الإمام الحسن السّبط عليه السلام سيرة وتاريخ

السيد سعيد كاظم العذاري

الإمام الحسن السّبط عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

السيد سعيد كاظم العذاري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-38-6
الصفحات: ١١١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أن يدخل على ذي العرش أن يتغيّر لونه » (١).

٤ ـ الكرم : وهو صفة محمودة في جميع الأحوال وسائر الناس ، وانتصار على النفس والغلبة على الشهوة ؛ لأنّ النفس الانسانية مرتبطة باثقال الدنيا ، فلا يتعالى الإنسان على هذه الاثقال إلاّ بالكرم والجود ، والذي يدفع الإنسان المؤمن إلى الكرم والانفاق هو دافع أقوى من شهوة المال وقيود الحرص ، والطمع وهو دافع التقوى وحب الخير وحب الكمال والسمو ، والتقرب إلى الله عزّوجلّ.

والكرم صفة ملازمة للقيادة الصالحة الناجحة ؛ فبها يستهوي الناس ويشدّهم إلى ما يمليه عليهم من مفاهيم وقيم ومن نصائح وارشادات ، ويدفعهم لمراجعة أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم واصلاحها حياءً أو قناعة في مقابل الكرم والجود والإحسان إليهم. وقد امتاز الحسن عليه‌السلام بهذه الصفة وكان قمة في الكرم والجود والإحسان إلى الآخرين. فقد روى أنّه : « لم يقل لسائل قط : لا ، وكان لا يأنس به أحد فيدعه حتى يحتاج إلى غيره ، حتىٰ عُرِفَ عليه‌السلام بكريم أهل البيت عليهم‌السلام. واشترى حائطاً من قوم من الأنصار بأربعمائة ألف فبلغه أنّهم احتاجوا ما في أيدي الناس فردّه إليهم » (٢). وهذه ممارسات نادرة لم يحدّثنا التاريخ أنّ كريماً ـ من غير أهل البيت عليهم‌السلام ـ لم يقل لسائل قط : ( لا ). ومن كرمه وجوده أنّه يوصل بعض الذين يكرمهم إلى مرحلة متقدّمة من العيش الكريم بحيث لا يحتاج إلى الآخرين ؛ لأنّ ما يحصل عليه يسعفه للاعتماد على نفسه وامكاناته. قال ابن كثير : « وقد كان من الكرم على جانب عظيم ، قال محمد بن سيرين : ربما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمائة ألف ». وقال : « وذكروا أنّ الحسن رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلباً هناك لقمة ، فقال له : ما حملك على هذا ؟ فقال : أنّي أستحي منه أن أكل ولا أطعمه ، فقال له الحسن : لا

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ٧ : ٢٥.

(٢) إسعاف الراغبين / الصبّان : ١٩٦ ، ( مطبوع بهامش نور الأبصار ).

٦١

تبرح من مكانك حتى آتيك ، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه ، فاعتقه وملكه الحائط » (١). وروي أنّه « وقف رجل على الحسن بن علي عليهما‌السلام فقال : يابن أمير المؤمنين بالّذي أنعم عليك بهذا النعمة الّتي ما تليها منه بشفيع منك إليه ، بل إنعاماً منه عليك إلاّ ما انصفتني من خصمي فإنّه غشوم ظلوم ، لا يوقّر الشيخ الكبير ولا يرحم الطفل الصغير ، وكان متكئا فاستوى جالساً وقال له : من خصمك حتى أنتصف لك منه ؟ فقال له : الفقر ، فأطرق عليه‌السلام ساعة ثم رفع رأسه إلى خادمه وقال له : احضر ما عندك من موجود ، فاحضر خمسة آلاف درهم ، فقال : ادفعها إليه ، ثم قال له : بحق هذه الأقسام الّتي أقسمت بها عليّ متى أتاك خصمك جائراً إلاّ ما أتيتني منه متظلماً » (٢). وقال ابن شهرآشوب : « ومن سخائه عليه‌السلام ما روي أنّه سأل الحسن بن علي عليهما‌السلام رجل فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار ، وقال : ائت بحمال يحمل لك ، فأتى بحمّال فأعطاه طيلسانه ، فقال : هذا كرى الحمال. وجاءه بعض الأعراب ، فقال : اعطوه ما في الخزانة ، فوجد فيها عشرون ألف درهم ، فدفعها إلى الأعرابي » (٣). وقيل له عليه‌السلام : لأي شيء نراك لا ترد سائلاً وإن كنت على فاقة ؟ فقال : « إنّي لله سائل وفيه راغب وأنا أستحيي أن أكون سائلاً وأرد سائلاً ، وإنّ الله تعالى عوّدني عادة ؛ عوّدني أن يفيض نعمه عليّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس ، فأخشى أن قطعت العادة أن يمنعني العادة ، وأنشأ يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحباً

بمن فضله فرض عليّ معجل

ومن فضله فضل على كل فاضل

وأفضل أيام الفتى حين يسأل » (٤).

