القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

التمليكيّة ، فإذا كان موجودا ولكن لا يكون قابلا للتمليك فلا يجوز أن يوصى له كي يكون هو الموصى له ، مثل أن يوصى لغير الإنسان من الجمادات أو النباتات أو الحيوانات غير الإنسان.

وذلك لأنّ الوصيّة التمليكيّة عبارة عن تمليك مال للموصى له ، فلا بدّ وأن يكون الموصى له قابلا للتملّك وإلاّ لا يتحقّق التمليك.

وأمّا اشتراط كونه موجودا فلأنّ المعدوم ليس قابلا لأنّ يتملّك ، والوصيّة التمليكيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال لشخص ، غاية الأمر أنّ إنشاء الموصي يتعلّق بملكيّة ذلك المال لذلك الشخص الذي نسمّيه بالموصى له بعد موت الموصي ، فكونها بعد الموت من قيود المنشأ لا الإنشاء ، فلا يمكن إنشاء مثل هذه الملكيّة المقيّدة لما هو معدوم حال الإنشاء.

وذلك من جهة أنّ الملكيّة وإن كانت أمرا اعتباريّا ، ولكن لها إضافتين : إضافة إلى الشي‌ء الذي يعتبر ملكيّته وبهذه الإضافة يسمّى ملك أو مملوك ، وإضافة إلى من يملك ذلك الشي‌ء وبهذا الاعتبار يسمّى بالمالك ، فلا تتحقّق الملكيّة في عالم الاعتبار بدون هذين الاعتبارين. وذلك مثل الزوجيّة الاعتباريّة التي لا يمكن تحقّقها إلاّ بوجود امرأة تكون معروضا لعنوان أنّها زوجة ، وشخص يكون اعتبار زوجيّتها له الذي نسمّيها بالزوج ، فكما لا معنى لاعتبار زوجية امرأة بالفعل للزوج المعدوم ، كذلك لا معنى لاعتبار ملكيّة مال للمالك المعدوم.

وأشكلوا على هذا بصحّة اعتبار الملكيّة للمالك المعدوم فعلا حال اعتبار الملك له ، كما في الوقف على البطون المتأخّرة وجودهم من حال الوقف بناء على أنّ الوقف تمليكا لهم ، غاية الأمر ملكا غير طلق بل ملكا محبوسا بحيث لا يباع ولا يورث ولا يرهن.

وأجيب عن هذا الإشكال بأنّه في باب الوقف على البطون الطبقة الأولى موجودة‌

٣٢١

حال الوقف والواقف يملّكهم ، ثمَّ بعد انقراضهم يعتبر ملكيّة طبقة البعد مثل باب الإرث ، فإنّ الشارع اعتبر ملكيّة المورث الموجود حال الاعتبار بأسبابها ، من الحيازة أو العطايا أو الهبات أو بالمعاملات والانتقال إليه بأحد النواقل الشرعيّة ، وأيضا اعتبر بعد موته ملكيّة ورثته حال وجودهم. وقد جاء الدليل على هذا المعنى بقوله عليه‌السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ». وهذا أمر ممكن معقول ، وقد جاء الدليل عليه في مقام الإثبات ، وهذا ليس من تمليك المعدوم.

لا يقال : لا فرق في عدم إمكان التمليك بين عدم الموصى له وبين عدم الموصى به ، وذلك لما بيّنّا من أنّ الملكيّة لها إضافتان : إحديهما إلى الشي‌ء الذي يتّصف بالملكيّة وأنّه مملوك ، وأخرى إلى الشخص الذي يتّصف بأنّ الملك له. ويعبّر عن الأوّل بالمملوكيّة ، وعن الثاني بالمالكيّة. والموصى به هو الأوّل ، والموصى له هو الثاني. فلو قلنا بأنّ الموصى له لا يمكن أن يكون معدوما ، فالموصى به أيضا كذلك ، لوحدة المناط فيهما ، مع أنّه من المسلّمات جواز الوصيّة بالأعيان المعدومة حال الوصيّة فعلا ، وكذلك بالمنافع المعدومة حالها كما إذا أوصى بكون ثمرة هذا البستان لفلان عشر سنين مثلا ، بل ينبغي أن يعدّ جواز الثاني من الضروريّات.

