الإمام الحسن السّبط عليه السلام سيرة وتاريخ

السيد سعيد كاظم العذاري

الإمام الحسن السّبط عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-38-6
الصفحات: ١١١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أن قال : « إنّي لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمدالله ومنّه وأنا أنصح خلقه لخلقه ، وما أصبحت حاملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة ، ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفرقة ، ألا وإنّي ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردّوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وارشدني وإيّاكم لما فيه المحبة والرضا إن شاء الله » ، ثم نزل ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا : نظنه يريد أن يصالح معاوية ، كفر والله الرجل ! ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه ، وقام إليه رجل من بني أسد فطعنه بمعول ، فحمل إلى المدائن (١).

ظروف الصلح البعيدة والقريبة :

إنّ قضية صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية ليست قضية زمنية حدثت في حقبة زمنية معينة ، بل هي قضية تفاعلت فيها ظروف الماضي مع ظروف الحاضر ، فلابدّ من الوقوف عند هذه المسألة ، لكي تكون الصورة واضحة في الاطلاع على المبررات الموضوعية للصلح ، وهي :

١ ـ ظروف الحكم الأموي :

إنّ صلح الإمام عليه‌السلام لم يكن منفصلاً عن ظروفه وأسبابه البعيدة الّتي شكّلت صراعاً داخل الجسد الإسلامي الواحد ، حيث استطاع الطلقاء أن يجدوا لهم موقعاً ومركزا حسّاساً داخل الكيان الإسلامي ، فقد كان معاوية والياً على الشام في عهد الخلفاء وكانت له صلاحيات مطلقة ، حتّى كان عمر بن الخطاب يحاسب جميع ولاته غير معاوية حيث كان يقول له : « لا آمرك ولا أنهاك » (٢). وكان يمدحه كثيراً ، وينهى عن ذمّه ويقول : « دعونا من ذمّ فتى قريش » (٣). كما حذّر أهل الشورى من الفرقة وقال : « إيّاكم والفرقة بعدي فإنْ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٦٦ ـ ٧٢ ، وشرح نهج البلاغة ١٦ : ٣٦ ـ ٤١.

(٢) الاستيعاب / ابن عبد البر ٣ : ٣٩٧ ، والعقد الفريد / ابن عبد ربِّه الأندلسي ١ : ١٥.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ٢٥ : ١٨.

٨١

فعلتم ، فاعلموا أنّ معاوية بالشام ، فإذا وكلتم إلى رأيكم عرف كيف يستبزّها منكم » (١). وكان يقول أيضاً : « هذا كسرى العرب » (٢). فاستقل معاوية بالشام استقلالاً حقيقياً نظراً لصلاحياته المطلقة وعدم تدخّل الحكّام في شؤونه ، وتوسّعت ولايته بعد أنّ ضمّ عثمان له الشام كلّها (٣).

فاستطاع أن يكوّن جيشاً مطيعاً مستسلماً ، عن طريق الخداع والتضليل وشراء الضمائر بأموال المسلمين ، وكان يوجّهه توجيهاً خاصّاً عن طريق الوعّاظ والرواة المتملّقين ، وكان معزولاً عن بقيّة الأمصار ، فلا يعرف غير معاوية وبيت أبي سفيان ، ولا يعرف من الإسلام إلاّ ما يوجّهه به معاوية من حيث تاريخ الإسلام وتاريخ رجاله ، فكان الناس يفهمون أنّ معاوية خال المؤمنين ، وموضع ثقة الخلفاء السابقين ، وابن عم الخليفة عثمان ، إضافة إلى ما نسبه وعّاظ السلاطين إليه من فضائل بعد غياب الوعي وعدم الاختلاط ببقيّة الأمصار. وتربّص معاوية بعثمان حتّى قتل ، فلم ينصره في حياته ، وإنّما استغلّ مقتله للتمرّد على خلافة أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، ومن ثمّ الاستقلال الكامل بالشام بعد حرب صفّين. فكان أهل الشام مستسلمين له وحده ، ومنقادين لقيادة واحدة ، وليس له في الشام من ينافسه على الحكم والإمرة. وممّا ساعد على تقوية كيان الأمويّين هو عدم تأمير أحد من بني هاشم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان (٤).

٢ ـ ظروف العهد العلوي :

بعد ربع قرن من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عاد الحق لأهله حينما عادت الخلافة

__________________

(١) الإصابة ٦ : ١١٤.

(٢) تاريخ الخلفاء : ١٥٥.

(٣) تاريخ الخلفاء : ١٥٦.

(٤) النزاع والتخاصم / المقريزي : ٨٤.

٨٢

لأمير المؤمنين عليه‌السلام إلاّ أنّها لم تستقم له ، فقد تمرد عليه ثلاثة من الشخصيات وهم : عائشة وطلحة والزبير ، ولم ينته تمرّدهم إلاّ بمقتل جماعة من الطرفين ، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى والمعوّقين. واستثمر معاوية ظروف حرب الجمل وظروف مقتل عثمان ، فحارب أمير المؤمنين عليه‌السلام وانتهت المعركة بمجموعة كبيرة من القتلى ، من ضمنهم كبار الشخصيّات الموالية لأهل البيت عليهم‌السلام كعمار بن ياسر ونظرائه.

