القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

طرف الموصي وصي آخر مجعول طولا أو عرضا ، فيرجع الأمر إليه ، وإلاّ فالمرجع هو الحاكم.

وأيضا قالوا : إنّ الموصي أقام مقام نفسه ، فكما أنّ له الولاية على الاستنابة بعد الموت ، فكذلك للقائم مقامه.

وفيه : أنّ كون الاستنابة للموصي بعد الموت من شؤون مالكيّته في حال الحياة ، فكأنّ المالك حال الحياة له أن يستنيب بعد موته شخصا آخر يتصرّف في أملاكه بما أوصاه بها إن لم تكن تلك الأملاك زائدة على الثلث ، وإلاّ فأيضا يجوز مع إجازة الوارث.

وممّا استدلّ القائلون بالجواز أيضا صحيحة محمّد بن الحسن الصفّار ، عن أبي محمّد عليه‌السلام أنّه كتب إليه رجل كان وصيّ رجل ، فمات وأوصى إلى رجل ، هل يلزم الوصي وصيّة الرجل الذي كان هذا وصيّه؟ فكتب : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ إن شاء الله تعالى » (١).

فحملوا الحقّ في قوله عليه‌السلام : « يلزمه بحقّه إن كان له قبله حقّ » على حقّ الأخوّة ، أي إن كان الموصي مؤمنا وكان له حقّ الأخوّة الإيمانيّة على وصيّه لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (٢) فيلزم الوصي العمل بذلك الحقّ ، أي بحقّ الإيمان.

فهذه الرواية تدلّ على لزوم عمل الوصيّ الثاني بوصيّة الوصي الأوّل إن كان مؤمنا ، سواء أذن الموصي الأوّل بوصيّة الموصي الثاني أو لم يأذن.

وفيه : أنّ ها هنا احتمال آخر ، وهو أن يكون المراد بحقّه هو حقّ الوصي الأوّل الذي ثبت له بواسطة إذن الموصي الأوّل له في الإيصاء ، فيكون حاصل معنى الرواية‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٦ ، باب ما يجب على وصيّ الوصيّ من القيام بالوصيّة ، ح ٥٥٣٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢١٥ ، ح ٨٥٠ ، باب الوصي يوصى إلى غيره ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٦٠ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٧٠ ، ح ١.

(٢) الحجرات (٤٩) : ١٠.

٣٦١

أنّه يلزم العمل بالوصيّة إن كان له ـ أي للموصي الأوّل ـ حقّ قبله أي الوصي الأوّل ، وهو عبارة عن الوصيّة إليه بالإيصاء ، فوصيّة الموصي الأوّل بإيصاء الوصي الأوّل حقّ له عليه.

فمفاد الرواية : إن كان للموصي الأوّل حقّ على الوصي الأول أي أذن له في الوصيّة فيلزمه هذه الوصيّة ، ومفهوم الشرطيّة يكون أنّه إن لم يأذن فلا يلزمه. وهذا خلاف ما أرادوا من الرواية ، وعلى خلاف مقصودهم أدلّ.

وهذا الاحتمال إن لم يكن أظهر من الاحتمال الأوّل ليس أبعد منه ، ومعه لا يبقى ظهور للرواية في ما استدلّوا له.

فالأظهر ما ذهب إليه الأكثر من عدم الجواز مع عدم الإذن ، وبناء على ما ذكرنا عن عدم نفوذ وصيّة الوصي بالنسبة إلى وصايا من أوصى إليه إلاّ مع إذن الموصي لوصيّه بالإيصاء ، فإذا مات الوصي الأوّل وكان أوصى في حياته إلى شخص آخر من غير إذن من قبل الموصي في ذلك ، فحيث أنّ وصيّته غير نافذة ، فيرجع الأمر الحاكم بالنسبة إلى وصايا الموصي الأوّل ، وتكون وصيّته في حكم العدم ، فيكون كما لو مات ولم يكن له وصي أصلا ، فلا وليّ على تركته ويكون بيد الحاكم إن كان فيهم قصّر.

فرع : لو مات إنسان وكانت ورثته كلّهم كبيرا لا صغير ولا قاصر فيهم ، فأمر تركة مورّثهم بيدهم ، يقسّمونها بينهم كما فرضه الله تعالى ، وإن وقع النزاع في أمر فالمرجع هو الحاكم. والمراد من الحاكم في عصر غيبة صاحب الأمر والعصر والزمان ـ عجّل الله فرجه ـ هو المجتهد المطلق العادل المخالف للهوى ، حيث أنّهم عليهم‌السلام نصبوه مرجعا عامّا إليه ينتهي الأمور ، ولا مجال ها هنا لذكر الأدلّة والإثبات ، وله محلّ آخر ، فالحاكم هو وليّ من لا وليّ له.

وأمّا لو كان فيهم الصغار والقصر أو الغيّب ، فإن كان لهم وليّ خاصّ ، كالأب‌

٣٦٢

والجدّ من قبل الأب الأقرب فالأقرب ، فالمرجع هو ذلك الولي الخاصّ لا الحاكم ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له. وإن لم يكن لهم أب وجدّ من قبل الأب بمراتبه ، فالأمر ينتهي إلى الحاكم بالمعنى الذي عرفت ، وإن لم يكن للميّت وصيّ ارجع أمور هؤلاء القصر إليه ، وأمّا لو كان فأيضا لا تصل الأمر إلى الحاكم.

والبحث في هذه الأمور وبيان مراتب الأولياء مفصّلا مع الدليل والبرهان ليس محلّها ها هنا ، ونتكلّم عنها في محلّه ـ مبحث الولايات ـ إن شاء الله تعالى.