وفيه : أنّ هذا ليس من باب تمليك ما هو المعدوم حال التمليك للموصى له ، بل من باب تمليك شي‌ء في ظرف وجوده لشخص معيّن ، أو لعنوان من العناوين ، أو لطبيعة كلّية ، ولا مانع عقلا من هذا الأمر.

والذي قلنا إنّه غير ممكن هو أن لا يكون التمليك بلحاظ حال وجوده ، وإلاّ لا شكّ في أنّ الأحكام الوضعيّة تتعلّق بموضوعاتها ومتعلّقاتها باعتبار وجود صفة وحالة في تلك الموضوعات ، أو بلحاظ ظرف وجود نفس تلك الموضوعات ، وإن كان الجعل في حال عدم تلك الموضوعات أو عدم تلك الصفات ولكن اعتبار المجعول بلحاظ ظرف وجود تلك الموضوعات أو تلك الصفات.

٣٢٢

نعم يحتاج إلى وجود دليل على صحّة العقد الفلاني والتمليك بهذا اللحاظ ، كما ورد في باب الوقف على البطون من الأخبار والإجماع ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ إطلاقات أدلّة الوصيّة يظهر منها أنّ الموصي في حال الإيصاء ينشئ ملكيّة المقيّدة بما بعد الموت للشخص الفلاني ، فلا بدّ من وجوده في تلك الحال لما بيّنّا وتقدّم.

فما أفاده في جامع المقاصد بقوله : واعلم أنّه قد سبق القول في الوقف جوازه على المعدوم إذا كان تابعا ، كما لو وقف على أولاد فلان ومن سيولد له ، فأيّ مانع من صحّة الوصيّة كذلك ، فإذا أوصى بثمرة بستانه مثلا خمسين سنة لأولاد فلان ومن سيولد له ، فلا مانع من الصحّة ، بل تجويز ذلك في الوقف يقتضي التجويز هنا بطريق أولى ، لأنّه أضيق مجالا من الوصية (١).

ففيه : أنّ الفرق بين المقامين جليّ ، وهو أنّ في الوقف أتى دليل من الأخبار والإجماع على صحّة الوقف على البطون وإن وجد بعضهم مئات من السنين بعد إنشاء الواقف أو بعد موته كذلك. وأمّا في الوصيّة فالإجماع على عدم صحّة الوصيّة للمعدوم حين الوصيّة أو حين موت الموصي.

نعم تقدّم في بعض الفروع السابقة بالنسبة إلى الموصى به أنّه يجوز الوصيّة بالمنافع غير الموجودة حال الوصيّة أو حال موت الموصي ، كالمثل الذي ذكره في جامع المقاصد من وصيّته بثمرة بستانه خمسين سنة لأولاد فلان الموجودين أو الذين سيولدون ويوجدون ، فهذا المثل بالنسبة إلى المنافع الموصى بها فلا إشكال فيها ، بل ادّعى الإجماع على صحّتها. وأمّا بالنسبة إلى الموصى لهم فإن كان كلّهم موجودين فلا إشكال أيضا في صحّتها وإن كان كلّهم معدومين فالإجماع على عدم صحّتها. وأمّا إذا كان بعض ولده موجودين وبعض آخر لم يولد بعد ، فهذا لا يخلو من إشكال بالنسبة إلى ذلك البعض الذي لم يوجد بعد.

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ٤١.

٣٢٣

فرع : لا خلاف بين الإماميّة في صحّة الوصيّة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة للوارث والأجنبي‌ ، وبعض الروايات الواردة في عدم جواز الوصيّة للوارث يجب طرحها أو تأويلها لإعراض الأصحاب عنها ، وورود روايات مستفيضة في جوازها له ، وقد عقد في الوسائل بابا في جواز الوصيّة للوارث تركنا ذكرها لوضوح المسألة وانعقاد الإجماع على الجواز. وقد ذكر في الوسائل إحدى عشر رواية تدلّ على الجواز (١).

