وكمّيّاتها وأمثالها ؛ فإنّ كلّ ذلك معلول للواجب بالذات ، وكلّ ما هو معلول له معلوم له في مقام الذات فالممكنات بتفاصيلها وأحوالها معلومة له تعالى في مقام الذات من باب العلم الحضوريّ بحضور علّة المعلوم عند العالم على الوجه المذكور والآتي ، فتوهّم كون علمه قسمين : ذاتي قديم ، وفعلي حادث ، وكون تعلّقه حادثا ، فاسد ؛ لما أشرنا.

وعلمه تعالى بالنسبة إلى أحوال الممكنات وصفاتها وآثارها المستقبلة علم حضوري بحضور علّة المعلوم عند العالم مع المغايرة بين العالم وعلّة المعلوم كالمعلوم ، فجميع الأشياء له تعالى في جميع الأحوال معلوم وهو تعالى عالم بها في الأزل ولا يزال وأزل الآزال ، وخلق السماوات وسائر الممكنات مع العلم والشعور والإرادة.

وكيف كان ، فالدليل على ثبوت العلم لله تعالى أمور :

منها : أنّ كلّ ما حكم العقل بكونه كمالا لموجود ما من حيث هو موجود ، ولا يوجب التجسّم والتغيّر والتركّب ونحوها ، وتحقّق في موجود من الموجودات ، كان ممكن التحقّق في الموجود الحقّ بالإمكان العامّ ، فيجب وجوده له تعالى لا محالة ، وإلاّ لكان فيه جهة إمكانيّة منافية للوجوب الذاتي ، ويلزم نقص الواجب في مرتبة ذاته وذات ذلك الكمال وإن كان أثره مترتّبا على ذاته كما يقول من يذهب

١٢٧

إلى كون ذاته تعالى نائبا عن الصفات (١) وهو محال ، وصفة العلم كذلك ، فيجب تحقّقه فيه من غير أن يكون زائدا على ذاته ليلزم تعدّد القدماء ، مضافا إلى ما مرّ وكون العينيّة كمالا بالنسبة إلى الزيادة ، ووجوب حصول كلّ كمال له تعالى.

ومنها : أنّ واجب الوجود واهب الكمال ومفيضه ومعطيه ، والمفيض لا يصلح أن يكون قاصرا عن ذلك الكمال إذا لم يوجب ما ذكر ، كما روي (٢) أنّ النمل يقول : إن لله زبانيتين ، فهو تعالى عالم بما كان وما هو كائن وما يكون على وجه هي عليه في نفس الأمر ؛ لكونه علّة تامّة لما سواه على ترتّب ونظام ، وكونه عالما بالعلم التامّ بذاته ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم بمعلولها ؛ إذ لا بدّ في كلّ علّة مستقلّة لمعلول أن يكون المعلول من لوازمه ، فالعلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ، فعلمه تعالى بجميع ما عداه لازم لعلمه بذاته ، كما أنّ وجود ما عداه تابع لوجود ذاته.

فإن قلت : نحن عالمون بذواتنا التي هي علل لأفعالنا الآتية مع عدم علمنا بها قبلها.

قلت : ذواتنا ليست علّة مستقلّة لها ، بل محتاجة إلى دواع وأسباب خارجة ، بخلاف واجب الوجود ؛ فإنّه علّة مستقلّة لجميع معلولاته ، والداعي إلى الفعل ـ وهو العلم بالمصالح ـ عين ذاته ، غير مستفاد من خارج ، وغير محتاج إلى الآلات والأسباب ، مضافا إلى عدم علمنا بذواتنا بالكنه ، فلا يصحّ القياس بالناس.

وبيان كيفيّة هذا العلم على وجه لا يلزم منه تكثّر في ذاته ولا في صفاته الحقيقيّة ، ولا كونه فاعلا وقابلا ، ولا يبقى اشتباه بأنّ هذا العلم هل هو قبل الأشياء أو بعدها أو معها بأن لا يعلمها إلاّ حين وجودها ، فيكون لها فيه تأثير ، ويكون

__________________

(١) قالت به المعتزلة كما في « شرح الأصول الخمسة » : ١٨٢ وما بعدها. ونقل عنهم في « مقالات الإسلاميّين » ١ : ٢٤٤ وما بعدها ؛ « المحصّل » : ٤٢١ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٦٩ ـ ٧١.

