القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

وأمّا القول الثاني ، أي بقاء التخيير الذي كان له قبل الإعطاء إلى ما بعد الإعطاء ، فله أن يصرفه إلى ما شاء منهما. فاختاره فخر المحقّقين في الإيضاح قائلا إنّه تصرّف اختياري له من غير توقّف على اختيار أحد له ، وهو غير موقوف على غير الاختيار والدفع فيفعله متى شاء (١).

وهو غريب ، لأنّه وإن كان غير موقوف على غير الاختيار والدفع أي على شي‌ء آخر غير هذين ، وهو موقوف على هذين فقط.

ولكن أنت خبير بأنّ توقّفه على الاختيار ليس على مطلق الاختيار في أيّ وقت كان ، بل يكون موقوفا على الاختيار حال الدفع ، وإلاّ بعد ما دفع يقع الدفع على ما هو عليه ، ولا يتغيّر الشي‌ء بعد وقوعه عمّا هو عليه وقع.

والأصحّ هو الوجه الأوّل أي التوزيع ، لأنّه مديون لذلك الشخص بدينارين ، وكون أحدهما ذي رهن والآخر فاقده لا دخل له بعالم المديونيّة. فإذا أعطاه في المفروض دينارا فقد أدّى نصف ما عليه من دون ملاحظة خصوصية أخرى ، فقد برئت ذمّته من نصف ما عليه.

وحيث أنّ ذمّته كانت مشغولة بدينار ودينار المتميزان بعنوان آخر غير عنوان الدينيّة ، فبرئت ذمّته من نصف كلّ واحد منهما ، لأنّ كلّ واحد منهما ممّا عليه ، والمفروض أنّ ذمّته برئت من نصف ما عليه ، وهذا عين التوزيع.

وقد ذكر العلاّمة قدس‌سره في القواعد موارد كلّها من هذا القبيل (٢) ، أي يكون من قبيل التوزيع ، أو بعد الوقوع يصرفه إلى ما شاء.

مثلا من جملة ما ذكره في القواعد : لو كان لزيد عليه مائة ولعمرو مثلها ووكّلا شخصا يقبض لهما ودفع المديون لزيد أو لعمر وفذاك ، وإلاّ فالوجهان : أي لو أعطى‌

__________________

(١) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ٤٤.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٧.

٦١

المديون مائة بقصد أداء دين زيد ، أو بقصد أداء دين عمرو فهو ، أي يتعيّن بالقصد ، وإلاّ أي لم يقصد أحدهما فيأتي الوجهان ، أي التوزيع أو يصرفه بعد الأداء إلى ما شاء منهما.

وأيضا من جملة ما ذكره من نظائر المقام قوله : لو تبايع المشركان درهما بدرهمين وسلم مشتري الدرهم درهما ، ثمَّ أسلما فإن قصد المشتري الذي أدّى درهما أداء الأصل فلا شي‌ء عليه ، لأنّه أدّى ما عليه والدرهم الزائد رباء ، وبعد أن أسلما لا يجوز للبائع أخذه ولا للمشتري ، لحرمة الربا أخذا وعطاء في الإسلام. وأمّا لو قصد المشتري أداء الفضل ولا الأصل ، فالأصل ليس رباء يجب عليه أدائه ، وما أعطى بعنوان الفضل حيث كان في زمان كفرهما وشركهما نافذ لا مانع. وإن لم يقصد شيئا منهما لا الأصل ولا الفضل ، فيأتي الوجهان أي التوزيع أو صرفه إلى واحد منهما شاء ، والنتائج معلومة.

وقد ذكر نظيرا آخر في المقام ، وكذلك صاحب الجواهر ذكر بعض نظائر المقام (١) ، ولكن الفقيه المتدبّر يفهم الفرق بين بعض ما ذكراه ومورد البحث ، فلا نطول الكلام.

فرع : لا إشكال في تحقّق الرهن بالعقد والمعاطاة. أمّا وقوعه بالعقد فربما يكون من القطعيّات‌ ، بل من ضروريّات الفقه.

وإذا كان بالعقد فيحتاج إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، والإيجاب من الراهن ، وهو كلّ لفظ أفاد هذا المعنى أي جعل عين متموّل وثيقة لدينه ، بحيث لو تعذّر أو تعسّر أداء دينه ، أو ماطل من دون تعذّر أو تعسّر يستوفي الدائن حقّه من تلك العين التي عنده وثيقة ماله.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٢٧٥.

٦٢

فلو قال : رهنتك ، أو قال : أرهنتك ـ من باب الإفعال بناء على أنّها لغة مستعملة ، لا شاذّة مهجورة بلغ شذوذها حدّ المنع من استعمالها في مقام إنشاء المعاملات ـ أو قال : هذا رهن عندك ، أو قال : هذا وثيقة عندك على الدين الفلاني أو على مالك الذي في ذمّتي ، أو غيرها ممّا يفيد هذا المضمون يكفي في تحقّق الإيجاب.

ولا يعتبر فيه العربيّة بل يصحّ إنشاؤه بكلّ لغة ، لشمول العمومات له ، ولم يدّع أحد الإجماع على لزوم كونه بالعربيّة كما ادّعى في عقد النكاح كي يكون مخصّصا للعمومات ومقيّدا للإطلاقات.

وأمّا القبول : فهو عبارة عن كلّ لفظ دالّ على مطاوعة المرتهن ذلك الإيجاب الصادر من الراهن.

وأمّا وقوعه بالمعاطاة ، فلما ذكرنا في وجه عدم اعتبار العربيّة من شمول الإطلاقات لها ، وليس إجماع مخصّص أو مقيّد للإطلاقات. هذا ، مضافا إلى وجود السيرة العمليّة بين المسلمين في رهونهم بالمعاطاة ، كما أنّه جار في الأسواق ومعاملاتهم.

