القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

بشرطيّة أحدهما فلا مانع فيها من هذه ، لأنّ كلّ واحد من الأصلين يجري في حقّ أحدهما ، ولا يجري كلاهما في حقّ شخص واحد كي يكون العلم الإجمالي مانعا عن جريانهما ، وذلك واضح.

وقال في القواعد : أمّا لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري :

بل الجارية ، احتمل تقديم قول الراهن ـ وهو الأقوى ـ والتحالف ، وفسخ البيع (١).

ففي مورد كون رهن المتنازع فيه شرطا في البيع الذي قلنا بالتحالف ذكر وجهين : أحدهما التحالف كما بيّنّا ، ولعلّه هو المشهور في نظائره ممّا كان الثمن متنازعا فيه ، فيما إذا ادّعى كلّ واحد من البائع والمشتري ثمنا غير ما يدّعيه الآخر. والثاني : تقديم قول الراهن ، وقوّاه.

وقد ذكر في الإيضاح في وجه كلام والده ـ أي في وجه تقديم قول الراهن ـ بقوله : وجه القوّة خروج الجارية بإنكار المرتهن وبقاء التداعي في العبد ، والقول قول منكر الرهن ، إلى آخر ما قال (٢) وذكر في وجه التحالف أنّ الثمن يختلف باختلاف الشرط ، فكان كالاختلاف فيه. ثمَّ قال : والأصح الأوّل ، أي تقديم قول الراهن ، أي كون الحلف على الراهن فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله في وجه قوة الأوّل وكونه أصحّ بنظره : « خروج الجارية بإنكار المرتهن » صحيح لو لم يكن شرطا في البيع ، لما ذكرنا أنّ إنكاره فسخ ، لأنّ عقد الرهن من طرفه جائز ، فعلى تقدير صحّة قول الراهن وأنّ الرهن هي الجارية واقعا حيث أنّ عقد الرهن جائز ، فتخرج الجارية عن كونها رهنا بإنكاره وإن كانت.

وأمّا على تقدير كون رهنها شرطا في ضمن البيع ، فيجب الوفاء بالشرط وإن‌

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٦٦.

(٢) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ٤٣.

٨١

يعمل على وفق التزامه ، فلا يخرج بصرف إنكاره عن الرهنيّة بل يحتاج إلى الحلف ردا لدعوى الطرف. ولا شكّ في أنّ الشرط الواقع في ضمن العقد اللازم يجب الوفاء به ، وبإنكار المشروط عليه لا يرتفع ، فإذا ادّعى أحد مثل هذا الشرط على شخص يكون مثل سائر الدعاوي المتعلّقة بالحقوق أو الأموال ، فإذا لم تكن للمدّعي بيّنة وأنكر المدّعى عليه يكون عليه الحلف ، وبصرف الإنكار لا يخلّى سبيله.

نعم أيّد هذا الاحتمال ـ أي تقديم قول الراهن ـ تبعا للعلاّمة صاحب الجواهر (١) قدس‌سره وقوّاه ، وأفاد في وجهه : أنّ قول الراهن « إنّ الرهن هي الجارية » وإن أنكره المرتهن موافق للحجّة الفعليّة وهي أصالة اللزوم ، بخلاف قول المرتهن فإنّه مخالف لأصالة لزوم العقد ، لأنّ نتيجة إنكاره هو جواز الفسخ وعدم اللزوم ، وأيضا جواز الفسخ في صورة ثبوت عدم الوفاء بالشرط عن المشروط عليه كي يأتي خيار تخلّف الشرط.

وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون الشرط هو ما يدّعيه الراهن ، فالمرتهن بإنكاره هو الذي يفوّت الشرط على نفسه ، والخيار يأتي فيما إذا لم يف المشروط عليه بالشرط ، لا فيما إذا فات بواسطة عدم قبول المشروط له ، فإذا لم يكن للمرتهن الفسخ لما ذكرنا فلا يمين عليه ، لعدم أثر له ، فيكون اليمين مختصّا بالراهن فلا تحالف في البين ، ونتيجة حلف الراهن على عدم كون الرهن هو العبد ـ في المثال الذي ذكره في القواعد (٢) وهو أنّه لو ادّعى البائع اشتراط رهن العبد على الثمن ، فقال المشتري : بل الجارية. المراد من البائع في المثال هو المرتهن ، والمراد من المشتري هو الراهن مع إنكار المرتهن رهن الجارية ـ هو بقاء البيع بلا شرط ، مع العلم الإجمالي بوجود أحد الشرطين المذكورين في المثال ، وهما شرطيّة رهن العبد أو الجارية.

ويجيب صاحب الجواهر عن هذا الإشكال بأنّه لا غرابة فيه بعد الجريان‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٢٧٣.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٦٦.

٨٢

على الضوابط (١).

