البراهين القاطعة - ج ٢

محمّد جعفر الأسترآبادي

البراهين القاطعة - ج ٢

المؤلف:

محمّد جعفر الأسترآبادي


المحقق: مركز العلوم والثقافة الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-766-6
ISBN الدورة:
964-371-509-4

الصفحات: ٥٦٨

ومراد؟ وهذا يدلّ على أنّ الإضافة المفتقرة إلى تحقّق المضافين نوع آخر أخصّ من هذا النوع وهو ما كان من باب الفوقيّة والتحتيّة ، وكون الشيء يمينا وشمالا ونحو ذلك.

والإشكال الثاني : أن يقال : إذا أجزتم حصول التمكّن الآن لا من أمر يقع الآن بل من أمر يقع في ثاني الحال ، فأجيزوا سبق العلّة على معلولها بالزمان ؛ لأنّ كليهما يشتركان في أنّ كلّ واحد منهما مؤثّر وفاعل.

والجواب : أنّ هذا قياس بجامع المشترك وهو المؤثّريّة ، وهو غير مفيد ، لجواز أن تكون خصوصيّة الإيجاب فارقة بين الموضعين هذا ، فتأمّل.

فإن قيل : الأولى أن يجاب عن هذا الدليل بما أجاب به عن الدليل الأوّل ؛ فإنّ وجوب وجود الأثر بالإرادة في حال الوجود لا ينافي إمكان الترك بالنظر إلى ذات القادر ؛ فإنّ التمكّن من الفعل والترك إنّما يكون بالنظر إلى ذات القادر من حيث هو قادر ، وهذا يتحقّق في كلتا حالتي الوجود والعدم.

وأمّا جواب المصنّف ، فيرد عليه أنّ ثاني الحال لا يخلو عن وجود الفعل وعدمه ، فيعود السؤال على التقديرين ، فلا تتحقّق القدرة على المستقبل ، ويحتاج إلى الجواب المذكور.

قلنا : الدليل الأوّل كان باعتبار منافاة الوجوب مع الإمكان بمعنى التساوي في الطرفين ، فيكفي في دفعه كونهما باعتبارين.

وأمّا السؤال الثاني ، فهو باعتبار منافاة الوجوب مع الإمكان الوقوعي ؛ فإنّ التمكّن بنفسه متضمّن للإمكان الوقوعي ، ولا تندفع هذه المنافاة بكونها من اعتبارين ؛ فإنّ اجتماع النقيضين ـ أعني الوقوع واللاوقوع ـ لا يمكن أن يتصحّح بحيثيّتين تعليليّتين.

وأمّا على ثاني الحال لا يخلو عن وجود الفعل وعدمه فغير ضائر ؛ لأنّ شيئا منهما ليس بمتعيّن في الحال لا بالنظر إلى القدرة ـ وهو ظاهر ـ ولا بحسب الإرادة ؛

١٠١

لإمكان تغيّرها في ثاني الحال ، فيمكن تحقّق التمكّن في الحال من كلّ منهما في ثاني الحال.

( وانتفاء الفعل ليس فعل الضدّ ) جواب عن ثالث.

تقريره : أنّ القادر على وجود الشيء يكون قادرا على عدمه أيضا ، لكنّ القدرة على العدم باطلة ؛ لأنّه نفي محض لا يصلح أثرا للمؤثّر ، ولأنّه في الأصل أزليّ ولا شيء من الأزليّ بمتعلّق للقدرة بالمعنى المتنازع فيه.

وتقرير الجواب : أنّ متعلّق القدرة هو انتفاء الفعل وهو يتحقّق بأن لا يفعل الفعل ، لا بأن يفعل العدم والنفي.

وتفصيله : أنّ المستدلّ إن أراد بقوله : « إنّ القادر على وجود الشيء قادر على عدمه أيضا » أنّه قادر على فعل العدم ، فهو ممنوع ، ومفهوم القدرة لا يستلزمه. وإن أراد أنّه قادر على أن لا يفعل ، فهو مسلّم ، وبطلان اللازم ممنوع ؛ لأنّ انتفاء الفعل لا يستلزم فعل الضدّ حتّى يبطل بالوجهين ، والعدم الأزليّ مقدور بهذا المعنى أي بأن لا يفعل الفعل فيستمرّ العدم ، أو يفعله فيزول.

وأيضا العدم لا يصلح أثرا للوجود ، لكنّه أثر للعدم بمعنى الاستتباع ؛ فإنّ عدم المعلول يترتّب على عدم العلّة على ما مرّ سابقا ، وهاهنا عدم الفعل يترتّب على عدم المشيّة ، فهو أثر للقدرة بهذا المعنى.

هذا ، وأورد على الدليل أنّه إذا لم يكن العدم أثرا للغير ، يلزم أن يكون عدم الحوادث لذواتها ، فيلزم امتناعها حال عدمها وانقلابها حال وجودها ، وأن لا ينعدم شيء من الموجودات الممكنة ؛ لاستحالة انعدامها بالذات بالضرورة ، وبالغير أيضا ؛ لما ذكره ، وأن يكون الممكن القديم واجب الوجود لذاته ؛ إذ لا يجوز عدمها بالغير ؛ لما ذكره ، ولا بالذات ؛ لكونه ممكنا ، فيلزم تعدّد الواجب على الحكماء.

وقد يدفع هذا الأخير بأنّ عدم جواز العدم عليها ليس نظرا إلى ذواتها ، بل لكون العدم غير صالح للتأثير وهو خارج عن ماهيات الممكنات ، فلا يلزم وجوبها

١٠٢

بالذات ، ويمكن بذلك دفع الأوّل أيضا ، كما لا يخفى.

واعلم أنّ أصل هذا الدليل شبهة حكاها الإمام في المحصّل (١) ولم يجب عنها ومحصولها : أنّ قول المتكلّمين : القادر هو الذي يجب أن يكون متردّدا بين الفعل والترك ، إنّما يصحّ لو كان الفعل والترك مقدورين له ، لكنّ الترك محال أن يكون مقدورا ؛ لأنّ الترك عدم والعدم نفي ، ولا فرق بين قولنا : لم يؤثّر أثرا ، وبين قولنا : أثّر تأثيرا عدميا. ولأنّ قولنا : « ما أوجد » أنّه بقي على العدم الأصلي ، وإذا كان العدم الحالي هو العدم الذي كان ، استحال استناده إلى القادر ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال ، فثبت أنّ الترك غير مقدور ، وإذا كان كذلك استحال أن يقال : إنّ القادر هو الذي يكون متردّدا بين الفعل والترك.