فرع : تقدّم في الفرع السابق تقدّم ولاية الأب والجدّ من قبله ـ وإن علا مع مراعاة الأقرب فالأقرب ـ على ولاية الأوصياء والحكّام وعدول المؤمنين عند فقد الحكّام ، فلو أوصى بالنظر إلى أجنبي في مال ولده الصغير مع وجود أب الموصي الذي هو جدّ الصغير لم يصحّ ، وكانت الولاية لجدّ الصغير من قبل أبيه دون الوصي. وقيل : يصحّ في مقدار الثلث من تركة الموصي وفي أداء الحقوق.

أمّا الأوّل ، فوجهه واضح ، لأنّه بعد ما عرفت أنّ ولاية الوصي بالنسبة إلى الصغير ـ سواء كانت في نفسه أو في ماله ـ في طول ولاية الأب والجدّ ، فمع وجودهما أو أحدهما لا مجال لجعل الولاية للأجنبي ، لأنّه في غير محلّه ، فيكون لغوا وباطلا.

وأمّا الثاني ، أي ما قيل من التفصيل بين مقدار الثلث والأقلّ منه وبين الأزيد منه ، فيجوز في الأوّل دون الثاني ، وكذا التفصيل بين أن تكون في أداء الحقوق وبين غيره ، فيجوز في الأوّل ، ولا يجوز في الثاني ، فهناك تفصيلان :

الأوّل : هو التفصيل بين ما يكون بمقدار الثلث أو أقلّ منه ، وبين ما يكون أزيد منه‌ ، ففي الأوّل يجوز ، وفي الثاني لا يجوز.

ووجهه : أنّ مقدار الثلث أو ما هو أقلّ منه ، أمره بيد الميّت قبل أن يموت ، له أن يمنع ولده الصغار عنه رأسا بأن يهبه لغيرهم بالعقد المنجّز ، وأن يوصى به لغيرهم‌

٣٦٣

فيحرمون من ذلك المقدار ، فإذا جاز ذلك فقهرا له إبطال ولاية الجدّ على ذلك المقدار من مال الصغار ، فلا مانع من جعل الوليّ على ذلك المال الذي له أن يحرمهم عنه ، ولا يبقى موضوع ومحلّ لولاية الجدّ. وبعبارة أخرى : إن كان إفناء أصل المال بذلك المقدار جائزا للأب كي لا يبقى محلّ وموضوع لولاية الجدّ بالنسبة إلى ذلك المال ، فإفناء التصرّفات فيه جائز بطريق أولى.

وفيه : أنّ هذه مغالطة واضحة ، وذلك لأنّ إفناء جميع ماله جائز بالعقد المنجّز ، بناء على أنّ إخراج المنجّزات من الأصل لا من الثلث ، ومع ذلك جعل الوصي على جميع التركة مع وجود الجدّ لا يجوز حتّى عند المفصّل ، لأنّه يجوز في مقدار الثلث أو ما هو الأقلّ منه ، وأمّا في الزائد فلا.

والسرّ في ذلك : هو أنّ الحكم الشرعي بولاية الجدّ وأنّ ولايته مقدّم على ولاية الوصي والفقيه بعد وجود الموضوع ، وأمّا إن لم يكن موضوع فلا يشمله دليل تقديم ولاية الجدّ على الوصي ، ففرض عدم وجود الموضوع أو جواز إفنائه أجنبي عن محلّ الكلام.

وإنّما الكلام في أنّه مع وجود الموضوع ووجود مال للصغير ، ويكون له جدّ من قبل أبيه ، هل في هذا الفرض جعل الوصي على ذلك المال بأن يكون له النظر دون الجدّ جائز أم لا؟

وفي هذا الفرض معلوم أنّ ولاية الجدّ مقدّم على ولاية الوصي ، فيكون جعله لغوا ، سواء كان في مقدار الثلث أو أقل منه أو أزيد منه.

وأمّا التفصيل الثاني وهو الفرق بين أداء الحقوق فيجوز ، وبين غيره فلا يجوز‌ ، ففي الحقيقة هذا خارج عن محل البحث ، لأنّ الكلام في الوصيّة بالولاية على الصغار أو على أموالهم ، وأداء الحقوق مسألة أجنبيّة عمّا هو محلّ الكلام.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الموصي لو أوصى إليه بالنظر في شي‌ء معيّن ، فليس للوصي‌

٣٦٤

التعدّي عمّا عيّن له ، فلو قال : أوصيت إلى فلان في إصلاح شؤون بستاني فلان ، أو زرعي فلان ، أو أداء ديوني أو استيفائها من المديونين ، أو ردّ الأمانات التي من أربابها عندي إليهم ، أو شؤون أولادي الصغار أو السفهاء منهم من حيث مساكنهم وملابسهم وما سوى ذلك من حوائجهم ، فللوصي التصرّف والتدخّل فيما عيّنه له فقط وفيما أوصى إليه ، دون سائر ما له الولاية فيها.

فلو أوصى إليه بأداء ديونه فقط ، فليس له استيفاؤها من المديونين ، وبالعكس أيضا كذلك ، وذلك لأنّ حقيقة الوصيّة بالولاية استنابة من الموصي بعد موته في التصرّف فيما كان له التصرّف فيه ، فإذا استنابه في عمل خاصّ ، ليس له التجاوز عنه ، فهي من هذه الجهة مثل الوكالة.

فكما أنّه لو وكّله في بعض أموره ليس له التصرّف في الأمور الآخر ، فلو وكّله في بيع ما عنده من الحنطة ليس له بيع ما عنده من الشعير ، أو وكّله في شراء الفرش لداره ليس له شراء الغنم أو البقر لشرب حليبهما وهكذا ، لأنّهما ـ أي الوصيّة والوكالة ـ كلاهما استنابة في التصرّف ، فإذا تعدّى في كليهما عمّا استنابه الموصي أو الموكّل فيه ، يكون تصرّفاته حراما تكليفا إن كان تصرّفا خارجيّا في مالهما ، وفاسدا وضعا إن كان من قبيل المعاملات التي يحتاج إلى إمضاء الشارع. وهذا واضح جدّا.