وقال عبدالله بن عباس حول كرم الإمام الحسن عليه‌السلام : « قاسم الله ماله ثلاث

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ : ٣٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٣٥٠ / ٢٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٠.

(٤) نور الأبصار / الشبلنجي : ١٣٥.

٦٢

مرّات ، حتى أنّه يعطي الخفّ ويمسك النعل » (١). وهذا ما قاله علي بن يزيد بن جدعان أيضاً (٢). وقال سعيد بن عبد العزيز : « سمع الحسن بن علي رجلاً إلى جانبه يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانصرف ، فبعث بها إليه » (٣). وقال القاسم بن الفضل الحدّاني : « حدّثنا أبو هارون قال : انطلقنا حجّاجاً ، فدخلنا المدينة ، فدخلنا على الحسن ، فحدّثناه بمسيرنا وحالنا ، فلما خرجنا بعث إلى كل رجل منّا بأربعمائة فرجعنا فأخبرناه بيسارنا ، فقال : لاتردّوا عليّ معروفي فلو كنت على غير هذه الحال كان هذا لكم يسيراً ، إنّ الله يباهي ملائكته بعباده يوم عرفة » (٤).

٥ ـ البلاغة والفصاحة : من الصفات المحبّبة لدى القائد أن يكون بليغاً وفصيحاً في أقواله وكلماته التي يخاطب بها العقول ، والمشاعر ؛ لتنفتح أمام الحقائق وأنوار الهداية. وهي ضرورية في استجاشة عناصر الخير والصلاح ، ومطاردة عناصر الشر والانحراف ، واستثارة حالة الحذر من مزالق الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، وكان الإمام الحسن عليه‌السلام أفضل الناس بلاغة وفصاحة في زمانه ؛ يحث الناس من خلالها على تبني المفاهيم السليمة وممارسة القيم الصالحة. وكان عليه‌السلام يمارس الخطاب البليغ والفصيح لتحريك العقل الجمعي وتوجيهه الوجهة الصالحة. وفي هذا يقول ابن كثير : « وكان علي [ صلوات الله عليه ] يكرم الحسن اكراماً زائداً ويعظمه ويبجله ، وقد قال له يوماً : يا بني ألا تخطب حتى أسمعك ؟ فقال : إنّي أستحي أن أخطب وأنا أراك ، فذهب علي فجلس حيث لايراه الحسن ، ثم قام الحسن في الناس خطيباً وعليّ يسمع ، فأدّى خطبة بليغة فصيحة ، فلما انصرف جعل عليّ يقول : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ : ٢٦٠.

(٢) حلية الأولياء ٢ : ٤٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٢٦٠.

(٤) تهذيب تاريخ دمشق الكبير ٤ : ٢١٨.

٦٣

عَلِيمٌ ) » (١). ورُوي أنه : « طعن أقوام من أهل الكوفة في الحسن بن علي عليهما‌السلام ، فقالوا : إنّه عيّ لايقوم بحجّة ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فدعا الحسن فقال : يابن رسول الله إنّ أهل الكوفة قد قالوا فيك مقالة أكرهها ؟ قال : وما يقولون يا أمير المؤمنين ؟ قال : يقولون : إنّ الحسن بن علي عيّ اللسان لا يقوم بحجة ، وإن هذه الأعواد فاخبر الناس فقال : يا أمير المؤمنين لا أستطيع الكلام وأنا أنظر إليك ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّي متخلّف عنك ، فناد أنّ الصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون فصعد عليه‌السلام المنبر ، فخطب خطبة بليغة وجيزة فضجّ المسلمون بالبكاء ثم قال : أيّها الناس اعقلوا عن ربّكم إنّ الله عزّوجلّ اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ، فنحن الذريّة من آدم ، والاسرة من نوح ، والصفوة من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، وآل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نحن فيكم كالسماء المرفوعة ، والأرض المدحوة والشمس الضاحية ، وكالشجرة الزيتونة ، لا شرقية ولا غربية التي بورك زيتها ، النبي أصلها ، وعلي فرعها ، ونحن والله ثمرة تلك الشجرة ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا ، ومن تخلف عنها فإلى النار هوى » (٢). فقد صاغ الأحاديث النبوية الشريفة التي تتحدث عن فضائل أهل البيت عليهم‌السلام صياغة بلاغية جميلة ، وتمثلت بلاغته بالخطاب وبالقاء الشعر ، ومنه :

أغن عن المخلوق بالخالق

تغن عن الكاذب والصادق

واسترزق الرحمن من فضله

ليس غير الله بالرازق

مَن ظن أن الناس يغنوه

فليس بالرحمن بالواثق

مَن ظن أن الرزق مِن كسبه

زلت به النعلان من حالق (٣)

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ : ٣٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٣٥٨ / ٣٧.

(٣) نور الأبصار : ١٣٤.