وأجاب عنه المصنّف في النقد (٢) بأن قال : لم لا يجوز أن يكون في الوجود حقيقة متمكّنة من أن يفعل الفعل في الثاني ، ومن أن لا يفعل الفعل في الثاني؟

فأمّا الإشكال الأوّل ـ وهو قوله : لا فرق بين قولنا : لم يؤثّر ، وبين قولنا : أثّر ـ فليس بلازم ؛ لأنّ بينهما فرقا معقولا كالفرق بين قولنا : لم يعلم وبين قولنا : علم لا ، فإنّا نعلم بالضرورة العدم المقيّد والعدم المطلق ، وكلاهما عدم ، وليس مفهوم قولنا : لا يعلم هو مفهوم قولنا : علم العدم ؛ لأنّ قولنا : لا يعلم قضيّة صادقة على الجماد والمعدوم وكلّ ما لا يعلم ، وقولنا : يعلم العدم لا يصدق على ذلك.

وكذلك يعقل الفرق بين قولنا : لا يجب وبين قولنا : يجب لا ؛ فإنّ الجسم لا يجب وجوده وهو قضيّة صادقة ، ولا تصدق الأخرى وهي قولنا : يجب لا وجوده ؛ لأنّه لو وجب « لا وجوده » ، لما وجدت الأجسام.

وأمّا الإشكال الثاني ـ وهو قولنا : ما أوجد معناه أنّه بقي على العدم الأصليّ ـ فالجواب عنه أنّ هذا الكلام إمّا أن يفرض في البارئ تعالى ، أو فينا.

__________________

(١) « نقد المحصّل » : ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٢) « نقد المحصّل » : ٢٧٦.

١٠٣

فإن فرض في البارئ تعالى ، فإمّا أن يفرض فيه قبل أن خلق العالم والزمان ، أو بعد أن خلق العالم والزمان ، فإن فرض قبل الخلق ، فليس قبل خلق العالم أمر يستمرّ ويتصرّم أوّلا فأوّلا ليصدق عليه أنّه كاستمرار بقاء الجسم ودوامه ، فكما أنّ الاستمرار الوجودي لا يتعلّق به القدرة ، فكذلك الاستمرار العدميّ ، فقد بطل على هذا الفرض ما ابتنى عليه الإشكال.

وإن فرض الكلام فينا ، أو في البارئ تعالى بعد خلق العالم والزمان ، فالجواب أنّ العدم مستمرّ بحسب استمرار الزمان حالا فحالا ، ونحن لا نقول : إنّه متمكّن من العدم الحالي ، كما لا نقول في طرف الوجود : إنّه متمكّن من الوجود الحالي ، بل كما قلنا في طرف الوجود : إنّه متمكّن الآن من الإيجاد في الثاني ، كذلك نقول في طرف العدم : إنّه الآن متمكّن من أن لا يوجد في الثاني ، وعدم الفعل في الثاني ليس هو العدم الحاصل الآن ليلزم من قولنا : « إنّه متمكّن منه » أن نقول بتحصيل الحاصل ، بل هو عدم غير العدم الحالي ، فقد بان أنّ الإشكال مندفع على كلا الفرضين ، هذا.

ثمّ إنّ الإمام حكى شبهة أخرى (١) ، ومحصولها : أنّ البارئ لو كان قادرا لكانت قادريّته إمّا أن تكون أزليّة ، أو لا تكون.

والأوّل محال ؛ لأنّ التمكّن من التأثير يستدعي صحّة الأثر لكن لا صحّة في الأزل ؛ لأنّ الأزل عبارة عن نفي الأوّليّة ، والحادث ما يكون مسبوقا بغيره ، والجمع بينهما محال.

والثاني أيضا محال ؛ لأنّ قادريّته إذا لم تكن أزليّة ، كانت حادثة ، فافتقرت إلى مؤثّر ، فإن كان المؤثّر مختارا ، عاد البحث كما كان. وإن كان موجبا ، كان المبدأ الأوّل موجبا.

__________________

(١) راجع « المحصّل » : ٣٧٨ ـ ٣٨٠.

١٠٤

وأجاب عنهما الناقد البارع (١) ـ قدس‌سره ـ بأنّ هذه الشبهة مبنيّة على كون توهّم الأزل حالة معيّنة منفصلة عن الحالة الأخرى المسمّاة « لا يزال » ، وهذا توهّم فاسد ؛ فإنّه ليس الأزل حالة معيّنة يمتنع فيها الفعل ، ولا « لا يزال » حالة أخرى يصحّ فيها الفعل ، والمعقول من الأزل انتفاء الأوّليّة فقط ، وإذا كان كذلك ، فمعنى قولنا : إنّ البارئ سبحانه لم يزل قادرا ـ إن توهّمنا العدم مستمرّا قبل خلق العالم ـ أنّه لا حال من الأحوال فيما مضى إلاّ ويصدق عليه فيها أنّه قادر على أن يفعل ، وهذه القضيّة لا يناقضها قولنا : العالم مستحيل أن يكون قديما ؛ لأنّه لا منافاة بين قولنا : الحادث الذي له كون زماني يجوز تقديم حدوثه على وقت حدوثه ، ولا يقف هذا التقديم على المحكوم بجوازه على أوّل ينقطع هذا الحكم عنده ، ويقال : إنّه قبل هذا الأوّل بلحظة لا يجوز حدوثه فيه ، وبين قولنا : الحادث الذي له كون زمانيّ يستحيل أن يكون قديما ؛ لأنّه لو كان قديما ، لاجتمع له أنّه قديم ، وأنّ له كونا زمانيّا ، وذلك متناقض.

وإنّما قلنا : إنّه لا منافاة بين القولين ؛ لأنّهما قد صدقا معا ، فلو كان بينهما منافاة لم يصدقا ، فقد بان أنّه لا منافاة ولا مناقصة بين قولنا : لم يزل البارئ تعالى قادرا ، وبين قولنا : الحادث لا يصحّ أن يكون قديما.

وإن بني الكلام على بطلان توهّم كون العدم قبل العالم مستمرّا ، كان الجواب عن الشبهة أسهل ؛ لأنّه يكون معنى قولنا : البارئ تعالى لم يزل قادرا أنّ من لوازم ذاته المقدّسة صحّة أن يفعل ، ومضمون قولنا : « صحّة أن يفعل » أن يحدث ، ولا يلزم من قولنا : هذه الذات لها لازم ـ وهو صحّة أن يحدث ـ أن يكون لها لازم آخر ، وهو أن يخلق القديم ؛ لأنّ القديم لا يخلق ، فإذا قيل لنا : هذا قادريّته أزليّة أم لا؟ قلنا للسائل : أتعني أنّ ذاته من لوازمها ـ التي لا تنفكّ عنها كما لا تنفكّ الثلاثة عن

__________________

(١) راجع « نقد المحصّل » : ٢٧٤ ـ ٢٧٧.