فرع : تصحّ الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كان أجنبيا أو كان من ذوي الأرحام. وقال في الشرائع : وقيل لا يجوز مطلقا ، ومنهم من خصّ الجواز بذوي الأرحام. والأوّل أشبه (٢). أي القول بالجواز مطلقا أشبه بالقواعد والأدلّة من الإطلاقات والعمومات الواردة في الباب. أمّا من الكتاب العزيز فقوله تعالى ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (٣) ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من البرّ.

وأمّا الروايات فقد عقد في الوسائل بابا لذلك (٤).

منها : ما عن ريّان بن شبيب قال : أوصت مارية لقوم نصارى فراشين بوصيّة ، فقال أصحابنا : اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك ، فسألت الرضا عليه‌السلام فقلت : إنّ أختي أوصت بوصيّة لقوم نصارى ، وأردت أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين ، فقال : « امض الوصيّة على ما أوصت به ، قال الله تعالى : ( فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٧٣ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٥.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٣.

(٣) الممتحنة (٦٠) : ٨.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٥ ، باب جواز الوصيّة من المسلم والذمي بمال.

٣٢٤

الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (١) (٢) ».

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله؟ قال : « أعطه لمن أوصى له وإن كان يهوديّا أو نصرانيّا ، إنّ الله تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (٣).

ومنها : ما رواه حسين بن سعيد في حديث آخر عن الصادق عليه‌السلام قال : قال عليه‌السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعت فيهم ، إنّ الله تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) » (٤).

ولا شكّ في دلالة الآية هذه الروايات على جواز الوصيّة للذميّ مطلقا ، سواء كانوا من ذوي الأرحام أو لم يكونوا منهم.

هذا كلّه مع نفي الخلاف فيه في الخلاف (٥) ، فيكون عليه الإجماع.

وأمّا القول بعدم الجواز مطلقا ، فمستنده يمكن أن يكون بعض الروايات التي ذكرها في الوسائل ، كمكاتبة أحمد بن هلال إلى أبي الحسن عليه‌السلام (٦) ومكاتبة عليّ بن‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٨١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٦ ، باب آخر منه ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٢ ، ح ٨٠٦ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٣ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٨٦ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٥ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٥ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٤ ، باب إنفاذ الوصية على جهتها ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٠ ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح ٥٤٦٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٣ ، ح ٨٠٨ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٥ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٨٨ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٧ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٥ ، ح ٥.

(٤) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب آخر منه ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٣ ، ح ٨١٠ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣١ ، ح ٤٩٣ ، باب من أوصى بشي‌ء في سبيل الله. ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٧ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٥ ، ح ٦.

(٥) « الخلاف » ج ٤ ، ص ١٥٣ ، المسألة : ٢٦.

(٦) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٤ ، ح ٨١٢ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٩ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٨٩ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٦ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٥ ، ح ٢.

٣٢٥

بلال أو الهلال (١) ، وكلاهما لا ظهور لهما في عدم صحّة الوصيّة للذمّي ، مضافا إلى إعراض المشهور عنهما.

وأمّا القول بالتفصيل بين ذوي الأرحام منهم فيجوز ، وغيرهم فلا يجوز ، فلم تجد لهذا القول مدركا يمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه.

هذا كلّه في الوصيّة للذمّي.

وأمّا الحربي فالظاهر عدم الجواز له ، لقوله تعالى ( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (٢).

ولكنّ الإنصاف أنّ هذه الآية أخصّ من المدّعى ، ولا تشمل إلاّ قسم خاصّ من الحربي لا كلّهم.

ولقوله تعالى ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ) (٣).

ولا شكّ في أنّ الوصيّة لهم من المودّة المنهيّ عنها ، فتكون الوصيّة لهم منهيّ عنها ، والنهي في المعاملات بالمعنى الاسم المصدري يدلّ على الفساد كما قررناه في الأصول.