وأفرزت المعركة ظاهرة الانشقاق في جيش أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث تمرّدت عليه جماعة عرفت فيما بعد بالخوارج وقاموا بخلق البلبلة والاضطراب في داخل قوّات الإمام عليه‌السلام. وكان معاوية يشنّ الغارات المتوالية على أطراف دولته عليه‌السلام ، ويقوم بقتل كلّ موالٍ له والاستيلاء على ممتلكاته. ولم تسمح الظروف لأمير المؤمنين عليه‌السلام كي يبني دولته وجيشه بناءً عقائدياً وسلوكياً. وكان أغلب المكّيّين وأهل البصرة لا يدينون بالولاء له. وإضافة إلى كلّ ذلك أنّ المنخرطين في جيشه لم ينخرطوا ولاءً له ، وإنّما تابعوه لأنّه على رأس دولة. فهم تبع لأي حاكم ؛ لا يفرّقون بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين غيره من الحكّام ، وقد يكون أقصى تقييم أكثرهم له ، أنّه عليه‌السلام أفضل من معاوية فقط. ولم تستمر خلافته سوى أربع سنين حتّى اغتالته أيدي المتآمرين ، للحيلولة دون أن يقوم بإكمال المسيرة الّتي تحتاج إلى زمن طويل في بناء دولة وكيان ، وتأسيس جيش عقائدي متماسك (١).

٣ ـ ظروف وأوضاع جيش الإمام الحسن عليه‌السلام :

لم يكن جيش الإمام عليه‌السلام جيشا متماسكاً موحداً في أفكاره وولاءاته ، بل كان خليطاً غير متجانس من آراء مختلفة وولاءات متعددة ، وقد عبّر الإمام عليه‌السلام عن ذلك قائلاً : « رأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد أبدا إلاّ غلب ،

__________________

(١) تاريخ الإسلام ٢ : ٤٦.

٨٣

ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى ؛ مختلفين لا نيّة لهم في خير ولا شر » (١). وهذا الاختلاف من شأنه خلق البلبلة والاضطراب وعدم الوصول إلى وحدة في القرار والموقف. فمنهم أهل الطمع ، ومنهم أتباع كلّ ناعق ، ومنهم الخوارج (٢). ومنهم من له رغبة في الحصول على منافع ومكاسب من معاوية ، ومنهم من يتّبع رئيس قبيلته أينما توجه دون تفريق بين الحقّ والباطل. وقد لعبت الأهواء والشهوات والمنافع الذاتيّة دوراً كبيراً في تبدّل النوايا عمّا كانت عليه من قبل ، وقد وصف الإمام الحسن عليه‌السلام هذه الظاهرة قائلاً : « كنتم في مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم » (٣). فحينما يصبح أمر الدنيا مقدَّماً على أمر الدين وحاكماً عليه : فإنّه يغيّر من معادلة الصراع ومعادلة الموقف ، ويصبح المقاتل تبعا لمصالحه الذاتيّة التي تغيّر من ولائه ومواقفه العمليّة. فلم تبق إلاّ القلّة المخلصة في ولائها للإمام الحسن عليه‌السلام ولنهجه السليم كحجر بن عدي وقيس بن سعد وآخرين ، حيث إنّ معركة صفّين قد أدّت إلى فقدان الكثير منهم ، إضافة إلى قيام معاوية بقتل الآخرين منهم كمحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر. ومن الطبيعي أن يفرز تعدّد الولاءات وتعدّد الآراء ـ زيادة على تقديم الدنيا على الدين ـ جملة من الظواهر السلبيّة ، كعدم الإخلاص في القتال ، وضعف القدرة على الثبات والصمود إلى آخر المعركة ، وعدم الانقياد للقيادة الصالحة.. وفي مقابل هذا التعاطف مع معاوية ، والاستعداد الفعلي للغدر والخيانة ، والتأثّر بالإشاعات والحرب النفسيّة. وقد تحقّق ذلك بالفعل بالالتحاق بجيش معاوية ، والاستعداد لتسليم الإمام عليه‌السلام إليه ، زيادة على محاولات اغتياله عليه‌السلام.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٠٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ١٥ ـ ١٦ / ٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٠٦.

٨٤

٤ ـ ظروف الإمام الحسن عليه‌السلام :

وجد الإمام الحسن عليه‌السلام نفسه أمام مرحلة طويلة من الإعداد ، وإصلاح وترميم كثيرٍ من المواقع السياسيّة والعسكريّة ، وحتّى الاقتصاديّة والاجتماعية ، وهو يرى أنّه يقود جيشاً منهاراً عسكرياً ومعنوياً ، لا يمكن جعله منقاداً إلاّ باستخدام وسائل وأساليب كالّتي يستخدمها معاوية ، وهو عليه‌السلام غير مستعدّ لاستخدام تلك الوسائل والأساليب غير المشروعة كالخداع والتضليل وشراء الضمائر بأموال المسلمين وإنفاقها على جماعة خاصّة كرؤساء القبائل وقادة الجيش ، فالإمام عليه‌السلام مقيدٌ بقيود شرعيّة حاكمة على جميع ممارساته ومواقفه. وليس هدفه البقاء في السلطة الآنيّة وإنّما هو جزء من حركة إصلاحيّة تنظر إلى الحاضر والمستقبل ، لكي تبقى المفاهيم والقيم الإسلامية هي الحاكمة على أفكار المسلمين وعواطفهم وممارساتهم العمليّة على طول الحركة التاريخيّة لهم. وكان عليه‌السلام حريصاً على المصلحة الإسلامية الكبرى ، ومصلحة أهل البيت عليهم‌السلام وحيث وجد عليه‌السلام أنّه لا يستطيع ـ بحسب الظروف القائمة ـ أن يحسم الموقف لصالح الوجود الإسلامي ، ولا يستطيع القضاء على رأس الفتنة الّتي كان يقودها المجرم الطليق معاوية ، لذا أصبح أمام خيارين : إمّا الاستمرار في معركة خاسرة تؤدّي إلى إضعاف الكيان الإسلامي ككلّ أمام التحديات الخارجيّة ، أو الميل إلى الصلح وحقن الدماء ، والمحافظة على الوجود الإسلامي ثمّ ممارسة الإصلاح من الداخل. والخيار الأول يعني استيلاء معاوية على الحكم دون قيد أو شرط بعد مقتل الإمام الحسن عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام والخيرة من أصحابه ، ومن هنا اختار عليه‌السلام الصلح على الاستمرار في المعركة ، مقيّدا بشروط فيها مصلحة الكيان الإسلامي وكيان الجماعة الصالحة التي تضمن للشريعة بقاءها واستمرار حياتها. فالصلح إذن جاء منسجماً مع تلك الظروف تماماً وإن حاول أنصار