١٠٥

الفرديّة ـ أن يتمكّن من أن يفعل ، أم تعني به أنّ من لوازمها أن تجمع بين الشيء ونقيضه؟

فإن قال : سألتكم عن الثاني ، قيل له : الجواب لا ؛ إذ ليس من لوازمها أمر يستحيل عقلا ، فليس معنى قولنا : إنّها لم تزل قادرة أنّها تتمكّن من جعل ما لا يتصوّر أن يكون قديما قديما.

وإن قال : سألتكم عن الأوّل ، قيل له : نعم ، هي ذات من لوازمها صحّة أن يفعل ، لكن لا يصدق مسمّى أن يفعل إلاّ مع الحدوث ، فإذن هي مستلزمة لأمر لا يعقل إلاّ مع الحدوث ، فلا يلزم أن يستلزم أمرا غير ذلك يناقض الحدوث انتهى. (١)

[ في عموم قدرته تعالى ]

ولمّا أثبت قادريّته تعالى أشار إلى إثبات أنّ قدرته شاملة لجميع الممكنات ، فقال : ( وعموميّة العلّة ) أي علّة المقدوريّة وهي الإمكان ؛ لأنّه علّة الحاجة إلى المؤثّر ، وهو إمّا موجب أو قادر ، ويجب انتهاء كلّ منهما إلى المؤثّر القادر ، على ما مرّ ، فكلّ ممكن فهو ممكن الصدور عن المؤثّر مطلقا ، وكلّ ممكن الصدور عن المؤثّر مطلقا ، فهو ممكن الصدور عن المؤثّر القادر الذي ينتهي إليه كلّ مؤثّر من حيث هو قادر أعني نظرا إلى مجرّد قدرته وإن كان قد يمتنع نظرا إلى إرادته وعلمه بنظام الخير ، وهو ـ أعني الإمكان ـ عامّ للممكنات ، فعموميّته ( تستلزم عموميّة الصّفة ) أي المقدوريّة بالمعنى المذكور ، فجميع الممكنات مقدورة له تعالى بالمعنى المذكور وهو المطلوب.

واستدلّ على عموم قدرته تعالى في المشهور ـ على ما في المواقف (٢) وشرحه ـ بأنّ المقتضي للقدرة هو الذات ؛ لوجوب استناد صفاته إلى ذاته ، والمصحّح

__________________

(١) كلام المحقّق الطوسيّ الذي نقله اللاهيجي عنه بشيء من التصرّف.

(٢) « شرح المواقف » ٨ : ٦٠.

١٠٦

للمقدوريّة هو الإمكان ؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدوريّة ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء ، فإذا ثبتت قدرته على بعضها ثبتت على كلّها ، وذلك بناء على أنّ المعدوم ليس بشيء ، وإنّما هو نفي محض لا امتياز فيه أصلا ، ولا تخصيص ليتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه خلافا للمعتزلة ، وعلى أنّ المعدوم لا مادّة له ولا صورة خلافا للحكماء ، وإلاّ لم يمتنع اختصاص البعض بمقدوريّته تعالى دون بعض كما يقوله الخصم.

فعلى قاعدة الاعتزال جاز أن يكون خصوصيّة بعض المعدومات الثابتة المتميّزة مانعة من تعلّق القدرة به.

وعلى قانون الحكماء جاز أن تستعدّ المادّة لحدوث ممكن دون آخر ، وعلى التقديرين لا تكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ولا بدّ أيضا من تجانس الأجسام ؛ لتركّبها من الجواهر المفردة المتماثلة ، الحقيقيّة ليكون اختصاصها ببعض الأعراض لإرادة الفاعل المختار ؛ إذ مع تخالفها جاز أن يكون ذلك الاختصاص لذواتها ، فلا قدرة على إيجاد لبعض آخر منها.

وهذا الاستدلال ضعيف ؛ لأنّ نفي شيئيّة المعدوم في الخارج لا يستلزم نفي التمايز عن المعدومات مطلقا ؛ ضرورة أنّ لمفهوم العدم أفرادا متمايزة عند العقل يختصّ كلّ منها بأحكام مخصوصة صادقة في نفس الأمر ؛ فإنّ عدم العلّة موجب لعدم المعلول من غير عكس ، وعدم الشرط مناف لوجود المشروط ، وعدم المشروط لا ينافي وجود الشرط إلى غير ذلك ، على ما مرّ في مباحث الأمور العامّة.

وأيضا لامكان مجال المناقشة على قواعد الحكماء ، فالأولى هو التمسّك بالنصوص الدالّة على شمول قدرته تعالى ، كقوله : ( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١)

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٨٤ ؛ آل عمران (٣) : ٢٩ و ١٨٩ ؛ المائدة (٥) : ١٩ و ٤٠ ؛ الأنفال (٨) : ٤١ ؛ التوبة (٩) : ٣٩ ؛ الحشر (٥٩) : ٦.

١٠٧

وأمثال ذلك كذا في شرح المقاصد. (١)

ثمّ إنّ الشارح العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ حمل كلام المصنّف هاهنا على اختيار مذهب الأشاعرة والإشارة إلى الاستدلال المذكور ، فقال : « يريد بيان أنّه تعالى قادر على كلّ شيء وهو مذهب الأشاعرة ، وخالف أكثر (٢) الناس في ذلك ـ ثمّ ذكر مقالاتهم ، ثمّ قال ـ : وهذه المقالات كلّها باطلة ؛ لأنّ المقتضي لتعلّق القدرة بالمقدور إنّما هو الإمكان ؛ إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلّق ، والإمكان مساو في الجميع ، فثبت الحكم وهو صحّة التعلّق. وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : « وعموميّة العلّة » أي الإمكان « تستلزم عموميّة الصفة » أي القدرة. انتهى. (٣)

وأنا أقول : إنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : أنّ الله تعالى قادر على كلّ ممكن سواء تعلّقت به القدرة فوجد ، أم لا فلم يوجد ، أو وجد بقدرة مخلوق. وهذا هو الذي حملنا كلام المصنّف عليه. والقول بعموم القدرة بهذا المعنى غير مختصّ بالأشاعرة ، بل أكثر الملّيين قائلون به كما ستعلم عن قريب إن شاء الله.