(٢) « الأربعون حديثا » البهائي : ٨١.

١٢٨

بسببها بحال لم يكن قبل على ذلك الحال ، فلا يكون واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الصفات؟ أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيّات ، فيجب أن يكون ذاته ـ مع بساطته وأحديّته ـ كلّ الأشياء ، ويكون لكلّ واحد منها وجود إجمالي في مرتبة ذات العلّة ، فتعقّله لذاته تعقّل لجميع ما سواه ، وتعقّله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فيكون علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلا في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه ، بمعنى أنّه لا بدّ عند ملاحظة ذاته تعالى وتعقّله وإدراكه على وجه واقع من ملاحظة جميع الممكنات المستندة إليه ؛ فإنّ من الوجوه التي لذات الواجب تعالى كونه قادرا على إيجاد الأشياء الممكنة ومؤثّرا فيها على وجه هي عليها ، وعلى أحوال تكون عليها آنا فآنا ، فتعقّله على هذا الوجه مستلزم لتعقّل جميع الأشياء ، فجميعها موجود بالوجود التعقّلي في ضمن تعقّل الذات كوجود الابن بالوجود التعقّلي في ضمن تعقّل الأبوّة ، وليس المراد وجودها في مرتبة الذات بالوجود الخارجيّ الحقيقيّ ، كما يقوله المتصوّفة (١) ؛ فإنّ ذلك مستلزم لإمكان الواجب ، أو وجوب الممكن كما لا يخفى ، بل هو خلاف الضروريّ من المذهب ، بل الدين.

والحاصل : أنّ العلم على قسمين : حصوليّ ، وحضوريّ. والحضوريّ قد يكون بحضور المعلوم عند العالم مع التغاير بينهما.

وقد يكون بحضور علّة المعلوم عنده كذلك.

وقد يكون على الوجه الأوّل من غير تغاير ، بمعنى عدم غيبوبة المعلوم عن العالم كما في العلم بالذات.

وقد يكون على الوجه الثاني من غير تغاير بين العالم وعلّة المعلوم ، بمعنى عدم غيبوبة علّة المعلوم عن العالم ، وكون انكشاف علّة المعلوم بالكنه على وجه

__________________

(١) انظر « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨٢ ـ ١٨٧ ؛ « شرح المنظومة » ٢ : ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

١٢٩

الحضور المذكور علّة انكشاف المعلوم في تلك المرتبة على وجه سيكون عليه من الأحوال والكيفيّات والتشخّص والتفاصيل الخارجيّة أو الذهنيّة.

وعلم الله تعالى بما عداه قبل الإيجاد من هذا القبيل ، فيكون الإجمال فيه عين التفصيل. وهذا هو العلم الكماليّ التفصيليّ من وجه والإجماليّ من وجه ، وذلك لأنّ المعلومات ـ على كثرتها وتفصيلها ـ موجودة بوجود في اتّصافه بوجوده [ لا يحتاج ] إلى شيء آخر ، حتّى يلزم أن يكون معلولا.

وبالجملة ، فادّعاء المخلوق لنفسه الإحاطة العلميّة بجلائل الملك ودقائق الملكوت ، وتسميته لنفسه فيلسوفا حكيما ، وسلب العلم عن خالقه الحكيم العليم ـ الذي أفاض ذوات العلماء ونوّر قلوبهم بمعرفة الأشياء ـ من أقبح القبائح وأفحش الأغلاط.

ومنها : أنّه تعالى فاعل فعلا محكما متقنا ، وكلّ من كان كذلك ، فهو عالم.

أمّا الكبرى ، فبالضرورة ، وينبّه عليه أنّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة ، علم أنّ فاعلها عالم.

وأمّا الصغرى ، فلما ثبت من أنّه تعالى خالق للأفلاك والعناصر وما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنباتات وأصناف الحيوانات على إتقان وإحكام تحيّرت فيه العقول والأفهام ، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة والتشريح ونحوهما مع أنّ الإنسان لم يؤت من العلم إلاّ قليلا ، ولم يجد إلى الكثير سبيلا. والمراد اشتمال الأفعال على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملاءمة للمنافع والمطابقة للمصالح على وجه الكمال ، فلا يقدح الاشتمال على نوع من الخلل والشرور بالعرض.