فرع : لو اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين‌ ، فقال الراهن : إنّ هذه العين رهن على المائة مثلا ، وقال المرتهن : إنّها رهن على الألف مثلا ، فالقول قول الراهن حسب قواعد باب القضاء ، لأنّ المرتهن يدّعي الزيادة ، والأصل عدم اشتغال ذمّة الراهن بأزيد ممّا يقرّ ويعترف بوقوع الرهن عليه ، فيكون قول الراهن مطابقا للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر والمرتهن هو المدّعي ، فالبيّنة عليه ، وعلى الراهن اليمين.

وحكى عن الإسكافي تقديم قول المرتهن ما لم تزد دعواه عن قيمة الرهن (١). ولكن المشهور على الأوّل ، وهو الأقوى لوجوه :

__________________

(١) حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٢٠.

٦٣

الأوّل : ما ذكرنا أنّه مقتضى قواعد باب القضاء وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (١).

الثاني : دعوى ابن زهرة (٢) وابن إدريس (٣) الإجماع على تقديم قول الراهن :

الثالث : دلالة روايات معتبرة عليه ، وقد عقد في الوسائل بابا في تقديم قول الراهن عند الاختلاف فيما على الرهن (٤).

منها : صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل يرهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما فيه ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فقال صاحب الرهن : أنّه بمائة ، قال عليه‌السلام : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وإن لم يكن له بيّنة فعلى الراهن اليمين » (٥).

ومنها : موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنته بألف ، وقال الآخر : بمائة درهم ، فقال : يسأل صاحب الألف البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة (٦).

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٠ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٣ ، مع تفاوت ، « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٤٤ ، ح ١٧٢ ، ج ٣ ، ص ٥٢٣ ، ح ٢٢ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٣٦٨ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٣ ، ح ٤.

(٢) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٩٣.

(٣) « السرائر » ج ٢ ، ص ٤٢١.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٧ ، أبواب الرهن ، باب ١٧ : انّهما إذا اختلفا فيما على الرهن ولا بيّنه فالقول قول الراهن مع يمينه.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٣٧ ، باب الاختلاف في الرهن ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٤ ، ح ٧٦٩ ، باب في الرهون ، ح ٢٦ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢١ ، ح ٤٣٢ ، باب أنّه إذا اختلف الرهن والمرتهن. ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٧ ، أبواب الرهن ، باب ١٧ ، ح ١.

(٦) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٣٧ ، باب الاختلاف في الرهن ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣١٢ ، باب الرهن ، ح ٤١١٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٤ ، ح ٧٧١ ، باب في الرهون ، ح ٢٨ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٢ ، ح ٤٣٤ ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٧ ، أبواب الرهن ، باب ١٧ ، ح ٢.

٦٤

ومنها : رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بيّنة بينهما ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، وقال صاحب الرهن : هو بمائة ، فقال عليه‌السلام : « البينة على الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين أنّه بمائة » (١).

وأنت خبير بأنّ هذه الروايات ظاهرة بل صريحة في أنّ القول هو قول الراهن الذي يقول بأنّ الدين أقلّ ، وأمّا المرتهن الذي يقول بأنّ الدين أزيد وهو الألف مثلا هو المدّعي ، وعليه البيّنة.

نعم هنا رواية أخرى ، وهي ما رواه السكوني عن جعفر عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن عليّ عليه‌السلام في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر ، قال على عليه‌السلام : « يصدق المرتهن حتّى يحيط بالثمن ، لأنّه أمينه » (٢).

وظاهر هذه الرواية مخالف لما يقوله المشهور ، ومطابق لفتوى الإسكافي ، وذلك لأنّ ظاهر الرواية وجوب تصديق المرتهن ما لم تزد دعواه على ثمن الرهن ـ كما هو تعبير جامع المقاصد (٣) ـ أو ما لم يستغرق ما يدّعيه ثمن الرهن كما هو عبارة الشرائع (٤).

والفرق بين العبارتين أنّه بناء على التعبير الأوّل إذا كان دعوى المرتهن بمقدار ثمن الرهن لا أقلّ ولا أكثر تقبل ، لأنّها لم تزد على ثمن الرهن. وبناء على التعبير الثاني لا تقبل ، لأنّها تستغرق ثمن الرهن ، وظهور الرواية بل صريحه الثاني ، لقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٤ ، ح ٧٧٠ ، باب في الرهون ، ح ٢٧ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢١ ، ح ٤٣٣ ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٨ ، أبواب الرهن ، باب ١٧ ، ح ٣.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٠٨ ، باب الرهن ، ح ٤١٠٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٥ ، ح ٧٧٤ ، باب في الرهون ، ح ٣١ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٢ ، ح ٤٣٥ ، باب أنّه إذا اختلف الراهن والمرتهن. ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٨ ، أبواب الرهن ، باب ١٧ ، ح ٤.

(٣) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ١٥٩.

(٤) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٥.

٦٥

« يصدّق المرتهن حتّى يحيط بالثمن » فبناء على خروج الغاية عن المغيّى حكما ـ كما هو الظاهر ـ فإذا أحاطت بالثمن ، لا تقبل وإن لم تزد عليه فعبارة الشرائع أوفق مع الرواية.

وعلى كلّ الظاهر أنّ مستند الإسكافي في فتواه هذه الرواية.

ولكن هذه الرواية لا يمكن الاستناد والاعتماد عليها لوجوه :

الأوّل : ضعف سندها كما هو معلوم.

الثاني : معارضتها بما هو أقوى سندا وأصرح دلالة.

الثالث : موافقتها لفتوى المخالفين.

الرابع : إعراض المشهور عنها.