والثاني : أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور. وهذا أخصّ من الأوّل ؛ لجواز أن يكون من الممكن ما ليس بموجود فضلا عن أن يكون مقدورا لقادر.

وهذا المقام الثاني قد يفسّر بأنّ كلّ ما يوجد من الممكنات فهو معلول له تعالى بالذات ، أو بالواسطة ، وهذا ممّا لا نزاع فيه لأحد من القائلين بوحدة الواجب ، وإنّما الخلاف في كيفيّة الاستناد ووجود الوسائط وتفاصيلها ، وأنّ كلّ ممكن إلى أيّ

__________________

(١) « شرح المقاصد » ٤ : ١٠١.

(٢) وهي الفلاسفة ، قالوا : إنّ الله قادر على شيء واحد. والمجوس ذهبوا إلى أنّ الخير من الله والشرّ من الشيطان ، والثنويّة إلى أنّ الخير من النور والشرّ من الظلمة ، والنّظام إلى أنّ الله لا يقدر على مثل مقدور العبد ، والجبائيان إلى أنّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد. ( منه رحمه‌الله ).

(٣) أي كلام العلاّمة قدس‌سره في « كشف المراد » : ٢٨٣.

١٠٨

ممكن يستند حتّى ينتهي إلى الواجب.

وقد يفسّر بأنّ ما سوى الله من الموجودات واقع بقدرته وإرادته ابتداء ، وهذا هو بعينه مذهب الأشاعرة. وظاهر أنّ ذلك ليس بمختار عند المصنّف ، فلا وجه لحمل كلام المصنّف على مذهب الأشاعرة.

والشارح القديم أيضا حمل (١) كلام المصنّف على الاستدلال المشهور بحمل العلّة على المصحّح لا الموجب ، ولذلك علّل كون علّة المقدوريّة هو الإمكان بأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدوريّة. وكذا العلاّمة (٢) ـ رحمه‌الله ـ حيث علّل بأنّه مع الوجوب والامتناع لا تعلّق. وأمّا نحن ، فإنّا حملنا العلّة على الموجب ؛ لما ذكرنا من ضعف الدليل المذكور ، كيف؟ ومجرّد وجود المقتضي والمصحّح غير كاف بدون وجود الشرط وعدم المانع ، فيجوز اختصاص بعض الممكنات بشرط لتعلق القدرة ، أو بمانع عنه.

وأمّا الشارح القوشجي فهو أيضا حمل العلّة على الموجب (٣) كما حملناها عليه ، لكن لم يتفطّن بوجه الاستدلال ، فأورد عليه أنّا لا نسلّم أنّ الإمكان هو علّة المقدوريّة ، بل هو علّة الحاجة إلى المؤثّر ، والمؤثّر إمّا موجب أو قادر ، هذا.

واعلم : أنّ المنكرين لعموم قدرته تعالى في المقام الأوّل طوائف :

فمنهم الثنويّة القائلون (٤) بأنّ للعالم إلهين : نورا هو مبدأ الخيرات ، وظلمة هو مبدأ الشرور ، وكذا المجوس القائلون بأنّ مبدأ الخيرات هو « يزدان » ومبدأ الشرور هو

__________________

(١) لم نعثر على شرحه.

(٢) « كشف المراد » : ٢٨٣.

(٣) « شرح تجريد العقائد » : ٣١١.

(٤) للتعرّف على أقوال الثنوية والمجوس وأجوبتها راجع « الملل والنحل » ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ؛ « نقد المحصّل » : ٣٠٠ ؛ « كشف المراد » : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ؛ « أنوار الملكوت » : ٩٠ ؛ « مناهج اليقين » : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦٢ ـ ٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٢ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٣١٢ ؛ « شرح المنظومة » : ١٥٣ ـ ١٥٥.

١٠٩

« أهر من » وحاصل شبهتهم أنّ في العالم خيرات وشرورا ، فلو كان مبدأ الخير والشرّ واحدا ، لزم كون الواحد خيّرا وشرّيرا وهو محال.

والجواب ـ على ما في كتب القوم ـ هو منع اللزوم إن أريد بالخيّر من غلب خيره ، وبالشّرير من غلب شرّه ، ومنع استحالة اللازم إن أريد خالق الخير وخالق الشرّ في الجملة ، غاية الأمر أنّه لا يصحّ إطلاق الشرّير عليه تعالى ؛ لظهوره فيمن غلب شرّه ، أو لعدم التوقيف من الشرع.

وهذا الجواب لا يحسم مادّة الشبهة ؛ إذ لهم أن يقرّروها بأنّ الله تعالى صرف الوجود ومحض الخيريّة ، فيمتنع أن يصدر عنه الشرّ الذي مناطه ليس إلاّ العدم على ما تقرّر في موضعه سواء كان الشرّ غالبا أو مغلوبا ؛ لامتناع صدور العدم وفيضانه من الوجود.

بل حقّ الجواب أن يقال : إنّ الشرور الذاتيّة ـ أعني الأعدام بما هي أعدام ـ لا تستدعي علّة موجودة ، بل علّتها عدم الوجود كما تقرّر في محلّه.

وأمّا التي هي شرور بالعرض ـ كمصادفة النار للثوب والقاطع للعضو ـ فهي من حيث كونها شرورا صادرة عن المبدأ الموجود الذي هو صرف الوجود بالعرض لا بالذات والمحال هو صدور الشرّ عن الخير المحض بالذات لا بالعرض ، هذا.

ونقل عن أرسطو (١) في دفع شبهة الثنويّة أنّ الأشياء على خمسة احتمالات : ما لا خير فيه ، وما لا شرّ فيه ، وما يتساويان فيه ، وما خيره غالب ، وما شرّه غالب. وذات الواجب بالذات لمّا لم يمكن أن يصير مبدأ للشرور وجب أن لا يصدر عنه إلاّ قسمان من هذه الأقسام ، أي ما لا شرّ فيه ، وما خيريّته غالبة ؛ لأنّ ترك الخير

__________________

(١) راجع « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٤ ؛ « القبسات » : ٤٣٢ ـ ٤٤٣ ؛ « الأسفار الأربعة » ٧ : ٦٨ ـ ٧٠ ؛ « شرح المنظومة » : ١٥٣ ـ ١٥٥.

١١٠

الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، وأنّه قد تفاخر بذلك.

وتحقيقه ما ذكرنا ، وإلاّ لورد عليه أنّ صدور الشرّ عن الخير المحض إذا كان ممتنعا فسواء في ذلك قليله وكثيره. وأمّا إذا قلنا بامتناع الصدور بالذات دون بالعرض ، فيتفاوت القليل والكثير في ذلك ؛ لامتناع أن يكون ما بالعرض زائدا على ما بالذات ، أو مساويا له ، فليتدبّر.