وفيه : أنّه بعد العلم بشرطيّة أحدهما وارتفاع أحدهما بإنكار المرتهن والآخر بحلف الراهن وعدم العمل بكليهما ، علمنا تفصيلا بتخلّف الشرط ، غاية الأمر الترديد في سبب التخلّف وأنّه هل عدم العمل بما يدّعيه المرتهن ، أو بما يدّعيه الراهن ، لا في أصل التخلّف.

اللهمّ إلاّ أن يقال ـ كما أشرنا إليه ـ : إنّ هذا التخلّف القطعي من المحتمل أن يكون من ناحية تفويت المشروط له ، وهو لا يوجب الخيار ، وما يوجبه هو التخلّف والتفويت من ناحية المشروط عليه ، وهو غير معلوم بل محتمل ومشكوك.

فرع : لو اختلفا في ردّ الرهن فالقول قول الراهن مع يمينه‌ ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم الردّ ، فقول المرتهن مخالف للأصل وقول الراهن موافق للأصل ، وقلنا في باب تشخيص المدّعي والمنكر إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من كان قوله موافقا للحجّة الفعليّة.

فإذا كان الراهن منكرا فوظيفته اليمين إن لم يكن للمدّعي ـ أي المرتهن ـ بيّنة على الردّ.

وأمّا مسألة أنّ المرتهن أمين والأمين لا يغرم.

ففيه : أنّه وإن كان أمينا بالأمانة المالكيّة ولكن الأمانة المالكيّة على قسمين : فتارة يكون المال تحت يده من قبل المالك وبإذنه ، ولكن لمصلحة نفسه لا لمصلحة المالك. وأخرى لمصلحة المالك ويكون محسنا كالوديعة.

وفي القسم الأخير لا يحلف ، لأنّه محسن ولا سبيل عليه.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٢٧٤.

٨٣

أمّا القسم الأوّل فحيث أنّ المال تحت يده لمصلحة نفسه وإن كان بإذن المالك لا يعدّ محسنا ، فقاعدة ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) لا تشمله ، فتجري فيه قواعد باب القضاء.

ففي المستأجر والمستعير والمقارض والوكيل بجعل وأمثال ذلك ممّا يكون تحت يده بإذن المالك لمصلحة نفسه إذا ادّعى الردّ لا تقبل قوله إلاّ بالبيّنة ، وتجري قواعد باب القضاء من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

فرع : إذا رهن مالا مشاعا كنصف دار أو دكّان مثلا ، وأذن للمرتهن في قبضه وكونه في يده‌ ، ووقع النزاع بين المرتهن وشريك الراهن في إمساكه ، فادعى كلّ واحد منهما أن يكون ذلك المال في يده ولم يرض الآخر بذلك ، فرفعا الأمر إلى الحاكم ، ينتزعه الحاكم ويقبضه لهما بنفسه ، أو ينصب عدلا بأن يكون في يده لهما.

ولا فرق في صحّة فعل الحاكم من قبض نفسه لهما أو نصب عدل بأن يقبض لهما بين أن يكون القبض لأجل أنّه شرط لصحّة الرهن ، أو يكون للاستئمان. فإذا انتزعه الحاكم وقبضه بنفسه لهما أو قبض العدل لهما ، يحصل القبض الذي هو شرط الصحّة ، من جهة أنّه بعد ما كان قبض كلّ واحد منهما غير ممكن لوجود التشاحّ والتنازع ، فيكون قبض الحاكم أو قبض من نصبه لذلك بمنزلة قبضهما ، لأنّ الشارع جعل له مثل هذه الولاية بقوله عليه‌السلام : « فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (٢).

فالحاكم منصوب لأجل قطع المنازعة والخصومة ، وحيث أنّ قطع الخصومة والمنازعة في المقام لا يمكن إلاّ بأحد أمرين : إمّا مباشرته بنفسه في قبضه لأجل صحّة‌

__________________

(١) التوبة (٩) : ٩١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٣ ، باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٨ ، ح ٥١٤ ، باب من إليه الحكم. ، ح ٦ ، وص ٣٠١ ، ح ٨٤٥ ، باب في الزيادات في القضاء والأحكام ، ح ٢٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٩٨ ، أبواب صفات القاضي ، باب ١١ ، ح ١.

٨٤

الرهن أو لأجل الاستئمان عليه إلى أن يحلّ الأجل ، أو نصب عدل لأجل أحد هذين الأمرين. فبأحدهما يقطع النزاع ، فله ـ أي للحاكم ـ ذلك ، لأنّه المرجع في هذه الأمور ، وإلاّ يلزم أن يكون جعله حاكما لغوا لا أثر له.

ثمَّ إن كان ذلك المال ذا أجرة آجره الحاكم بنفسه أو من نصبه مدّة لا تزيد على أجل الدين لأنّه بعد حلول الأجل إمّا أن يأخذ المرتهن دينه فيجب عليه ردّ الرهن إلى صاحبه وليس له حقّ بعد ذلك فيه ، فإذا كان الأمر بيد الحاكم أو من نصبه فهو أو من نصبه يردّ عليه وأمّا لا يؤدّي لفلس أو لغيره فيباع لاستيفاء دينه ، فعلى كلّ حال لا يبقى مجال لأن يوجره الحاكم بعد حلول الدين.

