القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

« نعم ، على الأكابر من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك » (١).

ومنها : ما عن عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى إلى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال عليه‌السلام : « يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصيّة ، ولا تنتظر بلوغ الصبي ، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى ، إلاّ ما كان من تبديل أو تغيير ، فإنّ له أن يردّه إلى ما أوصى به الميّت » (٢).

فرع : بعد الفراغ عن جواز الوصيّة إلى الصغير منضمّا إلى الكبير وعدم جواز تصرّفه قبل البلوغ وكونه شريكا مع الوصي الكبير بعد البلوغ وعدم جواز تفرّد الكبير في التصرّفات بعد بلوغ الوصي الصغير ، فلو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فهل ينفرد الكبير بالتصرّف ويصير كأنّه لم يكن غيره وصيّ في البين ، أم لا بدّ من مراجعة الحاكم ومداخلته بالإذن له بذلك ، أو يجعل شريكا له في التصرّفات عوضا عن الشريك الذي مات أو صار كالعدم؟

الظاهر عدم لزوم المراجعة إلى الحاكم بل عدم جواز مداخلته ، لأنّ مداخلة الحاكم مورده فيما إذا لم يداخل يتعطّل الأمر ، وليس هناك من يجب مباشرته ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، فإذا كان للأمر وليّ يجب عليه الدخل والتصرّف ، كما في مثل المقام حيث أنّ الوصي الكبير كان له التصرّفات قبل موت الصغير أو جنونه وفساد عقله ، فالآن كما كان ، فمع وجود ذلك الكبير الذي له ولاية على ما أوصى به لا تصل‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٦ ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك منه الصغير ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٩ ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح ٥٤٨٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٥ ، ح ٧٤٤ ، باب الأوصياء ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٣٨ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٥٠ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٦ ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٩ ، باب الوصيّة إلى مدرك وغير مدرك ، ح ٥٤٨٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٤ ، ح ٧٤٣ ، باب الأوصياء ، ح ١ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٤٠ ، ح ٥٢٢ ، باب أنّه يجوز أن يوصى إلى امرأة ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٣٩ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٥٠ ، ح ٢.

٣٤١

النوبة إلى الحاكم ومداخلته.

فرع : لا يشترط الذكورة في الوصيّ‌ فيجوز أن يوصى إلى امرأة موثوقة غير عاجزة عن التصرّفات التي أوصى إليها ، وذلك لأنّ الأصل عدم اعتبار الذكورة مع شمول إطلاقات الوصيّة لما إذا كان الوصيّ امرأة ، مضافا إلى الإجماع وعدم وجود المخالف ودلالة رواية عليّ بن يقطين المتقدّمة أنّه قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى امرأة وشرك في الوصيّة معها صبيّا؟ فقال عليه‌السلام : « يجوز ذلك وتمضى المرأة الوصيّة » إلى آخر.

فرع : ولو أوصى إلى اثنين أو أكثر ، فلهذه المسألة صور :

الأولى : أن يطلق ولم يقيّد وصايتهما وولايتهما أو تصرّفهما بالإجماع أو بالانفراد.

الثانية : أن يقيّد بالاجتماع ، سواء كان الاجتماع قيد الولاية والوصاية ، أو كان قيد التصرّف.

الثالثة : أن يصرّح بجواز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا أو ولاية كلّ واحد منهما كذلك.

أمّا الصورة الثانية والثالثة فالأمر فيهما واضح ، لأنّ كلّ واحد منهما في الثانية إمّا ليس بوليّ ووصيّ ، أو لا يجوز تصرفه مستقلا وإن كان لاشتراط الاجتماع ، فمخالفته تبديل للوصيّة وقد حرّمه الله تعالى بقوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (١).

هذا إذا كان الاجتماع شرطا للتصرّف ، وأمّا إذا كان قيدا للولاية بمعنى أنّ الولاية‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٨١.

٣٤٢

جعل للاثنين فكأنّه كلاهما وليّ واحد ، فكلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ليس بوليّ ، فلا ينفذ تصرّفاته ويكون حاله حال الأجنبيّ عن التركة ، بل هو هو.

وأمّا في الثالثة فيجوز تصرّف كلّ واحد منهما مجتمعا مع الآخر ومتفرّدا عنه ، لتصريح الموصي بذلك.

أمّا الصورة الأولى ، أي فيما إذا أوصى إليهما من دون تصريح بكونهما مجتمعين أو تصريح بعدم الفرق بين كونهما مجتمعين أو منفردين ، فالمشهور عدم نفوذ تصرّف كلّ واحد منهما منفردا واستقلالا لوجوه :

الأوّل : لأنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير‌ ، لأنّ احتمال أن يكون تصرّف كلّ واحد منهما مشروطا بالانفراد ، بحيث لو اتّفقا على أمر يكون تصرّفهما باطلا ، لا يليق مثل هذا الاحتمال بالفقيه ، فلا بدّ من أحد أمرين : إمّا اختصاص النفوذ باجتماعهما على أمر ويكون التصرّفات ناشئة من رأيهما جميعا ، أو ينفذ وإن تفرّد أحدهما بالتصرّف دون الآخر. وهذا معنى الدوران بين التعيين والتخيير ، فالقدر المتيقّن ممّا هو نافذ هو صورة اجتماعهما ، فلا بدّ وأن يؤخذ به ، لأنّ الأخذ به يوجب القطع بالعمل بالوصيّة. وأمّا الفرد الآخر ، أي الأخذ بنفوذ تصرّف كلّ واحد منهما وإن كان منفردا مشكوك أنّه عمل بالوصيّة أم لا ، والعقل يحكم بلزوم الأخذ بالأوّل ، وهذا الحكم العقلي ثابت وجار في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

الثاني : ظهور جعلهما وصيّا في أنّ لنظر كلّ واحد ورأيه مدخليّة في نفوذ الوصيّة ، ورأي كلّ واحد منهما بعض المؤثّر لإتمامه ، ولا شكّ في أنّ المعلول لا يوجد إلاّ بتمام العلّة لا ببعضها ، وكذلك الحكم لا يوجد إلاّ بعد وجود تمام موضوعه ، فلا بدّ من الاجتماع في نفوذ الوصيّة.