فرع : الشروط المعتبرة في الوصي من بلوغه وإسلامه وحرّيته وعقله وعدالته ـ بناء على اعتبار هذه الشروط ، لأنّ في اعتبار بعضها خلاف ـ هل يعتبر وجودها ، أي اتّصاف الوصي بها حال العقد ، أو يكفي وجودها حال الوفاة وإن لم يكن وقت الإيصاء متّصفا بها ، ولكن صار متّصفا بها حال وفاة الموصي.

مثلا لو أوصى إلى صبيّ كافر عبد مجنون ، ولكن حال موت الموصي صار واجدا لتلك الصفات ، أي صار بالغا مسلما حرّا عاقلا عادلا ـ بناء على اعتبار العدالة ـ

٣٦٥

فيصحّ هذه الوصيّة ، لاجتماع الشرائط في وقتها ، وهو حال الوفاة.

ولا ينبغي أن يتوهّم أنّ القول الأوّل الذي مفاده اجتماع الشروط حال الوصيّة معناه صرف وجود هذه الشروط في ذلك الوقت وإن لم يبق بعد ذلك أو ارتفع بعضها أو جميعها ، بل لا شكّ في لزوم اجتماع الشروط حال الإنفاذ ، لأنّ الاعتبار بلحاظ حال الإنفاذ.

فالكلام في الحقيقة يرجع إلى أنّ وجود هذه الشروط حال الإنفاذ يكفي ، أو يلزم أن يكون حال الوصيّة موجودة وباقية إلى زمان الإنفاذ ، أو يكفي أن تكون موجودة حال الموت إلى زمان الإنفاذ ، فاجتماعها حال إنفاذ اتّفاقي لا خلاف فيه فإنّ أحدا لا يقول وليس له أن يقول إنّ الوصي لو كان حال إنشاء العقد مسلما عادلا عاقلا حرّا ، ثمَّ صار حال الإنفاذ كافرا أو فاسقا ومجنونا وعبدا مثل أن كان حال العقد حرّا ومن أهل الجزية ثمَّ خالف شروط الجزية فاسترقّه المسلمون.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الأقوال في هذه المسألة ليست أربعة أو ثلاثة كما توهّمه بعض ، بل اثنان : أحدهما : اجتماع الشروط من حال العقد إلى زمان الإنفاذ ، الثاني : كفاية اجتماع الشروط من حال الموت إلى حال الإنفاذ.

وقال في الشرائع : والأوّل أشبه. (١) وترجيح هذا القول لوجوه :

الأوّل : أنّ هذه الشروط شروط صحّة العقد‌ ، وما لم يوجد الشرط لا يوجد المشروط ، فعند انتفاء جميعها أو بعضها ينتفي الصحّة.

وفيه : أوّلا أنّ هذه الشروط شروط لكونه وصيّا لا لصحّة العقد ، فيمكن أن يكون العقد صحيحا ، ولكن تأثيره في صيرورته وصيّا بالفعل يكون موقوفا على كونه متّصفا بهذه الصفات من حين موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذ هذه الوصايا وإن لم يكن حال العقد متّصفا بها.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٧.

٣٦٦

وبعبارة أخرى : يرجع الأمر إلى أنّ شرط صحّة العقد هل هو وجود هذه الصفات حال العقد ، أو من زمان موت الموصي إلى آخر زمان إنفاذها ، بل من الممكن أن يكون الشرط وجود هذه الصفات حال الإنفاذ فقط ، لا قبله ، ولا حال العقد ، ولا حال موت الموصي ، فلا بدّ من مراجعة أدلّة اعتبار هذه الشروط ولا يبعد أن يكون ظاهرها اعتبارها حال الإنفاذ فقط لمناسبة الحكم والموضوع.

الثاني : أنّ التفويض إلى من ليس متّصفا بهذه الصفات منهيّ‌ ، والنهي يدلّ على الفساد إن كان متعلّقا بركن العقد ، ولا شكّ في أنّ الموصى إليه ركن في عقد الإيصاء بالولاية.

وفيه : أنّ النهي المتعلّق بالمعاملة إن كان نهيا غيريّا وأفاد الإرشاد إلى المانعيّة ، فلا محالة يدلّ على الفساد ، كما أنّه لو كان نفسيا مولويّا وتعلّق بالمعنى الاسم المصدري أي النقل والانتقال في باب المعاوضات مثلا ، فأيضا يدلّ على الفساد كما حقّقنا المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (١).

ولكن العمدة في المقام هو النهي عن الإيصاء إلى غير البالغ أو الفاسق أو الكافر أو المملوك أو غير العاقل مطلقا ، فلو كان كذلك فهذا الدليل يدلّ على لزوم وجود هذه الصفات في الوصي حال العقد ، ولكن هذا أوّل الكلام ، لأنّه يمكن أن يكون متعلّقا بالإيصاء إلى الصبيّ حال موت الموصي أو حال إنفاذ الوصايا. وأمّا لو لم يكن ذلك الوقت صبيّا مثلا فلا إشكال ، فهذا الدليل لا يتمّ إلاّ مع الاستظهار عن الأدلّة أنّ النهي متعلّق بالإيصاء إلى فاقد هذه الصفات حال العقد ، وهذا أوّل الكلام ، فيكون هذا الاستدلال من قبيل المصادرات.

الثالث : أنّ الوصي يجب أن يكون ـ متى مات الموصي ـ أهلا وقابلا للعمل وإنفاذ الوصايا‌ ، وغير البالغ والمجنون والمملوك والكافر ليسوا قابلين لإنفاذ الوصايا لو‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٤١٩.

٣٦٧

فرضنا موت الموصي في حال عدم اتّصافهم بهذه الصفات.