٦٤

فقد بيّن في هذا الشعر جملة من المفاهيم والقيم الصالحة لايصالها إلى مسامع الناس لتنفذ إلى عقولهم وقلوبهم ، وفي شعر آخر يتحدث عن الدنيا الزائلة فيقول :

ذري كدر الأيام إنّ صفاءها

تولى بأيام السرور الذواهب

وكيف يفرّ الدهر من كان بينه

وبين الليالي محكمات التجارب

وقال عليه‌السلام :

قل للمقيم بغير دار إقامة

حان الرحيل فودّع الأحبابا

إنّ الذين لقيتهم وصحبتهم

صاروا جميعاً في القبور ترابا (١)

ويشير عليه‌السلام إلى الزهد في الدنيا ؛ في المأكل والمشرب والملبس ، فيقول :

لكسرة من خسيس الخبز تشبعني

وشربة من قراح الماء تكفيني

وطمرة من رقيق الثوب تسترني

حياً وإن متّ تكفيني لتكفيني (٢)

ويتحدث عليه‌السلام عن الشدّة والرخاء ، وعدم دوامهما ، فيقول :

لئن سائني دهر عزمت تصبراً

وكل بلاء لايدوم يسير

وإن سرّني لم أبتهج بسروره

وكلّ سرور لايدوم حقير (٣)

٦ ـ الهيبة : الهيبة التي يتصف بها القائد لها تأثير واضح على الاقتداء به من قبل الناس ، فهم يسعون للتشبه بمن له هيبة وسلطان عليهم ، وقد كان الإمام الحسن عليه‌السلام يتصف بهذه الصفة إلى أقصى الحدود. قال محمد بن إسحاق : « ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن كان يبسط له على باب داره ، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق ، فما مر أحد من خلق الله إجلالاً له ، فإذا علم قام ودخل بيته فمر الناس ، ولقد رأيته في طريق مكة ماشياً فما من خلق الله أحد رآه إلاّ نزل ومشى حتى رأيت سعد بن أبي وقاص يمشي » (٤). وقال واصل بن عطاء :

__________________

(١) مناقب آل آبي طالب ٤ : ١٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٩.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٠ ، وربيع الأبرار ٤ : ٢٠٩.

٦٥

 « كان الحسن بن علي عليهما‌السلام عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك » (١). وكان عليه‌السلام مهاباً من قبل الكثير من الحكّام والولاة وعموم الناس ، حتى أنّ معاوية الطاغية كان يهابه ، ولهذا كبّر عند موته ، وقال : « والله ما كبّرت شماتة لموته ، ولكن استراح قلبي وصفت لي الخلافة » (٢). وقال ابن عباس : « أوّل ذلّ دخل على العرب موت الحسن عليه‌السلام » (٣).

٧ ـ الشجاعة : إنّ هداية الناس واصلاحهم بحاجة إلى الشجاعة والاقدام ، لأنّها تصطدم بشهوات البعض وبالضعف النفسي لهم ، وتصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وبالمنحرفين الذين يبغضون الهداية والسمو ، وبالأعداء والمتآمرين ؛ ومعالجة كل هذا بحاجة إلى التسلّح بالشجاعة ، دون خوف أو وجل أو تردد أو تراجع. والإمام الحسن عليه‌السلام كإمام وخليفة كان يتصف بأعلى درجات الشجاعة ، وكان لايتردد في قول الحقّ وفي فعل الحقّ ولا تأخذه في الحقّ لومة لائم.

روي أنّ الطليق معاوية سأل الحسن عليه‌السلام بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسيّ ، فجلس عليه ، ثم قال : « ... وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجّه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا ؛ لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم إلى شياطينكم ، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم ، وحيف حكمكم ... » (٤).

وفي ردّ له على معاوية قال : « هيهات !! لشر ما علوت به يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان ، بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب الله ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنّك لا خير فيك ، فإنّ الله قد برأني من

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٣.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٢٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ١٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨.

٦٦

الرذائل كما برأك من الفضائل » (١). وفي مجلس لمعاوية طعن عمرو بن العاص بالإمام الحسن عليه‌السلام ، فخاطب الإمام عليه‌السلام معاوية قائلاً : « يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعاً في لحوم الناس ، أما والله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور ، وتحرّج منه الصدور ». ثم أنشأ يقول :

أتأمر يا معاوي عبد سهم

بشتمي والملا منّا شهود

فهل لك من أب كأبي تسامى

به من قد تسامى أو تكيد

ولا جد كجدي يا ابن حرب

رسول الله إن ذكر الجدود

ولا أم كأمي من قريش

إذا ما حصل الحسب التليد

فما مثلي تهكم يا ابن حرب

ولا مثلي ينهنهه الوعيد

فمهلاً لا تهج منا أموراً

يشيب لهولها الطفل الوليد (٢)