الثالث : الروايات الواردة الظاهرة في أنّ تصرّف أحد الوصيّين دون الآخر ومنفردا لا نفوذ له :

٣٤٣

منها : رواية محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل أوصى إلى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة ، والآخر بالنصف؟ فوقّع عليه‌السلام : « لا ينبغي لهما أن يخالفا الميّت وأن يعملا على حسب ما أمرهما إن شاء الله ».

وروى المشايخ الثلاثة هذه الرواية عن الصفّار (١).

ومنها : ما رواه صفوان بن يحيى قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل كان لرجل عليه مال فهلك وله وصيّان ، فهل يجوز أن يدفع إلى أحد الوصيّين دون صاحبه؟ قال : « لا يستقيم إلاّ أن يكون السلطان قد قسم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف وعلى يد هذا النصف ، أو يجتمعان بأمر السلطان » (٢).

فقوله عليه‌السلام : « لا يستقيم » صريح في أنّ كلّ واحد منهما ليس مستقلاّ في التصرّفات.

وأمّا الاستثناء فإن كان المراد من السلطان هو الإمام الحقّ ، فلا شكّ في أنّه بعد تقسيمه لمصلحة فكلّ واحد منهما يصير مستقلاّ في نصيبه. وإن كان المراد هو الجائر فيكون الحكم من باب التقيّة وقد وجّه الرواية بهذا أو ما هو قريب منه الشيخ قدس‌سره (٣) ولا بأس به.

ومنها : ما رواه بريد بن معاوية قال : إنّ رجلا مات وأوصى إليّ وإلى آخر أو إلى رجلين فقال أحدهما : خذ نصف ما ترك وأعطني النصف ممّا ترك ، فأبى عليه الآخر ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٦ ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٣ ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح ٥٤٧١ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١١٨ ، ح ٤٤٨ ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٥ ، ح ٧٤٥ ، باب الأوصياء ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٤٠ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٥١ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٤٣ ، ح ٩٤١ ، باب من الزيادات الوصايا ، ح ٣٤ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١١٩ ، ح ٤٥٠ ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٤٠ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٥١ ، ح ٢.

(٣) « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١١٩ ، ذيل ح ١١٩.

٣٤٤

فسألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، فقال عليه‌السلام : « ذلك له » (١).

وهذه الرواية أيضا تدلّ على عدم جواز استقلال أحدهما وتفرّده بالتصرّف ، بناء على أن يكون المشار إليه في كلمة « ذلك له » هو أباه الآخر بعد طلب أحدهما التقسيم والنصف ، لا أن يكون المشار إليه هو طلب التنصيف ، وإلاّ فيكون على خلافه أدلّ. فظهر أنّ هذه الروايات أيضا تدلّ على عدم جواز انفراد كلّ واحد من الوصيّين أو الأوصياء بالتصرّف ، بل لا بدّ من اجتماعهما على رأي وأمر فيما لم ينصّ الموصي على الاستقلال والانفراد.

ثمَّ إنّه لو تشاحا ولم يجتمعا على أمر وأصرّ كلّ واحد منهما على رأيه المخالف لرأي الآخر ، فالحاكم يجبرهما على الاجتماع ، فإن لم يمكن وتعذّر الاجتماع بل وإن تعسّر يستبدل بهما غيرهما ، لأنّ تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولأنّ التعطيل في وصايا الميّت بحيث يضيع حقّ من أوصى له أو غير ذلك من وصاياه أمر مرغوب عنه شرعا. ومضافا إلى أنّ المال يبقى بلا من يكون وليّا عليه ويدبّر أمره ، خصوصا إذا كان من الحيوانات فتتلف لاحتياجها إلى عنايات من تعليفها ، ومكان بالليل لحفظها من السباع ، وراع يرعيها وأمثال ذلك ، والصغار من يتامى الموصي يحتاجون إلى الأكل واللباس وغير ذلك من حوائجهم ، فلا بدّ من مداخلة الحاكم الذي بيده مجاري الأمور لاستبدال المتشاحين بغيرهما كي يدبّر هذه الأمور وينظّمها.

وأمّا ما قيل : من أنّ في الأمور اللابدّية التي لا يمكن تعطيلها لفوات نفس محترمة ، أو فوات الأموال بجواز انفراد أحدهما بالتصرّف كما في الشرائع. (٢)

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٧ ، باب من أوصى إلى مدرك وأشرك معه صغير ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٣ ، باب الرجلين يوصى إليهما. ، ح ٥٤٧٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٥ ، ح ٧٤٦ ، باب الأوصياء ، ح ٤ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١١٨ ، ح ٤٤٩ ، باب من أوصى إلى نفسين. ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٤٠ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٥١ ، ح ٣.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٦.

٣٤٥

فهذا كلام خال عن الدليل ، بل الدليل على خلافه ، لأنّهما بعد سقوط رأيهما عن الاعتبار لعدم إمكان اجتماعهما لا اعتبار برأي كلّ واحد منهما منفردا عن الآخر ولا بفعله ، فيكون حاله حال الأجانب بل هو بمفرده أجنبي عن التركة ، فهو كسائر الناس لا يجوز له التصرّف إلاّ بأمر وإذن من الحاكم ، فبعد عدم إمكان اجتماعهما على رأي لا بدّ من مداخلة الحاكم كي يستبدل بهما ، سواء كان مورد خلافهما من الضروريّات والأمور اللابدّ منها ، أو لم يكن كذلك.

نعم لو لم يوجد الحاكم ـ أي المجتهد العادل ـ أو لم يمكن الوصول إليه ، فعلى عدول المؤمنين بل على فسّاقهم إن لم يوجد العدول أيضا من باب الحسبة. وليس ذلك حينئذ من باب الوصيّة كي يقدّم أحدهما على سائر المؤمنين.