وفيه : أنّ هذا خلف بالنسبة إلى الفرض ، لأنّ المفروض أنّ الوصي واجد لهذه الصفات حال الموت ، وقد عرفت أنّ هذه الوجوه وإن كانت لا تخلو من نظر ومناقشة ، ولكن الإنصاف أنّ ظاهر أدلّة اشتراط الوصي بالصفات المذكورة هو كونه متّصفا بها حال الإيصاء إليها ، بمعنى أنّه لا يجوز ولا يصحّ الإيصاء إلى الصبيّ غير البالغ ، فلو كان حال وقوع عقد الإيصاء إليه غير بالغ يصدق على ذلك العقد أنّه إيصاء إلى غير البالغ ، فيكون منهيّا عنه مثل هذا الإيصاء فيكون باطلا.

فالأظهر ما ذهب إليه المحقّق قدس‌سره من أنّ صحّة العقد مشروط بوجود هذه الصفات في الوصي حال العقد. (١)

فرع : يجوز للوصيّ على الصغار الأيتام المسمّى باسم « القيّم » أن يأخذ أجرة مثل عمله‌ إذا كان لعمله أجرة عرفا وكان القيّم فقيرا ، أمّا إذا كان غنيّا ففيه إشكال ، والأصل في ذلك قوله تعالى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢).

المقصود من ذكرنا الآية ها هنا الجملتان الأخيرتان : أي قوله ( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، فالله تبارك وتعالى بيّن أنّ وليّ الصغير واليتيم الذي يصلح أمورهم ويدبّر شؤونهم يجب عليه أن يختبر اليتيم ، فإن رأى منه أنّه بلغ السن الرشد فيجب عليه أن يدفع إليه أمواله ، وما دام متشاغلا بحفظ أموالهم وإدارة شؤونهم فله أن يتناول من ماله بقدر قوته إن كان فقيرا ، وأمّا إن كان‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) النساء (٤) : ٦.

٣٦٨

غنيّا فيجب عليه أن يستعفف ويترك أموالهم ولا يأخذ منهم شيئا.

وخلاصة الكلام : أنّ الله تبارك وتعالى نهى القيّم والوصيّ على اليتيم أن يأكلا من أمواله إسرافا وبدارا ، أي متجاوزين عن القوت اللازم ، ومسرعين في الأكل قبل أن يكبروا ويأخذوا المال من أيديهم.

ثمَّ بيّن سبحانه وتعالى أنّ القيّم والوصيّ اللذان يحفظان أموال اليتامى ، ويصلحان أمورهم وشؤونهم ، وتستغرق أوقاتهم في تدبير شؤون أموال اليتامى ونفوسهم ولا يبقى للاشتغال لأنفسهم ، إن كانوا أغنياء ـ أي يملكون قوت سنتهم ، بل جميع نفقات سنتهم ونفقات عيالهم الواجبي النفقة عليهم ـ فيجب عليهم التعفّف ، وترك أكل أموالهم ولو كان قليلا. وأمّا إن كانوا فقيرا ـ أي لا يملكون ما ذكرنا من قوت سنتهم وقوت عيالهم الواجبي النفقة ، بل مطلق نفقاتهم ونفقات عيالاتهم مقدار سنة كاملة ـ فيجوز لهم الأكل بالمعروف.

والمراد بالمعروف هو القوت المتعارف الذي هو الوسط بين البخل والإمساك ، وبين التبذير والإسراف ، أي أكلا متعارفا.

وقد روى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ فليأكل بالمعروف قال : « المعروف هو القوت ، وإنّما عنى الوصي أو القيّم في أموالهم ما يصلحهم ». (١)

والظاهر أنّ مراده عليه‌السلام من القوت ما يقابل الكماليّات والتجمّلات كما هو المصطلح في هذه الأزمان ، لا الخبز فقط. والظاهر أنّه لا فرق فيما ذكرنا في جواز الأكل إن كان فقيرا ، وعدم جوازه إن كان غنيّا بين أن يكونا منصوبا من قبل الأب أو من قبل الحاكم.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٣٠ ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٤٠ ، ح ٩٥٠ ، باب المكاسب ، ح ٧٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٤ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧٢ ، ح ١.

٣٦٩

وقيل : المراد بالمعروف هو أن يأخذ بقدر أجرة عمله. وقيل : هو أقلّ الأمرين من أجرة عمله وقدر قوته المتعارف ، أي مقدار معيشة المتعارفة.

فلنذكر الأخبار الواردة في هذا المقام :

منها : ما روى الشيخ عن البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل يكون في يده مال لأيتام ، فيحتاج إليه ، فيمدّ يده فيأخذه وينوي أن يردّه؟ فقال : « لا ينبغي له أن يأكل إلاّ القصد ولا يسرف ، فإن كان من نيّته أن لا يردّه إليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عزّ وجلّ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) (١) » (٢).

ومنها : ما عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ ( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال عليه‌السلام : « من كان يلي شيئا لليتامى وهو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم ، فليأكل بقدر ولا يسرف ، وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يرزأ من أموالهم شيئا » (٣).

ومنها : موثقة حنّان بن سدير عنه عليه‌السلام قال : « إذا لاط حوضها وطلب ضالّتها وهنأ جرباها فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع ولا فساد نسل ». (٤)

ومنها : ما عن أبي الصباح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ : ( فمَنْ

__________________

(١) النساء (٤) : ١٠.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢٨ ، باب أكل مال اليتيم ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٣٩ ، ح ٩٤٦ ، باب المكاسب ، ح ٦٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٩٢ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧٦ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢٩ ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٤٠ ، باب المكاسب ، ح ٦٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٥ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧٢ ، ح ٤.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٣٠ ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح ٤ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٤٠ ، ح ٩٥١ ، باب المكاسب ، ح ٧٢ ، « قرب الإسناد » ص ٤٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٥ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧٢ ، ح ٢.