فلو آجره أزيد من أجل الدين يكون باطلا ، إلاّ أن يمضي الراهن والشركاء بالنسبة إلى تلك المدّة ، وإلاّ كان تصرّف من غير ذي الحقّ.

وأمّا الأجرة في الزمان الذي تصح الإجارة فيقسّم على الملاّك بالنسبة إلى حصصهم ، إلاّ أن يقال بأنّ النماء المتجدّد ـ وإن كان من قبيل المنافع الخارجة عن ذات العين المرهونة ـ أيضا يدخل في الرهن ، فتكون حصّة الراهن من المنافع ـ أي : الأجرة في المفروض ـ داخلة في الرهن ، وتبقى مثل نفس الرهن محفوظة في يد الحاكم أو في يد من نصبه إلى حلول أجل الدين ، فيكون حالها حال نفس الرهن ، أي إمّا أن يستوفي منها الدين أو يرد إلى صاحبه.

ثمَّ إنّ الإجارة لا بدّ وأن تكون بإذن الراهن ، لأنّ الرهن لا يقتضي أزيد من أن يكون نفس المال محفوظا كي يستوفي الدين منه عند حلول الأجل إن لم يؤدّ المديون. نعم لو وقع النزاع بين الشركاء فغير الراهن منهم أراد وأن يؤجروا وامتنع الراهن فأيضا يكون المرجع هو الحاكم ، لأنّه وليّ الممتنع فيؤجر ويصنع بالإجارة ، كما تقدّم.

ثمَّ إنّه لو وقع عقد الإجارة على أزيد من زمان أجل الدين ـ وقد عرفت أنّها باطلة بالنسبة إلى الزائد على الأجل ـ فلو كان المستأجر جاهلا بهذا الأمر يكون له‌

٨٥

الخيار في قبول الإجارة بمقدار مدّة أجل الدين وفسخها ، لأنّه يكون من قبيل تبعّض الصفقة بالنسبة إلى مدّة الإجارة.

فرع : لو أرهن بيضة على دين فأحضنها المرتهن فصارت فرخا‌ ، أو أرهن حبّا فزرعه فصار شجرا ، قال في الشرائع : يكون الملك والرهن باقيين (١).

وقال في الجواهر في مقام شرح العبارة : بلا إشكال في كل منهما أمّا في مسألة بقاء الملك فلأنّ هذه الأشياء نتيجة ماله ومادّتها له ، فلم تخرج عن ملكه بالتغيّر. والاستحالات المتجدّدة صفات حاصلة في البيضة والحب بسبب استعدادهما لتكوّنات متعاقبة خلق الله تعالى فيها ووهبها لهما ، والأرض والماء والإحضان ونحوها من المعدّات التي لا تخرج المادّة عن ملك صاحبها (٢) ، انتهى ما أفاده قدس‌سره.

وهذه العبارات التي ذكرها أخذها من المسالك بعين ألفاظها ، وإن شئت فراجعها.

وذكر في المسالك (٣) خلاف الشيخ وجماعة من العامّة أنّها تصير ملكا للقابض ـ أي : للمرتهن ـ فأجروا عليها حكم التلف.

وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ التغيّرات التي تقع في الجسم المملوك لشخص إذا كانت من قبل الله تعالى ومن مواهبه تعالى بواسطة استعداده ووجود معدّات لتلك الإفاضات من المبدء الفيّاض ، لا توجب زوال الملكيّة. وهذا ينبغي أن يعدّ من البديهيّات ، إذ لا شكّ في أنّ النباتات مثل الأشجار وغيرها والحيوانات كلّها في سيرها الكمالي تتغيّر من الصغر إلى الكبر ، وكذلك بحسب سائر الصفات والحالات ، فمن غرس أشجارا ليس لها ثمرة بل لا قابليّة لها فعلا لأن يكون ذا ثمرة ، ولكن صار بعد‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٤.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٢٥٥.

(٣) « المسالك » ج ١ ، ص ٢٣٥.

٨٦

ذلك أشجارا مثمرة ، وصار بستانا فيه من أنواع الفواكه والأثمار ، فهل يمكن أن يتجرّء أحد ويقول بأنّه بواسطة هذه التغيّرات خرج عن ملك مالكه؟! أو من كانت له سخال فكبر وصارت أغنام تخرج عن ملكه بصيرورتها شياه وأغنام؟! هذا ما ذكره قدس‌سره.