ثمّ إنّ المذكور في حكمة الإشراق وشرحه (١) أنّ القول بالنور والظلمة كان طريقة أهل الإشراق من حكماء الفرس ، وهو رمز على الوجوب والإمكان ، لا أنّ المبدأ الأوّل اثنان : أحدهما نور ، والآخر ظلمة ؛ لأنّ هذا لا يقوله عاقل فضلا عن فضلاء فارس الخائضين غمرات العلوم الحقيقيّة ، ولهذا قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في مدحهم : لو كان الدين بالثريّا ، لتناولته رجال من فارس (٢). وأنّ هذا الذي يقوله حكماء الفرس ليس قاعدة كفرة المجوس القائلين بظاهر النور والظلمة ، وأنّهما مبدءان أوّلان ؛ لأنّهم مشركون لا موحّدون. وليس أيضا الحادماني البابلي الذي كان نصرانيّ الدين ، مجوس الطين ، وإليه ينسب الثنويّة القائلون بإلهين : أحدهما إله الخير وخالقه ، والآخر إله الشرّ وخالقه ، هذا.

ومنهم في المشهور (٣) : الفلاسفة القائلون بامتناع أن يصدر عن الواحد إلاّ الواحد. وقد مرّ في مباحث الأمور العامّة.

وأمّا ما قيل أنّهم أنكروا أصل القدرة (٤) ، فلا معنى لعدّهم من منكري عمومها ،

__________________

(١) « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١١ ؛ « شرح حكمة الإشراق » لقطب الدين الشيرازي : ١٨ ـ ١٩ ؛ « شرح حكمة الإشراق » للشهرزوري : ٢٢ ـ ٢٤.

(٢) « قرب الإسناد » : ١٠٩ ، ح ٣٧٧ ؛ « حلية الأولياء » ٦ : ٦٤.

(٣) أي المشهور بين المتكلّمين. راجع « المحصّل » : ٤١٧ ؛ « كشف المراد » : ٢٨٣ ؛ « مناهج اليقين » : ١٦٢ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦١ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٨٧.

(٤) هو ظاهر كلام بعض المتكلّمين ـ راجع « المحصّل » : ٣٧٢ وما بعدها ؛ « نقد المحصّل » : ٢٦٩ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٨٢ وما بعدها ؛ « مناهج اليقين » : ١٦١ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٤٩ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ٩٦.

١١١

ففساده ظاهر ممّا مرّ إلاّ أن يكون مراده أنّهم منكرون للقدرة بالمعنى المتنازع فيه ، فليتأمّل.

وإنّما قلنا : « في المشهور » لأنّ التحقيق أنّ الحكماء وإن قالوا بالوسائط ، لكن لا مؤثّر عندهم في الحقيقة إلاّ الله ، والوسائط ليست إلاّ جهات الصدور والتأثير ، لا مؤثّرة بالاستقلال.

وناهيك في ذلك كلام بهمنيار في التحصيل حيث قال : فإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن يكون علّة الوجود إلاّ ما هو بريء من كلّ الوجه من معنى ما بالقوّة وهذا هو صفة الأوّل تعالى لا غير ؛ إذ لو كان مفيدا لوجود ما فيه معنى ما بالقوّة سواء كان عقلا أو جسما كان للعدم شركة في إفادة الوجود ، وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل (١). انتهى.

وتحقيقه أنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ مشتمل على ما بالقوّة ولو بحسب الذات فقط ، وهو الذي له من جهة ذاته ، وعلى ما بالفعل ، وهو الذي له من جهة مبدئه الحقيقي ، فما يصدر منه إنّما يصدر من الجهة التي هي له من المبدأ ، لا من الجهة التي هي له من ذاته ؛ فإنّ ما له من ذاته ليس إلاّ العدم والقوّة ، فلو صدر عنه من هذه الجهة شيء لزم كون العدم والقوّة مؤثّرا في الوجود والفعليّة ، هذا.

ومنهم : النظّام (٢) وأتباعه القائلون بأنّه لا يقدر على خلق القبائح ؛ لإفضائه إلى الجهل والسفه ، تعالى عن ذلك.

ومنهم : القائل (٣) بأنّه لا يقدر على ما علم أنّه لا يقع ؛ لاستحالة وقوعه ، وكذا

__________________

(١) « التحصيل » : ٥٢١ ـ ٥٢٢.

(٢) « مقالات الإسلاميّين » ٢ : ٢٣٢ ؛ « الملل والنحل » ١ : ٥٤ ؛ « المحصّل » : ٤١٨ ؛ « كشف المراد » : ١٨٣ ؛ « مناهج اليقين » : ١٦٢ ؛ « أنوار الملكوت » : ٨٩ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٢ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٨٨.

(٣) القائل هو معمّر بن عبّاد السلميّ على ما في « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٣ ، أو عبّاد بن سليمان الصيمريّ على ما في غيره. انظر : « مقالات الإسلاميّين » ١ : ٢٧٧ ؛ « المحصّل » : ٤١٩ ؛ « مناهج اليقين » : ١٦٣ ؛ « أنوار الملكوت » : ٩٠.

١١٢

ما علم أنّه يقع ؛ لوجوبه.

ومنهم : الكعبي (١) وأتباعه القائلون بأنّه لا يقدر على مثل مقدور العبد حتّى لو حرّك جوهرا إلى حيّز وحرّكه العبد إلى ذلك الحيّز ، لم تتماثل الحركتان ؛ وذلك لأنّ فعل العبد إمّا عبث أو سفه أو طاعة ، بخلاف فعل الربّ.

ومنهم : الجبائيان (٢) وأتباعهما القائلون بأنّه لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم إمكان وقوع الفعل والترك معا في وقت واحد إذا اختلفا فيهما ، وإمكان وقوع واحد بمؤثّرين مستقلّين إذا اتّفقا في أحدهما.

والجواب عن الكلّ ـ بعد شبهة الثنويّة والمجوس وتحقيق مذهب الحكماء ـ هو أنّ شيئا ممّا تمسّكتم به ـ على تقدير تمامه ـ لا يدلّ على امتناع الصدور نظرا إلى مجرّد القدرة كما هو المطلوب على ما مرّ ، غاية ما في ذلك إنّما هو امتناع الصدور لمانع ، فلا ينافي إمكانه من حيث هو ، هذا.