٣٧٠

كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) فقال ذلك يحبس نفسه من المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا ». (١)

ومنها : ما روى العيّاشي في تفسيره عن زرارة ، وروى أيضا عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تفسير الآية أنّه قال : « هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية ويشغل فيها نفسه فليأكل بالمعروف ، وليس له ذلك في الدنانير والدّراهم عنده موضوعة » (٢).

ومنها : ما روى الشيخ عن الكاهلي قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّا ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعه خادم لهم ، فنقعد على بساطهم ، ونشرب من مائهم ، ويخدمنا خادمهم وربما طعمنا فيه الطعام من عند صاحبنا وفيه من طعامهم ، فما ترى في ذلك؟ فقال : « إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم فلا بأس ، وإن كان فيه ضرر فلا. وقال عليه‌السلام : « ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) وأنتم لا يخفى عليكم وقد قال الله عزّ وجلّ : ( وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ) (٣) » (٤).

ومنها : ما في الكافي عن عليّ بن المغيرة : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ لي ابنة أخ يتيمة ، فربما أهدى لها شي‌ء فأكل منه ثمَّ أطعمها بعد ذلك الشي‌ء من مالي ، فأقول : يا ربّ هذا بذا؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس » (٥).

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٣٠ ، باب ما يحلّ لقيّم مال اليتيم منه ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٤١٠ ، ح ٩٥٢ ، باب المكاسب ، ح ٧٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٥ ، أبواب ما يكتسب منه ، باب ٧٢ ، ح ٣.

(٢) « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ٢٢٢ ، ح ٣١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٧ ، أبواب ما يكتسب منه ، باب ٧٢ ، ح ٩.

(٣) البقرة (٢) : ٢٢٠.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢٩ ، باب أكل مال اليتيم ، ح ٤ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٣٩ ، ح ٩٤٧ ، باب المكاسب ، ح ٦٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٣ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧١ ، ح ١.

(٥) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢٩ ، باب أكل مال اليتيم ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٤ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧١ ، ح ٢.

٣٧١

ومنها : ما رواه الشيخ عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّن تولّى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم ، فليأكل بقدر ذلك » (١).

والإنصاف أنّ القدر المتيقّن المتحصّل من هذه الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها هو أنّ المتولي لأمر الصغار ، أي الوصي عليهم من طرف الأب ، أو الجدّ من قبل الأب ، أو القيّم عليهم من طرفها أو من طرف الحاكم ، إذا كان فقيرا ـ أي لم يملك مئونة نفسه وعياله الواجبي النفقة مقدار سنة كاملة ، وكان مشتغلا بإصلاح أموالهم وتدبير شئونهم بحيث يشغله ذلك عن تحصيل معيشته وإدارة شئونه ، وعن كسبه وتدبير مال نفسه ـ فيجوز له أن يأكل من مال اليتيم بمقدار أقلّ الأمرين من قوته المتعارف ومن أجرة عمله ، بشرط أن لا يكون مال اليتيم قليلا بحيث لو أكل الوصي أو القيّم منه ينعدم ، أو يكون قريبا من الانعدام. وإن شئت قلت : أنّه لا يكون موجبا لتبيّن نقصه عرفا.

فلجواز الأكل قيود :

الأوّل : أن لا يكون غنيّا ، لأنّ الأمر بالاستعفاف ظاهر في الوجوب.

الثاني : أن يكون مشتغلا بإصلاح أموالهم وشؤونهم ، ويدلّ على هذا القيد أغلب الروايات المتقدّمة.

الثالث : أن يكون اشتغاله بإصلاح أمورهم مانعا عن تحصيل معيشته والاشتغال لنفسه ، ويدلّ على هذا القيد قوله عليه‌السلام في رواية سماعة « وإن كانت ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا ». ومعنى « لا يزرأ » هو « لا ينقص » والنهي عن النقص من أموالهم كناية عن عدم جواز الأكل مطلقا ، قليلا كان أو كثيرا.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٣٤٣ ، ح ٩٦٠ ، باب المكاسب ، ح ١٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ١٨٦ ، أبواب ما يكتسب به ، باب ٧٢ ، ح ٥.

٣٧٢

الرابع : أن يكون بمقدار أقلّ الأمرين من القوت المتعارف ومن أجرة عمله ، فالدليل على هذا القيد هو رواية هشام بن الحكم حيث يقول عليه‌السلام فيها « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر فليأكل بقدر ذلك ».

والآية وإن كانت مطلقة من هذه الجهة ، لأنّ مفادها جواز الأكل بالمعروف وإن كان أكثر من أجرة المثل ، لكن هذه الرواية يقيّدها بما إذا لم يكن أزيد من أجرة المثل.

مضافا إلى أنّ أكله أزيد من أجرة المثل خلاف القواعد الأوّلية ، إذ في الكبير لا يجوز ذلك فضلا عن الصغير ، وكون هذا حكما تعبّديا في خصوص الصغير بعيد إلى الغاية.

أمّا لو كان قوت السنة أقلّ من أجرة المثل ، فالأخذ به من جهة أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة في قوله تعالى ( مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) هو أنّ أزيد من قوت السنة الذي هو الأكل بالمعروف لا يجوز ، فيقيّد به دليل استحقاق الأجير أجرة عمله ، وكأنّه قال : كلّ أجير يستحقّ مقدار أجرة عمله ويجوز له أكل ما يستحقّ من ناحية عمله ، إلاّ إذا كان عمله في إصلاح أموال اليتيم ، فإنّه لا يستحقّ ولا يجوز أكل أزيد من قوت ، ونتيجة ما ذكرنا هو استحقاق أقلّ الأمرين.

الكلام في منجّزات المريض‌

إنّ من المعلوم أنّ تصرّفات المريض نوعان : مؤجّلة بالموت ومعلّقة عليه ، وهي الوصيّة وقد تقدّمت بتفاصيلها ، سواء صدرت عن المريض أو الصحيح ، وذكرنا مقدارا مهمّا أعني ما هو محلّ الابتلاء من فروعها ، ومنجّزة وهي التي اصطلح عليها الفقهاء بإطلاق لفظ منجّزات المريض عليها.