ومنها : أنّ الله تعالى فاعل بالقصد والاختيار ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ مع العلم بالمقصد.

ومنها : أنّ البارئ تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد عاقل ؛ لأنّ التعقّل والتجرّد متلازمان ،

١٣٠

بمعنى أنّ كلّ عاقل مجرّد ، وكلّ مجرّد عاقل.

بيانه : أنّ التعقّل عبارة عن إدراك شيء لم يعرضه العوارض الجزئيّة التي تلحق بسبب المادّة في الوجود الخارجيّ من الكمّ والكيف والأين والوضع إلى غير ذلك.

والتجرّد عبارة عن كون الشيء بحيث لا يكون مادّة ولا مقارنا لها مقارنة الصورة والأعراض.

فنقول : وجه كون كلّ عاقل مجرّدا أنّ التعقّل إنّما يكون بارتسام صورة المعقول في العاقل ، ومحلّ الصورة يجب أن يكون مجرّدا ؛ إذ لو كان مادّيّا ، لكان منقسما ، ويلزم من انقسامه انقسام الحالّ فيه ؛ إذ لم يكن الحلول من حيث لحوق طبيعة أخرى به ، كما في النقطة الحالّة في الخطّ لا من حيث ذاتها ، بل من حيث إنّها طبيعة أخرى وهي كونها نهاية الخطّ ، والصورة المعقولة ليست كذلك ، فيلزم انقسامها ، وذلك الانقسام إمّا إلى الأجزاء المتشابهة في الحقيقة ، فيلزم أن تكون الصورة المعقولة المجرّدة عن اللواحق المادّيّة من المقدار والوضع معروضة لها ، أو إلى أجزاء متخالفة ، فيلزم تركّب تلك الصورة من أجزاء غير متناهية بالفعل ، وهو محال ؛ لبرهان التطبيق.

ووجه اللزوم : أنّ المحلّ لكونه مادّيّا يقبل القسمة إلى غير النهاية ، فيكون الحالّ أيضا كذلك ، والفرض أنّ الأجزاء متخالفة في الحقيقة ، فلا بدّ أن تكون حاصلة بالفعل في المركّب ، فيلزم تركّب الشيء من أجزاء غير متناهية.

وأورد عليه بأنّ كلّ تعقّل ليس بالارتسام ـ كما في تعقّل الواجب ـ إلاّ أن يخصّص بالعلم الحصوليّ ، وأنّه يمكن أن يكون ذو الصورة بريئا عن عوارض الجسم ، ولا يكون الصورة كذلك.

ووجه كون كلّ مجرّد عاقلا أنّ كلّ مجرّد يصحّ أن يكون معقولا لبراءته عن الشوائب المادّيّة ، فلا يحتاج إلى عمل يعمل به ليعقل ؛ فإن لم يعقل كان ذلك من جهة العاقلة ، وكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا ، يصحّ أن يكون معقولا مع غيره ؛ لصحّة

١٣١

الحكم عليه بالوجود ونحوه من الأمور العامّة المعقولة ، الموقوف على تصوّرهما معا ، فكلّ ما يصحّ أن يكون معقولا مع غيره ، يصحّ أن يكون مقارنا لمعقول آخر ، وكلّ ما هو كذلك ، يصحّ أن يكون عاقلا إذا كان مجرّدا قائما بذاته ؛ لجواز مقارنتهما في الخارج ؛ لأنّ صحّة المقارنة المطلقة مقدّمة عليها ، وهي مقدّمة على المقارنة في العقل ؛ فالصحّة مقدّمة عليها ، فلا تتوقّف عليها ، وإلاّ يلزم الدور ، فإذا وجد في الخارج مجرّد قائم بذاته ، يكون صحّة مقارنته المطلقة ـ التي لا تتوقّف على المقارنة في العقل ـ بأن يحصل فيه المعقول حصول الحالّ في المحلّ ، وذلك لأنّه إذا كان قائما بذاته ، امتنع أن تكون مقارنته للغير بحلوله فيه ، أو حلولهما في ثالث.