ولكن من المعلوم أنّ محلّ الكلام ليس من هذا القبيل ، بل الكلام في الموارد التي زال عنها الصورة النوعيّة وتلبّست بصورة أخرى ، كالحيوان الذي مات ووقع في المملحة وصار ملحا ، فهل يبقى هذا على ملك مالكه ، أو يقال بأنّه صار تالفا؟

وفي باب المطهّرات ذكروا أنّ أحدها الاستحالة ، وهي زوال الصورة النوعيّة وتبدّلها إلى صورة أخرى ، مع أنّ معروض النجاسة وموضوعها هناك أيضا مثل المقام هو الجسم المتصوّر بصورة كذا ، ويقولون هناك بذهاب النجاسة بزوال صورة الجسم النجس واستحالته إلى نوع آخر ، فهل الملكيّة أيضا من قبيل النجاسة تزول بزوال الصورة النوعيّة من الجسم المملوك؟

والفرق بين المقامين هو أنّ أدلة النجاسات ظاهرة في أنّ لصورها النوعيّة مدخليّة في نجاسة الجسم المتصوّر بتلك الصور وإن كان المعروض هو نفس الجسم ، بخلاف أدلّة الملكيّة فإنّها ظاهرة في أنّ الموادّ مملوك في عرض صورها النوعيّة ، فكما أنّ صور النوعيّة للذات المصنوعة من الحديد كالسيف وسائر ما يصنع منها مملوك لصاحبها ، كذلك الحديد الذي صنع هذه الأدوات منها مملوك له في عرض تلك الصور ، فهناك مملوكان كلّ واحد منهما في عرض الآخر. فلو زال أحدهما وانعدم فموضوع الآخر موجود ولم يزل ، فحكمه أيضا موجود.

أمّا في باب النجاسات : فالشارع وإن حكم بنجاسة موادّ النجاسات ولكن الموادّ التوأمة مع صورها ، فإذا زالت تلك الصور فلا يبقى موضوع النجاسة في البين ـ أي المادّة التوأمة مع صورتها النوعيّة ـ فقهرا تزول النجاسة وتذهب بذهاب موضوعها.

وأمّا بقاء رهانتها فلأنّه جعل هذا المال الخارجي رهنا لأجل استيثاق المرتهن‌

٨٧

من دينه ، وأنّه يستوفي دينه منه إن لم يؤدّ الراهن المديون لفلس أو لغيره ، فما دام يكون هو موجودا ولم يسقط عن الماليّة ويمكن استيفاء دينه منه فلا وجه لسقوط رهانته لما تقدّم وقلنا إنّ الرهن من طرف الراهن عقد لازم.

وأمّا ما ربما يتوهّم : من أنّ شيئيّة الشي‌ء بصورته لا بمادّته ، فإذا انعدمت الصورة ينعدم الشي‌ء بانعدامها ، فليس ذلك الشي‌ء باقيا كي تكون رهانته باقية.

ففيه : أنّ هذا الكلام وإن كان حقّا في محلّه ولكن لا ربط له بمقامنا ، لأنّه لا ندّعي بقاء تلك المهيّة لزوالها بزوال صورتها النوعيّة قطعا ، بل نقول موضوع الملكيّة نفس المادّة ، كانت مع الصورة النوعيّة أو لم تكن.

مثلا لو فرضنا أنّ الخشب صورته النوعيّة غير صورة الفحم ، ويكون سلب الخشبيّة من الفحم صحيحا لأنّه مهيّة أخرى غير مهيّة الخشب ، لكن معروض الملكيّة لمن يملك خشبا ليس مهيّة الخشب بصورتها النوعيّة ، بل المعروض مادّة الخشب ، فلو فرضنا أنّه احترق ذلك الخشب وصار فحما لا يخرج عن ملكه ، بل انقلب ملكه عن عنوان إلى عنوان آخر ، لأنّ المادّة الباقية في الحالين ملك في عرض الصور النوعيّة.

وحيث أنّ الرهن تعلّق بما هو ملك الراهن لأجل فرض استيثاق المرتهن ، فما هو الملك حيث كان باقية فرهانته أيضا باقية ، فالبيضة والحبّ حيث أنّ مادّتهما ملك وهي باقية بعد زوال صورتها وتبدّلها إلى صورة أخرى فرهانتهما أيضا باقية.

فظهر أنّ الملك والرهن كلاهما باقيين وإن تبدّلت صورتاهما. وتفصيل هذه المسألة مذكورة في كتاب الغصب في ضمان اليد.

فرع : لو رهن المستعير ما استعاره بدون إذن مالكه‌ ، فحيث أنّ هذا التصرّف لا يجوز له فتخرج يد المستعير عن كونها يد أمانة ، فيضمن لو تلف وإن كان تلفه بدون تعدّ وتفريط بل ولو تلف سماوي ، لأنّ ضمان اليد غير مقيّد بكون التلف بتفريط ذي‌

٨٨

اليد ، لأنّ اليد غير المأذونة مكلّف بردّ ما أخذت ، ولا يفرّغ ذمّته إلاّ بأداء ما وقعت تحت يده.

وأمّا لو كان رهن المستعير بإذن مالكه ، فالظاهر أنّ الراهن أيضا يضمن الرهن للمالك بقيمته إن كان قيميّا وبمثله إن كان مثليا يوم تلفه ، لأنّه قبل ذلك لا ضمان له حيث أنّ رهنه بإذن مالكه ، فليس لا يد الراهن ولا يد المرتهن يد ضمان ما دامت عين المستعارة موجودة.