ولذلك حملها الشيخ قدس‌سره على أن الأولى للراهن أن يصدّق المرتهن (١). لكنّه عجيب ، لأنّ الراهن حيث يدري بكذب دعوى المرتهن كيف يكون الأولى أن يصدّق المرتهن ، بل ربما يقع من تصديقه في ضيق شديد ، وذلك فيما إذا كان ما يدّعيه من الزيادة كثيرا بحيث يكون أداؤه على الراهن في غاية الصعوبة.

فالأولى الإعراض عنها وعدم الاعتناء بها ، كما صنع المشهور ، ويكون مقتضى القواعد المقرّرة في الأصول في باب تعارض الروايات.

فرع : قال في الشرائع : لو اختلفا في متاع فقال أحدهما ـ أي المالك ـ : هو وديعة ، وقال القابض : هو رهن‌ ، أنّ القول قول المالك ، وقيل : قول الممسك ، والأوّل أشبه (٢) ، انتهى. لأنّه مطابق مع الأصل ، أي : أصالة عدم كونه رهنا ، وذلك لأنّه يحتاج إلى جعل وإنشاء من قبل المالك وقبول من قبل المرتهن ، أي وقوع عقد الرهانة. وهذا‌

__________________

(١) « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٢ ، ذيل ح ٤٣٥.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٥.

٦٦

أمر غير معلوم الصدور منهما ، فيستصحب عدمه ، فقول المالك الذي ينكر الرهانة ويقول وديعة مطابق للحجّة الفعليّة ، فهو المنكر ، إذ هذا هو الميزان في تشخيص المدّعي والمنكر.

لا يقال : كما أنّ الأصل عدم كونه رهنا كذلك مقتضى الأصل عدم كونه وديعة فيتعارضان.

لأنّ عدم الوديعة في المقام لا أثر له ، لأنّ الطرفين ـ أي المالك والقابض ـ معترفان بأنّه ملك لزيد مثلا الذي يدّعي أنّه وديعة ، وأيضا الطرفان معترفان بعدم ضمان اليد لو وقع التلف عليه.

فاستصحاب عدم كونه وديعة لا يثبت شيئا ، بخلاف أصالة عدم كونه رهنا ـ بعد الفراغ عن كونه مال مدّعي كونه وديعة ـ يثبت طلقيّته عن قيد الرهانة ، ويأخذه عن مدّعي الرهينة متى شاء.

هذا ، مضافا إلى صحيح محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل رهن عند صاحبه رهنا ، فقال الذي عنده الرهن : أرهنته عندي بكذا وكذا ، وقال الآخر : إنّما هو عندك وديعة ، فقال : « البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا ، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين » (١).

ودلالة هذا الصحيح على مقالة المشهور ، أي قبول قول من ينكر الرهن الذي هو المالك واضحة. وبعبارة أخرى : يدلّ على أنّ القابض الممسك للمتاع مدّع وعليه البيّنة ، والمالك المدّعي أنّه وديعة منكر للرهن فعليه اليمين أنّه ليس برهن إن لم تكن بيّنة للقابض على أنّه رهن.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٤ ، ح ٧٢٩ ، باب في الرهون ، ح ٢٦ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٣ ، ح ٤٣٨ ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان في متاع. ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٦ ، أبواب الرهن ، باب ١٦ ، ح ١.

٦٧

ولكن في الوسائل بعد ما ذكر الصحيح قال : وحمله الشيخ على أنّ عليه البيّنة في مقدار ما على الرهن ، لا على أنّه رهن ، لما يأتي (١).

ومقصوده ممّا يأتي رواية ابن أبي يعفور ، ورواية عبّاد بن صهيب اللتان سنذكر هما إن شاء الله تعالى.

وبناء على ما حمل عليه الشيخ تكون الصحيحة أجنبيّة عن فتوى المشهور ، ولا تكون معارضة لرواية عبّاد بن صهيب ، ولا لرواية ابن أبي يعفور.

أمّا الأوّل ، أي رواية عبّاد بن صهيب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من متاع في يد رجلين أحدهما يقول : استودعتكه ، والآخر يقول : هو رهن ، قال : فقال عليه‌السلام : « القول قول الذي يقول هو أنّه رهن إلاّ أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود » (٢).

وأمّا الثاني ، أي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر أو اختلفا فقال أحدهما : هو رهن وقال الآخر : هو وديعة قال : على صاحب الوديعة البيّنة ، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب الرهن » (٣).

وهاتان الروايتان ظاهرتان في تقديم قول مدّعي الرهن وأنّ عليه اليمين إن لم يأت المالك بالبيّنة على أنّه وديعة ، فلو قلنا بمقالة الشيخ في صحيحة محمّد بن مسلم فلا تعارض بينهما وبين الصحيحة ، فيجب الأخذ بهما والقول بخلاف القول المشهور ، أي تقديم قول القابض على المالك ، كما هو مفاد هاتين الروايتين.

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٦ ، أبواب الرهن ، باب ١٦ ، ذيل ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٣٨ ، باب الاختلاف في الرهن ، ح ٤ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٠٦ ، باب الرهن ، ح ٤٠٩٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٦ ، ح ٧٧٦ ، باب في الرهون ، ح ٣٣ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٢ ، ح ٤٣٦ ، باب في أنّه إذا اختلف نفسان. ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٧ ، أبواب الرهن ، باب ١٦ ، ح ٣.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٣٨ ، باب الاختلاف في الرهن ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣١٢ ، باب الرهن ، ح ٤١١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٤ ، ح ٧٧١ ، باب في الرهون ، ح ٢٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٣٦ ، أبواب الرهن ، باب ١٦ ، ح ٢.

٦٨

ولكن حيث أنّ حمل الشيخ خلاف ظاهر الصحيحة ، فيقع التعارض بين الصحيحة وبينهما ، ويجب تقديم الصحيحة وترك العمل بهما ، لإعراض المشهور عن العمل بهما.