والمقارنة المطلقة تنحصر في هذه الثلاث ، فإذا امتنع اثنتان منها ، تعيّن الثالثة وهي أن تكون مقارنته للمعقول مقارنة المحلّ للحالّ ، ولا نعني بالتعقّل إلاّ مقارنة المعقول للموجود المجرّد القائم بذاته مقارنة الحالّ لمحلّه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لغيره ، وكلّ ما هو كذلك ، يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ؛ لاستلزام تعقّله الغير إمكان تعقّل أنّه تعقّله ، وذلك يستلزم إمكان تعقّل ذاته ؛ لأنّ تعقّل القضيّة يستلزم تعقّل المحكوم عليه ، فكلّ مجرّد يصحّ أن يكون عاقلا لذاته ، فيجب أن يكون عاقلا لذاته دائما ؛ لأنّ تعقّله لذاته إمّا بحصول نفسه ، أو بحصول مثاله. والثاني باطل ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين ، فتعيّن أن يكون تعقّله بحصول نفسه ، ونفسه دائما حاصلة لا تغيب أصلا ، فيكون التعقّل دائما حاصلا ، فثبت أنّ كلّ مجرّد عاقل.

وأورد عليه بأنّه لا يتمّ في علم الواجب تعالى إلاّ أن يقال : إنّه مخصوص بالعلم الحصوليّ ، وغيره يقاس عليه.

وبأنّ تقدّم المقارنة المطلقة على المقارنة الخاصّة إنّما يصحّ إذا كانت المقارنة المطلقة ذاتية لها وهو ممنوع.

وبأنّه يجوز أن يصحّ لذات المجرّد المقارنة المطلقة المتحقّقة في ضمن الفرد الخاصّ ـ أعني المقارنة العقليّة ـ لا لتوقّف المطلقة عليها ، بل لعدم قبول ذات

١٣٢

المجرّد إلاّ هذه المقارنة الخاصّة ، مع أنّ ما ذكر يدلّ على امتناع توقّف المقارنة المطلقة بالنسبة إلى القسم الثالث أيضا من جهة لزوم الدور فيه أيضا على الوجه المذكور.

وبأنّه يجوز أن يكون من خاصيّة بعض المجرّدات أن يعقل المعقولات ، ويمتنع عليه أن يعقل أنّه تعقّلها.

والقياس على ما يجده الإنسان من نفسه لا يفيد حكما كلّيّا يقينيّا.

وفي هذا الباب مذاهب أخر حكي كلّ عن بعض :

الأوّل (١) : القول بكون وجود صور الأشياء في الخارج ـ سواء كانت مجرّدات أو مادّيّات ، مركّبات أو بسائط ـ مناطا لعالميّته تعالى بها حتّى بذاته ؛ لكفاية التغاير الاعتباري من جهة صحّة العالميّة والمعلوميّة في تحقّق النسبة التي يقتضيها حصول العلم ، وعلمه تعالى بغيره بارتسام صوره ، بل بحضورها بأنفسها عنده كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها. وهو أقوى من الأوّل ، فلا يلزم كثرة الصور في الذات الأحديّ من كلّ وجه بحسب كثرة المعلومات.

وتغيّر المعلوم لا يستلزم تغيّر ذاته من صفة إلى أخرى ، بل التغيّر في العلم إن قلنا : إنّه إضافة [ أو ] إن قلنا : إنّه صفة حقيقيّة ذات إضافة ، وتغيّر الإضافات ممكن.

ولمّا أمكن اجتماع الوجوب بالغير والإمكان الذاتي ، لا يلزم أن لا يعلم الواجب

__________________

(١) قال به السهرورديّ وتبعه المحقّق الطوسيّ وابن كمّونة وقطب الدين الشيرازيّ وشمس الدين محمّد الشهرزوريّ.

انظر « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ؛ « المطارحات » ١ : ٤٨٨ ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٣ ؛ « شرح مسألة العلم » : ٢٨ ـ ٢٩ ؛ « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازيّ : ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥١٦ ـ ٥١٨.