والمنجّزات التي تصدر عن المريض إن لم تكن فيها محاباة ولم تكن من التبرّعات ، فلا كلام فيها ولا خلاف في البين.

٣٧٣

وأمّا إن كانت من التبرّعات كالهبة والعتق والوقف وأمثالها ، أو كانت من المعاوضات التي فيها المحاباة ، فقد وقع الخلاف في أنّها من الأصل وإن لم يجز الوارث ، أو متوقّف كونها من الأصل على إجازة الوارث مثل الوصيّة ، فإن لم يجز كان من الثلث؟

فمن الأولى والأرجح أن نقدّم أمورا لتوضيح المقام :

الأوّل : كما عرفت أنّ المراد من « المنجّز » هو ما يقابل الوصيّة‌ ، بمعنى أن تكون العطيّة التي يعطيها ، أو المعاملة المحاباتيّة التي ينشأها ، أو فكّه لملكه أو إبراء ذمّة مشغولة له ، سواء كانت مشغولة بمال أو حقّ له غير معلّق على موته ، بل يتحقّق ما أنشأه من الأصل على أحد القولين ، ومن الثلث على القول الآخر في حال حياته وليس موقوفا على موته ، بخلاف الوصيّة فإنّ الموصى به لا يوجد للموصى له إلاّ بعد موت الموصي. فبناء على هذا عتقه في حال المرض وهبته ووقفه وصدقته وبيعه المحاباتي وصلحه بلا عوض أو مع عوض أقلّ ممّا يصلح عليه وإجارته المحاباتيّة وكلّ معاوضة محاباتيّة وجميع تبرّعاته على أنحائه ممّا يوجب ضررا ونقصا على الوارث ، وكذلك إسقاط حقوقه التي تعاوض بالمال وإبراء ذمّة مديونه ، وأمثال المذكورات ممّا ليس منشأه معلّقا على الموت ويكون إضرارا بالوارث ، يكون داخلا في محلّ النزاع والخلاف.

ثمَّ إنّ ها هنا موارد وقع الكلام في أنّها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟

منها : شراء من ينعتق عليه كالعمودين ـ أي الآباء والأمّهات ـ أو المحارم من النساء‌ ، فمن جهة يمكن أن يقال هذه المعاملة ليس فيها محاباة ، وإنّما المبيع الذي اشتراه يساوي ثمنه ، وليس عند العرف خسارة وضرر ، ولذلك ليس فيها خيار غبن ، والضرر الذي يتوجّه على الورثة من ناحية حكم الشارع بانعتاق هؤلاء ، وإلاّ لو فرضنا عدم‌

٣٧٤

هذا الجعل من قبل الشارع لم يكن ضرر عليه في البين ، ولكن حيث أنّه يظهر من روايات الباب أنّ مناط عدم النفوذ في الزائد على الثلث على القول به هو الإضرار بالورثة ، ففي ما روى الكليني أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاب من أعتق مماليكه ولم يكن له غيرهم وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ترك صبية صغارا يتكفّفون الناس ». (١) شاهد واضح على أنّ مناط المنع في الزائد على الثلث هو الإضرار بالورثة ، ولا شكّ في أنّ في شراء من ينعتق عليه إضرار بالورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف ، لوجود المناط فيه.

منها : ردّ الهبة والوصيّة والصدقة‌ إن كان من أهلها.

منها : العفو عن القصاص مع إمكان أن يصالح هذا الحقّ بالمال. ولكن الإنصاف أنّ هذا من عدم جلب النفع للورثة لا من الإضرار عليهم ، لأنّ المجعول لوليّ الدم ابتداء هو ليس حقّا ماليّا بل حقّ القصاص فقط ، ولكن له أن يصالح بالمال فلو لم يحصل مالا وأضرّ بهم وإلاّ لو كان ذا صنعة مهمّة مثل أن يكون خطّاطا من الدرجة الأولى ، كلّ قطعة من خطّه يباع بقيمة مهمّة غالية يمكن أن يحصل أيّام المرض مالا مهمّا يجب أن يقال بوجوب الشغل بتلك الصنعة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

منها : الإتلاف الموجب للضمان‌ ، فلو تعمّد إتلاف مال الغير فيكون ضامنا لما أتلف ، ولا شكّ في أنّه إضرار بالورثة ، فهل يخرج الضمان من الأصل أو الثلث؟ ومثل أنّه أفطر في نهار رمضان متعمّدا فيجب عليه الكفّارة فيما إذا تعيّن عليه الكفّارة الماليّة من إطعام ستّين مسكينا أو تحرير رقبة مؤمنة ، وهكذا الحال في سائر الكفّارات الماليّة فهل يكون من الأصل أو من الثلث مثل كفّارة حنث الحلف النذر؟

أقول : محل البحث هو إنشاء تبرّع ابتداء أو في ضمن معاملة محاباتيّة ، سواء كانت عقدا أو إيقاعا ، فهل مثل هذه المعاملات تنفذ من الأصل أو من الثلث؟

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٨ ، باب أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّا ، ح ١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٨٣ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٧ ، ح ٩.

٣٧٥

أمّا الفعل الخارجي التكويني الذي جعله الشارع موضوعا لحكم من الأحكام ـ كباب الجنايات التي جعل الشارع لها الدية أو لزوم إعطاء الأرش ، أو جعله الشارع موضوعا لوجوب إعطاء الكفّارة ـ فلا دخل لها بما هو محلّ بحثنا ، بل رفع الحكم فيها يحتاج إلى تقييد في دليلها أو تخصيص فيه ، وحيث لا تقييد ولا تخصيص في البين فيجب إعطاء الكفّارة فيما تجب فيها والأرش والدية فيما يجب فيه الأرش أو الدية.