٨٥

الطلقاء تغييب هذه الحقائق بشتى الأساليب كالكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه قال بشأن الإمام الحسن عليه‌السلام : « إن ابني هذا سيد ولعل الله تبارك وتعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ». وهو خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً تفرّد به الحسن البصري عن أبي بكرة ولم يروه أحد غيره (١) وأبو بكرة من المنافقين النواصب المنحرفين عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وكان ـ قبّحه الله ـ يحرّض الناس على عدم البيعة للإمام علي عليه‌السلام بعد هلاك عثمان (٢).

أسباب عدم اختيار موقف التضحية :

إنّ موقف الإمام الحسن عليه‌السلام لابدّ وأن يكون منسجماً مع الأهداف المرحليّة والبعيدة المدى لمنهج أهل البيت عليهم‌السلام ولحركة الإسلام العامّة ، لِتستتبعه نتائج إيجابيّة للمنهج والوجود الإسلامي معاً ، فاتخاذ الموقف بجميع ألوانه في سِلْمٍ أو تضحية مقيّد بقيود المصلحة الإسلاميّة العليا ، وتبعُ لها ، ومن هنا اختار الإمام الحسن عليه‌السلام موقف التوقف عن القتال المؤدّي إلى التضحية للأسباب التالية :

أوّلاً : إنّ معاوية أحكم خطته وأظهر نفسه بمظهر المسالم المحبّ للصلح ، وحقن الدماء ، وإعادة الأُلفة بين المسلمين ، وأراد أن يُلصق بالإمام الحسن عليه‌السلام رغبته في القتال وإراقة الدماء ، وقد استطاع أن يُدخل في عقول المسلمين هذه المغالطات ، فلو لم يستجب الإمام الحسن عليه‌السلام للصلح لكان مخطّط معاوية سيجد له قبولاً ورواجاً ، وسيلقي المسلمون باللاّئمة على الإمام عليه‌السلام وينسبون إليه حبّه للقتال وإراقة الدماء.

ثانياً : إنّ الظروف الّتي كانت تحيط بالامام الحسن عليه‌السلام لم تكن في صالحه ،

__________________

(١) يُنظر هذا الحديث الموضوع في مسند أحمد ٦ : ١٧ و ٢٧ و ٣٠ و ٣٧ ، وصحيح البخاري ٥ : ٣٢ باب مناقب الحسن والحسين عليهما‌السلام ، والمعجم الكبير للطبراني ٣ : ٣٣ ـ ٣٥ ، وسنن أبي داود ، حديث ٤٦٦٢ من كتاب السنة ، وسنن الترمذي ، حديث ٣٧٩٨ باب مناقب الامام الحسن عليه‌السلام.

(٢) اُنظر : سير أعلام النبلاء / الذهبي ٣ : ٨.

٨٦

فإنّ استمرار القتال سيؤدي إلى قتله من قِبَل عملاء معاوية المندسّين في جيشه ، وسيتنصّل معاوية من جريمة قتله. أو قد يؤدّي القتال إلى تسليم الإمام عليه‌السلام إلى معاوية من قبل رؤساء بعض العشائر أو قادة الجيش ، وفي جميع التقادير سيكون معاوية هو الغالب ، كما ورد ذلك في قول الإمام عليه‌السلام : « يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثِقْلي وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني ، فيضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية ؛ لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سِلماً ، فوالله لئن اُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره ، أو يمنَّ عليَّ فتكون سُبّة على بني هاشم إلى آخر الدهر » (١).

ثالثاً : إنّ تضحية الإمام الحسن عليه‌السلام ستكون بلا صدى ؛ وذلك لقدرة معاوية على احتواء آثارها وتشويه أهدافها ما دام كثير من المسلمين لا يعي طبيعة الصراع ، ويسمع الإشاعات المستمرّة بأنّ الإمام الحسن عليه‌السلام كان يقاتل من أجل السلطة ، أو بدوافع قبليّة موروثة في الصراع بين بني هاشم وبني أميّة.

رابعاً : إنّ التضحية ستؤدّي إلى القضاء على الإمامين الحسن والحسين عليهما‌السلام وبقيّة بني هاشم ، والصفوة الخيّرة الصالحة من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، وبالتالي ستخلو الساحة لمعاوية وأنصاره دون معارضين ودون غيورين ومصلحين ، وخلوّ الساحة يشجّع معاوية وأتباعه على قلب المفاهيم الإسلاميّة ، وتغيير القيم ، وإعادة الجاهليّة بلباس إسلامي جديد ، وهو ما فعله معاوية ومهّد له بعد الصلح إلى أن توج ذلك بمصرع سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام.

خامساً : قلّة الأنصار المخلصين للإمام الحسن عليه‌السلام. وقد عبّر الإمام عليه‌السلام عن ذلك بقوله : « والله ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أنّي لم أجد أنصاراً ، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري » (٢). وقال عليه‌السلام في موقف آخر : « وقد خذلتني الأُمّة وبايعتك

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ٢٠ / ٤.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ١٤٧ / ١٤.