١٣٣

الحوادث قبل وقوعها من جهة أنّه يستلزم وجوبها ، أو انقلاب علمه جهلا إن لم تكن واجبة ، مع أنّ العلم تابع للمعلوم لا علّة له ومفيد لوجوبه ، لا بمعنى أنّ العلم الأزليّ متأخّر عنه حتّى يلزم الدور ، بل بمعنى أصالة موازنة ، أعني المعلوم ؛ لأنّ العلم حكاية عنه ومثال له كصورة الفرس المنقوشة على الجدار بالنسبة إلى ذات الفرس ، فكما يصحّ أن يقال : إنّما كانت الصورة هكذا ؛ لأنّ ذات الفرس هكذا ، ولا يصحّ أن يقال : إنّما كانت ذات الفرس هكذا ؛ لأنّ صورته هكذا ، كذلك يصحّ أن يقال : إنّي علمت زيدا فاسقا ؛ لأنّه كان في نفسه فاسقا ، ولا يصحّ أن يقال : إنّه كان في نفسه فاسقا ؛ لأنّي علمته فاسقا ، فالله سبحانه إنّما علمهم في الأزل كذلك ؛ لأنّهم كانوا فيما لا يزال كذلك ، لا أنّ الأمر بالعكس.

والإيراد بأنّه يلزم أن لا يكون علمه تعالى فعليّا مدفوع بأنّ العلم الفعليّ إنّما يكون تصوّرا وهذا من الأمور التصديقيّة التي لا بدّ لها من واقع يطابقه.

الثاني : أنّ علمه تعالى بارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى وحصولها فيه حصولا ذهنيا على الوجه الكلّيّ (١).

الثالث : القول باتّحاده مع الصور المعقولة (٢).

الرابع : القول بإثبات الصور المفارقة والمثل العقليّة ، وأنّها علوم إلهيّة بها يعلم الله الموجودات كلّها (٣).

الخامس : القول بثبوت المعدومات الممكنة قبل وجودها ، فعلم البارئ تعالى

__________________

(١) هذا هو قول المشّائين. انظر « التعليقات » للفارابيّ : ٢٤ ؛ « فصوص الحكم » : ٥٨ ؛ « الجمع بين رأيي الحكيمين » : ١٠٦ ؛ « التعليقات » لابن سينا : ٢٦ ـ ٣٢ و ٨١ ـ ٨٢ و ١١٦ و ١١٩ ـ ١٢٠ و ١٤٩ و ١٥٣ و ١٥٦ ؛ « الشفاء » الإلهيات : ٣٦٣ ، الفصل السابع من المقالة الثامنة ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨٠ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥١٦.

(٢) نسب هذا القول إلى فرفوريوس. انظر « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨٦ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥١٦ ؛ « شرح المنظومة » : ١٦٧.

(٣) نسب هذا القول إلى أفلاطون ، كما في « الملل والنحل » ٢ : ٩٠ ـ ٩١ ؛ « الجمع بين رأيي الحكيمين » : ١٠٥ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٥١٦ ؛ « شرح المنظومة » : ١٦٥.

١٣٤

بثبوت هذه الممكنات في الأزل (١).

السادس : القول بأنّ ذاته علم إجماليّ بجميع الممكنات ، فإذا علم ذاته ، علم بعلم واحد كلّ الأشياء ، فللواجب علمان بالأشياء : علم إجماليّ مقدّم عليها ، وعلم تفصيليّ مقارن لها (٢).

السابع : القول بأنّ ذاته تعالى علم تفصيليّ بالمعلول الأوّل وإجماليّ بما سواه ، وذات المعلول الأوّل علم تفصيليّ بالمعلول الثاني وإجماليّ بما سواه وهكذا إلى آخر الموجودات (٣).

ويعرف ما في كلّ منها بالتأمّل.

ومنها : ما أفاده بعض المحقّقين (٤) ـ وهو بالنسبة إلى علمه تعالى بذاته ـ : أنّ حقيقة العلم على قسمين :

الأوّل (٥) : علمه بذاته تعالى. والدليل عليه ـ مع بداهته على ما ذكر بعض المحقّقين ـ أنّ حقيقة العلم مرجعها إلى حقيقة الوجود بشرط سلب النقائص العدميّة وعدم الاحتجاب بالملابس الظلمانيّة ، وأنّ كلّ ذات مستقلّة الوجود مجرّدة عمّا يلابسها ، فهي حاصلة لذاتها ، فتكون معقولة لذاتها ، وعقلها لذاتها هو وجود ذاتها لا غير ، وهذا الحصول أو الحضور لا يستدعي تغايرا بين الحاصل والمحصول له ، والحاضر والذي حضر عنده ، لا في الخارج ولا في الذهن ، فكلّ ما هو أقوى وجودا وأشدّ تحصّلا وأرفع ذاتا من النقائص والقصورات فيكون أتمّ عقلا ومعقولا ، وأشدّ عاقليّة لذاته.