بل ربما يدّعي الإجماع على ترك العمل بهما ، فيوجب خروجهما عن الحجيّة بل ربما يقال بموافقتهما للتقيّة. وهذا على تقدير صحته وجه آخر وجيه ، لعدم حجيّتهما ولزوم طرحهما.

فما ذهب إليه الشيخ في الاستبصار (١) ، والصدوق في المقنع (٢) على ما حكى عنها مستندا إلى هاتين الروايتين من تقديم قول القابض ـ أي من يدّعي الرهن ـ بأنّ الحلف وظيفته ، وعلى من يدّعي أنّه وديعة ـ أي المالك ـ البيّنة في غاية الضعف.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التفصيل الّذي حكى عن أبي حمزة من أنّ المالك الراهن إن اعترف للقابض بالدين فالقول قول القابض ، وأمّا إن أنكر أصل الدين وقال : إنّي وضعت متاعي عنده أمانة فالقول قول المالك الراهن (٣) ، لأنّ إنكاره لأصل الدين على فرض تسليم أنّه موجب للظنّ بأنّه ليس برهن ، وكذلك إقراره بأصل الدين على فرض أن يكون موجبا للظنّ بأنّه رهن لا وديعة لا يوجب عدم جريان الأصول الشرعيّة كأصالة عدم كونه رهنا.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إقراره بالدين أمارة شرعا على أنّ ما بيد الدائن من مال المديون رهنا. ولكن هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، مضافا إلى أنّ ظهور الصحيحة يردّ هذا الاحتمال.

وكذلك التفضيل الذي نسب إلى ابن الجنيد الإسكافي (٤) من الفرق بين صورتي‌

__________________

(١) « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٢٣ ، ذيل ح ٣.

(٢) « المقنع » ص ١٢٩.

(٣) « الوسيلة » ص ٢٦٦.

(٤) حكى في « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٢١.

٦٩

اعتراف القابض للمالك بكونه أمانة في يده ثمَّ صارت رهنا ، وصورة ادّعائه أنّه من أوّل الأمر أعطاه بعنوان الرهن.

ففي الصورة الأولى : القول قول المالك. وفي الثانية : القول قول القابض ، وذلك من جهة جريان أصالة عدم كونه رهنا حتّى في الصورة الثانية ، مضافا إلى إطلاق الصحيحة وشمولها لكلتا الصورتين لو فرضنا عدم صحّة حمل الشيخ ، كما هو المفروض.

فرع : لو أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ورجع واختلفا‌ ، فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : رجعت بعد البيع ، فالمشهور على أنّ القول قول المرتهن.

ووجّه في الشرائع قول المشهور وفتواهم بقوله : إذ الدعويان متكافئان (١) ، أي دعوى عدم تقديم الرجوع على البيع من طرف الراهن ، مع دعوى عدم تقدّم البيع على الرجوع من طرف المرتهن متكافئان ، أي استصحاب عدم وجود الرجوع إلى زمان وجود البيع الذي مفاده ثبوت موضوع الصحّة مع استصحاب عدم وجود البيع إلى زمان الرجوع الذي مفاده فساد البيع متكافئان متعارضان ، فيتساقطان ويجري استصحاب بقاء الرهانة.

وهذه المسألة من حيث الشكّ في تقدّم الرجوع على البيع أو تقدّم البيع على الرجوع من صغريات المسألة المعروفة : أصالة تأخّر الحادث فيما إذا علم بوجود حادثين وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، ولها صور كثيرة.

لأنّ الحادثان إمّا متضادّان لا يمكن اجتماعهما كالحدث والطهارة ، فلا بدّ وأن يكونا متعاقبين. وإمّا يمكن اجتماعهما ، أي يكون وجود كلّ واحد منهما في زمان وجود الآخر‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٥.

٧٠

كموت متوارثين. ومورد بحثنا حيث يمكن أن يكون زمان رجوع المرتهن متّحدا مع زمان وقوع البيع.

وعلى كلّ واحد من الفرضين إمّا أن يكون كلاهما مجهولي التاريخ أو لا ، بل يكون أحدهما معلوم التاريخ. أمّا كون كلاهما معلوم التاريخ فخارج عن الفرض ، لأنّه لو كان كذلك لا يبقى شكّ في البين.

ونحن حقّقنا هذه المسألة بشقوقها في كتابنا « منتهى الأصول » في تنبيهات الاستصحاب (١) ، وقد رجّحنا جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ في كليهما ، فيتساقطان بالتعارض.

وفيما نحن فيه إذا فرضنا أنّ الرجوع والبيع كلاهما مجهولا التاريخ فالاستصحابان يتعارضان ، فإذا تساقطا تصل النوبة إلى الأصول الآخر ، كأصالة الصحّة في البيع ، أو أصالة بقاء الرهانة في طرف من يدّعي فساد البيع بالرجوع وهو المرتهن ، فيقع التعارض بين هذين الأصلين ، فإذا تساقطا لعدم ترجيح أحدهما على الآخر يكون المرجع هو عموم « الناس مسلّطون على أموالهم » لأنّ كونه مال الراهن معلوم ولا شكّ في كونه ملكا له.

ولكن ربما يقال بتقديم أصالة بقاء الرهانة على أصالة صحّة البيع الواقع في الخارج ، وذلك من جهة أنّ صحّة البيع الواقع في الخارج مشروط شرعا بسبق الإذن من المرتهن ، لأنّ تصرّف الراهن في الرهن ممنوع شرعا وإن كان ملكه إلاّ بإذن المرتهن فنفوذ ، تصرّفاته بالبيع أو بغيره مشروط بهذا الشرط ـ أي سبقه بالإذن ـ والأصل عدمه ، بخلاف أصالة بقاء الرهانة فإنّ هذا الأصل غير مشروط بشي‌ء إلاّ اليقين بحصول الرهن والشكّ ، وهذا اليقين والشكّ حاصل بالوجدان ، فموضوع هذا الاستصحاب حاصل ، وليس مشروطا بشرط آخر ، فلا يجري في عوض استصحاب‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٤٩٥.