وما ذكرنا من أنّه لا بدّ من مراجعة الحاكم فيما إذا كان عدم إمكان الاجتماع لإصرار كلّ واحد منهما على رأيه وعدم تنزّله عنه.

وأمّا إذا كان لسقوط رأيه وعدم قابليّته للتدخل بموت أو جنون ، فهل للحاكم ضمّ آخر إلى الباقي منهما أم لا؟ الظاهر أنّه ليس له ، لأنّ الحاكم وليّ من لا وليّ له ، وها هنا حيث أنّ لكلّ واحد منهما ولاية على الموصى به ، فبخروج أحدهما عن قابليّة الولاية والوصاية لا يبقى الموصى به بلا ولي كي تصل النوبة إلى الحاكم ، بل ينفرد الولي والوصي الآخر ويتمّ العمل بمقتضى الوصيّة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الوصاية والولاية التي جعلها الموصي لكلّ واحد منهما كانت مشروطة بانضمام الآخر ، فلو سقط الآخر عن قابليّة الانضمام بواسطة الموت أو الجنون فينتفي حصول الشرط ، فينتفي المشروط بانتفاء الشرط ، فلا يبقى له الولاية والوصاية فتصل النوبة إلى الحاكم.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اشتراط ولاية كلّ واحد منهما بانضمام الآخر لم يكن مطلقا ، بل كان مقيّدا بالإمكان ، ففيما إذا لم يمكن الانضمام لموت أو لجنون لا اشتراط ، فتكون‌

٣٤٦

ولاية من له قابليّة التصرّف باقية ، فلا تشمله أدلّة رجوع الأمر إلى الحاكم.

ولكن الإنصاف : أنّه يمكن الفرق بين أن يكون التقييد صريحا بأن يقول الموصي لزيد مثلا : أنت وصيّ بشرط أن لا تعمل بوصاياي إلاّ مع عمرو ، فإذا اتّفقتما على رأي فاعمل ، وبين أن يكون التقييد بالانضمام مستفادا من الإطلاق بأن يقول لزيد : أنت وصيّ ، ويقول لعمرو أيضا : أنت وصيّ.

ففي الأوّل التقييد يوجب تضييق دائرة الولاية والوصاية ، بمعنى عدم كونه وصيّا في غير تلك الدائرة ، سواء كان الانضمام ممكنا أم لا ، ففي صورة عدم الانضمام لا ولاية وإن كان لجهة عدم إمكانه كما في المقام ، لأنّ الانضمام مع الموت أو الجنون غير ممكن.

وأمّا في الثاني فنفس التقييد مقيّد بإمكان حصول القيد ، فإن لم يمكن حصول القيد كما في المقام حيث أنّ حصول الانضمام غير ممكن بواسطة الموت أو الجنون ، فلا تقييد في البين. والحاكم بهذا الفرق هو الظهور العرفي.

وحيث أنّ التقييد في المقام مستفاد من الإطلاق فلا إطلاق له ، ففي صورة عدم إمكان الانضمام الولاية والوصاية مطلقة لا تضييق فيها ، فلا تصل النوبة إلى الحاكم ، بل الآخر الباقي على قابليّته ينفرد ويستقرّ بالأمر ، ولا يحتاج إلى جعل الحاكم شريكا له بدل الآخر الذي سقط عن القابليّة للموت أو للجنون ، وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام.

فرع : قد تقدّم أنّ الوصيّة عقد جائز ، فيجوز فسخها من قبل الموصي ما دام في بدنه الروح‌ وأن يغيّرها بالزيادة والنقصان ، ومن طرف الموصى إليه أيضا كذلك في حياة الموصي وإن كان بعد القبول. أمّا لو كان بعد موت الموصي أو لم يبلغه الردّ وإن كان في حال حياته فليس له الردّ ، بل يجب عليه القبول والعمل بمقتضاها. والظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ لا خلاف فيه.

٣٤٧

ويدلّ على لزوم القبول أيضا التعليل الذي في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أوصى الرجل إلى أخيه وهو غائب فليس له أن يردّ عليه وصيّته ، لأنّه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره » (١) فجعل عليه‌السلام مناط عدم جواز الردّ ووجوب القبول على الوصي عدم اطّلاع الموصي على الردّ ، فكونه غائبا لا خصوصيّة له ، بل المناط عدم إمكان الوصيّة إلى شخص آخر لعدم اطّلاعه على الردّ لهذا التعليل.

وفي بعض الروايات الأخر الواردة في هذا الباب كرواية فضيل بن يسار (٢) أيضا إيماء بذلك.

نعم هنا كلام وهو أنّه هل صرف بلوغ الردّ يكفي في عدم وجوب القبول على الموصى إليه ، أو يحتاج مضافا إلى بلوغ الردّ إمكان جعل غيره ، بحيث لو لم يمكن جعل غيره وصيّا إمّا لقلّة زمان حياته بعد البلوغ أو لشدّة المرض والآلام أو لغياب سائر من يعتمد عليهم من أقربائه وأصدقائه فلا يفيد البلوغ ، بل يجب عليه القبول وإن بلغ؟

وظاهر التعليل هو الثاني ، لأنّه عليه‌السلام جعل البلوغ مقدّمة لإمكان جعل شخص آخر وصيّا ، فالمناط لصحّة الردّ وعدم وجوب القبول في الحقيقة هو الغاية الأخيرة ، لأنّها العلّة واقعا للحكم في باب ترتّب الغايات.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٦ ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح ٣ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٩٦ ، باب للامتناع من قبول الوصيّة ، ح ٥٤٤٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٦ ، ح ٨١٦ ، باب قبوله الوصيّة ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٩٨ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٢٣ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٦ ، باب الرجل يوصى إلى آخر. ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٩٥ ، باب الامتناع من قبول الوصيّة ، ح ٥٤٤٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٥ ، ح ٨١٥ ، باب قبول الوصيّة ، ح ٢ ، وص ١٥٩ ، ح ٦٥٤ ، باب في النحل والهبة ، ح ٣١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٩٨ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٢٣ ، ح ٢.