أمّا الشجاعة في ميدان القتال فقد شهدت له معارك الجمل وصفين ، ففي معركة الجمل قال الإمام علي عليه‌السلام لمحمد : « أي بنيّ خذ الراية ، فابتدر الحسن والحسين ليأخذاها ، فأخرهما عنها » (٣). وفي معركة صفين صرّح الإمام علي عليه‌السلام بذلك فقال : « ولقد هممت بالاقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني ـ يعني الحسن والحسين ـ ونظرت إلى هذين قد استقدماني ـ يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي ـ فعلمت أنّ هذين إن هلكا انقطع نسل محمد من هذه الأمة ، فكرهت ذلك ، وأشفقت على هذين أن يهلكا » (٤). وكان علي عليه‌السلام قد جعل الإمام الحسن على قلب جيشه ، كما ورد في كتب التاريخ (٥).

__________________

(١) حياة الإمام الحسن ٢ : ٣٠٦.

(٢) حياة الإمام الحسن عليه‌السلام ٢ : ٣٠٧.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٧٥.

(٤) وقعة صفين : ٥٣٠.

(٥) الإمامة والسياسة ١ : ١٠٤.

٦٧

٨ ـ التواضع : إنّ مهمة القائد أو الإمام هي هداية الناس واصلاحهم وتقرير مفاهيم وقيم الإسلام في عقولهم وقلوبهم وارادتهم وممارساتهم ، وهذه المهمة تتطلب الاختلاط معهم ومشاركتهم في نشاطاتهم وفعالياتهم ، وهي بأجمعها تعبير عن التواضع وعدم التعالي ، وبهذا التواضع يمتلك القائد عقول وقلوب الناس بعد اطلاعه على همومهم ومشاكلهم وعلى درجة قربهم وبعدهم عن المنهج الإسلامي ، وقد اتصف الإمام الحسن عليه‌السلام بهذه الصفة حتىٰ كانت خلقاً دائماً له ، ومن تواضعه أنّه « مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له : هلمّ يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء ، فنزل وقال : ( إنّ الله لا يحب المتكبرين ) ، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته عليه‌السلام ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وكساهم » (١). ومرّ بصبيان يأكلون كسراً من الخبز فاستضافوه فنزل وأكل معهم ، ثم حملهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم وقال : « اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني ، ونحن نجد كثيراً مما أعطيناهم » (٢).

٩ ـ الحلم واستيعاب المخالفين : الحلم وإستيعاب المخالفين صفة أساسية في حركة القائد الإسلامي ، لأنّه يواجه أصنافاً من الناس يختلفون في أفكارهم وتصوراتهم ومواقفهم ، فلا يمكن التأثير عليهم وهدايتهم إلاّ بالحلم والصبر على أخطائهم ومساوئهم ، وقد اتصف الإمام الحسن عليه‌السلام بهذه الصفة وكانت ملازمة له. روي انّه « قدم المدينة رجل كان يبغض عليا عليه‌السلام فانقطع ولم يبقَ معه زاد ولا راحلة فشكى حاله إلى بعض أهل المدينة فدله على الحسن ، وقيل له : لا تجد خيراً منه فجاءه وشكى إليه أمره ، فأمر له بزاد وراحلة ، فقال الرجل : الله أعلم

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٣٥٢ / ٢٨.

(٢) اسعاف الراغبين : ١٩٦.

٦٨

حيث يجعل رسالته. وقيل للحسن أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة ، فقال : أفلا اشتري عرضي منه بذلك » (١). وروى المبرد وابن عائشة : « أنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلما فرغ أقبل الحسن عليه فسلم عليه وضحك ، وقال : أيها الشيخ اظنك غريباً ولعلّك شبهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عريانا كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كبيراً. فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال : أشهد أنك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ والآن أنت أحبّ الله إليّ ، وحول رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم » (٢). وروي إنّ اللعين ابن اللعين مروان بن الحكم شتم الحسن بن علي عليهما‌السلام فلمافرغ قال الحسن : « إنّي والله لا أمحو عنك شيئاً ، ولكن مهّدك الله فلئن كنت صادقاً فجزاك الله بصدقك ، ولئن كنت كاذباً فجزاك الله بكذبك ، والله أشدّ نقمة منّي » (٣).

١٠ ـ الرفق والمداراة : الرفق بالناس ومداراتهم من أساسيات اصلاحهم وهدايتهم ؛ لأنّ الإنسان غالباً ما يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه وممارساته حتى تصبح جزءً من كيانه يرى فيها كرامته وكبرياءه ، ولا يتنازل عنها أحياناً ؛ لأنّه يرى في ذلك تنازلاً عن كرامته ، ولهذا فالتعامل ينبغي أن يكون بهدوء ورفق ، حتى يتأثر بالموعظة فيصلح أفكاره أو ممارساته ، وقد اتصف الإمام الحسن عليه‌السلام بهذه الصفة وهي صفة الرفق ومداراة المستويات المتعددة. عن الروياني قال :

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق الكبير ٤ : ٢١٨.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٣.

(٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٣٥٢ / ٢٩.

٦٩

 « إنّ الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضأ ولا يحسن ، فأخذا في التنازع يقول كل واحد منهما : أنت لا تحسن الوضوء ، فقالا : أيها الشيخ كن حكما بيننا يتوضأ كل واحد منّا فتوضئا ثم قالا : أيّنا يحسن ؟ قال : كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلّم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمّة جدّكما » (١). ومن الرفق والمداراة استخدام الحكمة في الموعظة لتكون أكثر تأثيراً في المقابل ، وقد ورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام أنّه « مرّ بشاب يضحك ، فقال : هل مررت على الصراط ؟ قال : لا ، قال : وهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار ؟ قال : لا ، قال : فما هذا الضحك ؟ فما رؤي هذا الضاحك بعد ضاحكاً » (٢).

ومن رفقه ومداراته لأصحابه الذين لا يدركون حقيقة الموقف الذي اتخذه وهو موقف الصلح ، إنّه كان يقابلهم بهدوء ويرد على إساءتهم بلطف.

قال له أبو عامر سفيان بن الليل : « السلام عليك يا مذل المؤمنين ! » فقال : لا تقل ذلك يا أبا عامر ، لست بمذل المؤمنين ، ولكنّي كرهت أن اقتلهم على الملك » (٣). وقال له مالك بن ضمرة : « السلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين » ، فقال له عليه‌السلام : « لا تقل ذلك ، إنّي لما رأيت الناس تركوا ذلك إلاّ أهله خشيت أن يجتثوا عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين في الأرض ناعٍ » (٤). وقيل له : يا مذلّ المؤمنين ومسوّد الوجوه ، فقال : « لا تعذلوني فإنّ فيها مصلحة » (٥).

طائفة من الأقوال بحق الإمام الحسن عليه‌السلام :

* الإمام الحسين عليه‌السلام : « رحمك الله أبا محمد ، إن كنت لتناصر الحقّ مظانه ، وتؤثر الله

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٣ : ٣١٩ / ٢.

(٢) جامع الأخبار / السبزواري ، الحديث : ٧٠٩ ، الفصل ٥٤.

(٣) المنتظم ٥ : ١٨٤.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٣٨.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١.

٧٠

عند مداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة ، وتردع بادرة أعدائك بأيسر المؤنة عليك ، وأنت ابن سلالة النبوة ، ورضيع لبان الحكمة ، وإلى روح وريحان وجنة نعيم » (١).

* محمد بن الحنفية : « يرحمك الله أبا محمد إن عزت حياتك فقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك ولنعم البدن بدن تضمنه كفنك ، وكيف لا يكون هكذا وأنت سليل الهدى وحليف أهل التقى وخامس أصحاب الكساء غذتك اكفّ الحقّ وربيت في حجور الإسلام ورضعت ثدي الايمان وطبت حياً وميتاً » (٢).

* عبدالله بن عمرو بن العاص : « هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء » (٣).

* أبو الأسود الدؤلي : « إنّه لهو المهذّب ، قد أصبح من صريح العرب في غر لبابها ، وكريم محتدها ، وطيب عنصرها » (٤).

* لما مات الحسن عليه‌السلام بكى عدوه الخبيث مروان بن الحكم ، فقال له الحسين عليه‌السلام :  « أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرّعه ؟ » فقال : « إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا » وأشار بيده إلى الجبل (٥).

* وقال أبوبكرة بن عبيد ـ عندما سمع بموته ـ : « قد أراحه الله من شرّ كثير ، وفقد الناس بموته خيراً كثيراً ، يرحم الله حسناً » (٦).

* وكان ابن الزبير يقول : « والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي » (٧).

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٤٦.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق الكبير ٤ : ٢٣٠.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ١٧٧.

(٤) أئمتنا / علي محمد علي دخيل ١ : ١٦٧.

(٥) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ٢٩.

(٦) شرح نهج البلاغة ١٦ : ١١.

(٧) البداية والنهاية ٨ : ٣٧.

٧١

* وقال محمد بن إسحاق : « ما تكلم عندي أحد كان أحبّ إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي » (١).

* الحافظ ابن كثير الدمشقي : « كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا ويرى هذا من النعم عليه ، وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطّمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما » (٢).

* الذهبي : « كان هذا الإمام سيداً ، وسيماً ، جميلاً ، عاقلاً ، رزيناً ، جواداً ، ممدحاً ، خيّراً ، ديّناً ، ورعاً ، محتشماً ، كبير الشأن » (٣).

* الزركلي : « كان عاقلاً حليماً محبّاً للخير فصيحاً ، من أحسن الناس منطقاً وبديهة » (٤).

* ابن الصباغ المالكي : « الكرم والجود غريزة مغروسة فيه ، واتصال صلاته للمعتقين نهج ما زال يسلكه ويقتفيه » (٥).