نعم لو تلفت في يد المرتهن فالراهن ضامن بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا إذا لم يكن التلف عن تفريط المرتهن ، وإلاّ يكون المرتهن ضامنا ، لأنّ يده بالتفريط خرجت عن كونها أمانة.

وأمّا ضمان الراهن دون المرتهن فيما إذا لم يفرط المرتهن لاحترام مال المعير فإنّه لم يهبه للمستعير بل يكون إذنه في جعله رهنا بمعنى أنّه يصحّ بيعه واستيفاء المرتهن دينه منه ، ولكن بعوضه على ذمّة الراهن لا مجانا ، لأنّه يقع بدلا عمّا في ذمّة الراهن ، فيفرغ ذمّته عن الدين ، ولكن تشتغل بمثله إن كان مثليا وبقيمته إن كان قيميّا.

ومن هذه الجهة يشبه الضمان ، حيث أنّه بقوله « أنا ضامن » يفرغ ذمّة المضمون له عن دينه ، ولكن يشتغل ذمّته للضامن.

وأمّا المرتهن فلا شي‌ء عليه ، لأنّه استوفى دينه منه بإذن مالكه ، ولم يفرط كي تكون يده يد ضمان ، فلا وجه لضمانه أصلا. نعم لو فرط يكون ضامنا ، لخروج يده عن الأمانة.

ثمَّ إنّه لا يجوز للمعير أن يرجع عن إذنه ، لأنّ الرهن لازم من طرف الراهن ، فبإذنه كأنّه أخرج ماله عن تحت اختياره ، كما لو أذن في بيعه بإسقاط الخيار ، فباع وأسقط جميع الخيارات ، أو لم يكن له خيار بعد انقضاء خيار المجلس ، فليس للمالك إذن الرجوع عن إذنه. وهذا واضح جدّا ، ولا إشكال فيه.

٨٩

وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الفرع ـ مضافا إلى أنّ كلّها مقتضى القواعد العامّة في أبواب الضمانات ـ إجماعيّ لم يخالف فيها أحد من أصحابنا الإماميّة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

هذا كلّه قبل حلول أجل الدين ، وأمّا بعد حلول الأجل فله مطالبة مال ، فإن ردّه الراهن تامّا وبلا نقصان فلا شي‌ء عليه ، وأمّا لو طرء عليه نقصان أو تلف فالراهن ضامن ، ولا يضمن المرتهن إلاّ مع التفريط ، وإن تعذّر ردّه بدون تلف أو نقصان فعلى الراهن بدل الحيلولة إلى حصول الردّ.

ثمَّ إنّ للمعير الرجوع عن إذنه قبل تحقّق عقد الرهن ، بل وبعده قبل القبض إن قلنا بأنّ القبض شرط صحّة الرهن. بل يمكن أن يقال بجواز الرجوع وإن كان شرطا في اللزوم لا الصحّة ، لأنّ قبله عقد جائز فالرجوع بمنزلة الفسخ.

ثمَّ إنّ إجازة المالك تارة صريحة في أن يرهن المال المستعار كيف شاء ، وأخرى مقيّدة بقيد خاصّ ، وثالثة مطلقة.

في الصورة الأولى يجوز له أن يرهن عن أيّ شخص كان ، وعلى أيّ مقدار كان ، وبأيّ مدّة كانت.

وأمّا في الصورة الثانية فلا يجوز له التعدّي عمّا عيّن.

وإنّما الكلام في الثالث وأنّه هل يجوز له العمل والأخذ بالإطلاق كي يكون مثل الصورة الأولى فيرهن ممّن يشاء ، وعلى أيّ مقدار يشاء ، وبأيّ مدّة يشاء ، أم لا بل لا بدّ له أن يأخذ بالقدر المتيقّن أو المتعارف ممّا هو الظاهر؟ ويراد من الكلام غالبا عند العرف لا يبعد الثاني ، لأنّ الأخذ بالإطلاق غالبا يوجب الضرر وخسارة الآذن ، ومن حيث كثرة الاختلاف في آجال الديون واختلاف المرتهنين في حفظ الرهن وسلامته ربما يوجب إضرارا للمعير المجيز.

٩٠

فالأولى هو التعيين حين إذنه من حيث أجل الرهن وأنّه على أيّ مقدار من الدين ، وأنّ المرتهن من أيّ قسم وسنخ من الأشخاص ، إذ لا شكّ في تفاوت وصول الرهن وحصوله سالما بيد مالكه ـ أي المعير ـ باختلاف الحالات بالنسبة إلى المذكورات.

فإذا عيّن على حسب ما ذكرنا من مقدار الدين والأجل وحالات المرتهن ، فرهن على خلاف ما عيّن ، يكون رهنه فضوليّا يحتاج إلى إجازة المالك ، وإلاّ يكون باطلا إن ردّ ولم يجز.