وأمّا منكر عموم القدرة في المقام الثاني بحسب التفسير الثاني بعد الثنويّة والمجوس ، فالمعتزلة القائلون باستناد أفعال العباد إليهم ، والحكماء القائلون بوجوب الوسائط في صدور الكثرة عنه تعالى » (٣).

المسألة الثانية : في الصفة الثانية

الثابتة لواجب الوجود بالذات الصانع للممكنات ، أعني علمه تعالى بالذات وبالمعلولات في مقام الذات.

__________________

(١) هو أبو القاسم البلخيّ المعروف بالكعبيّ. راجع « المحصّل » : ٤٢٠ ؛ « كشف المراد » : ٢٨٣ ؛ « مناهج اليقين » : ١٦٣ ؛ « أنوار الملكوت » : ٩١ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦٣ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٣ ؛ « إرشاد الطالبين » : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٢) « المحصّل » : ٤٢٠ ؛ « كشف المراد » : ٢٨٣ ؛ « مناهج اليقين » : ١٦٤ ؛ « أنوار الملكوت » : ٨٨ ؛ « شرح المواقف » ٨ : ٦٤ ؛ « شرح المقاصد » ٤ : ١٠٢.

(٣) « شوارق الإلهام » : ٥٠٥ ـ ٥٠٩ ، وقد صحّحنا النقل على المصدر.

١١٣

اعلم أوّلا : أنّ العلم من الكيفيّات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة ، بمعنى أنّها تكون من بين الأجسام للحيوان دون النبات والجماد ، فلا ينافي ثبوت بعضها لبعض المجرّدات كالعقول.

والكيفيّة إن كانت راسخة سمّيت ملكة. وإن كانت غير راسخة سمّيت حالا.

والعلم قد يطلق ويراد منه الصورة الحاصلة في الذهن ، وهي إن كانت إذعانا وقبولا للنسبة تسمّى تصديقا ، وإلاّ تصوّرا. والتصديق إن كان مع تجويز نقيضه يسمّى ظنّا ، وإلاّ يسمّى جزما واعتقادا. والجزم إن لم يكن مطابقا للواقع يسمّى جهلا مركّبا ، وإن كان مطابقا له ، فإن كان ثابتا ـ أي ممتنع الزوال بالتشكيك ـ يسمّى يقينا ـ ولو كان في النظريّات ؛ فإنّها أيضا لا تزول بالتشكيك بعد حصولها ولو حصل الغفلة عن مبادئها كما في المسائل الحسابيّة ؛ فإنّها إذا تيقّن بها عن مبادئها التي لا شبهة فيها ، لم يتطرّق إليها شكّ وإن غفل عن خصوص تلك المبادئ ، فلا يلزم انحصار العلم اليقيني في الضروريّات ـ وإلاّ يسمّى تقليدا.

وقد يطلق ويراد به اليقين فقط.

وقد يطلق ويراد به ما يتناول اليقين والتصوّر مطلقا. وفسّر العلم بهذا المعنى بأنّه صفة توجب لمحلّها تميّزا لا يحتمل متعلّق ذلك التميّز نقيض ذلك التميّز ، والصفة ما يقوم بغيره ، فيتناول العلم وغيره.

وبتقييدها بكونها موجبة لتمييز محلّها ـ الذي هو النفس ـ بشيء يخرج غير العلم من الصفات التي لا توجب التمييز ، بل توجب تميّز محلّها عن غيره كالقدرة ؛ فإنّها توجب تميّز محلّها عن العاجز لا تميّزه بشيء ، بخلاف العلم ؛ فإنّه يوجبهما معا.

وقيد « عدم احتمال متعلّق ذلك التميّز نقيضه » مخرج الصفات الإدراكيّة التي توجب التمييز مع احتمال متعلّقه نقيضه كالظنّ والجهل المركّب والتقليد ؛ فإنّا إذا قلنا : « زيد قائم » فقد حصل لنا تمييز متعلّق بنسبة القيام إلى زيد يحتمل السلب ، بمعنى أنّا لو أخطرنا هذا السلب بالبال ، فجوّزناه في الحال ، وفي صورة الجهل

١١٤

المركّب والتقليد وإن لم نجوّزه في الحال ، لكن يمكن أن يظهر أمر يوجب أن يسلب القيام عن زيد ، فلم يبق في الحدّ من التصديقات إلاّ التصديق الجازم المطابق الثابت أعني اليقين ، وتناوله للتصوّرات بأسرها بناء على أنّها لا نقيض لها.

واعترض (١) على هذا الحدّ بأنّه يوجب أن لا يكون التصديق ـ أعني النفي والإثبات ـ علما ، بل ما يوجبهما ، وأن لا يكون التصوّر أيضا علما ، بل ما يوجبه ، فالصواب أن يقال : إنّه تمييز لا يحتمل متعلّقة نقيض ذلك التمييز ، فتأمّل.

وقد يقال (٢) : إنّ العلم لا يحدّ ؛ لأنّه بديهيّ التصوّر ، والتحديد يكون للكسبي ، وما ذكروه في معرض التعريف تعريف له بحسب اللفظ ، والأشياء البديهيّة قد تعرّف بحسب اللفظ.

وردّ بأنّه إن أراد أنّ تصوّره بوجه ما بديهيّ ، فلا نزاع في بداهته ، وإن أراد تصوّره بكنه حقيقته ، فهو ممنوع ؛ لأنّه عين المتنازع فيه.

وقد يقال (٣) : لا يمكن أن يحدّ العلم ؛ لأنّ غير العلم لا يعلم إلاّ بالعلم ، فلو علم العلم بغيره ، لزم الدور ؛ لتوقّف معلوميّة كلّ منهما على معلوميّة الآخر.

واعترض (٤) عليه بأنّ معلوميّة غير العلم إنّما تكون بحصول علم جزئي متعلّق بذلك الغير ، لا بمعلوميّة حقيقة العلم ، والموقوف على معلوميّة الغير هو معلوميّة حقيقة العلم ، لا حصول العلم الجزئيّ ، فلا دور.