__________________

(١) هذا قول المعتزلة ، كما في « شرح المقاصد » ٤ : ١٢٤ ؛ « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ـ ١٨٢ ؛ « شرح المنظومة » : ١٦٥.

(٢) نسب هذا القول إلى أكثر المتأخّرين ، كما عن « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ ؛ « شرح المنظومة » : ١٦٦.

(٣) ذكره في « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ من دون نسبته إلى قائل معيّن ، وفي « شرح المنظومة » : ١٦٨ نسبه السبزواريّ إلى بعض الحكماء ، وهو مختاره أيضا.

(٤) هو الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٥) أمّا القسم الثاني فلم يذكره المصنّف.

١٣٥

فواجب الوجود لمّا كان مبدأ سلسلة الوجودات المترتّبة في أعلى مراتب شدّة الوجود وتجرّده ، ويكون غير متناه في كمال شدّته ، وغيره من الموجودات وإن فرض كونها غير متناهية في القوّة بحسب العدّة والمدّة لكنّها ليست بحيث لا يمكن تحقّق مرتبة أخرى في الشدّة هي فوقها ، فواجب الوجود لكونه فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى كان وزان عاقليّته لذاته على هذا الوزان ، فنسبة عاقليّته في التأكّد إلى عاقليّة الذوات المجرّدة لذواتها كنسبة وجوده في التأكّد إلى وجودها ، فعلم الموجود الحقّ بذاته أتمّ العلوم وأشدّها نورية وجلاء وظهورا ، بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها كما لا نسبة بين وجوده ووجودها ، وكما أنّ وجودات الممكنات منطوية مستهلكة في وجوده ، فكذلك علوم الممكنات منطوية في علمه بذاته.

ومنها : كلّ ما حكم به العقل بأنّه كمال لموجود ما من حيث هو موجود ولا يوجب تخصّصا بشيء أدنى ولا تغيّرا ولا تجسّما أو تركّبا ، وتحقّق في موجود من الموجودات ، كان ممكن التحقّق في الموجود الحقّ بالإمكان العامّ ، فيجب وجوده له تعالى لا محالة ، وإلاّ لكان فيه تعالى جهة إمكانيّة مقابلة للوجوب الذاتيّ ، وواجب الوجود لذاته واجب الوجود من جميع الحيثيّات ، ولا شكّ أنّ العلم صفة كماليّة للموجود بما هو موجود ولا يقتضي تجسّما ولا تغيّرا ولا مكانا خاصّا وقد تحقّق في كثير من الموجودات كالذوات العاقلة ، فيجب حصوله لذاته تعالى على سبيل الوجوب بالذات.

ومنها : أنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة عقليّة أن يكون واهب كمال ما ومفيضه قاصرا عن ذلك الكمال ، فيكون المستوهب أشرف من الواهب ، والمستفيد أعلى من المفيد؟! وحيث تكون جميع الممكنات مستندة إلى ذاته تعالى التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ، ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ، والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال لئلاّ يقصر معطي الكمال عنه ، فكان الواجب عالما بذاته ،

١٣٦

وعلمه غير زائد على ذاته ؛ لأنّ ذاته منشأ انكشاف الأشياء ، والعلم عبارة عن هذا.

وبالنسبة إلى علمه تعالى بما سواه ـ من الكلّيّات والجزئيّات ممّا كان وما يكون وما هو كائن على وجه هي عليه في نفس الأمر ـ أنّه تعالى علّة تامّة لما سواه على ترتيب ونظام ، وقد ثبت أنّه تعالى عالم بالعلم التامّ بذاته ، والعلم التامّ بالعلّة التامّة علّة تامّة للعلم بمعلولها ؛ إذ لا بدّ في كلّ علّة مستقلّة لمعلول أن يكون المعلول من لوازمها ، فكلّ معلول من لوازم ذات علّته المقتضية إيّاه ، فكلّما حصلت تلك العلّة بخصوصها ـ سواء كان حصولها في ذهن أو خارج ـ حصل ذلك المعلول بخصوصه ؛ لأنّه من لوازم ذاتها ، ولا عكس ؛ فإنّ المعلول لا يقتضي إلاّ علّة ما من جهة إمكانه وافتقاره لا علّته بخصوصها ، وإلاّ لكانت العلّة معلولة لمعلولها.