٧١

بقاء حقّ الرهانة أصالة صحّة البيع كي يتعارضان.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ جريان أصل العدم في سبق الإذن مبني على تقدّم الرجوع على البيع ، كي يرتفع الإذن الصادر من المرتهن ، وإلاّ لو كان الرجوع متأخّرا عن البيع لا يبقى محلّ لجريان أصالة عدم سبق الإذن. والمفروض أنّ أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع يجري ، ولكن يسقط بالمعارضة مع أصالة عدم تقدّم البيع على الرجوع.

ففي الحقيقة أصالة عدم سبق الإذن يسقط بمعارضتها مع أصالة عدم تقدّم الرجوع على البيع ، إذ مفاد أصالة عدم سبق الإذن على البيع هو تقدّم الرجوع عليه ، فيتعارضان ويتساقطان ، فلا تجري أصالة عدم سبق الإذن كي تكون مانعة عن جريان أصالة الصحّة.

وأفاد في المسالك (١) ـ في وجه ترجيح أصالة بقاء الرهانة على أصالة الصحّة في جانب البيع الصادر يقينا ـ بأنّ الرهانة سابقا قبل وجود البيع كانت معلوم الوجود ، لوقوعها سابقا جامعة لجميع الشرائط ، وإنّما حصل الشكّ في طروّ المبطل ، وأمّا صحّة البيع الواقع في الخارج فمشكوكة من أوّل وجوبه ، ولم يكن البيع معلوم الصحّة في زمان ، فتكون أصالة بقاء الرهانة أقوى من هذه الجهة من أصالة الصحّة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الفرق كان فارقا وصحيحا لو كان مدرك أصالة الصحّة هو استصحاب الصحّة ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بوجود شي‌ء سابقا والشكّ في بقائه ، وهذا المعنى في حقّ الرهانة في مورد البحث موجود ، وليس في صحّة البيع موجودا.

وأمّا لو لم يكن مدرك أصالة الصحّة وموضوعها هو القطع بوجود شي‌ء والشكّ في بقائه ، بل كان المدرك لها هو بناء العقلاء على أنّ العمل المركّب الذي صدر عن‌

__________________

(١) « المسالك » ج ١ ، ص ٢٣٦.

٧٢

المكلّف ـ وشكّ في أنّه هل وجد صحيحا وجامعا للأجزاء والشرائط وفاقدا للموانع أم لا بل فيه اختلال ـ على أنّه وجد صحيحا وتامّا ليس فيه اختلال.

فهذا الفرق الذي ذكره في المسالك لا أثر له ولا يثمر فائدة في المقام ، بل لو شكّ في صحّة العقد والبيع الموجود في الخارج من جهة اختلال فيه ، لاحتمال فقد جزء أو شرط أو وجود مانع ، فالعقلاء لا يعتنون بهذه الاحتمالات ويبنون على الصحّة ، فهذا الكلام من المسالك لا يخلو عن غرابة.

نعم يمكن أن يقال : إنّه في هذا المورد وجد أمران يقينا فنشكّ في بقائهما ، أحدهما : الرهن فإنّه وجد جامع للشرائط يقينا ، وبعد وجود البيع نشكّ في بقائه ، لأنّه إن كان البيع الواقع عن إذن المرتهن ووقع صحيحا فزال الرهن قطعا ، وإلاّ إن لم يقع صحيحا فباق قطعا.

وذلك من جهة أنّ مزيل الرهن هو البيع الصحيح ، لا الإذن بالبيع ، وحيث نشكّ في وقوع البيع صحيحا فنشكّ في بقاء الرهن ، فيكون موردا للاستصحاب.

ثانيهما : الإذن ، فإنّه وجد وصدر عن المرتهن يقينا ، ونشكّ في بقائه إلى آخر زمان وقوع البيع ، لاحتمال كون الرجوع المعلوم الوقوع قبل البيع ، فنشكّ في بقاء الإذن إلى آخر زمان البيع ، فيكون موردا للاستصحاب. وهذان الاستصحابان متعارضان لا يجتمعان فيتساقطان ، فيبقى المجال لجريان أصالة عدم سبق العقد بالإذن ، ومع جريان هذا الأصل لا يبقى مجال لجريان أصالة الصحّة ، لاشتراط الصحّة بسبق الإذن ، وفرضنا أنّ الأصل عدمه.

نعم لو لم يجر هذا الأصل فلا مانع من جريان أصالة الصحّة ، لأنّ احتمال كون البيع عن غير إذن المرتهن وبدونه لا يضرّ بجريان أصالة الصحّة ، بل يكون مورد جريانها هو فيما إذا احتمل فقد جزء أو شرط أو وجود مانع.

نعم يمكن أن يقال : إنّ جريان أصالة الصحّة في البيع لا ينافي بقاء الرهانة وعدم‌

٧٣

تأثير البيع في النقل والانتقال ، لعدم حصول شرطه وهو إذن المالك ، فالصحّة هاهنا عبارة عن أنّ العقد وقع تامّ الأجزاء والشرائط ، ولكن تأثيره في النقل موقوف على إذن المالك ، مثل الصحّة التي قالوا بها في باب الفضولي ، ومثل هذه الصحّة لا ينافي استصحاب بقاء الرهانة ولا تعارض بينهما ، خصوصا مع ملاحظة جريان أصالة عدم وقوع البيع في حال الإذن.

وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان كلاهما ـ أي الإذن والرجوع ـ مجهولي التاريخ.