٣٤٨

فرع : لو ظهر عن الوصي عجز بمعنى عدم قدرته على العمل بالوصيّة‌ لمرض مزمن أو هرم أو ما يشبه ذلك هل ينعزل ويسقط ولايته ووصايته ، أو يضمّ إليه الحاكم من يساعده فيخرج عن الاستقلال لعدم قدرته مستقلاّ؟ وأمّا ولايته وصدور التصرّفات عن رأيه ونظره فلا يسقط. وأمّا فرض عدم رأي ونظر له من جهة مرض أو كبر بحيث صار مخرفا فهو خارج عن الفرض ، إذ الفرض في المقام هو عجزه عن تنفيذ الوصيّة استقلالا وبمفرده؟

الظاهر عدم انعزاله مع إمكان العمل بالوصيّة وعدم تبديلها عمّا وقعت عليه بضمّ الحاكم إليه مساعد معه يتمّ العمل بالوصيّة ، فالقول بعزله أو انعزاله يكون من التبديل المنهي عنه ، وهذا لا كلام ولا خلاف فيه بل ادّعى الإجماع عليه.

نعم هنا بحث علميّ ربما يترتّب عليه بعض الآثار ، وهو أنّه في المفروض هل ولاية الوصي العاجز عن التنفيذ تنقص وتقصر ، بمعنى أنّها لا تكون تامّة بحيث يستقلّ في التصرّفات ، فيكون الحاكم أو المساعد الذي ضمّه إليه الحاكم شريكا له في الولاية ، أو يكون تمام الولاية له فإذا خالف رأيه رأي المساعد المنصوب عن طرف الحاكم ، يكون رأيه هو المتّبع دون رأي المساعد. وأمّا فرض أنّه لا رأي له لكبر أو مرض فقلنا إنّه خارج عن الفرض؟

الظاهر عدم حصول نقص في ولايته ، ولذلك لو كان قادرا على تعيين شخص للمباشرة وتنفيذ ما هو عاجز عن مباشرته وتنفيذه ، يمكن أن يقال بأنّه مقدّم على جعل الحاكم وضمّه مساعدا إليه. نعم لو كان عاجزا عن هذا أيضا كما أنّه عاجز عن المباشرة وتنفيذ الوصيّة ، فحينئذ تصل النوبة إلى جعل الحاكم ونصبه.

فما هو الحقّ والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الوصي إن كان عاجزا عن العمل بالوصيّة مباشرة وتسبيبا ، فتسقط ولايته رأسا ويتعيّن على الحاكم جعل وليّ على الوصايا بدلا عن الوصي الأصلي الذي كان وليّا بجعل الموصي ، لأنّ العمل بوصايا‌

٣٤٩

الميّت لازم وليس من يعمل بها ، فلا بدّ عن جعل الحاكم من يعمل ، لئلا يلزم التعطيل.

وأمّا إن كان ضعيفا لا يقدر على العمل بها وحده ، فإن كان يقدر على تحصيل شريك معه في العمل وتنفيذ الوصايا ، فله أن يحصّل ولو كان بإعطاء الأجرة له ولا يحتاج إلى الحاكم أيضا ، إلاّ إذا كان الموصي اشتراط عليه المباشرة بنفسه ، وأن يكون مثلا مشرفا على تنفيذ الوصيّة بنفسه في الأمور الراجعة إلى أولاده الصغار من تربيتهم والنظر في أمر معاشهم وتنظيم تعاليمهم وأمر دروسهم وهو بنفسه عاجز عن ذلك.

وحيث أنّه ليس له الولاية على جعل وليّ آخر يشاركه في هذه الأعمال ، فتصل النوبة إلى الحاكم وأن يعيّن شخصا يشارك الوصي في هذه ، كي لا تبقى وصاياه معطّلا ، بعد الفراغ عن العلم بأنّ الشارع لا يرضى بتعطيل وصايا الميّت وتبديله.

نعم هنا احتمل بعض أنّ هذا يكون من الحسبيات ويكون بيد عدول المؤمنين.

وفيه : أنّه مع وجود الحاكم لا تصل النوبة إلى عدول المؤمنين ، بل هم في طول الحاكم لا في عرضه ، ففي هذه الفروض انعزال الوصي لا وجه له ، غاية ما يمكن أن يقال هو أنّه للحاكم أن يضمّ إليه مساعدا يشاركه كي لا يلزم تعطيل الوصيّة ، وهو أيضا فيما لا يمكن للوصي تحصيل مساعد له ولو بأجرة ، أو فيما اشترط الميّت عليه المباشرة بنفسه ، وإلاّ لا تصل النوبة إلى الحاكم كما تقدّم.

هذا كلّه فيما إذا صار عاجزا عن العمل بالوصيّة بالاستقلال بعد ما لم يكن كذلك.

وأمّا لو كان عاجزا من حين الوصيّة ، هل يجوز جعله وصيّا ولو بضمّ مساعد إليه ، أم لا؟ والظاهر أيضا عدم المانع من هذا ، لأنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة تشمل هذا الفرض ، لأنّ المقصود عن الإيصاء إلى شخص هو أن يوجد ما أوصاه في الخارج ، ويعمل ذلك الشخص على طبق ما أوصى وينفذه ، فإذا أمكن مثل هذا ولو بتوسّط مساعد له على ذلك فلا مانع من جعله لحصول الغرض من الوصيّة ، بل ربما يحصل‌

٣٥٠

الاطمئنان منه أكثر من الذي يقدر على تنفيذها وحده من دون مساعد.

ولو كان الاحتياج إلى المساعد مانعا عن جعله وصيّا مع جعل مساعد له ، لكان حصول العجز في الأثناء أيضا كذلك ، فبعد الفراغ عن صحّته فيما إذا طرأ العجز في الأثناء وعدم انعزاله لا بدّ من أن يقال بصحّته وإن كان من أوّل الأمر ، غاية الأمر بشرط جعل مساعد له.