وبالجملة ، فهو قد يكون حصوليّا ، وقد يكون حضوريّا. لا بدّ في العلم الحصوليّ من انطباع شبح ومثال من المعلوم في النفس مغاير له ، لا نفسه ، فلا يلزم أن يكون

__________________

(١ ـ ٤) للتعرّف على الأقوال الواردة في تحديد العلم والاعتراضات عليها راجع « المحصّل » : ٨١ ؛ « المباحث المشرقية » ١ : ٤٥٠ ـ ٤٥٣ ؛ « نقد المحصّل » : ٦ وما بعدها ؛ « كشف المراد » : ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ؛ « أنوار الملكوت » : ١٢ ـ ١٣ ؛ « مناهج اليقين » : ٨٦ ـ ٨٧ ؛ « نهاية المرام » ٢ : ٥ ـ ٨ ؛ « شروح الشمسية » ١ : ٥٥ ؛ « شرح المواقف » ١ : ٦١ ـ ٨٦ ؛ « شرح المقاصد » ١ : ١٨٩ ـ ١٩٧ ؛ « إرشاد الطالبين » ١٠١ ـ ١٠٢ ؛ « جامع العلوم » ٢ : ٣٤١ ؛ « كشّاف اصطلاحات الفنون » ٢ : ١٢٢٠ ـ ١٢٢٥ ؛ « الأسفار الأربعة » ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤١٦ ؛ « شرح تجريد العقائد » : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

١١٥

النفس حارّا باردا مستقيما معوجّا إلى غير ذلك من الصفات المتضادّة الممتنعة الحصول للنفس.

وأمّا الحضوريّ ـ كعلمنا بذواتنا والأمور القائمة بها ـ فليس فيه ارتسام وانطباع ، بل هناك حضور المعلوم بحقيقته ـ لا بمثاله ـ عند العالم ، وهو أقوى من العلم الحصوليّ ؛ ضرورة أنّ انكشاف الشيء على آخر لأجل حضوره بنفسه عنده أقوى من انكشافه عليه لأجل حصول مثاله عنده.

وقد يقال (١) : إنّ علمه تعالى بالأشياء من هذا القبيل ؛ لامتناع حصول صور الأشياء في ذاته تعالى.

واستشكل بالنسبة إلى المعدومات خصوصا والممتنعات ، ولهذا قيل (٢) : إنّ علمه تعالى بها بحصول صورها في مجرّد آخر. وتحقيقه سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

والقول باتّحاد العالم بالمعلوم عند العلم أو بالعقل الفعّال (٣) فاسد ؛ لأنّ الاثنين لا يتّحدان ، والعلم الواحد لا يتعلّق بمعلومين فصاعدا على التفصيل ، بل يختلف باختلاف المعلوم ، ولا يتحقّق العلم إلاّ بأن يكون هناك إضافة ، بمعنى أنّه أمر حقيقيّ يستلزم تلك الإضافة ، لا نفسها.

والإشكال بلزوم اجتماع صورتين متماثلتين في صورة اتّحاد العالم والمعلوم أعني صورة علم الشيء بنفسه ، وبأنّه للإضافة عند الاتّحاد ، فلا يتحقّق العلم ؛ لانتفاء لازمه الذي هو الإضافة مدفوع بأنّ علم الشيء بنفسه علم حضوريّ ، فلا اجتماع. وبأنّ إحدى الصورتين موجودة بوجود أصيل ، والأخرى بوجود ظلّيّ ، وبذلك

__________________

(١) « التلويحات » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ١ : ٧٠ ـ ٧٦ ؛ « حكمة الإشراق » ضمن « مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق » ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٣.

(٢) القائل هو ثاليس الملطيّ ، على ما نقله الشهرستانيّ في « الملل والنحل » ٢ : ٦٢.

(٣) قال به فرفوريوس وأتباعه من المشّائين ، راجع « الإشارات والتنبيهات مع الشرح » ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ؛ « شرح تجريد العقائد » للقوشجي : ٢٥١ ؛ « شوارق الإلهام » : ٤١٧.

١١٦

تمتازان ، فلا استحالة. وبأنّ التغاير الاعتباريّ كاف لتحقّق النسبة وهو حاصل ؛ لمغايرة كون الشيء عالما لكونه معلوما.

وهو عرض ؛ لوجود حدّه فيه.

وما قيل : من أنّ الصورة المعقولة من الجوهر جوهر لا عرض ؛ لصدق حدّ الجوهر عليها وهو أنّه ماهيّة إذا وجدت في الخارج ، كانت لا في الموضوع ؛ لأنّها وإن كانت بحسب الوجود الذهنيّ في الذهن ، لكنّها بحسب الوجود الخارجيّ لا يكون في موضوع كصورة الحيوان ؛ فإنّها إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع والجوهريّة والعرضيّة بحسب الوجود الخارجيّ.

فمردود بأنّه من باب اشتباه العلم بالمعلوم ؛ فإنّ المعلوم كالحيوان ـ مثلا ـ عين كونه معلوما ، موجود في الذهن ، وإذا وجد في الخارج يكون لا في موضوع ، فيصدق عليه حدّ الجوهر دون العرض.

وأمّا صورته العقليّة ـ أعني العلم به ـ فليست موجودة في الذهن بل في الخارج ، وفي وجودها الخارجيّ موجودة في موضوع هو الذهن ، فهي قائمة بالذهن لا موجودة فيه ، فيصدق عليها حدّ العرض لا الجوهر.

والعلم إمّا أن يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج كما إذا تصوّرت شيئا ففعلته ، ويسمّى فعليّا ، أو يكون مسبّبا عن وجود المعلوم كما إذا شاهدت شيئا فتعقّلته ، ويسمّى انفعاليّا ، لا هذا ولا ذاك كما إذا تصوّرت الأمور المستقبلة التي ليست فعلا لك.

وثانيا : (١) أنّ العلم ينقسم إلى الضروري ، والنظري المنقسم إلى الكسبيّ واللدنّيّ الموهبيّ.

__________________

(١) عطف على قوله « اعلم أوّلا » في ص ١١٣.

١١٧

وأقسام الضروريّ ستّة : البديهيّات ، والمشاهدات ، والفطريّات ، والتجربيّات ، والحدسيّات ، والمتواترات ؛ لأنّ القضايا إمّا أن يكون تصوّر أطرافها ـ بعد شرائط الإدراك من الالتفات وسلامة الآلات ـ كافيا في حكم العقل ، أولا.

فالأوّل البديهيّات ، كالحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء ، وتسمّى أوّليّات أيضا.

والثاني إمّا أن يتوقّف على واسطة غير الحسّ ، أولا.

والثاني المشاهدات ، وتسمّى حسّيّات أيضا ، وتعمّ الإدراكات بالحواسّ الظاهرة والباطنة معا ، كالحكم بأنّ الشمس نيّرة ، أو بأنّي جائع ، ويسمّى ما يدرك بالباطنة وجدانيّات أيضا ، ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنيّة كالتصديق بأنّي موجود.

والأوّل إن كان تلك الواسطة فيه لازمة يعني لا تعزب عن العقل عند تصوّر الأطراف ، فهي الفطريّات ، وتسمّى قضايا قياساتها معها أيضا ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ؛ لانقسامها بمتساويين. وإن كانت غير لازمة فإمّا أن يستعمل فيها الحدس ، أولا.