وأمّا إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، فإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ ، لأنّه لا شكّ هناك ، لأنّه قبل زمان حدوثه الذي هو زمان معيّن معلوم ومقطوع العدم ، وبعد زمان حدوثه معلوم الوجود ، فلا يبقى مورد للاستصحاب ، فيكون استصحاب مجهول التاريخ بلا معارض ، ويجري ويترتّب عليه آثاره.

وإن قلنا بجريانه بالنسبة إلى زمان مجهول التاريخ لتماميّة أركانه ، فيكون حاله حال الصورة الأولى. والمسألة مفصّلة ومشروحة مذكورة في كتابنا « منتهى الأصول » (١).

فرع : الظاهر أنّه ليس للمرتهن إلزام الراهن بالوفاء بعين الرهن‌ ، وذلك لأنّ ذمّته مشغولة بالدين وهو كلّي له أن يطبّق على أيّ فرد من تلك الطبيعة التي في ذمّته.

فلو كان مثلا دينه الذي في ذمّته عشرة دنانير ، فأرهن عنده ورقة ماليّة هي من الأوراق التي تسمّى ورقة عشرة دنانير ، فليس للمرتهن أن يلزم الراهن بإعطاء هذه الورقة التي عنده ، إذ الذي يطلبه المرتهن هي عشرة دنانير الكلّي الذي له مصاديق متعدّدة ، منها عشرة أوراق كلّ واحدة منها دينار واحد ، ومنها ورقتين كلّ واحدة منها خمسة دنانير ، ومنها ورقة واحدة هي عشرة ، وخصوصيات هذه الأوراق ملك‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٤٩٤.

٧٤

للراهن ، فله أن يطبق الكلّي على ما أراد من تلك المصاديق.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الرهن من الجنس الموافق للدين كما في المثال الذي ذكرناه ، أو من الجنس المخالف له ، وذلك كلّه من جهة أنّ الدين كلّي ، فلا بدّ في مقام الأداء أن يرفع المديون اليد عن الخصوصيّة التي يملكها ، كي يكون قابلا للدفع والأداء.

وحيث أنّ جميع الخصوصيّات ملكا للمديون فهو مخيّر عقلا في رفع اليد عن أيّة واحدة من تلك الخصوصيّات وتطبيق الكلّي على ذلك الفرد ، كما أنّه للمرتهن الدائن عدم القبول إذا كان الرهن من جنس الدين ، بل ليس له عدم القبول إذا كان ما يعطيه الراهن في مقام الأداء من جنس الدين ، ومصداقا حقيقيا للدين وإن كان غير الرهن ، لأنّه إذا كان من جنس الدين فهو مصداق حقيقي ويصدق عليه أنّه هو فكيف لا يقبل ، فليس حينئذ له إلزام الراهن بالبيع وإعطاء ثمنه له وفاء لدينه.

وأمّا إذا كان الرهن من غير جنس الدين واتّفقا ـ أي الراهن والمرتهن ـ في بيعه بما هو من جنس الحقّ أو من غير جنس الحق ، أو دفعه بنفسه عنه ، فبعد الاتّفاق لا إشكال في جميع ذلك ، وذلك لأنّ الأمر بينهما ، فإذا رضيا فلا بأس.

وأمّا بناء على اتّفاقهما على البيع إذا اختلفا فيما يباع به بعد البناء منهما على البيع بالنقد ، ولكن الاختلاف من جهة أنّ كلّ واحد منهما يريد نقدا غير ما يريد الآخر ، مثلا أحدهما أراد بيعه بالدرهم والآخر أراد بالدينار ، أو أحدهما يريد بيعه بالدنانير من الذهب والآخر يريد بالدنانير من الأوراق ، ففي مثل هذا الاختلاف وقع الخلاف في أنّه هل يقدّم قول الراهن المالك أو قول المرتهن ، أو لا هذا ولا ذاك بل لا بدّ وأن يباع بالنقد الغالب بالبلد والظاهر من البلد بلد البيع؟

وجه الأوّل : هو أنّ الرهن مال الراهن ، فهو الذي يكون يعيّن بدل ماله ، والمعاوضة والمبادلة يقع بينه وبين المشتري بتبديل ماليهما ، وإنّما المرتهن له حقّ‌

٧٥

استيفاء دينه من هذا المال الذي هو المسمّى بالرهن ، نعم لا بدّ وأن يكون البيع بشي‌ء لا يتضرّر المرتهن به.

وجه الثاني : أنّ البيع يكون من جهة مراعاة حقّ المرتهن وصلاحه واستيفاء حقّه ، فإذا اختار شيئا ورأى صلاحه في بيع الرهن به يجب مراعاته.

وجه الثالث ولعلّه القول المشهور : هو أنّ إطلاق قوله عليه‌السلام : « يبيعه » في رواية إسحاق بن عمّار (١) ينصرف إلى نقد الغالب في البلد وذلك من جهة أنّ العرف بينهم من قول الشخص لعبده أو لوكيله بع الشي‌ء الفلاني أنّه يجب عليه ان يبدله بالنقد الغالب في البلد.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل يجوز أن يبيعه الراهن أو المرتهن بدون المراجعة إلى الحاكم ، أو يجب رجوعهما إليه فهو يباشر بيعه ، أو يوكّل شخصا آخر ، أو يأذن أحدهما في بيعه؟

الظاهر أنّهما في صورة اختلافهما يجب أن يراجعا إلى الحاكم ، لأنّ بيده الأمر عند التشاحّ وهو وليّ الممتنع ، فيجبرهما على البيع بالنقد الغالب في البلد ، لأنّه المنصرف من لفظ « يبيعه ».