٨٧

يا ابن حرب ، ولو وجدت عليك أعوانا يخلصون ما بايعتك » (١).

شروط الإمام عليه‌السلام ووعود معاوية :

إن الصلح الذي قرّر الإمام عليه‌السلام قبوله قد أحاطه بشروطٍ تجعل الإمام عليه‌السلام في موقع القوّة دائماً ومعاوية في موقع الضعف على المدى القريب والبعيد ، سواء كان معاوية يفي بالشروط أو لا ، فإنّ عدم الوفاء بها يضمن للإمام عليه‌السلام ولخطّ أهل البيت عليهم‌السلام نصراً على المدى البعيد لا محالة. وقد تعهد معاوية إلى الإمام الحسن عليه‌السلام بجملة من الأمور ، حيث كتب إليه : « إنّي صالحتك على أنّ لك الأمر من بعدي ولك عهد الله وميثاقه وذمّته ... لا أبغيك غائلة ولا مكروهاً ، وعلى أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أنّ لك خراج ( فسا ) و ( دار أبجرد ) تبعث إليها عمّالك ، وتصنع بهما ما بدا لك » (٢).

وأمّا شروط الإمام الحسن عليه‌السلام فهي : أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس لمعاوية أن يعهد لأحدٍ من بعده عهداً ، والناس آمنون حيث كانوا في العراق والشام والحجاز وتهامة ، مع أمان شيعة وأصحاب علي عليه‌السلام على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يبغي للحسن ولا لأحد من أهل بيته غائلة سرّاً وعلانيةً ، ولا يُخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق (٣) ، وأن لا يسميه الحسن عليه‌السلام بأمير المؤمنين ، وأن لا يقيم عنده شهادة ، ولا يتعقب معاوية على شيعة عليّ عليه‌السلام شيئاً ، وأن يفرق في أولاد من قُتل مع أبيه عليه‌السلام يوم الجمل وصفين ألف ألف درهم (٤).

الدور الايجابي للوعود والشروط :

إنّ الوعود والشروط الممضاة من قبل الطرفين ، تفرض منطقياً على كلّ من

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ١٤٣ / ٥.

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤١.

(٣) الفتوح ٢ : ٢٩٣ ، وأنساب الأشراف ٣ : ٤٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٤ : ٢ / ٢.

٨٨

يفاضل بين الحرب والصلح ، أن يختار الصلح مع تلك الظروف والموازنة العسكريّة غير المتكافئة ، وإلاّ فإنّ معاوية سينال السلطة إمّا بانتصاره العسكري أو بقتل الإمام عليه‌السلام من قبل عملائه المندسين في جيش الإمام عليه‌السلام ، وستؤول السلطة إليه دون شروط أو قيود تقيّده أمام المسلمين. بينما أخذ الإمام عليه‌السلام عهوداً ومواثيق مقرونة بأَيْمانٍ مغلّظة من قبل معاوية على أن يفي بها. فإن وفى بما تعهّد به ، فإنّ الأمر سيعود إلى الإمام من بعده ، وستكون لأتباع الإمام عليه‌السلام مطلق الحرّيّة في أداء دورهم الإصلاحي والتغييري. وإنّ شرط عدم تسميته بأمير المؤمنين يسلب عنه شرعيّة الخلافة وإمرة المؤمنين ، ويبقى مجرّد حاكمٍ أو ملك في أنظار المسلمين.

وإذا لم يفِ معاوية بالشروط فإنّ الاُمّة ستنكشف لها حقيقة معاوية والحكم الأموي ، وأنّه مجرّد طالب سلطة منذ أوّل شعار أعلنه حين مطالبته بدم عثمان ، وبالتالي فإنّ الاُمّة ستشخص قادتها الحقيقيّين وهم أهل البيت عليهم‌السلام وستعود إلى موالاتهم في الحاضر أو في المستقبل.

الصلح ومراعاة المصلحة الإسلامية :

إنّ موقف الإمام المعصوم عليه‌السلام تحدّده عدّة عوامل ، راعاها الإمام الحسن عليه‌السلام في صلحه ومن أهمّها :

١. شرعيّة الموقف والقرار : وهذا الأمر بديهي في السيرة التاريخية لحركة الإسلام وقادته الصالحين ، فالشريعة هي الحاكمة على الموقف وهي التي تحدّده في جميع الظروف والأحوال ، فقد صالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشاً في الحديبيّة وهم كفّار ، وصالح اليهود والنصارى في أكثر من واقعة.

٢. الظروف : الظروف بنوعيها : الايجابي والسلبي هي التي تحدّد الموقف وتكون حاكمة عليه ، وهذا واضح من خلال سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجاهد قريشاً في المرحلة المكّيّة لأنّ الظروف

٨٩

لاتسمح بذلك ، وحينما تغيّرت في المرحلة المدنيّة غيّر صلى‌الله‌عليه‌وآله موقفه واستمرّ في جهاده إلى أن انتصر على جميع قوى الشرك في المدينة والحجاز واليمن ، وكذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام في سيرته مع من اغتصب حقّه وتقدم عليه بالباطل ، بل حتىٰ مع المتمرّدين عليه في خلافته.

٣. المصلحة الإسلاميّة : من أساسيات المنهج الإسلامي أنّ لأي حكم شرعي مصلحة يتضمّنها ، فمن باب أولى أن يكون لأخطر موقف ـ وهو الصلح وفي تلك الظروف الحسّاسة ـ مصلحة على المدى القريب والبعيد ، فالصلح انطوى على عدّة مصالح آنيّة ومستقبليّة راعاها الإمام عليه‌السلام قبل اتخاذه القرار ، بعضها متعلّق بالمصلحة العامّة للمسلمين ، والآخر متعلّق بمصلحة منهج أهل البيت عليهم‌السلام في حركته الواقعيّة في المسيرة التاريخيّة.