ولكن هذه الآية أيضا أخصّ من المدّعي ، إذ ليس كلّ حربي محادّ الله ولرسوله ، مع أنّ النهي ها هنا على تقدير تسليمه ليس متعلّقا بنفس المعاملة ، بل تعلّق بعنوان ملازم للمعاملة أو ملزوم لها ، ومثل هذا النهي دلالته على البطلان غير معلوم.

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٣٦ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٥٧٢٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٦ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٥ ، ح ٣.

(٢) الممتحنة (٦٠) : ٩.

(٣) المجادلة (٥٨) : ٢٢.

٣٢٦

والدليل الثالث على عدم صحّة الوصيّة للكافر الحربي هو عدم إمكان العمل بهذه الوصيّة شرعا ، وهذا يدلّ على فسادها ، إذ لا معنى للفساد في أبواب المعاملات إلاّ عدم لزوم ترتيب الأثر عليها وجواز عدم الاعتناء بها. أمّا عدم وجوب العمل بهذه الوصيّة بل عدم جوازه هو أنّ الحربي لا احترام لماله ولا لنفسه ، فلا يجوز أو لا يجب إعطاء ما أوصى له إليه.

وإن شئت قلت : لو جازت الوصيّة للحربي فإمّا يجب على الوصي الدفع إليه ، وهو ممنوع ، لجواز أخذه وتملّكه ، أو لا يجب. وهو أي عدم وجوب الدفع إليه عليه من لوازم الفساد.

وخلاصة الكلام أنّ الأظهر والأحوط عدم الجواز ، كما ذهب إليه المحقّق ، قال في الشرائع : وفي الحربي تردّد ، أظهره المنع (١). والعلاّمة في القواعد قال : والأقرب صحّة الوصيّة للذمّي وإن كان أجنبيّا ، والبطلان للحربي (٢). وقال في الإيضاح : والصحيح ما اختاره المصنّف ، وهو جوازها للذمّي مطلقا والبطلان للحربي والمرتدّ. (٣) والشيخ في الخلاف قال بجواز الوصيّة للذمّي دون الحربي (٤). ويستفاد من جامع المقاصد أيضا أنّه قائل بعدم الجواز للحربي. (٥)

فرع : إطلاق الوصيّة يقتضي التسوية بين من أوصى لهم‌ ، فلو أوصى لأولاده تشملهم بالسويّة فإذا كانوا ذكورا وإناثا فنصيب الإناث مثل نصيب الذكور ، لوحدة السبب لأنّ السبب لاستحقاق الموصى به هي الوصيّة ، وفي ذلك كلّهم سواء ، لأنّ‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٣.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٩٣.

(٣) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ٤٨٧.

(٤) « الخلاف » ج ٤ ، ص ١٥٣ ، المسألة : ٢٦.

(٥) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ٥٢.

٣٢٧

الموصي لم يفرّق على الفرض بين الذكور والإناث ، ولا بين العالم والجاهل ، ولا بين العادل والفاسق ، وهكذا الأمر في سائر الطواري والخصوصيّات الواردة على عنوان الموصى له ، والمفروض أنّ كلّهم من مصاديق ذلك ومتساوي الإقدام في انطباق العنوان عليها ، وحيث لم يفرّق الموصي بين هذه الطواري وأطلق العنوان ولم يقيّده بأحد هذه القيود وجودا وعدما فالإطلاق يقتضي التسوية.

وكذلك الأمر لو قال الموصي : المال الفلاني لأخوالي أو لخالاتي أو لأعمامي أو لعمّاتي بعد وفاتي ، فيشملهم بالسويّة ولا يقسّم بينهم بترتيب الإرث ، لأنّه في الإرث جاء الدليل على أنّ تركة الميّت ليس بينهم بالسويّة ، بل لكلّ صنف منهم نصيب غير نصيب الصنف الآخر ، فللذكر منهم ضعف الإناث وإلاّ هناك أيضا يقسّم بينهم بالسويّة ، فلو كان دليل الإرث فقط قوله عليه‌السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (١) كان يقسّم المال بالسويّة ، وهذا واضح.