* سبط ابن الجوزي : « كان من كبار الاجواد ، وله الخاطر الوقاد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّه حبا شديداً » (٦).

* محمد بن طلحة الشافعي : « كان الله عزّوجلّ قد رزقه الفطرة الثاقبة في ايضاح مراشد ما يعانيه ومنحه الفطرة الصائبة لاصلاح قواعد الدين ومبانيه وخصه بالجبلة التي درت لها اخلاف مادتها بصور العلم ومعانيه » (٧).

* سليمان كتاني : « لقد غاب الحسن وبقي له المنهج حتى تستقيم به مناهج الأمة

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ : ٣٩.

(٢) البداية والنهاية ٨ : ٣٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٢٥٣.

(٤) الأعلام ١ : ٢٣٠.

(٥) الفصول المهمة : ١٥٧.

(٦) تذكرة الخواص : ١٧٦.

(٧) مطالب السؤول ٢ : ٦.

٧٢

في حقيقة الإسلام » (١).

* حسن كامل الملطاوي : « سيدي السبط الكريم : لقد وقفت على تاريخك العاطر ، فرأيت أن العناية الربّانية قد هيأتك لأن تكون إماماً كاملاً ، فوعيت في طفولتك الباكرة أحاديث عن جدك صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذها عنك الرواة ، مع أنك لم تعاشره أكثر من سبعة أعوام ونصف. ورأيتك ملازماً لأبيك ، تغرف من بحره الزاخر وترتوي ، ويمدك بمكنون اللآلي والدرر ... ورأيتك معلما للناس وللناشئة من أهل بيتك ممّا علمك الله ؛ فكنت منهم الإمام ، وكانوا هم الأئمة من بعدك » (٢).

* الدكتور طه حسين : « كان الإمام الحسن رضي‌الله‌عنه عذب الروح ، حلو الحديث ، كريم المعاشرة ، حسن الألفة ، محبباً إلى الناس ، ويحبّه اترابه من شباب قريش والأنصار لهذه الخصال ولمكانه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحبه عامة الناس لكل هذا ولسخائه وجوده ، واعطائه المال حين يسأل وحين لايسأل » (٣).

الفصل الخامس

خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام

المبحث الأوّل / المبايعة للإمام الحسن عليه‌السلام بالخلافة :

أخرج الحاكم عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام ، قال : « خطب الحسن بن علي عليهما‌السلام حين قتل عليّ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعطيه رأيته فيقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عليه

__________________

(١) الإمام الحسن الكوثر المهدور / سليمان كتاني : ١٢.

(٢) الإمام الحسن بن علي / حسن كامل الملطاوي : ٦.

(٣) الإمام الحسن بن علي / حسن كامل الملطاوي : ٤٣.

٧٣

وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء إلاّ سبع مائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع بها خادمة لأهله. ثم قال : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبي وأنا ابن الوصي وأنا ابن البشير وأنا ابن النذير وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه وأنا ابن السراج المنير وأنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل إلينا ويصعد من عندنا ، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيّه : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) (١) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت » (٢). ولمّا تمّ خطاب الإمام عليه‌السلام تقدّم عبدالله بن عباس ، وحث المسلمين على مبايعته ، وقال : « معاشر الناس ، هذا ابن نبيّكم ، ووصيّ إمامكم فبايعوه ».

واستجاب الناس إلى بيعته ، وقالوا : « ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة » (٣).

وفي رواية أخرى : جاء الناس إلى الحسن عليه‌السلام ، فقالوا : « أنت خليفة أبيك ووصيّه ، ونحن السامعون المطيعون لك فمرنا بأمرك » (٤). وتمت البيعة له في يوم الجمعة المصادف الحادي والعشرين من شهر رمضان في سنة ٤٠ للهجرة. وكان عدد المبايعين له أكثر من أربعين ألفاً ، كانوا قد بايعوا أباه عليه‌السلام على الموت (٥). وبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق وماوراءه من خراسان والحجاز واليمن (٦).

وعن ميمون بن مهران قال : « إنّ الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين : بايعهم على الإمرة ، وبايعهم على أن يدخلوا فيما

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٨٩ / ٤٨٠٢.

(٣) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصفهاني : ٦٢.

(٤) اثبات الهداة ٢ : ٥٥٠ / ٢٧ ، الباب ١٢ ، الفصل ١٠.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٣٠.

(٦) أسد الغابة ١ : ٤٩١.