المبحث الثاني / نتائج الصلح وآثاره

انكشاف حقيقة معاوية والحكم الأموي :

في أجواء الكيد والدسّ ، والتربّص بقادة الاُمّة الحقيقيّين ، وفي خضّم تزيين الضلال ، وتزييف الحقائق ، وإشاعة اللبس في الرؤية من قبل معاوية لإبقاء المسلمين بعيداً عن الوعي وإدراك الحقائق ؛ كان للصلح دوره الكبير في كشف حقيقة معاوية ونواياه الخفيّة ، فبعد أن استلم معاوية زمام الأمور استسلم لزهو الإنتصار ، ولم يتمالك نفسه حتّى كشف عن سريرته ومكنونات أهوائه ، ولم يلتفت إلى الآثار المترتّبة على هذا الكشف ، فأعلن لأهل العراق عن أهدافه الحقيقيّة وهي تتلخّص في الوصول إلى قمّة السلطة ، كما جاء ذلك في خطابه حين قال : « إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ، ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم » (١). وهذا التصريح قد كشف عن

__________________

(١) مقاتل الطالبيّين : ٧٧.

٩٠

الوجه الحقيقي لمعاوية كشفاً لا يمكن بعد ذلك التستّر عليه بتزوير الأحاديث ، وتحريف الوقائع ، ولا تقوّل المبرّرات الموضوعة للتستّر عليه والّتي كان منها عدالة جميع الصحابة ، وغيرها من الفضائل الّتي أدلى بها الوضّاعون من رواة السلاطين كأبي هريرة وأمثاله. وانكشفت حقيقة معاوية أمام الأمويّين خصوصاً أمام عائلة عثمان ، إذ قد رفع معاوية شعار الطلب بدم عثمان وتمرّد على الإمامة الشرعيّة المنصوبة من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالبيعة من قبل أهل الحلّ والعقد ـ كما هو الرأي السائد آنذاك ـ وهو ما حصل في خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام بعد أن بايعه عامّة المهاجرين والأنصار ، فتخلّى معاوية عن شعاراته حين تمّ الصلح ، وترك متابعة قتلة عثمان ، وحينما دخل دار عثمان قالت عائشة بنت عثمان : وا أبتاه ، وبكت ، فأجابها معاوية : « يا ابنة أخي إنّ الناس أعطونا طاعة ، وأعطيناهم أماناً ... وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد ، ومع كلّ إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره ، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ؟ ولأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين » (١).

لقد كشف معاوية عن نواياه في عدم الوفاء بالعهود والمواثيق التي قطعها على نفسه وقال : « ألا أنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين لا أفي به » (٢). وكان لهذا التصريح دور واضح في تقييم الأشخاص والأحداث والمواقف من قبل عموم المسلمين ، حيث استطاعوا تشخيص القيادة الحقيقيّة عن القيادة المزيّفة ، وانكشفت لهم طبيعة الصراع القائم ، فهو ليس صراعاً بين قبيلتين أو شخصين ، وإنّما هو صراع بين منهجين : منهج الاستقامة الّذي يمثّله أهل البيت عليهم‌السلام ومنهج الانحراف والجاهليّة الّذي يمثّله الأمويّون. وكان هذا

__________________

(١) عيون الأخبار / ابن قتيبة ١ : ٦٧.

(٢) مقاتل الطالبيّين : ٧٧.

٩١

التصريح فرصة للجماعة الصالحة لتبيان الحقائق وإقناع الاُمّة بمخطّطات معاوية التخريبيّة النابعة من أهوائه.

خصائص معاوية الارهابية :

كان معاوية من أخبث الناس في زمانه ، يتظاهر بالعفو والحِلم والسماحة ، ويتظاهر بحبّ السلام والأمان ، وكراهة إراقة الدماء ، فقد رفع المصاحف في صفّين ودعا إلى الصلح مبرّراً ذلك بحقن الدماء وهكذا فعل قبل الصلح ، إلاّ أنّه سرعان ما كشف القناع عن زيفه ، فبعد أن تمّ تسليم السلطة إليه بأيّام قلائل : نادى ـ وهو في المدائن ـ بأعلى صوته : « ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممّن لم يخرج فيبايع ... ألا وإنّا قد أجّلنا ثلاثاً ، فمن لم يبايع فلا ذمّة له ولا أمان له عندنا » (١). فقد خالف معاوية أساسيات المنهج الإسلامي المتفق عليه بين عموم المسلمين وهو عدم الإكراه على البيعة ، وقد قامت سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام على ذلك ، فلم يكرهوا أحداً على البيعة لأنّها اختياريّة. بينما أعلن معاوية عن طبيعته الإرهابيّة في ملاحقة ومطاردة وقتل الرافضين لبيعته. ومن ذلك مواجهة عبدالله بن جعفر له في الشام وأمام المقربين له ؛ حيث خاطبه قائلاً :  « ما يجهل موضع الصفوة إلاّ أهل الجفوة ، وإنّك لتعرف وشائظ قريش وصبوة غرائزها ، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ، فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عماك عن سبيل الرشد ، وضبطك في بحور ظلمة الغيّ » (٢).

رقابة الإمام الحسن عليه‌السلام لممارسات معاوية :

كان الإمام الحسن عليه‌السلام يراقب تصرفات معاوية ويكشف للملأ عن

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٩٦.