ثمَّ إنّه فيما إذا جعل الحاكم مساعدا له لعجزه ، فإذا زال العجز كما إذا كان مريضا مزمنا فبرأ فهل يرجع استقلال الوصي وليس للمساعد مشاركته في الرأي أو العمل أو الاثنين ، أو يبقى شريكا معه حتّى بعد زوال العجز؟

الظاهر استقلاله ، لأنّ مشاركة المساعد المجعول من طرف الحاكم كان لتتميم نقصه ، فإذا زال النقص فلا يبقى موضوع للتتميم ، فقهرا يسقط حقّ مشاركته مع الوصي ، ولا يبقى مجال لاستصحاب بقاء حقّه أو ولايته ، بناء على ثبوت ولاية له بعد جعله الحاكم مساعدا وأمثال ذلك من الأوصاف التي توجد له بعد جعل الحاكم ، وذلك للقطع بزوالها بعد زوال العجز.

ولكن قال في جامع المقاصد : إنّ في ذلك وجهين : وجه رجوع الاستقلال تقدّم ، وأمّا وجه بقاء المشاركة هو أنّ بجعل الحاكم وجد للمساعد منصب لا يرتفع إلاّ برافع ، وليس رافع في المقام (١).

وبطلان هذا الوجه ظهر ممّا تقدّم.

فرع : لو ظهرت من الوصي خيانة‌ ، فقد يقال : إنّ الحاكم يضمّ إليه أمينا يمنعه عن الخيانة ، فإن لم يمكن ذلك لعدم امتناعه أو لعدم قدرة الأمين على منعه فيعزله‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ١١ ، ص ٢٨٠.

٣٥١

الحاكم وينصب غيره. وقد يقال بأنّ الحاكم مخيّر من أوّل الأمر بين أن يعزله أو يضمّ إليه أمينا حسب ما يراه من المصلحة.

وقال في الشرائع : وإن ظهر منه ـ أي من الموصي ـ خيانة ، وجب على الحاكم عزله ويقيم مقامه أمينا. (١)

أقول : ظاهر كلام صاحب الشرائع تعيّن العزل أو الانعزال ، ولم يتكلّم عن ضمّ الأمين إليه أصلا.

وعلى كلّ حال تحقيق المقام هو أنّه لو قلنا باعتبار العدالة في الوصي ، والخيانة حيث أنّها موجبة لفسقه وخروجه عن العدالة ، فبانعدام العدالة التي هي شرط في الوصاية ينعدم المشروط أي الوصاية ، فيخرج من كونه وصيّا من غير احتياج إلى العزل بل عدم إمكانه ، لأنّه كما أنّ إيجاد الموجود لا يمكن لأنّه تحصيل للحاصل فكذلك إعدام المعدوم ، فحيث أنّ في صورة اعتبار العدالة في الوصي بالخيانة ترتفع العدالة فلا وصاية ، فعزله معناه أنّ الوصية التي ليست وارتفعت يرتفعها ، وهذا معناه إعدام المعدوم ، ومحال.

فقول المحقّق « وجب على الحاكم عزله » لا يستقيم مع القول باعتبار العدالة فيها ، بل بناء على هذا القول ينعزل قهرا ، نعم يجب على الحاكم نصب شخص أمين يقوم مقامه ، ولا معنى بناء على هذا المبنى لضمّ الأمين إليه ، لسقوط وصايته وصيرورته أجنبيّا عن وصايا الميّت.

نعم بناء على عدم اعتبار العدالة يبقى مجال للكلام في أنّه بالخيانة والفسق هل يسقط الوصيّة وينعزل ، أو يجب على الحاكم عزله وجعل شخص آخر أمين يقوم مقامه في العمل بالوصيّة؟ وجهان :

وجه الأوّل : أي السقوط هو أنّ الموصي من أوّل الأمر أوصى إلى شخص يكون‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٧٥.

٣٥٢

أمينا ويراه أنّه لا يخون ، والموضوع للولاية هو الشخص المقيّد بكونه غير خائن ، فإذا خان فليس هو بموضوع فقهرا ينعزل ولا تبقى وصاية له ، فيجب على الحاكم نصب شخص أمين مراعاة لحق الصغار وأموال الصدقات كي لا تضيع ولا تعطل الوصايا ، كما تقدّم.

وبناء على هذا الوجه يكون كلام صاحب الشرائع « وجب على الحاكم عزله » غير مستقيم ، ولا بدّ في تصحيحه من تأويل ، كما صنعه صاحب الجواهر وقال : لعلّ المصنّف ـ أي المحقّق ـ يريد بعزل الحاكم منعه عن التصرّف (١) ، لا العزل بمعناه الحقيقي.

وجه الثاني : أي عدم السقوط وبقاء الوصاية والولاية حتّى بعد الخيانة ، هو أنّ الولاية أمر اعتباري مجعول من قبل الحاكم ، فإذا لم تكن مشروطة بالعدالة فلا وجه لسقوطها بالخيانة التي هي ضدّ للعدالة ، بل هو منصب من قبل الحاكم لا يرتفع إلاّ بعزل الحاكم ، لأنّ أمر وضعه بيد الحاكم.

والوجه هو الأوّل ، لأنّنا وإن لم نقل باعتبار العدالة في الوصي ـ بل الإسلام لو لم تكن الإجماعات المدّعاة في المقام ـ ولكنّ الظاهر أنّ المجعول ليس هو هذا الإنسان مطلقا ، بل هو مقيّدا بأنّه أمين غير خائن. وهذا من قبيل القيود الضمنيّة الارتكازيّة ، فيكون متعلّق الوصاية ضيقا من أوّل الأمر وفي حال الجعل. وهذا أمر ارتكازي عرفي في كلّ من يوصي إلى شخص أنّ إيصاءه إلى من هو أمين ولا يفرّط فيما أوصى إليه ، فهذا الارتكاز عند العرف بمنزلة التقييد اللفظي.