٧٤

دخل فيه ، ويرضوا بما رضي به » (١). وخلافة الإمام الحسن عليه‌السلام مطابقة للمتبنيات الفكرية لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام والمدارس الأخرى ، فالإمام الحسن عليه‌السلام إمام مفترض الطاعة منصوص عليه من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ من قبل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو إمام وخليفة سواء بايعته الأمة أم لم تبايعه والبيعة هنا لا تُنشئ الإمامة أو الخلافة بل توكدها. وهو إمام وخليفة مفترض الطاعة في رأي المدارس الأخرى التي لا تتبنى النصّ والتعيين من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى ، فالبيعة وحدها كافية لانعقاد الولاية والإمامة والخلافة. فالماوردي يرى أنّ تعيين الخليفة بيد أهل الحلّ والعقد طبقا للمواصفات والشروط ، وفي ذلك يقول : « فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها ، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً » (٢). والخلافة لا تتوقف عند المخالفين على مبايعة سائر أفراد الناس بل يتم انعقادها ولو بعقد رجل واحد ، قال عبد القاهر البغدادي : « الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع ، إذا عقدها لمن يصلح لها ، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته » (٣).

وقد عمل فقهاء مدرسة الخلفاء بذلك ، فاقرّوا خلافة أبي بكر بمبايعة عمر له في السقيفة ، وأقرّوا خلافة عمر بن الخطاب بعهد أبي بكر له ، وأقرّوا خلافة عثمان حينما بويع من قبل عبد الرحمن بن عوف أو بقية أصحاب الشورى وإن كانوا مكرهين على ذلك.

دعوة معاوية للطاعة :

كتب الإمام الحسن عليه‌السلام لمعاوية بن أبي سفيان كتاباً جاء فيه : « بسم الله

__________________

(١) ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى : ٧٤ / ١٢٩.

(٢) الأحكام السلطانية / الماوردي : ٧.

(٣) أصول الدين / عبد القاهر البغدادي : ٢٨٠.

٧٥

الرحمن الرحيم ، من عبداللّه الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ... إنّ الله تعالى بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة للعالمين ... فلمّا توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقّه ... ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاجّت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ... واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا ... فاليوم فليعجب المتعجّب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لابفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... إنّ عليّا رضوان الله عليه لما مضى لسبيله رحمة الله عليه ولاّني المسلمون الأمر بعده ... فدع التمادي في الباطل وأدخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فانك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله ، وعند كل أوّاب حفيظ ، ومن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ، ومن هو أحق به منك ؛ ليطفئ الله النائرة بذلك ، وتجمع الكلمة وتصلح ذات البين. وإن أبيت إلاّ التمادي في غيك نهدت إليك بالمسلمين ، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين » (١).

واجبار معاوية على الطاعة عن طريق القوة أمر مشروع ؛ للحفاظ على وحدة الدولة ووحدة الكيان الإسلامي ووحدة المسلمين ، وهذا يظهر من كتاب الإمام علي عليه‌السلام إلى معاوية حيث الزمه بما الزم نفسه : « ... إنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً ، فإن خرج على أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاّه الله ما تولّى » (٢). فالإمام الحسن عليه‌السلام هدّد معاوية

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٦٤ و ٦٦.

(٢) نهج البلاغة : ٣٦٧ / ٦.

٧٦

باستخدام القوة من أجل اعادته للصف الإسلامي ، وليس لمجرد عدم البيعة. فعدم البيعة لا يكفي لوحده لاستخدام القوة ما لم تترتب عليها مفسدة شق عصا المسلمين وتفتيت الدولة والكيان الإسلامي. وكان جواب معاوية : « بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ... لو علمت أنك اضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ... فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي ... ».

قال جندب بن عبدالله الأزدي : « فلما أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له : إنّ الرجل سائر إليك فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله ، فأما أن تقدر أنّه يتناولك فلا والله حتى يرى يوماً أعظم من يوم صفين ».

وكتب معاوية : « ... فاحذر أن تكون منيتك على يد رعاع من الناس ... وإن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجرت لك ما شرطت ... ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها ، والسلام ». فأجابه الإمام الحسن عليه‌السلام : « بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت ، فتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني من أهله ، وعليّ إثم أن أقول فأكذب والسلام ». فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة « ... اقبلوا إليّ حتى يأتيكم كتابي هذا بجندكم وجهدكم وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمدالله الثأر ، وبلغتم الأمل ... ». فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان ، وسار قاصداً إلى العراق ، وبلغ الحسن خبر مسيره ، فتحرك لذلك. وبعث حجر بن عدي يأمر العمّال والناس بالتهيؤ للمسير ونادى المنادي الصلاة جامعة ، فأقبل الناس يتوثبون ويجتمعون ، فقال الحسن عليه‌السلام إذا رضيت جماعة الناس فاعلمني ، وجاء

٧٧

سعيد بن قيس الهمداني فقال : أخرج ، فخرج الحسن عليه‌السلام فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أمّا بعد ، فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كرهاً ، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين : ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١). فلستم أيّها الناس نائلين ما تحبّون إلاّ بالصبر على ما تكرهون ، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه أنا كنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، فاخرجوا رحمكم إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا ... ». وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن إلى معسكره. ثمّ إنّ الحسن عليه‌السلام سار في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن فأقام بها ثلاثاً حتى اجتمع الناس ، ثمّ دعا عبيدالله بن العباس فقال له : « ... إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فإن فعل فقاتل ، فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ... ».