٩٢

انحرافاته عن المنهج الإسلامي في أفكاره وممارساته. فقد قام خطيباً عليه‌السلام ـ ومعاوية جالس ـ فقال : « أيّها الناس إنّ معاوية بن صخر زعم : إنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أر نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية ، وأيم الله لأنا أولى بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير إنّا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين مضطهدين منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فالله بيننا وبين من ظلمنا حقّنا » (١). وفي هذا الخطاب بيّن الإمام عليه‌السلام إحدى الحقائق الأساسية ، وهي تقمّص معاوية ومن بسط يده من نيل ذلك للخلافة زوراً ، مع تكذيب مدعياته ، وأكّد على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام ونفي الشرعية عن حكم معاوية فلم يخاطبه إلاّ باسمه. وقال عليه‌السلام ذات يوم لمعاوية : « أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمل بطاعة الله عزّوجلّ ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً ، ولكن ذلك أمرَ ملْكٍ أصابَ مَلِكاً ، فتمتع به قليلاً ، وكان قد انقطع عنه وضم لذته ، وبقيت عليه تبعته ، وكان كما قال الله تبارك وتعالى : ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) (٢) ، وأومأ بيده إلى معاوية ، ثم قام عليه‌السلام فانصرف » (٣).

فقد استثمر الإمام عليه‌السلام الفرصة المتاحة له في مواجهة ممارسات معاوية الخاطئة ، وكشفها أمام الملأ من أتباعه وأتباع معاوية ؛ ووضّح من خلال ذلك الكثير من المفاهيم والقيم الإسلامية السليمة لكي لا يقوى معاوية على طمسها أو تزييف مداليلها ، فقد ميّز عليه‌السلام بين منهجين سياسيين منهج الحق الذي يتبناه أهل البيت عليهم‌السلام ، ومنهج الباطل الذي اتبعه بنو أمية ومن وافقهم.

المبحث الثالث / الإمام الحسن عليه‌السلام من الصلح حتى الشهادة

أخرج الحافظ ابن عقدة أنّ الحسن بن علي عليهما‌السلام لمّا أجمع على صلح معاوية

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ٢٢.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١١١.

(٣) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ٥٢ / ١٥٢.

٩٣

قام خطيباً وحمدالله وأثنى عليه وذكر جدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة والنبوة ثم قال :  « إنّا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام واختارنا واصطفانا وأذهب عنّا الرجس وطهّرنا تطهيراً ، لم تفترق الناس فرقتين إلاّ جعلنا الله في خيرهما من آدم إلى جدّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا بعث الله محمداً للنبوة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عزّوجلّ فكان أبي أوّل من استجاب لله ولرسوله ، وأوّل من آمن وصدّق الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال في كتابه المنزل على نبيّة المرسل : ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ) (١) فجدّي الذي على بيّنة من ربّه وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه. وقد سمعت هذه الاُمّة جدي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوه. وسمعوه يقول لأبي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم وقال لهم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاده ، ثمّ أمرهم أن يبلّغ الشاهد الغايب » (٢).

وخطب عليه‌السلام قبل دخول معاوية الكوفة فقال : « أيّها الناس ، إنّما نحن أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل بيت نبيّكم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، وكرّر ذلك حتى أبكى الجميع (٣). وفي هذين الخطابين تركيز على جملة من المفاهيم والتصورات العقائدية ومن جملتها : فضائل ومقامات الإمام علي عليه‌السلام ، والنص على إمامته وخلافته ، وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، وعصمتهم ، ومصير الأمة عند تولّي غير الأعلم عليها.

وبعد أن تمّ الصلح عقد اجتماع موسع حضره الإمام عليه‌السلام ومعاوية وأتباعهما ، وتبادل الإمام ومعاوية الخطب التي تعبر عن منهج كلّ منهما.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ١٧.

(٢) الغدير / الأميني ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨.

(٣) أسد الغابة ١ : ٤٩٢.

٩٤

فقد بين الإمام عليه‌السلام دور أهل البيت عليهم‌السلام في إمامة وخلافة الأمّة ، ووجوب طاعتهم ، ومما جاء في خطابه : « نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فإنّ طاعتنا مفروضة ، إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة » (١). وبيّن عليه‌السلام فضائل أهل البيت عليهم‌السلام في هداية الناس واخراجهم من الضلالة إلى النور ، ودورهم في حقن دمائهم ، وأكّد على المواثيق المأخوذة على معاوية في إقامة العدل وتحسين الأوضاع المعيشية ، وممّا قاله : « أيّها الناس إنّ الله هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وإنّي قد أخذت لكم على معاوية أن يعدل فيكم وأن يوفّر عليكم غنائمكم ، وأن يقسم فيكم فيأكم » ، ثم أقبل على معاوية ، فقال : أكذاك ؟ قال : نعم (٢). وروىٰ حبيب بن ثابت ، قائلاً : « خطب معاوية بالكوفة حين دخلها ، والحسن والحسين عليهما‌السلام جالسان تحت المنبر ، فذكر علياً عليه‌السلام فنال منه ، ثم نال من الحسن ... ثم قام الحسن عليه‌السلام فقال : أيّها الذاكر علياً ، أنا الحسن وأبي عليّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمّي فاطمة وأمّك هند ، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة ، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسباً ، وشرّنا قديماً وحديثاً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً ، فقال طوائف من أهل المسجد : آمين » (٣). ونحن نقول : آمين ثم آمين ثم آمين ثم آمين.

وروى أبو الحسن المدائني قال : « سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال : الحمد لله الذي توحد في ملكه ، وتفرّد في ربوبيته ، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمّن يشاء ، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء

__________________

(١) مروج الذهب / المسعودي ٢ : ٤٣١.

(٢) تاريخ الإسلام / الذهبي : ٣٩ ، عهد معاوية.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٤٦ ـ ٤٧.