وخلاصة الكلام هو أنّ البحث في أنّه إذا صدر من المريض عقد أو إيقاع يكون تبرّعا ابتداء أو يكون متضمنا للتبرّع كالعقود المحاباتيّة أو الإيقاع كذلك ، فهل ينفذ من الأصل أو لا ينفذ إلاّ في خصوص الثلث كالوصيّة؟

وإن شئت قلت : إنّ محلّ النزاع والخلاف هو أن يكون مالا موجودا للمريض من عين أو منفعة أو دين أو حقّ ماليّ ، ففي عالم الاعتبار التشريعي لو نقله إلى غيره بلا عوض أو بعوض أقلّ أو أبرأ ذمّة من في ذمّته أو أسقط حقّه المالي الموجود ، فهل ينفذ مطلقا ، أو لا بل ينفذ في مقدار الثلث ، أمّا الزائد عليه فنفوذه موقوف على إجازة الورثة؟

نعم لو اشتغل ذمّته لشخص بعقد أو إيقاع ، بحيث يكون ملزما بأدائه من المال الموجود عنده بدون عوض والظاهر كونه داخلا في محلّ الكلام.

وأمّا إذا ضمن بعقد الضمان ما في ذمّة زيد مثلا ، خصوصا إذا كان زيد معسرا يتعذّر عليه أداء عوض الضمان ، فهل داخل في محلّ البحث ، أم لا؟ فيه وجهان :

من حيث أنّ الضمان عقد موجب لاشتغال ذمّة الضامن بعوض مثله في ذمّة المضمون عنه ، فليس من عقود التبرّعات ولا المعاوضة المحاباتيّة ، فيكون خارجا عن محلّ النزاع.

ومن حيث أنّ المضمون له لو كان معسرا يتعذر عليه أداء ما في ذمّته من عوض المضمون به ربما يكون ضررا على الورثة ، فيكون داخلا في محلّ الخلاف والنزاع.

٣٧٦

والإنصاف : أنّه في صورة كون المضمون عنه معسرا بحيث يتعذّر عليه أداء ما في ذمّته ، لا يبعد دخوله في محلّ النزاع ، لوجود المناط والملاك فيه.

وأمّا نذر المال في حال المرض فداخل في محلّ الكلام بلا كلام ، لأنّه يقينا ضرر على الورثة ، فإنّ مقدار المال المنذور يخرج من كيس الورثة يقينا وبلا عوض ، فهو من العقود التبرعيّة بلا ريب.

ثمَّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا من الضابط من محلّ النزاع والخلاف ـ وهو أن يكون مالا موجودا ، أو ما يكون بحكم الموجود ، كالمنافع للأعيان الموجودة التي تتجدّد في الأزمنة المتتالية ، من عين أو منفعة أو دين في ذمّة أو حقّ مالي ، ففي عالم الاعتبار التشريعي بعقد أو إيقاع لو نقله إلى غيره بلا عوض أو مع عوض أقلّ منه ، أو أبرأ ذمّة من في ذمّته ، أو أسقط حقّه المالي الموجود ، ففي جميع ذلك يأتي الخلاف المذكور أنّه من الأصل أو هو كالوصيّة من الثلث إذا صدر من المريض ـ أنّ العطايا الخارجيّة التي تصدر منه كما إذا أعطى مالا بدون عقد أو إيقاع في البين لمادح يمدحه ، أو لمن يخاف منه على نفسه أو على ماله أو على عرضه ، أو يريد يجلب مودّته لغرض من الأغراض أو يريد احترامه لأجل حقّ له عليه فيضيفه ، أو يهدى إليه لرجوعه من سفر أو لعرسه وزفافه ، أو يعطى لفقير للأجر والثواب ، أو يعطى لسلامته من الآفات وحصول الصحّة والاستشفاء من مرضه ، فجميع ذلك خارج عن محلّ الخلاف والنزاع ، وعليه السيرة المتشرّعة قديما وحديثا.

الثاني : أنّه ما المراد من المرض الذي أخذ في عنوان البحث‌ ، حيث أنّ المسألة عندهم معنونة بعنوان أنّ منجّزات المريض هل هي من الأصل أم من الثلث كالوصيّة؟

أقول : الاحتمالات كثيرة :

منها : أن يكون المراد منه المرض الذي بسببه يحصل الموت‌ ، فيكون من إضافة‌

٣٧٧

السبب إلى المسبّب ، فمرض الموت أي المرض الذي يكون سببا وعلّة للموت.

وهذا أيضا على قسمين ، لأنّ السبب قد يكون سببا فعليّا ، وقد يكون شأنيّا.

مثلا قد يكون الموت مستندا إليه ، وليس للموت سبب وعلّة أخرى بحيث لو لم يكن هذا المرض لم يمت ، وأخرى يكون سبب آخر للموت من غرق أو حرق وإن كان المرض أيضا لو لم يكن ذلك السبب الآخر كان كافيا لوقوع الموت ، ولكن بواسطة وجود ذلك السبب الآخر لم يبق مجال لتأثير المرض ، كما أنّه كان مبتلى بالسل في الدرجة الأخيرة التي ليست قابلة للعلاج ، ولكن يتأخّر موته سنة مثلا وفي الأثناء انهدمت الدّار عليه ومات ، فالمرض في هذا المثال سبب شأني للموت ، والسبب الفعلي له انهدام الدار عليه.

ومنها : أن يكون المراد منه المرض الذي يتّفق فيه الموت‌ ، وليس للمرض تأثير فيه أصلا ، وذلك كما إذا كان مريضا قابلا للعلاج وفعلا مشغولة بالمعالجة ، ولكن اتّفق أنّه مات بسبب آخر ، كما أنّه وقع من شاهق أو لدغه حيوان سامّ مثلا فمات بسببه.