فرع : لا شكّ في أنّ الوصي أمين ، والمال الذي في يده أمانة ، فلو تلف في يده لا يضمن. وقاعدة « على اليد ما أخذت » لا تشمل اليد الأمانيّة ، بل هي خارجة عن موردها تخصيصا أو تخصّصا ، لأنّ اليد في القاعدة إن لم تكن مقيّدة فاليد الأمانيّة‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٤٢١.

٣٥٣

والمأذونة من قبل الله المسمّى بالأمانة الشرعيّة كاللقطة ، أو ما في أيدي الحكّام من باب الولاية الشرعيّة خارجة تخصيصا ، لا ضمان فيها إلاّ على التعدّي والتفريط.

وفي الحقيقة في مثل مورد التعدّي تخرج عن كونها أمانة ، وتكون من اليد الغاصبة حكما بل موضوعا ، وإن كانت مقيّدة بعنوان غير المأذونة فهي خارجة تخصّصا ، وذلك لأنّ اليد غير المأذونة لا تنطبق عليها ، لأنّها مأذونة إمّا من قبل الله كالأمانات الشرعيّة ، أو من قبل المالك ، وفي كليهما خارجة عن تحت قاعدة اليد بناء على هذا التقدير تخصّصا ، فضمان اليد لا محلّ له ، وباقي أقسام الضمانات لا موجب لها.

ولا شك في أنّ يد الوصي أمانيّة ، إمّا أمانة شرعيّة أي : مأذونة من قبل الله باعتبار أنّ المجعول من قبل الحاكم مجعول من قبل الله كسائر الأولياء ، وإمّا المالك الميّت جعله وليّا حين كونه مالكا ، فيكون الوصي مأذونا من قبل المالك الموصي إلى أن ينفذ وصيّته. وعلى كلا التقديرين لا ضمان ما لم يفرّط ولم يغيّر الوصيّة عن وجهها.

نعم وردت روايات في ضمان الوصي ، ولكن كلّها فيما إذا غيّر الوصي الوصيّة عن وجهها ، وقد عقد لذلك بابا في الوسائل (١) لكنّها أجنبيّة عن المقام ، فإنّها راجعة إلى تبديل الوصيّة عن وجهها وتغييرها عما أوصى لها ولا كلام ولا إشكال في هذا.

فرع : لو كان للوصي دين على الميّت ، جاز أن يستوفي ممّا في يده وهو وصي في خصوص أداء ديونه‌ ، أو عنوان عامّ يشمل أداء الديون وغيره ، ولا يحتاج إلى أخذ الإذن في ذلك من الحاكم قيل : مطلقا ، أي سواء كان عنده حجّة يمكن بها أن يثبت حقّه ودينه ، أو لم يكن. وقيل : هذا الحكم ـ أي جواز استيفاء ما يطلب من الميّت ممّا في يده بدون إذن الحاكم ـ مخصوص بالأخير ، أي : بما لم يكن عنده حجّة يمكن أن يثبت بها حقّه.

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٩ ، باب أنّ الوصي إذا كانت في حقّ فغيّرها فهو ضامن.

٣٥٤

والتحقيق في المقام أن يقال : بعد أن كان الوصي على الفرض واحدا ، لا شريك له كي يكون فعله وتصرفه فيما أوصى الميّت إليه موقوفا على إجازة شريكه وإذنه ، وهو بمقتضى الوصيّة مخيّر بين تطبيق دين الميّت على أيّ مصداق من مصاديق ذلك الدين من أموال الميّت ، فلا يحتاج إلى قيام البيّنة لإثبات دينه ، لأنّ المفروض أنّ الوصي الذي بيده أمر أداء ديون الميّت يعلم بأنّ الميّت مديون له.

فكما لو كان يعلم أنّ رجلا آخر غيره له دين في ذمّة الميّت الموصي كان عليه أن يؤدّى دينه ، وإن كان لذلك الرجل بيّنة لإثبات دينه لا يحتاج إلى طلب إقامة البيّنة لإثبات دينه ، لأنّه ثابت ، لأنّ المفروض أنّ الوصي يعلم بذلك ، فطلب البيّنة منه من قبيل طلب تحصيل الحاصل بل أردأ منه ، لأنّه من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد.

فكذلك الأمر بالنسبة إلى دين نفسه ، فيجوز أن يستوفي دينه من التركة ، لأنّ المفروض أنّه وصى في أداء ديونه.

وادّعاء الانصراف عن أداء دينه لا وجه له ، ولا يحتاج إلى أخذ الإجازة والإذن من الحاكم حتّى لو قلنا بلزوم أخذ الإجازة عن الحاكم ، لأنّه هناك حقّ تطبيق الكلّي على الخارج بيد المقتصّ منه لا بيد المقاصّ ، وها هنا بيد نفس الدائن ، لأنّه وصي ، فهاهنا الدائن مأذون من قبل نفس المديون في التطبيق ، فلا وجه لعدم جواز الاستيفاء مطلقا ، سواء كان عند الوصي الحجّة على إثبات دينه أو لم يكن.

ولكن قد يشكل الأمر على هذا برواية بريد بن معاوية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنّ رجلا أوصى إليّ ، فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له ، ففعل وذكر الذي أوصى إليّ أنّ له قبل الذي أشركه في الوصيّة خمسين ( خمسمائة ) ومائة درهم عنده ورهنا بها جاما من فضّة ، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدّعى أنّ له قبله أكرار حنطة ، قال عليه‌السلام : « إنّ أقام البيّنة وإلاّ فلا شي‌ء له ». قال : قلت له : أيحلّ له أن يأخذ ممّا‌

٣٥٥

في يديه شيئا؟ قال عليه‌السلام : « لا يحلّ له ». قلت : أرأيت لو أنّ رجلا عدا عليه فأخذ ماله فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ ، أكان ذلك له؟ قال : « إنّ هذا ليس مثل هذا » (١).

فهذه الرواية الموثّقة تدلّ على أنّ الوصي بصرف ادّعائه أنّه يطلب من الميّت الموصي كذا مقدار لا يحلّ له أخذ شي‌ء ممّا في يده من مال الميّت الموصي إلاّ بإقامة البيّنة ، وهذا نقيض الحكم بالجواز الذي اخترناه.