٩٥

آخركم ، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس ، إنّ ربّ عليّ كان أعلم بعليّ حين قبضه إليه ، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ، ولم تجدوا مثل سابقته ... وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أميّة ... » (١).

عدم الاعتراف بشرعية سلطة معاوية :

لم يعترف الإمام الحسن عليه‌السلام بشرعية سلطة معاوية في جميع المواقف ، فكان يسمّيه باسمه دون اضافة أي لقب إليه لئلا يضفي عليه أيّة صفة شرعية ، ولم يستطع معاوية اجباره على تسميته بالأمير أو الخليفة ، وكان الإمام عليه‌السلام لايستجيب لأوامر معاوية ، فقد أراد منه أن يتولى قتال الخوارج من أجل اشغال المعارضة له بعضها بالبعض الآخر ، فأجابه الإمام عليه‌السلام : « والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين ، وما أحسب ذلك يسعني ؛ أفأقاتل عنك قوماً أنت والله أولى بالقتال منهم » (٢). وجاء في رواية أخرى أنّه عليه‌السلام قال : « لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإنّي تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها » (٣). والدرس المستفاد من موقف الإمام عليه‌السلام هو عدم شرعية حكومة معاوية وعدم شرعية الأوامر الصادرة منه ، اضافة إلى أولوية مجاهدة الحكومة الجائرة ـ عند توفر القدرة ـ قبل مجاهدة الفئات الضالة التي لا سلطان لها.

رفض مصاهرة الامويين وتبيان حقيقة الصراع :

رام معاوية مصاهرة بني هاشم ، وكتب لعامله مروان أن يخطب زينب بنت عبدالله بن جعفر ليزيد لعنه الله على حكم أبيها في الصداق وقضاء دينه ، وعلى صلح بني هاشم وبني أمية ، فأجاب عبدُالله مرواناً بأنّ الأمر بيد الحسن عليه‌السلام ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ : ٩٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٠٩.

٩٦

فجمع مروان الهاشميين والأمويين وخطب من الإمام عليه‌السلام ، فأجابه الإمام عليه‌السلام :  « أمّا ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق ، فإنّا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وبناته ، وأمّا قضاء دين أبيها ، فمتى قضت نساؤنا ديون آبائهنّ ؟ وأمّا صلح الحيين ، فانّا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا » (١). فقد رفض الإمام عليه‌السلام توثيق العلاقة مع الأمويين ، وبين أنّ حقيقة الصراع هو الصراع بين منهجين ومسيرتين ؛ صراع بين الحقّ والباطل وبين الكفر والإيمان ، وبين الاستقامة والانحراف ، وبين الفضيلة والرذيلة ، وبين العدل والظلم ، وهو صراع في جميع مقومات الشخصية الانسانية ؛ صراع الفكر والعاطفة والسلوك ، فلا دور للقيم المادية في ازالة هذا الصراع واعادة الأمور إلى التوافق ؛ لأنّه ليس صراعاً على مال أو منصب أو شيء من حطام الدنيا ، بل هو صراع بين منهجين متناقضين في قربهما وبعدهما عن القرآن الكريم والسنة النبوية.

فضح النظام الأموي :

كانت لقاءات الإمام الحسن عليه‌السلام مع رؤوس النظام الأموي على هيئة مناظرات ، استطاع الإمام عليه‌السلام من خلالها فضح رأس النظام الأموي معاوية وأتباعه وتبيان فضائل ومقامات الإمام علي عليه‌السلام ، ففي أول مناظرة بينهما افتخر معاوية عليه فأجابه عليه‌السلام : « هيهات لشرّ ما علوت يابن آكلة الأكباد ؛ المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب الله ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك ، لأنّك لا خير فيك ، فإنّ الله قد برأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل » (٢). وفي مناظرة أخرى قال عليه‌السلام : « أما بعد يا معاوية ، فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني ، فحشاً ألفته وسوء رأي عرضت به ، وخلقاً سيئاً ثبتَ عليه ، وبغياً علينا ؛ عداوة منك لمحمد وأهله ، ولكن اسمع يا معاوية ، واسمعوا فلأقولنّ

__________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ١٢٤.

(٢) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ٢ : ٣٠٦.

٩٧

فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم. أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أنّ الذي شتمتموه منذ اليوم ، صلّى القبلتين كليهما ، وأنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة ، وتعبد اللات والعزى غواية. وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه بايع البيعتين كليهما بيعة الرضوان وبيعة الفتح ، وأنت يا معاوية باحداهما كافر وبالاخرى ناكث. وأنشدكم الله هل تعلمون أنّه أوّل الناس ايماناً ، وإنّك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم تسرّون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال. وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوماً جاء أبوك على جمل أحمر ، وأنت تسوقه وأخوك عتبة يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « اللهم العن الراكب والقائد والسائق ». أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لمّا همّ أن يُسلم ؛ تنهاه عن ذلك :

يا صخر لاتسلمِنْ يوماً فتفضحنا

بعد الذين ببدرٍ أصبحوا فرقا

خالي وعمّي وعمّ الأم ثالثهم

وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا

والله لما أخفيت من أمرك أكبر ممّا أبديت ». ثمّ بيّن مساوئ بطانة معاوية : عمرو بن العاص ، والوليد بن عتبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، وبعد انتهاء اللقاء قال معاوية : « قد أنبأتكم أنّه ممن لاتطاق عارضته ، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني ، والله ما قام حتى أظلم عليّ البيت ، قوموا عنّي ، فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم » (١). وهنالك مناظرات عديدة انعقدت في المدينة والشام بيّن فيها الإمام الحسن عليه‌السلام فضائل ومقامات أهل البيت عليهم‌السلام ومساوئ معاوية ودوره في مواجهة الحقّ ومؤامراته على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ وكان معاوية في جميعها مستسلماً للأمر الواقع لأنّه يخشى من حركة الإمام عليه‌السلام ومن حركة أنصاره.