نعم لو صرّح بالتفصيل فلا يبقى مورد للأخذ بالإطلاق ، بل يجب العمل على طبق تفصيله. وها هنا رواية تدلّ على التفصيل ، ولكن الأصحاب لم يعملوا بها فصارت مهجورة متروكة ، وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله ، فقال عليه‌السلام : « لأعمامه الثلثان ، ولأخواله الثلث » (٢) وروى هذه الرواية في الكافي بطريق آخر عن ابن محبوب ، ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسن بن محبوب ، ولكنّها لعدم العمل بها وإعراض الأصحاب عنها مطروحة ، أو يحمل على أنّ الموصي أوصى لهما على كتاب الله ، أي طريقة الإرث التي في كتاب الله وأنّ ( لِلذَّكَرِ ) مثلَ ( حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).

__________________

(١) تقدّم ذكره في ص ٣٢٢.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٥ ، باب من أوصى لقراباته ومواليه. ، ح ٣ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٨ ، باب الوصيّة للأقرباء والموالي ، ح ٥٤٨٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢١٤ ، ح ٨٤٥ ، باب الوصية المبهمة ، ح ٢٢ ، وص ٣٢٥ ، ح ١١٦٩ ، باب ميراث الأعمام والعمّات. ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٥٤ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٦٢ ، ح ١.

٣٢٨

فرع : قال في الشرائع : إذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبة (١).

أقول : كالهاشمي لأفراد الهاشميّين ، وكذلك الطالبين والعلويين بالنسبة إلى أفراد هذين العنوانين.

ولكن الإنصاف أنّ العناوين العامّة التي تطلق على الأشخاص مختلفة جدّا من حيث كثرة المصاديق وقلّتها ، ومن جهة اتّصالهم في أب قريب أو بعيد. والقرب والبعد أيضا قد يكون بحسب الزمان ، وقد يكون بحسب كثرة عدد الفواصل ، وقد يكون بحسب الاثنين ، ولا شكّ في أنّ ذلك اللفظ قد يكون منصرفا عن بعض أفراده بل عن أغلب أفراده ، فعنوان الهاشمي أو العلوي أو الحسيني أو الموسوي يطلق على الملايين ، ولا شكّ في أنّ كلّهم أقرباء بمعنى اشتراكهم واتّصالهم في النسب ، ولكن مع ذلك لفظ « الأقرباء » منصرف عن أغلب أفراد هذه العناوين المذكورة.

فالأحسن بل المتعيّن إحالة المعنى وتشخيص المراد إلى الظهور العرفي ، ـ أي ما يفهمه العرف من هذا اللفظ ـ فلا يمكن أن يكون ما ذكره في الشرائع هو المناط في تشخيص المراد من اللفظ.

فلو أوصى لذوي قرابته أو أقربائه ، فلا يمكن أن يكون كلّ من هو معروف بنسبة الهاشمي أو العلوي أو العبّاسي مثلا أو الموسوي أو الفاطمي وأمثالها من أقربائه ، لأنّ اللفظ منصرف عن أغلب الأفراد قطعا ، فالمناط هي الإحالة إلى العرف.

وفي المفاهيم العرفيّة أيضا قد يكون معلوم الانطباق ، وقد يكون عدم انطباقه معلوم. وحال هذين معلوم في شمول الوصيّة وعدم شمولها له. وقد يكون مشكوك الانطباق ، فالإطلاق لا يشمله أيضا وخارج عن الحكم ، إلاّ أن يكون أصل موضوعي في البين ، وإلاّ فالمرجع هي الأصول العمليّة.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٤.