ولكن أنت خبير بالفرق بين مورد هذه الرواية وبين ما نحن فيه ، لأنّ ما نحن فيه مورده أنّه هناك وصي واحد يجب عليه أداء ديون الميّت إذا ثبت بالوجدان أو بالتعبد أنّه مديون لفلان بكذا ، والمفروض أنّ أمر تطبيق دين الكلّي الذي في ذمّة الميّت على المال الخارجي بيد الوصي ، لأنّ الميّت أوكل الأمر إليه في حياته ، فلا يرى مانع من استيفائه. وفي مورد الرواية وصيّان ، والوصي الأصلي الذي هو العمدة غير الدائن ، فالدائن ليس له استقلال في تطبيق حقّه إلاّ أن يثبت عند شريكه الذي هو الوصي الأوّل كي يأذن له في التطبيق. نعم لو فرضنا أنّ شريك من يدّعي الدين في الوصيّة أيضا يعلم بطلب شريكه من الميّت وأذن في التطبيق ، فلا يحتاج الاستيفاء إلى إقامة البيّنة ، لكن هذا ليس مورد الرواية.

فرع : وهو أنّه هل يجوز للوصي أن يشتري لنفسه من نفسه‌ ، بمعنى أنّه إنسان كاسب يشتري لأن يكتسب به ، أو من حوائج الدار والمنزل فيشتري من أموال الميّت لحاجة الدار مثلا من الوصي الذي هو نفسه ، فالبائع والمشتري شخص واحد باعتبارين : فهذا الوصي باعتبار أنّه وصىّ عن الميّت بائع كما إذا أوصى ببيع بعض أسباب بيته أو أدوات شغله وصرفه في مورد كذا ، فيبيع الوصي باعتبار أنّه وصىّ‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٥٧ ، باب ما يلحق الميّت بعد موته ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٤ ، باب نوادر الوصايا ، ح ٥٥٦٠ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣٢ ، ح ٩١٠ ، باب من الزيادات ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٧٩ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٩٣ ، ح ١.

٣٥٦

متاع بيت الميّت أو دكّانه للصرف في مورد كذا ، ويشتري لنفسه باعتبار أنّه أحد الناس الحاضرين للاشتراء في المزاد العلني مثلا ، وهذا هو المراد من الاشتراء من نفسه لنفسه.

والظاهر عدم الإشكال في صحّة هذا المعاملة ، وإن أظهر المحقّق في الشرائع التردّد فيها وقال في ذيل كلامه : أشبهه الجواز إذا أخذ بالقيمة العدل (١). وهذا الكلام الأخير لا حاجة إليه ، لأنّه إن لم يكن بالقيمة العدل متعمّدا فهذه خيانة إمّا ينعزل أو يجب عزله كما تقدّم ، فليس له البيع وأيضا سائر المعاملات.

والإشكال ليس من هذه الناحية ، بل الإشكال من ناحية اتّحاد الموجب والقابل وأنّه هل يكفي تغاير الاعتباري أو يعتبر التغاير الحقيقي ، فإن قلنا بالأوّل ـ كما هو الصحيح ـ فيجوز أن يشتري الوصي لنفسه باعتبار أنّه أحد الحاضرين في مجلس المزاد العلني ، وهو أيضا يبيع باعتبار أنّه وصىّ من قبل المالك الحقيقي. وإن قلنا بأنّ التغاير الاعتباري لا يكفي ولا بدّ أن يكون بين البائع والمشتري في عقد واحد تغايرا حقيقيّا ، لأنّ البائع من يخرج المبيع عن ملكه ، والمشتري من يدخل المبيع في ملكه ، والشخص الواحد لا يمكن أن يخرج المبيع الواحد من ملكه ويدخل أيضا في زمان واحد وفي عقد واحد ، إذ هما متقابلان ، فلا يجوز أن يشتري لنفسه من نفسه.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا شبه مغالطة ، إذ نحن لا ندّعي أنّ الشخص الواحد بعنوان شخصه ـ الذي واحد لا تعدّد فيه ـ بائع ومشتري كي يأتي أمثال هذه الإشكالات ، بل نقول إنّه بائع بعنوان أنّه وصىّ أي يخرج المبيع عن كيس الموصي بناء على بقائه بحكم مال الميّت ، لأنّ الوارث يرث من بعد وصيّة يوصي بها ، وحيث أنّ الوصي نائب عن الموصي فالفعل الذي يصدر منه كأنّه يصدر من الموصي.

كما أنّه كذلك في باب الوكالة ، ففعل الوكيل ينسب إلى الموكّل ، فإذا باع الوكيل‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٧.

٣٥٧

داره ففي الحقيقة البائع هو الموكّل ، ويخرج المبيع عن ملكه لا عن ملك الوكيل.

وكذلك الأمر هنا ، فالوصيّ إذا اشترى لنفسه بائع باعتبار نيابته عن الموصي ، ففي الحقيقة البائع هو الموصي وإن كان المباشر هو الوصي ، ومشتري باعتبار نفسه فيدخل المبيع الخارج عن ملك الموصي أو الموصى له في ملك نفس الوصي ، فلا إشكال في البين.

فما نسب إلى الشيخ وابن إدريس قدس‌سرهم من إنكارهما صحّة اشتراء الوصي من نفسه لنفسه ، لأنّ الواحد لا يكون موجبا قابلا في عقد واحد ، لأنّ الأصل في العقد أن يكون بين اثنين (١).

فيه : أنّ هذا إذا كان الواحد موجبا قابلا باعتبار واحد ، والشاهد على ذلك الاتفاق على صحّة شراء الأب عن طفله الصغير لنفسه وبيع ماله له أيضا ، وكذلك الجد ، بالنسبة إلى حفيده. والسرّ في ذلك أنّ في جميع هذه الموارد في الحقيقة البائع الحقيقي غير من هو مشتر حقيقة.