ثمَّ إنّه بناء على ما قلنا « إنّ بيعه جائز للمرتهن » إن لم يؤدّ الراهن دينه عصيانا أو لعذر من فلس أو لجهة أخرى ، بأن كان وكيلا من قبل المالك عند عدم أداء الراهن دينه ، أو بإجازة جديدة من طرف المالك ، أو برجوعه إلى الحاكم وهو أمره بالبيع ، فباع بأكثر من ثمن المثل ، فمجموع الثمن الذي وقع عوض الرهن في بيعه للمعير المالك.

ووجهه واضح ، لأنّه ثمن ماله فيكون له ، ولا يخرج الرهن عن ملك مالكه بحكم الشرع بجواز البيع ، بل يخرج بوقوعه خارجا كما هو الشأن في جميع الأملاك التي تباع ، فالبيع يقع في ملك مالك الرهن ، فيكون تمام ما هو الثمن في بيعه لمالك الرهن. وهذا واضح ما كان ينبغي أن يذكره الأساطين.

ولكنّهم أرادوا بذكره دفع ما ربما يتوهّم ، وهو أنّ العارية وإن لم تكن مضمونة إلاّ إذا اشترط الضمان أو كانت ذهبا أو فضة ـ كما هو مذكور في محلّه مفصّلا ـ ولكن هذه العارية التي سمّوها استعارة للرهن مضمونة بمثله إن كان مثليّا ، وبقيمته إن كان قيميّا اتّفاقا وإجماعا ، فكأنّه أخرج عن ملك مالكه مقدّرا بهذا المقدار من الماليّة ، غاية الأمر تقدير الشارع ماليّته بهذا المقدار على تقدير تلفه وعدم إمكان وصول نفسه إليه.

فالمتوهّم ربما يتوهّم أنّ البيع لأجل استيفاء الدين أيضا مثل التلف ، بل هو تلف تشريعي ، فيكون الراهن ضامنا لثمن مثله لا الزائد عليه ، فإذا وجد راغب اشتراه‌

٩١

بأزيد من ثمن المثل فالزائد ليس للمالك بل للراهن ، لأنّ الشارع قدّر ماليّته بثمن المثل.

ولكن رفع هذا التوهّم بما ذكرنا : أنّ البيع وقع في ملك مالك الرهن ـ أي المعير في المفروض ـ ومجموع الثمن عوض ملكه ، فمجموعه يكون ملك مالك المعير ، ويكون له حقّ المطالبة بالزائد ، كما له حقّ المطالبة بمقدار ثمن المثل.

فرع : إذا انفكّ الرهن بواسطة أداء الدين ، أو إبراء المرتهن ذمّة الراهن أو غير ذلك‌ ، فهل يجب على المرتهن إيصال الرهن إلى مالكه ، أم يبقى أمانة مالكيّة عند المرتهن فإن طالبه المالك به يجب ردّه إليه وأمّا ابتداء وبدون مطالبة فلا؟ وهو ـ أي الردّ ابتداء ـ يجب في الأمانة الشرعيّة أو إعلامه بأنّ مالك عندي بصورة خاصّة ، كما إذا علم أنّ هذه اللقطة التي وجدها والتقطها لزيد مثلا ، فيعلم زيدا أنّ مالك الفلاني عندي ، أو بصورة عامّة كما إذا التقط شيئا ولا يعرف صاحبه فيعرّف بصورة عامّة ويقول : من ضاع عنه الشي‌ء الفلاني يأتي ويأخذه منّي.

والسرّ في ذلك : أنّ الأمانة الشرعيّة يجب إيصالها إلى صاحبها ، دون الأمانة المالكية بل يجب إعطاؤها إن طالبها لا مطلقا ، هو أنّ الأمانة المالكيّة بإذن المالك ، فإن رجع المالك عن إذنه لا بدّ وأن يعلمه ، والمطالبة يدلّ على عدم إذنه في البقاء عنده ورجوعه عن إذنه حين المطالبة. وأمّا الأمانة الشرعيّة فليست في يده بإذن المالك ، بل ربما لا اطّلاع للمالك أنّه عنده والشارع أذن له أن يكون عنده إلى أن يوصل إلى صاحبه.

ومعلوم أنّ كون مال الغير تحت يده لا بدّ وأن يكون بإذن مالكه ، وإذن الشارع وإن كان كافيا لأنّ الله ورسوله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، إلاّ أنّ إذن الشارع ليس مطلقا ، بل يكون لضبطه وحفظه إلى أن يوصل إلى صاحبه في أوّل أزمنة إمكانه ، فلا يجوز انتظاره إلى أن يطالبه ، بل غالبا في اللقطة وأمثالها من الأمانات الشرعية‌

٩٢

لا اطّلاع للمالك كي يطالبه.

وفي ما نحن فيه حيث أنّ الرهن أمانة مالكيّة لا يجب على المرتهن ردّه إلاّ بعد مطالبة المالك. وبناء على هذا فكما أنّ المرتهن لا يضمن الرهن ما لم يفرّط قبل أداء الراهن الدين لأنّ يده يد أمانة ، كذلك لا يضمن بعين ذلك الدليل بعد أداء الدين ما لم يطالب ، بل وما دام لم ينقض زمان يمكن أدائه عرفا وإيصاله إلى صاحبه.