وقال في الدروس : ولو اختلفا فيما يباع به بيع بنقد البلد بثمن المثل حالاّ سواء كان موافقا للدين أو اختيار أحدهما أم لا ، ولو كان فيه نقد أن بيع بأغلبهما ، فإن تساويا فبمناسب الحقّ فإن بايناه عيّن الحاكم إن امتنعا عن التعيين ، ولو كان أحد المتباينين أسهل صرفا إلى الحقّ تعيّن (٢).

وقوله : « فإن بايناه » أي باين النقدان الحقّ ولا يناسبه كلّ واحد من النقدين ، مثلا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٣٣ ، باب الرهن ، ح ٤ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٣٠٩ ، باب الرهن ، ح ٤١٠٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٦٨ ، ح ٧٤٧ ، باب في الرهون ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢٤ ، أبواب الرهن ، باب ٤ ، ح ٢.

(٢) « الدروس » ج ٣ ، ص ٤٠٠.

٧٦

أحد النقدين هو الدرهم والنقد الآخر هو الدينار والحقّ هو الريال مثلا ، وكلّ واحد من النقدين لا يناسب الحقّ أي الدين ، فإذا امتنع كلّ واحد من الراهن والمرتهن من التعيين عيّن الحاكم أحد النقدين المتساويين في البلد من حيث الرواج في معاملاتهم.

وقال في القواعد أيضا مثل ما قال الشهيد في الدروس : ولو عيّنا ثمنا لم يجز له التعدّي ، فإن اختلفا لم يلتفت إليهما ، إذ للراهن ملكيّة الثمن وللمرتهن حقّ الوثيقة ، فيبيعه بأمر الحاكم بنقد البلد ، وافق الحقّ قول أحدهما أو لا ، وإن تعدّد فبالأغلب ، فإن تساويا فبمساوي الحقّ ، وإن باينهما عيّن له الحاكم (١).

وقال في التذكرة : لو اختلف المتراهنان فقال أحدهما : بع بدنانير ، وقال الآخر : بع بدراهم ، لم يبع بواحد منهما ، لاختلافهما في الإذن ولكلّ منهما حقّ في بيعه ، فللمرتهن حقّ الوثيقة في الثمن واستيفاء حقّه منه ، وللبائع الراهن ملك الثمن ، فإذا اختلفا رفعا ذلك إلى الحاكم فيأذن له أن يبيعه بنقد البلد ، سواء كان من جنس حقّ المرتهن أو لم يكن ، وسواء وافق ذلك قول أحدهما أو خالفه ، لأنّ الحظّ في البيع يكون بنقد البلد. ولو كان النقدان جميعا نقد البلد باعه بأعلاهما ، وإن كانا متساويين في ذلك فباع بأوفرهما حظّا ، فإن استويا في ذلك باع بما هو من جنس الحقّ منهما ، فإن كان الحقّ من غير جنسهما باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الحقّ وأقرب إليه ، فإن استويا في ذلك عيّن الحاكم أحدهما فباع به وصرف نقد البلد إليه (٢).

وهذه العبارات متّفقة في لزوم الرجوع إلى الحاكم في مورد الاختلاف وتقديم نقد البلد على سائر الأثمان ، وإن كان في بعض شقوق المسألة وصورها اختلاف يسير.

ولكن الأوجه في المقام أن يقال : إن وكّل الراهن المرتهن في ضمن عقد لازم في بيع الرهن بحيث لا يجوز له عزله إذا حلّ الدين ولم يعطه الراهن لإعساره أو لمماطلته‌

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٦٣.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣٦.

٧٧

أو بسبب آخر ، فالأمر بيد المرتهن ولا يلزم الرجوع إلى الحاكم ، نعم يلزم على المرتهن مراعاة مصلحة الراهن أيضا من حيث اختيار ما كان من الثمن أنفع بحاله وأعود عليه مضافا إلى مصلحة نفسه ، كما هو الحال في كلّ وكيل حيث يجب أن يكون فعله ذا مصلحة لوكيله.

نعم له أن يستوفي دينه أيضا بحيث لا يتضرّر ولا يكون في استيفائه نقصان. فلا مجال للكلام في أنّهما إذا اختلفا في تعيين الثمن وما يباع به بل أمر بيد الوكيل.

وأمّا إذا لم تكن وكالة في البين فإن أدّى الراهن دينه فهو ويفتكّ الرهن ، وإن لم يؤدّ لإعسار أو لجهة أخرى فيراجعه المرتهن بالوفاء ولو ببيع الرهن أو يوكله في بيعه ، فإن لم يفعل ذلك ـ أي لم يبع ولم يوكله أيضا ـ يرفع المرتهن أمره إلى الحاكم ليلزمه بالوفاء أو البيع ، فإن فقد الحاكم أو لم يكن مقتدرا على إلزامه على ما ذكر لعدم بسط يده ، فللمرتهن أن يبيعه بإذن الحاكم ويستوفي حقّه من ثمنه أو أيّ مقدار ممكن منه.

نعم يلزم في هذا الفرض أن يراعى المرتهن البائع مصلحة الراهن المالك أيضا كما يراعي مصلحة نفسه في استيفاء دينه منه.

وهذا الذي ذكرناه هو مقتضى القواعد الأوّلية إذا لم يكن إجماع أو نصّ في البين.