٣٢٩

وما ذكرناه من لزوم الإحالة إلى العرف في لفظ « ذوي القرابة » جار في مطلق الألفاظ التي تقع متعلّقا للوصية ويكون الوصيّة لهم ، من لفظ « القوم » و « العشيرة » و « الجيران » وأمثالها ، فلا بدّ وأن يؤخذ بما يفهمه العرف منها إلاّ أن يأتي دليل من قبل الشارع على التوسعة أو التضييق ، مثل الطواف بالبيت صلاة أو المطلّقة الرجعيّة زوجة ، فلا نطيل الكلام وإن أطالوا في معنى بعض هذه الألفاظ كلفظ « أهل البيت » وغيره.

فرع : وتصحّ الوصيّة للحمل الموجود حال الوصيّة وإن لم يكن ولجه الروح‌ ، لشمول عمومات الوصيّة وإطلاقاتها له ، ولأنّه اجتمع فيه الشرطان اللذان للموصى له ، وهما وجوده وقابليته للتملّك ، فلا وجه لعدم صحّته ، ولكن استقرار الصحّة بوضعه حيّا وإن وضعته ميتا يكشف عن بطلانها من أوّل الأمر وإن كان حيّا حين الوصيّة ، فهو مثل الإرث أي كما أنّه يرث إن ولد حيّا أمّا لو ولد ميّتا لا يرث وإن كان حال موت مورّثه حيّا في بطن أمّه ، وذلك لأنّ صلاحيّته للتملّك بالإرث أو بالوصيّة موقوفة على تولّده حيّا ولو آنا مّا ، فلو لم يولد حيّا فيستكشف أنّه لم يملك أصلا ، فالنماء المتخلّل بين حال الوصيّة والولادة ، وبين موت المورث وحال الولادة للطفل إن ولد حيّا ، وللورثة إن لم يولد حيّا. والحال أنّ النماء تابع للعين في كلا المقامين.

ثمَّ إنّ من الواضحات أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات تكون الوصيّة لورثة الولد من باب الإرث كسائر موارد الإرث ، كما أنّه لو ولد حيّا ثمَّ مات بالنسبة إلى المال الذي ورثه وهو في بطن أمّه أيضا كذلك يكون لوارثه.

وأمّا بناء على لزوم قبول الموصى له في صيرورة الوصيّة ملكا له فهل يحتاج إلى قبول وارث الطفل الذي ولد حيّا ومات ، أو قبول من هو وليّ عليه ، أم لا؟ الظاهر عدم الاحتياج ، لأنّه بالولادة حيّا صار ملكا للولد ، فالوارث يملك الوصيّة بالإرث لا‌

٣٣٠

بالوصيّة ، فلا يحتاج إلى القبول.

نعم يمكن أن يقال ـ كما هو الظاهر من المسالك (١) ـ : إنّ الولد حال الولادة كان قبوله أو قبول وليّه شرطا في تأثير الوصيّة ، وحيث أنّه لم يكن قبول من كلّ واحد منهما كما هو المفروض في المقام ، فيجب القبول من الوارث أو وليّه إن كان صغيرا أو وكيله إن كان كبيرا ، وإلاّ لا يتمّ الوصيّة. وهو كلام حسن قويّ جدّا.

ولكن صاحب الجواهر (٢) أشكل عليه بأنّ ظاهر الفتاوى استقرار الوصيّة بانفصاله حيّا.

وهذا الكلام منه إن كان ادّعاء الإجماع على استقرار الوصيّة بالانفصال حيّا وإن لم يحصل القبول فهو شي‌ء. وبعبارة أخرى : يكون من نقل الإجماع ، وإلاّ لا يسمن ولا يغني من جوع.

فرع : لو أوصى في سبيل الله ، قيل : يختصّ بالغزاة ، وقيل : يصرف في وجوه البرّ‌ وفيما فيه أجر وثواب. والاختصاص بالأوّل لا وجه له ، نعم هو أحد طرق سبيل الله والثاني أقرب إلى ما هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة.

وقد تقدّم منّا أنّ في جميع هذه الموارد لا بدّ من مراجعة العرف في فهم ألفاظ المستعملة في الموصى به والموصى له كالفقراء والعلماء والقرّاء أو الأرامل أو لورثة فلان أو لعصبة فلان أو لبني فلان أو للشيوخ أو للكهول أو للشبّان أو للعرائس أو للعذارى أو للعجائز ، وأمثال هذه الألفاظ من العناوين.