فرع : وهو أنّه هل يقع الرهن بالمعاطاة ، أم لا بد من إنشائها باللفظ؟ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لشمول الإطلاقات له ، فقوله عليه‌السلام في رواية سماعة ، في جواب السؤال عن صحّة الرهن ، قال : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (١) يشمل ما إذا استوثق بالمعاطاة بأن يعطى مالا للدائن لأن يكون رهنا ووثيقة عنده ليستوثق من ماله ، فهو عليه‌السلام أمضى صحّة مثل هذه المعاملة ، مضافا إلى السيرة بقوله : لا بأس يستوثق من ماله.

وبقوله عليه‌السلام في رواية يعقوب بن شعيب قال : سألته عن الرجل يكون له على الرجل تمر أو حنطة أو رمّان وله أرض فيها شي‌ء من ذلك ، فيرتهنها حتّى يستوفي الذي له ، قال عليه‌السلام : « يستوثق من ماله » (٢).

وفي رواية عبد الله بن سنان ، قال عليه‌السلام : « نعم استوثق من مالك » (٣) وأمثال هذه‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٦١ ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح ٣٩٤٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٢ ، ح ١٧٩ ، باب بيع المضمون ، ح ٦٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب الرهن ، باب ١ ، ح ٤.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٥ ، ح ٧٧٢ ، باب في الرهون ، ح ٢٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢٢ ، أبواب الرهن ، باب ١ ، ح ٦.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٥٩ ، باب السلف في الطعام والحيوان ، ح ٣٩٣٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب الرهن ، باب ١ ، ح ١.

٩٣

المطلقات كثيرة (١) ، وليس إجماع على عدم وقوعه بالمعاطاة.

الحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب الرهن ، باب ١.

٩٤

٥٧ ـ قاعدة

الزعيم غارم‌

٩٥
٩٦

قاعدة الزعيم غارم (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الزّعيم غارم ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (١) ‌ولا شكّ في أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ الزعيم والمتعهّد بمال ، عليه أن يعطى ذلك المال للذي تعهّد له.

وأيضا قوله تعالى ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (٢) فإنّ ظاهر الآية هو الخطاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسؤال عنهم أنّ أيّهم زعيم بإثبات ما يدّعون من تساوي حال المشركين مع المسلمين في الدنيا والآخرة ، فإنّهم كانوا يدّعون أنّه على فرض صحّة ما يدّعي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّا نبعث ، لم يكن حالنا وحالهم إلاّ مثل ما هي في الدنيا ، أي أنّا أعزّاء وهم أذلاّء ، فردّهم الله تعالى بقوله مخاطبا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) أي كفيل بإثبات صحّة ذلك ، أي ادّعائهم ادّعاء باطل لا يقدر أحد منهم إثبات‌

__________________

(*) « الحق المبين » ص ٨٥ ، « خزائن الاحكام » ش ١٧ ، « قواعد فقه » ( شهابى ) ص ٩٣ ، « القواعد » ص ١٣٧ ، « قواعد فقه » ( محقق داماد ) ج ٢ ، ص ١٥٥ ، « قواعد فقهي » ص ٦٧.

(١) يوسف (١٢) : ٧٢.

(٢) القلم (٦٨) : ٤٠.

٩٧

ذلك ، فتدلّ الآية بالالتزام على أنّ الزعيم والكفيل أن يخرج من عهدة ما تعهّد به ويفي به ، فتأمّل.

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم » ‌في خطبته يوم فتح مكّة حيث قال : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي ، والزعيم غارم » (١).

ولا ينافي ذلك ما رواه حسين بن خالد عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام جعلت فداك قول الناس : الضامن غارم ، قال فقال عليه‌السلام : « ليس على الضامن غرم ، الغرم على من أكل المال » (٢).

وذلك لأنّ المراد منه أنّ الخسارة الواقعيّة بالأخرة على من أكل المال والضمان ينتهي إليه ، لأنّ الضامن وإن كان ذمّته تشتغل بالمال للمضمون له ، ولكن ليس اشتغال ذمّته بلا عوض ومجّانا ، بل يكون بعوض اشتغال ذمّة المضمون عنه له بذلك المقدار ، فالغرم والخسارة الواقعيّة يكون على المضمون عنه ومن هو المديون واقعا وعبّر عنه عليه‌السلام بمن أكل المال.