وقد شجعت مواقف الإمام الحسن عليه‌السلام غيره على تحدّي معاوية ، فقد تحدّاه عبدالله بن عباس وعبدالله بن جعفر وعبدالله بن الزبير ، وأبو الأسود الدؤلي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٨٨ ـ ٢٩٤.

٩٨

وآخرون ، وروي أنّه « دخل عليه سعد بن مالك ، فقال : السلام عليك أيّها الملك ، فغضب معاوية ، فقال : ألا قلت السلام عليك يا أميرالمؤمنين ؟ قال : ذاك إن كنّا أمّرناك إنّما أنت منتزٍ » (١). وفي مجالات الفخر كان الإمام عليه‌السلام يفتخر على معاوية أو يرد عليه مفتخراً ، ويربط هذا الافتخار بمجالاته العقائدية والسياسية والأخلاقية ، فهو ليس افتخار شخصي أو قبلي بل افتخار عقائدي لتبيان منهجين وسيرتين ، فقد روي « أن معاوية فخر يوماً فقال : أنا ابن بطحاء مكة ، أنا ابن أغرزها جوداً وأكرمها جدوداً ، أنا ابن من ساد قريشاً فضلاً ناشئاً وكهلاً. فقال الحسن بن علي عليهما‌السلام : أعليّ تفخر يا معاوية ، أنا ابن عروق الثرى ، أنا ابن مأوى التقى ، أنا ابن من جاء بالهدى ، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالفضل السابق والحسب الفائق أنا ابن من طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ، فهل لك أب كأبي تباهيني به ؟ وقديم كقديمي تساميني به ؟ تقول نعم أو لا ؟ قال معاوية : بل أقول : لا ، وهي لك تصديق » (٢).

الاعداد الفكري والسلوكي للطليعة المؤمنة :

أدّى الإمام عليه‌السلام مسؤوليته في إعداد أصحابه إعداداً فكرياً وسلوكياً ليساهموا في أداء المسؤولية في تقرير مفاهيم وقيم أهل البيت عليهم‌السلام في واقع الحياة ، وبذل الجهد لحماية العقيدة وصيانة الأخلاق في الشعور وفي الممارسات العملية ، وكان يدعو أصحابه وسائر الناس إلى جعل المفاهيم والقيم الإسلامية ميزاناً ومعياراً لتقييم الأمور ، وكان يدعو للسير على منهج القرآن الكريم ومنهج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ففي مجال الالتزام بمفاهيم القرآن الكريم قال عليه‌السلام : « أيّها الناس إنّه من نصح لله وأخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم ووفقه الله للرشاد وسدّده للحسنى ؛ فإنّ جار الله محفوظ وعدوّه خائف مخذول ، فاحترسوا من الله بكثرة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٧.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦.

٩٩

الذكر ، واخشوا الله بالتقوى ، وتقربوا إلى الله بالطاعة » (١). وفيما يلي نستعرض المفاهيم والقيم والموازين التي حثّ الإمام الحسن عليه‌السلام على إدراكها واستشعارها في الفكر والعاطفة والسلوك وجعلها حقيقة سلوكية تمارس في الواقع.

١ ـ تقوى الله والخروج من الفتن : قال عليه‌السلام : « اتقوا الله عباد الله واعلموا انّه من يتق الله يجعل له مخرجامن الفتن ، ويسدده في أمره ، ويهيء له رشده ويفلجه بحجته ».

٢ ـ التشاور : قال عليه‌السلام : « ما تشاور قوم إلاّ هدوا إلى رشدهم ».

٣ ـ الاختلاف إلى المسجد : قال عليه‌السلام : « من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب إحدى ثمان : آية محكمة وأخاً مستفاداً وعلماً مستطرفاً ورحمة منتظرة ، وكلمة تدله على الهدى أو ترده عن ردى ، وترك الذنوب حياءً أو خشية » (٢).

٤ ـ السياسة : قال عليه‌السلام : « السياسة هي أن ترعى حقوق الله ، وحقوق الأحياء ، وحقوق الأموات ، فأمّا حقوق الله : فأداء ما طلب ، والاجتناب عمّا نهى ، وأمّا حقوق الأحياء : فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك ، ولا تتأخر عن خدمة امتك ، وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمته ، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما حاد عن الطريق السوي ، وأمّا حقوق الأموات : فهي أن تذكر خيراتهم ، وتتغاضى عن مساوئهم ؛ فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم » (٣).

٥ ـ ايجابيات التقية : قال عليه‌السلام : « إنّ التقية يصلح الله بها أمة ، لصاحبها مثل ثواب أعمالهم ، وتركها ربما أهلك أمة ، تاركها شريك في إهلاكهم وإنّ معرفة حقوق الاخوان تحبب إلى الرحمن ، وتعظّم الزلفى عند الملك الديّان ، وإن ترك قضائها يمقت إلى الرحمن ، ويصغّر الرتبة عند الكريم المنّان » (٤).

٦ ـ مكارم الاخلاق : قال عليه‌السلام : « مكارم الأخلاق عشر : صدق اللسان ، وصدق

__________________

(١) تحف العقول : ١٥٩.

(٢) يُنظر الموارد الثلاثة المذكورة في تحف العقول : ١٦٣ و ١٦٤ و ١٦٦.

(٣) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام / باقر شريف القرشي ١ : ٣٥١.

(٤) جامع الأخبار : ٢٥٢ / ٦٥١.

١٠٠