وبناء على هذا التفسير ـ لمرض الموت ـ يكون من قبيل إضافة الظرف إلى مظروفة ، كقولهم : سنة الوباء أو الطاعون أو القحط وأمثال ذلك أي المرض الذي يقع فيه الموت. وبناء على هذا التفسير الأخير لو كان مريضا وصدر منه تصرّف منجّز في ماله ، كهبة أو وقف أو عتق ومات في أثناء ذلك المرض بسبب آخر ، كلدغ حيّة مثلا ، يكون داخلا في محلّ الخلاف ، أي أنّه يخرج من الأصل أو الثلث؟

ثمَّ إنّه قد تحصل أمارات الموت وليس بمريض أصلا ، كما أنّه لو صعب الولادة على المرأة حال الطلق وظهرت عليها أمارات الموت ، فإن صدرت في هذه الحالة تبرّعات منجّزة من بذل مهرها لزوجها وأمثال ذلك ، فهل داخل مثل هذا التبرع في محلّ الخلاف أم لا؟ أو كان في الحرب في محلّ يظنّ فيه التلف لوقوع رصاصه عليه ، أو كان في السفينة المشرفة على الغرق في حال هيجان البحر وتلاطم الأمواج ، ففي مثل‌

٣٧٨

هذه الموارد هل يكون ملحقا بمرض الموت ، لوحدة الملاك وتنقيح المناط ، أم لا؟

ولكن هناك في الروايات تعبير آخر غير مرض الموت ، وهو عنوان « حضرته الوفاة » ربما يشمل مثل هذه الموارد ، فالمرأة التي حال الطلق ظهرت عليها أمارات الموت يصدق عليها أنّها حضرتها الوفاة ، وهكذا في السفينة المشرفة على الغرق.

ثمَّ إنّه هاهنا أمران :

أحدهما : هل موضوع هذا الخلاف والنزاع وقوع التبرّعات المنجّزة في مطلق المرض‌ ، وإن كان تطول مدّته ويبقى المريض سنين ، كمرض السل والسرطان ، فإنّهما وإن كان سببا للموت بالأخرة وليس لهما العلاج ولكن قد تطول سنين عديدة ، أو مخصوص بالمرض الذي يتعقّب بالموت بسرعة ولا يزيد على الشهر مثلا؟

ومعلوم أنّه لو كان موضوع الحكم هو مرض الموت ، فلا بدّ من مراجعة العرف في فهم المراد من هذه الكلمة إلاّ أنّ الشأن في ذلك.

الثاني : أنّ موضوع هذا الحكم ووقوع الخلاف مطلق المرض ، أو خصوص المخوف منه؟ واختلف عباراتهم في هذا القيد ، ويظهر من عبارة المحقّق في الشرائع أنّ موضوع هذا الخلاف مطلق المرض الذي يتّفق به الموت ، سواء كان مخوفا في العادة أو لم يكن (١) فعنده موضوع هذا الخلاف هو المرض الذي يكون سببا للموت وإن لم يكن مخوفا بل اتّفق فيه الموت. واختار في القواعد (٢) أنّ الموضوع لهذا الحكم هو المرض يتّفق معه الموت وإن لم يكن بسببه.

ثمَّ إنّ الذين جعلوا الموضوع المرض المخوف مثل الشيخ (٣) قدس‌سره ومن تبعه في ذلك ، دخلوا في مسألة بيان الأمراض المخوفة وما ليس بمخوف ، وهذا عبارة الشرائع : كلّ‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٦١.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٣٣٤.

(٣) « المبسوط » ج ٤ ، ص ٤٤.

٣٧٩

مرض لا يؤمن معه من الموت غالبا فهو مخوف ، كحمّى الدق ، والسل ، وقذف الدم ، والأورام السوداويّة والدمويّة ، والإسهال المنتن وما شاكله. وأمّا الأمراض التي الغالب فيها السلامة فحكمها حكم الصحّة ، كحمى يوم وكالصداع عن مادّة أو غير مادّة ، والدمل ، والرمد ، والسلاق ، وكذا ما يحتمل الأمرين كحمى الغض ، والزحير ، والأورام البلغمية (١).

وهذه الأمراض التي ذكرها أنّ عدّة منها مخوفة وعدّة أخرى غير مخوفة هو حسب الطبّ القديم ، وأمّا اليوم فتغيّرت أسماؤها ، وبعض ما سمّاها بالمخوفة ليست بالمخوفة ، بل يمكن علاجها بسهولة في هذه الأزمان.

هذا ، مضافا إلى أنّه ليس في الروايات هذا العنوان ، أي عنوان « المرض المخوف » كي ترجع في تعيين مفاده إلى العرف أو إلى أهل الخبرة في فنّ الطبّ ، وأنّه هل يسمع شهادة الفاسق بل الكافر من أهل الخبرة أو لا بدّ وأن يكون شهادة العدل بل العدلين لو كان من باب الشهادة.

نعم في عدّة روايات عنوان « المريض » من دون قيد ، وفي الكتاب العزيز وفي عدة من الروايات عنوان « حضر أحدكم الموت » وفي بعضها « عند الموت » فالبحث عن أنّ أيّ مرض مخوف وأيّها ليس بمخوف لا أثر له.

نعم المسلّم عند الكلّ أنّه لو تبرّع في مرضه ، ثمَّ طاب من ذلك المرض ولم يمت ، ثمَّ مات بمرض آخر أو بسبب آخر ، فهذا ليس داخلا في محلّ النزاع والخلاف قطعا ، فما هو المسلّم في دخوله في محلّ النزاع هو أن يقع الموت في نفس المرض الذي صدر التبرّع منه في ذلك المرض ، أمّا كونه سببا للموت أو كونه مخوفا فليس شي‌ء من ذلك مذكور في الأخبار ولا من المسلّمات عند الأصحاب.

الثالث : في بيان أنّه ما هو مقتضى الأصل ، مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة‌ التي‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٦١.

٣٨٠