مؤامرات معاوية :

في اليوم الثاني من وصول عبيدالله إلى مسكن ، وجّه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيدالله فيمن معه فضربهم حتى ردّهم إلى معسكرهم ، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيدالله أنّ الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلم الأمر إلي ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع ، ولك أن أجبتني الآن إن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ، فانسل عبيدالله إليه ليلاً (٢). وفي رواية إنّه صار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه (٣). وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن عليه‌السلام من يتحدث أنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ويوجه إلى عسكر قيس من يتحدث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه (٤). واستمر

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٤٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٤.

٧٨

معاوية في دسائسه وخبثه وكذبه وكيده وحيلته ودهائه ، فقد بعث لكل من عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر عيناً من عيونه يمني كل واحد منهم بقيادة جند من جنوده ، أو بتزويج إحدى بناته ، أو بمائة ألف درهم أن قتلوا الحسن ، وقد بلغه عليه‌السلام ذلك فاستلأم ولبس درعاً ، فكان لا يتقدم للصلاة إلاّ وعليه وقاية (١).

توالي الخيانات في جيش الإمام عليه‌السلام :

بعث الإمام عليه‌السلام قائدا من كندة في أربعة آلاف ، فلما نزل الانبار أغراه معاوية فالتحق به مع مائتي رجل من خواصه ، ثم التحق بمعاوية قائد من مراد في أربعة آلاف (٢). وكتب جماعة إلى معاوية بالسمع والطاعة له ، وضمنوا له تسليم الحسن عليه‌السلام إليه عند دنّوهم من عسكره أو الفتك به (٣) ، وأخبر الإمام عليه‌السلام المحيطين به قائلاً : « إنّ أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية فبايعوه ، فحسبي منكم لاتغروني في ديني ونفسي » (٤). وكان جيشه متعدد الولاءات « فبعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لايرجعون إلى دين » (٥). فلا غرابة من توالي الخيانات وعدم الثبات حتى النهاية.

توالي الاشاعات والحرب النفسية :

كان معاوية الخبيث يدسّ الجواسيس في جيش الإمام عليه‌السلام لبث الاشاعات ، ومنها : أن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، ودسّ إلى عسكر قيس من يتحدث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه. ووجّه معاوية إلى الإمام عليه‌السلام

__________________

(١) علل الشرائع / الشيخ الصدوق : ٢٢١.

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ٤٣ / ٤.

(٣) الارشاد / الشيخ المفيد : ١٩٠.

(٤) أنساب الأشراف / البلاذري ٣ : ٣٩.

(٥) الارشاد : ١٨٩.

٧٩

المغيرة بن شعبة وآخرين فالتقوا به ، وحينما خرجوا قالوا : « إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء ، وسكنّ الفتنة وأجاب إلى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في صدقهم » (١). وأشاع معاوية أنّ قيس بن سعد قد قتل (٢). وتوالت الاشاعات مما أدت إلى خلخلة جيش الإمام عليه‌السلام وخلق الاضطرابات فيه ، وتشجيع أهل الأهواء والمنافع للالتحاق بمعاوية حيث بدأت بعض القبائل تلتحق به « قبيلة بعد قبيلة حتّى خفّ عسكره » (٣).

مراسلة معاوية للإمام عليه‌السلام ودعوته لتسليم السلطة إليه :

بعد استمرار الفرار من جيش الإمام عليه‌السلام والالتحاق بمعاوية ، وبعد تعرّض الإمام عليه‌السلام لعدّة محاولات استهدفت قتله ، وبعد أن يئس الإمام عليه‌السلام من حسم المعركة لصالحه ، وأيقن أنّ بقاء الأوضاع على هذه الحالة يؤدّي إلى قتله وقتل أهل بيته وأصحابه المخلصين ، جاءته وفود معاوية تدعوه للصلح ، ومعهم كتب رؤساء العشائر الّذين ضمنوا لمعاوية فيها قتل الإمام أو تسليمه إليه (٤).

وكان مع آخر الوفود صحيفة بيضاء ، مختوم على أسفلها ، بخطّ معاوية وختمه : أن اشترط في هذه الصحيفة الّتي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك (٥). ولما راسله معاوية خطب في البقيّة المتبقيّة من جيشه ، وأخبرهم بدعوة معاوية للصلح ، ثمّ قال : « فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلى الله عزّ وجل بظُبى السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه ، وأخذنا لكم الرضا » فناداه الناس من كلّ جانب : « البقيّة البقيّة » (٦). وكان من خطب الإمام الحسن عليه‌السلام في ذلك الحين

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٥.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٠٤.

(٣) الفتوح ٢ : ٢٩١.

(٤) الإرشاد : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٥) تاريخ الطبري ٥ : ١٦٢.

(٦) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٠٦.

٨٠