وكذلك الأمر في الموصى به ، مثل أن يقول : أعطوا فلانا قوسي أو عودي أو عصاي أو سيفي أو فروتي أو ثيابي أو قرآني أو كتب ادعيتي ، ففي فهم جميع تلك‌

__________________

(١) « المسالك » ج ١ ، ص ٤١٠.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٣٨٨.

٣٣١

الألفاظ فهم العرفي هو المتّبع ، إذ هو المناط في تشخيص الظاهر من غيره ، وهو الحجّة في تعيين ما أراد المتكلّم.

وأمّا في بيان « سبيل الله » وأنّه ما المراد منه إذا أوصى بصرفه في سبيل الله ، فقد ورد فيه روايات عقد له بابا في الوسائل ، ونحن نذكر جملة منها :

منها : ما رواه حسن بن راشد قال : سألت أبا الحسن العسكري عليه‌السلام ( بالمدينة ) عن رجل أوصى بمال له في سبيل الله؟ قال عليه‌السلام : « سبيل الله شيعتنا » (١).

ومنها : حسين بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ رجلا أوصى إليّ بمال في السبيل ، فقال لي : « اصرفه في الحجّ ، فإنّي لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج » (٢).

ومنها : ما رواه حجّاج الخشّاب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن امرأة أوصت إليّ بمال أن يجعل في سبيل الله ، فقيل لها : يحجّ به ، فقالت : اجعله في سبيل الله. فقالوا لها : فنعطيه آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اجعله في سبيل الله. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « اجعله في سبيل الله كما أمرت ». قلت : مرني كيف أجعله؟ قال : « اجعله كما أمرتك ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) أرأيتك لو أمرتك أن تعطيه يهوديا كنت تعطيه نصرانيا؟ ». قال : فمكثت بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمَّ دخلت عليه فقلت له مثل الذي قلت أوّل مرّة ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب آخر منه ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٦ ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل الله ، ح ٥٤٧٨ ، « معاني الأخبار » ص ١٦٧ ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٤ ، ح ٨١١ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٢ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٣ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح ٥ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٦ ، باب الرجل يوصى بمال في سبيل الله ، ح ٥٤٧٩ ، « معاني الأخبار » ص ١٦٧ ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٣ ، ح ٨٠٩ ، باب الوصية لأهل الضلال ، ح ٦ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣٠ ، ح ٤٩١ ، باب من أوصى بشي‌ء وفي سبيل الله تعالى ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٢ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٣ ، ح ٢.

(٣) البقرة (٢) : ١٨١.

٣٣٢

فسكت هنيئة ، ثمَّ قال : هاتها ، قلت : من أعطيها؟ قال : « عيسى شلقان » (١).

ومنها : ما عن يونس بن يعقوب أنّ رجلا كان بهمدان ذكر أنّ أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصيّة عند الموت وأوصى أن يعطى شي‌ء في سبيل الله فسأل عنه أبو عبد الله عليه‌السلام كيف نفعل وأخبرناه أنّه كان لا يعرف هذا الأمر فقال عليه‌السلام : « لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهوديّ أو نصرانيّ لوضعته فيهما ، إنّ الله تعالى يقول ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الأمر ـ يعني بعض الثغور ـ فابعثوا به إليه » (٢).

وبعد التأمّل التامّ يطمئن الناظر فيها أنّ ما ذكر في كلّ رواية من هذه الروايات ليس إلاّ مصداقا من مصاديق سبيل الله ، فالإعطاء إلى الشيعة أو للحجّ عنه أو لأهل الجهاد والحافظين للثغور كلّهم من مصاديق سبيل الله ولا تنافي بينها.