هذا ، مضافا إلى ما رواه الحسين بن يحيى الهمداني قال : كتبت مع محمد بن يحيى هل للوصيّ أن يشتري من مال الميّت إذا بيع فيمن زاد يزيد ويأخذ لنفسه؟ فقال : يجوز إذا اشترى صحيحا (٢).

نعم لا بدّ أن لا يكون مخالفا لمصلحة الطفل إذا كان وليّه يشتري ماله لنفسه أو يبيع ماله للطفل ، ولكن هذا لا دخل له بمسألة اتّحاد الموجب والقابل ، بل من شرائط صحّة البيع والشراء للقاصر ، طفلا كان أو مجنونا أو غير ذلك من موارد معاملة الأولياء للمولّى عليهم.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٤٢٦.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٥٩ ، باب النوادر ، ح ١٠ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢١٩ ، باب الوصيّ يشتري من مال الميّت. ، ح ٥٥١٤ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٤٥ ، ح ٩٥٠ ، باب في الزيادات ، ح ٤٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٧٥ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٨٩ ، ح ١.

٣٥٨

وقال في المسالك : وعلى الجواز ـ أي على جواز شراء الوصيّ من نفسه لنفسه ـ رواية مجهولة الراوي والمروي عنه ، لكنّها شاهد (١).

والظاهر أنّ مراده هذه الرواية ، أي رواية حسين بن يحيى الهمداني ، وهو كما ذكره إذ الراوي مجهول لم نجده في كتب الرجال ، وأمّا المروي عنه فلم يذكره هو ـ أي الراوي ـ أصلا حتّى بالإضمار ، فلا حجّية لهذه الرواية وإن استند في جامع المقاصد إليها أيضا في ذكر مدارك هذا الحكم. (٢)

وأمّا قول الشهيد الثاني بعد الطعن على الرواية بأنّها مجهولة الراوي والمروي عنه لكنّها شاهد. (٣) أي ليس بدليل ولكنّها شاهد.

وفيه : أنّها إذا لم تكن حجّة فليست شاهدا أيضا.

فرع : إذا أذن الموصي للوصي أن يوصى‌ ، أي يجعل وصيّا كي ينفذ وصايا الميّت الذي أوصى إلى هذا الوصي ، ويكون الوصي الثاني وصيّا للوصي الأوّل ولكن متعلّق الوصاية لكلا الوصيّين أمر واحد وهو تنفيذ وصايا الموصي الأوّل ، ففي هذه الصورة يجوز إجماعا.

وخلاصة الكلام في هذا الفرع هو أنّه لو أوصى إلى رجل بوصايا متعدّدة وأذن لمن أوصى إليه أنّه إذا حضره الموت وبعد لم ينفذ جميع وصاياه أن يوصى هو ـ أي الوصي ـ إلى شخص آخر كي ينفذ البقيّة الباقية من وصاياه ، فهذا جائز إجماعا.

وهذا الحكم مطابق للقواعد الأوّلية ، وذلك لأنّ الموصي الذي أذن لوصيه أن يوصى ، كان له أن يوصى إلى شخص آخر بعد موت الوصي الأوّل لينفذ ما بقي من‌

__________________

(١) « المسالك » ج ١ ، ص ٤١٥.

(٢) « جامع المقاصد » ج ١١ ، ص ٢٨٧.

(٣) « المسالك » ج ١ ، ص ٤١٥.

٣٥٩

وصاياه ولم يعمل بها الوصي الأوّل عصيانا أو لعذر شرعي ، فإذا هو يملك مثل هذا الأمر فلا فرق بين أن يوصى هو بالترتيب المذكور أو يوصى إلى وصيّة بالإيصاء.

والحاصل : أنّ في هذه الصورة لم يخالف أحد في جواز إيصاء الوصي إلى شخص آخر لتتميم تنفيذ ما بقي من الوصايا التي هو لم ينفذها عصيانا أو لعذر ، كما أنّه لا يصحّ الخلاف مع وضوح الأمر.

كما أنّه لو شرط مباشرة الوصي بنفسه تنفيذ وصاياه ، ليس له أن يوصى إلى شخص آخر. فهاتان الصورتان واضحتان ولا خلاف فيهما.

إنّما الكلام والخلاف فيما إذا أطلق الموصي ، أي لم يأذن في الإيصاء ولم يقيّد الوصاية بمباشرة الوصي بنفسه ولم ينه أيضا عن الإيصاء ، فقال الأكثر : إنّه لا يجوز له الإيصاء ، لعدم ولايته على مثل ذلك ، لأنّ الموصي المالك جعل له جواز أن يتصرّف في وصاياه بالشكل الذي أراده ، والشارع أيضا نهى عن التبديل وأوجب العمل طبق ما أوصى ، ولم يجعل له أن يجعل جواز التصرّفات لغيره مع أنّ المال لغيره ، ومقتضى الأصل أيضا عدم نفوذ إيصائه ، لأنّ مفاد إطلاقات أدلّة الوصاية نفوذ وصيّة المالك في ثلث ماله مطلقا ، وفي الزائد مع إذن الورثة أو إجازتهم بعد الوصيّة. وأمّا غير المالك فليس له مثل هذا الحقّ إلاّ بإذنه.

وأمّا القائلون بالجواز فقاسوا المقام بتوكيل الوصي شخصا آخر بتنفيذ بعض الأمور الراجعة إلى الوصايا ، كما أنّه إذا كان بعض وصاياه إطعام الناس في إفطار الصائمين في شهر رمضان ، أو في عشرة عاشوراء ، فيجوز للوصي أن لا يباشر بنفسه ويوكل شخصا لإنفاذ هذه الوصيّة والعمل بها.

ولكن فيه : أنّه مع كونه قياسا باطلا في نفسه ، يكون فرق واضح بينهما ، إذ الوصي في حال حياته مالك لمثل هذا التصرّف ، فيجوز أن يستنيب فيه غيره. وأمّا بعد موته لا يملك شيئا من التصرّفات كي يستنيب شخصا آخر ، بل بموته ينقطع ، فإن كان من‌

٣٦٠