فحصول العلّة برهان قاطع على وجود المعلول بخصوصه ، وحصول المعلول برهان قاطع على علّة ما ودليل ظنّيّ على ذات العلّة بخصوصها ، وإنّما سمّي الاستدلال من المعلول على العلّة قسما من البرهان ، وهو المسمّى بالبرهان الإنّيّ بالاعتبار الأوّل ، لا بالاعتبار الثاني.

وبالجملة ، فالعلم بالعلّة التامّة يوجب العلم بالمعلول ، بل العلم بذي السبب علما نظريّا متعلّقا بذاته المتعيّنة لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه ؛ لأنّه إذا نظر إليه من حيث هو مع قطع النظر عن سببه ، امتنع الجزم برجحان أحد طرفيه على الآخر ؛ لتساويهما نظرا إلى ذات الممكن ، وإذا التفت إلى وجود سببه ، حكم بوجوده حكما قطعيّا ، فكان علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته ، كما أنّ وجود ما عداه تابع لوجود ذاته.

وأمّا كيفيّة هذا العلم على وجه لا يلزم منه تكثّر في ذاته ولا في صفاته الحقيقيّة ، ولا كونه فاعلا وقابلا ، ولا يبقى اشتباه بأنّ هذا العلم هل هو قبل الأشياء أو بعدها أو معها بأن لا يعلمها إلاّ حين وجودها ، فيكون لها فيه تأثير ، ويكون بسببها بحال لم يكن قبل ذلك الحال ، فلا يكون واجب الوجود بالذات واجب الوجود من

١٣٧

جميع الجهات؟

فبيانها أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيّات ، فيجب أن يكون ذاته مع بساطته وأحديّته كلّ الأشياء ، ويكون لكلّ واحد منها وجود إجماليّ في مرتبة ذات العلّة ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه ، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فيكون علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلا في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه.

وهذا هو العلم الكماليّ التفصيليّ من وجه والإجماليّ من وجه ؛ وذلك لأنّ المعلولات على كثرتها وتفصيلها موجودة بوجود واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الإلهيّ والمجلى الأزليّ ينكشف ويتجلّى الكلّيّ من حيث لا كثرة فيها ، ولا يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهيّة حتّى يلزم أن يكون معلولا ؛ لأنّ كون الشيء ذا ماهيّة عبارة عن كونه بحيث يفتقر في اتّصافه بوجوده إلى شيء آخر ، ولا يكون أيضا متحقّق الوجود في جميع المراتب الوجوديّة ، فيتحقّق قبل وجوده الخاصّ مرتبة لم يكن هو موجودا في تلك المرتبة مع تحقّق إمكان الوجود لماهيّته في تلك المرتبة ، ففي تلك المرتبة انفكّت الماهيّة عن وجودها الخاصّ بها ، وواجب الوجود ليس على هذا الوجه ؛ إذ لا حدّ له ولا نهاية لوجوده ؛ لكونه غير متناه في مراتب الشدّة والكمال ، كلّ مرتبة منها غير متناهية في عدّة الآثار والأفعال وهو واحد حقيقي غير ذي ماهيّة ، ولا تخلو عنه أرض ولا سماء ، ولا برّ ولا بحر ، ولا عرش ولا فرش ألا إلى الله تصير الأمور.

فعلمه تعالى بالأشياء في مرتبة ذاته ليس بصور زائدة مغايرة لذاته ، بل هي معان كثيرة غير محدودة انسحب عليها حكم الوجود الواجبي من غير أن يصير وجودا لكلّ منها أو لشيء منها ، بل كان مظهرا لكلّ منها.