فرع : إذا ادّعى المرتهن رهانة شي‌ء معيّن وأنكرها الراهن‌ وادّعى أنّ الرهن هو الشي‌ء المعيّن الفلاني ، وليس هناك بيّنة لا على ما يدّعي المرتهن رهانته ولا على ما يدّعي الراهن رهانته ، وكلّ واحد منهما ينكر ما يدّعيه الآخر فكلّ واحد من الراهن والمرتهن مدّع بالنسبة إلى شي‌ء ومنكر بالنسبة إلى شي‌ء آخر ، فهل يكون من باب التداعي فإذا لم تكن بيّنة في البين من الطرفين فيتحالفان كما هو المقرّر في باب التداعي ، أو الحلف وظيفة الراهن فقط وأمّا المرتهن فإنكاره لما يدّعي الراهن رهنه كاف لبطلان رهانته؟

٧٨

أقول : الظاهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف ، لأنّه لا حلف على المرتهن في إنكاره ما يدّعيه الراهن ، إذ عقد الرهن جائز من طرف المرتهن ولازم من طرف الراهن ـ كما تقدّم في بعض الفروع المتقدّمة ـ فإنكار المرتهن رهنيّته بمنزلة الفسخ ، فاحتياجه إلى الحلف في نفي آثار الرهن عمّا يدعيه الراهن لا وجه له ، مع حصول هذا الأمر بنفس رفع اليد عن التزامه وتعهّده بكونه رهنا.

وإن شئت قلت : إنّ إنكاره معناه عدم الرضا بكونه رهنا وعدم التزامه بذلك ، فعلى تقدير كونه رهنا واقعا يرجع إنكاره إلى إعدام التزامه وتعهّده بقاء ، وهذا هو عين الفسخ ، والمفروض أنّ العقد جائز من طرفه وله أن يفسخ في أيّ وقت شاء.

وأمّا ما ربما يتوهّم من أعمّية الإنكار من الفسخ ، وبوجود الأعمّ لا يثبت الأخص.

ففيه : أنّه وإن كان الأمر كذلك وثبوت الأعمّ لا يستلزم ثبوت الأخصّ ، ولكن فيما نحن فيه يمكن ادّعاء ملازمة عرفيّة بينهما ، كما إذا أنكر الموكّل وكالة شخص في أمر ، فالعرف يفهم من هذا الإنكار أنّه على تقدير إن كان وكيلا فبالنسبة إلى الزمان الآتي ليس بوكيل ، وهذا الإنكار فسخه من حينه.

هذا ، مضافا إلى الاتّفاق والإجماع من الأصحاب أنّ بإنكار المرتهن رهانة شي‌ء تبطل رهانته. هذا بالنسبة إلى المرتهن.

وأمّا الراهن حيث أنّ العقد لازم بالنسبة إليه فيكون منكرا لما يدّعيه المرتهن ، لأنّ قوله مطابق مع أصالة عدم رهانة ما يدّعي المرتهن رهانته ، فيكون عليه الحلف ، فظهر أنّه ليس من باب التداعي والتحالف.

والذي ذكرنا من أنّ هذا الفرع ليس من باب التداعي والتحالف فيما إذا لم يكن الرهن المتنازع فيه مشروطا ، أمّا لو كان كذلك أي كان الرهن المتنازع فيه شرطا في بيع ـ مثلا لو باع بستانه بألف دينار نسيئة إلى سنة ، وشرط على المشتري أن يرهنه‌

٧٩

الشي‌ء الفلاني المعيّن ، وبعد وقوع البيع تنازعوا فقال البائع المرتهن : إنّ الشرط كان رهن دارك ، وقال المشتري الراهن : إنّ الشرط كان رهن دكّاني الفلاني ، وأنكر البائع ذلك ـ فكلّ واحد منهما يدّعي رهانة شي‌ء معيّن وينكر ما يدّعيه الآخر.

ولكنّ في المفروض ليس إنكار المرتهن لرهنيّة ذلك الدكّان إبطالا لرهنيّته ، لأنّ الرهن من طرفه عقد جائز ويكون إنكار رهانته فسخا كما ذكرنا ، وذلك الشرط في الحقيقة يرجع إلى كيفيّة الثمن وعن مكمّلاته ، وبه تحصل زيادة أو نقيصة في الثمن ، فكأنّه جزء للثمن ، فيكون حال اختلاف الشرط حال اختلاف نفس الثمن.

فكما أنّه لو قال البائع في المثل المذكور : بعتك بستاني بدارك ، وأنكره المشتري وادّعى أنّه بعت البستان بدكّاني ، فيكون هذه الدعوى من باب التداعي ، وكلّ واحد منهما مدّع بالنسبة إلى ثمن ، ومنكر بالنسبة إلى الثمن الذي يدّعيه الآخر ، فإذا لم تكن لكلّ واحد منهما بيّنة لما يدّعيه ، فعليه الحلف للآخر لنفي دعواه فيتحالفان.

فكذلك في المقام ، لأنّه في الحقيقة من باب الاختلاف في الثمن ، لأنّ الثمن المشروط بشرط كذا غير نفس ذلك الثمن إذا كان مشروطا بشرط آخر ، فإنكار المرتهن لا يمكن أن يكون فسخا ، لأنّه على تقدير أن يكون المتنازع فيه هو الشرط فيجب على المرتهن الوفاء به وقبوله رهنا ، لأنّه هو ألزم على نفسه ذلك.

فقول الراهن ، إنّه هو الشرط إلزام له بقبوله رهنا ، ويكون دعوى عليه ، فإذا لم تكن بيّنة على ما يدّعيه تصل النّوبة إلى حلف المنكر ، كما هو الشأن في باب الدعاوي. فإذا حلف المرتهن على عدم كونه شرطا ، وذلك الآخر ـ أي الراهن ـ أيضا حيث ينكر كون ما يدّعيه المرتهن شرطا ، وإذا لم تكن للمرتهن بيّنة على ما يدّعيه ، يتوجّه الحلف إلى الراهن ، لأنّه منكر لأصالة عدم كونه رهنا وشرطا ، وإذا حلفا فالبيع ينفسخ بفسخ كلّ واحد منهما بخيار تخلّف الشرط.

وأمّا جريان أصالة عدم كون كلّ واحد منهما رهنا أو شرطا مع العلم إجمالا‌

٨٠