فالأوّل الحدسيّات ، كالحكم بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس ؛ لما يرى من اختلاف تشكّلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس.

والثاني إن كان الحكم فيها من شأنه أن يحصل بالإخبار ، فهي المتواترات ، كالحكم بأنّ الملائكة موجودة ، أولا ، فهي المجرّبات ، كالحكم بأنّ السقمونيا مسهل للصفراء.

وقد تقسّم الحسّيّات إلى الوهميّات إن كان المدرك هو الوهم ، وإلى المشاهدات إن كان غيره ، وجميع ذلك يفيض على الإنسان من المبدأ الفيّاض ، فهو قابل لا فاعل إلاّ أنّ فيضانها عليه يتوقّف على استعدادات مخصوصة.

أمّا الضروريّات فاستعداداتها باستعمال الحواسّ الظاهرة والباطنة. وأمّا النظريّات فاستعداداتها بهذه الضروريّات ، وله مراتب :

[ المرتبة ] الأولى : كونه بالقوّة المحضة ، وهو عدم العلم عمّا من شأنه العلم.

وهذه القوّة قد تكون بعيدة عن الفعل ، كما في العقل الهيولانيّ أعني كون النفس

١١٨

في مبدأ الفطرة خالية عن العلوم ، مستعدّة لها ؛ فإنّها حينئذ شبيهة بالهيولى الخالية عن الصور مع كونها قابلة لها.

وقد تكون متوسّطة ، كما في العقل بالملكة ، أعني كونها مستعدّة لاكتساب النظريّات بحسب حصول العلوم الأوّليّة لها من جهة استعمال الآلات ، أعني الحواسّ الظاهرة والباطنة ؛ فإنّها حصل لها بسبب تلك الأوّليّات ملكة الانتقال إلى النظريّات.

وقد تكون قريبة من الفعل ، كما في العقل بالفعل ، أعني كونها بحيث حصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشّم كسب جديد.

وأمّا إذا رتّبت النفس العلوم الأوّليّة ، وأدركت النظريّة مشاهدة إيّاها ـ وسمّي حالها بالعقل المستفاد ؛ لاستفادتها من العقل الفعّال ـ فهو خارج عن هذه المرتبة.

المرتبة الثانية : العلم الإجماليّ ، وهو حالة متوسّطة بين القوّة المحضة التي هي حالة الجهل ، وبين العقل المحض الذي هو حالة التفصيل.

[ المرتبة ] الثالثة : العلم التفصيليّ ، وهو أن يعلم الأشياء متمايزة في العقل ، منفصلا بعضها عن بعض ، ملحوظا واحد منها قصدا ، كمن علم مسألة ثمّ غفل عنها ، ثمّ سئل عنها ؛ فإنّه يحضر الجواب في ذهنه بعد السؤال وقبل الجواب ، وليس ذلك بالقوّة المحضة ؛ فإنّ عنده حالة بسيطة هي مبدأ تفاصيل تلك المسألة ، فلم يكن علمه بالقوّة من كلّ وجه ، بل هي بالفعل من وجه ، وبالقوّة من آخر ؛ فإنّه علم بالفعل نظرا إلى الجملة من حيث هي جملة ، وبالقوّة نظرا إلى التفاصيل في ضمنها.

وحصول العلم بعد النظر الصحيح لازم إمّا بطريق التوليد ، أو بجريان العادة ، أو من جهة لزوم الإفاضة. وشرطه ـ بعد شرائط العلم من الحياة ، والعقل ، وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك ـ أمران :

الأوّل : عدم غاية النظر ، أعني العلم بالمطلوب ؛ لامتناع تحصيل الحاصل بغير ذلك التحصيل من حيث هو كذلك.

١١٩

والثاني : عدم ضدّ الغاية ، أعني الجهل المركّب ؛ فإنّه صارف عن النظر وعن أثره.

وقد يزاد شرط آخر وهو حضور الغاية ـ أعني الشعور بالمطلوب ـ لئلاّ يلزم طلب المجهول مطلقا. وهو داخل فيما ذكرنا.

ثمّ اعلم أنّ العلم ينقسم بقسمة أخرى إلى قسمين :

الأوّل : الحصوليّ الذي يحصل بحصول المعلوم بأشباحه لا بماهيّته في العالم ، كعلمنا بالمبصرات ونحوها.

الثاني : الحضوريّ الذي يحصل بحضور المعلوم عند العالم حقيقة ، كعلمنا بمشاهداتنا ، أو حكما بمعنى عدم كون المعلوم غائبا عن العالم ، كعلمنا بأنفسنا.

وقد يحصل بحضور علّة المعلوم عند العالم حقيقة ، أو حكما كعلمنا بآثار النار ، وعلمنا بآثار أنفسنا قبل وجودها ، ولا يتصوّر الأوّل في الواجب ؛ لامتناع كونه محلاّ للحوادث ونحوها ، ولهذا قال بعض المحقّقين ـ على ما حكي (١) ـ : إنّ علمه تعالى حضوريّ بمعنى حضور المعلومات عنده وعدم غيبتها عنه تعالى.

ولمّا أشكل عليه الأمر بالنسبة إلى المعدومات ؛ لعدم تصوّر حضورها حال عدمها عنده ، قال بكون صورها في العقل الأوّل الحاضر عنده. (٢)

ولا يخفى أنّه يستلزم احتياج الواجب إلى العقل الأوّل المنافي لوجوب الوجود ، وجهله بالمعدومات في مرتبة ذاته المقدّمة على مرتبة معلوله ، وهو محال.

فالصواب أن يقال : إنّ للأشياء مرتبتين من الوجود : إجماليّ وتفصيليّ.

والإجماليّ عبارة عن وجودها في مرتبة ذات علّتها بجميع ما لها من الأحوال والكيفيّات والكمّيّات ونحوها ؛ فإنّها أيضا من الأشياء المعلولة له تعالى ، بمعنى وجود علّتها من حيث إنّها علّتها ، لا وجودها حقيقة كما يقول من قال بوحدة الوجود ، ففي الإجمال في الحقيقة تفصيل.

__________________

(١) حكاه الصدر الشيرازيّ في « الأسفار الأربعة » ٦ : ١٨١ واللاهيجيّ في « شوارق الإلهام » : ٥١٧.

(٢) راجع « شرح مسألة العلم » ٢٨ ـ ٢٩ ؛ « شرح الإشارات والتنبيهات » ٣ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

١٢٠