فالقائل بأنّه تعالى ليس عالما بشيء من الموجودات غير ذاته وصفاته التي هي عين ذاته كالقائل بأنّه تعالى ليس عالما بشيء أصلا بناء على أنّ العلم عندهم عبارة

١٣٨

عن إضافة بين العالم والمعلوم ، والإضافة بين الشيء ونفسه أو صورة زائدة على ذات المعلوم مساوية له ، فيلزم تعدّد الواجب ، وإذا لم يعلم ذاته لم يعلم غيره ؛ إذ علم الشيء بغيره بعد علمه بذاته ، فقد ضلّ ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ، فما أشنع وأقبح من أن يدّعي (١) مخلوق لنفسه الإحاطة العلميّة بجلائل الملك ودقائق الملكوت ، ويسمّي نفسه فيلسوفا حكيما ، ثمّ يرجع ويسلب العلم ـ بأيّ شيء كان من الأشياء ـ عن خالقه الحكيم العليم الذي أفاض ذوات العلماء ، ونوّر قلوبهم بمعرفة الأشياء.

والدليل النقليّ على هذا المطلب أيضا كثير ، كقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢) وقوله تعالى : ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (٣) وقوله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ ) (٤) وقوله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ ) (٥) وقوله تعالى : ( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) (٦) ونحو ذلك.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله عزّ وجلّ؟ قال : « لا ، بل كان في علمه قبل أن ينشئ السماوات والأرض ». (٧)

وعن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : « ... فلم يزل الله ـ عزّ وجلّ ـ علمه سابقا للأشياء قديما قبل أن يخلقها ... خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء » (٨).

وعن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهما‌السلام أنّه قال : « إنّ لله علما خاصّا وعلما عامّا ،

__________________

(١) تقدّمت المناقشة في ص ١٢٥.

(٢) الأنفال (٨) : ٧٥ ؛ التوبة (٩) : ١١٥ ؛ العنكبوت (٢٩) : ٦٢.

(٣) سبأ (٣٤) : ٣.

(٤) البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٥) الأنعام (٦) : ٥٩.

(٦) الأعلى (٨٧) : ٧.

(٧) « التوحيد » : ١٣٥ باب العلم ، ح ٦.

(٨) نفس المصدر : ١٣٧ ، ح ٨.

١٣٩

فأمّا العلم الخاصّ فالعلم الذي لم يطلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين. وأمّا علمه العامّ فإنّه علمه الذي أطلع عليه ملائكته المقرّبين وأنبياءه المرسلين. وقد وقع إلينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ لله لعلما لا يعلمه غيره ، وعلما يعلمه ملائكته المقرّبون وأنبياؤه المرسلون ، ونحن نعلمه ». (٢)

وعنه عليه‌السلام أنّه قال في العلم : « هو كيدك (٣) منه » (٤).

وعن الرضا عليه‌السلام أنّه قال بعد السؤال عن علمه تعالى قبل الأشياء : « إنّ الله هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال بعد سؤال الزنديق : « هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ، ويبصر بنفسه ، وليس قولي : إنّه سميع بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنّي أردت عبارة عن نفسي ؛ إذ كنت مسئولا ، وإفهامك ؛ إذ كنت سائلا ، فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ له بعضا لأنّ الكلّ لنا بعض ، ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك كلّه إلاّ أنّه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى » (٦) إلى غير ذلك من الأخبار ، كما سيأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

وبالجملة ، فإلى بعض ما ذكرنا أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : ( والإحكام ، والتجرّد ، واستناد كلّ شيء إليه دلائل العلم ، والأخير عامّ ) فقد نظمت ذلك بقولي :

__________________

(١) نفس المصدر : ١٣٨ ، ح ١٤.

(٢) نفس المصدر ، ح ١٥.

(٣) بمعنى أنّ العلم كمال له تعالى كما أنّ يدك كمال لك. ( منه رحمه‌الله ).

(٤) في المصدر : « وهو كيدك منك ».

(٥) « التوحيد » : ١٣٦ باب العلم.

(٦) « الكافي » ١ : ٨٣ باب إطلاق القول بأنّه شيء ، ح ٦ و: ١٠٩ باب آخر وهو من الباب الأوّل ، ح ٢ ؛ « التوحيد » : ١٤٢ ـ ١٤٥ باب صفات الذات وصفات الأفعال ، ح ١٠.

١٤٠