الثالث : الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام‌ ، وهي كثيرة :

منها : ما رواه فضيل وعبيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لمّا حضر محمّد بن أسامة الموت دخل عليه بنو هاشم ، فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم وعليّ دين فأحبّ أن تقضوه عنّى. فقال على بن الحسين عليه‌السلام : ثلث دينك عليّ. ثمَّ سكت وسكتوا ، فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : عليّ دينك كلّه. ثمَّ قال على بن الحسين عليه‌السلام : « أمّا‌

__________________

(١) « سنن الترمذي » ج ٢ ، ص ٣٦٨ ، باب ٣٩ ، ح ١٢٨٥ ، « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ٢٩٧ ، باب تضمين العارية ، ح ٣٥٦٥ ، « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٨٠٢ ، باب العارية ، ح ٢٣٩٨ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤٣٥ ، أبواب الضمان ، باب ١ ، ح ٢.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٠ ، باب اللقطة والضالّة ، ح ٥ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٩٦ ، باب الكفالة ، ح ٣٤٠٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، ح ٤٨٥ ، باب الكفالات والضمانات ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٤٩ ، أبواب الضمان ، باب ١ ، ح ١.

٩٨

أنّه لم يمنعني أن أضمنه أوّلا إلاّ كراهة أن يقولوا : سبقنا » (١) إلى غير ذلك من الأخبار التي سنذكر بعضها في القسم الأوّل من أقسام الضمان بالمعنى الأعمّ ، وهو الضمان بالمعنى الأخصّ إن شاء الله تعالى.

الرابع : الإجماع‌ على أنّ من تعهّد بمال أو بنفس يجب عليه الوفاء بما تعهّد ، وقد تكرّر في هذا الكتاب ذكر الإجماع والإشكال عليه ، فلا نعيد.

الخامس : ما ذكرنا في قاعدة وجوب الوفاء بما التزم به‌ ، وأنّ بناء العقلاء على لؤم من يخالف التزامه وتوبيخ من لم يعمل بما تعهّد ، والشارع أيضا ألزم في عالم التشريع لزوم العمل ووجوب الوفاء بالتزاماته ، وقد أقمنا على ذلك البرهان من الأدلّة الشرعيّة.

ولا شكّ في أنّ الزعامة والكفالة لا تحصل إلاّ بالتعهّد والالتزام بمال أو نفس ، فإذا حصل مثل هذا التعهّد والالتزام يكون مشمولا لأدلّة وجوب الوفاء ، فالشرع والعقل يحكمان بلزوم العمل على طبق تعهّده والتزامه ، غاية الأمر مع مراعاة ما اعتبره الشارع في كلّ مورد في صحّة ما التزم به وتعهّد عليه ، وأن لا يكون من الالتزامات الباطلة ، كالالتزام بفعل حرام أو ترك واجب. وقد تقدّم كلّ ذلك في بعض القواعد.

الجهة الثانية

في شرح مفادها وبيان المراد منها‌

أقول : ظاهر هذه الجملة ـ أي جملة « الزعيم غارم » التي في الحديث الشريف ـ هو أنّه يجب على الزعيم ـ أي الكفيل والمتعهّد ، سواء كان متعهّدا بالمال ، أو كان متعهّدا بالنفس والبدن ـ أداء ما تعهّد به فإن كان مالا يؤدّيه وإن كان نفسا يسلمه ، أو‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٨ ، ص ٣٣٢ ، ح ٥١٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥١ ، أبواب الضمان ، باب ٣ ، ح ١.

٩٩

يغرم ما عليه من مال أو حقّ ، على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى.

وذلك من جهة أنّ الجملة وإن كانت بظاهرها جملة خبريّة ، ولكن حيث انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام إنشاء الحكم فاستعمل الجملة الخبريّ في الإنشاء. وقد بيّنّا في الأصول أنّ الجملة الخبريّة التي استعملت في مقام الإنشاء إن كانت موجبة تكون آكد في الوجوب من الجملة الطلبية الإنشائية ، وإن كانت نافية تكون آكد في التحريم.

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجمل الأربع التي في الحديث الشريف وهي : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضي » وهذه الجملة ، أي جملة « الزعيم غارم » وإن كان كلّ واحد منها بصورة الجملة الخبريّة ، ولكن حيث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام الحكم فكلّها دالّة على الوجوب.

فالحديث يدلّ على وجوب أداء الزعيم ما تعهّد به ، وذلك من جهة أنّ الزعيم بمعنى الكفيل والغارم هو الضامن ، كما ذكره في نهاية ابن أثير (١).

والضمان بالمعنى الأعمّ كون ذمّة الشخص مشغولة لآخر بمال أو نفس ، وهو ثلاثة أقسام :

الأوّل : الضمان بالمعنى الأخصّ. وهو عند الفقهاء عبارة عن التعهّد بمال ممّن ليست ذمّته مشغولة لذلك الضامن بمثله.

الثاني : الحوالة. وهي عبارة عن التعهّد بمال ممّن ذمّته مشغولة له بمثل ما يتعهّد. وهذا بناء على عدم صحّة الحوالة على البري‌ء ، وإلاّ يكون هذا التعريف أخصّ منها كما هو واضح.

الثالث : الكفالة. وهي عبارة عن التعهّد بنفس للآخر.

فالبحث في هذه القاعدة يكون في ثلاث مقامات :

__________________

(١) « النهاية » ج ٣ ، ص ٣٦٣ ( غرم ).

١٠٠