الأمر الخامس

في الأوصياء‌

جمع مفرده : الوصي ، مأخوذ من الوصاية. وهي في عرف المتشرعة عبارة عن التعهّد إلى شخص بالتصرّفات المتعلّقة بأمواله وأولاده القصر أو أحفاده كذلك بعد موته ، فتحصل لذلك الشخص ولاية على هذه التصرّفات من قبل الموصي ، فذلك‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب آخر من إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٣ ، ح ٨١٠ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣١ ، ح ٤٩٣ ، باب من أوصى بشي‌ء في سبيل الله ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٣ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٣ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٤ ، باب إنفاذ الوصيّة على جهتها ، ح ٤ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٠ ، باب وجوب إنفاذ الوصيّة والنهي عن تبديلها ، ح ٥٤٦٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٢ ، ح ٨٠٥ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٢ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٨ ، ح ٤٨٥ ، باب الوصيّة لأهل الضلال ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٤ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣٣ ، ح ٤.

٣٣٣

الشخص يسمّى بالوصي ، وهو من المفاهيم الواضحة عند العرف ، فلا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وإنّما الكلام في الشروط‌ والأوصاف التي يلزم أن يكون متّصفا بها كي يصلح لجعله وصيّا ، ويترتّب الصحّة على التصرّفات التي تصدر منه.

فمنها : العقل والبلوغ‌ ، واعتبار هذين معلوم ، لأنّ المالك الأصيل محجور عن التصرّفات في أمواله مع فقدهما أو أحدهما ، فكيف يمكن إعطاء مثل هذه الولاية لفاقدهما أو فاقد أحدهما.

ومنها : الإسلام. واشتراط صحّة الوصاية بكون الوصي مسلما إجماعي لا خلاف فيه. وقد يستدلّ بأدلّة أخرى ولكن لا تخلو من مناقشة ، من قبيل الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، ووصاية الكافر على أموال المسلم ـ وخصوصا على أولاده القصر وأحفاده كذلك المسلمين ـ علوّ عليهم ، وأيّ علوّ أعلى من كونه وليّا عليهم وقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (١) إلى آخر والكافر ظالم لنفسه ولغيره. وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) في هذه الآية هم الكفّار ، والركون هو الميل اليسير وهو مقابل النفوذ ، ولا شك في أنّ جعله وليّا على أمواله وأولاده ركون إليه وأيّ ركون.

نعم يبقى كلام في هذا المقام وفي مقامات أخر ، وهو أنّه هل النهي يدلّ على الفساد ، أم لا ، لأنّه ليس بعبادة كي يكون محتاجا إلى قصد القربة ، ولا يمكن قصدها مع كونه منهيّا عنه. وقد حقّقنا في الأصول في كتابنا « منتهى الأصول » (٢) أنّ النهي في أبواب المعاملات إذا تعلّق بالمعنى الاسم المصدري من تلك المعاملة فيدلّ على الفساد ، وها هنا كذلك ، لأنّ ما هو المبغوض عند الشارع وغير راض به هو ولاية الكافر على‌

__________________

(١) هود (١١) : ١١٣.

(٢) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٤٢٠.

٣٣٤

أموال المسلمين وأنفسهم ، لا جهة إصدار هذا الجعل فقط. وهذا واضح جدا.

ثمَّ إنّ هذه الأدلّة على تقدير دلالتها على اعتبار الإسلام في الوصي ، هو فيما إذا كان الموصي مسلما. وأمّا إذا كان كافرا وأوصى إلى واحد من أهل ملّته فلا إجماع في البين.

ومنها : العدالة‌ ، وفي اعتبارها خلاف. قال في الشرائع : وهل يعتبر العدالة؟ قيل : نعم ، لانّ الفاسق لا أمانة له. وقيل : لا ، لأنّ المسلم محلّ للأمانة. (١)

وكلا القولين المستندين إلى هذين الدليلين غير خال عن الخلل.

أمّا الأوّل : فمن جهة أنّه ربما يحصل الوثوق والاطمئنان من الفاسق أزيد من غيره ، خصوصا إذا كان من أقربائه الأقربين ، كابنه الذي هو أخ لأولاده ، وأحفاده القصر خصوصا إذا كان شقيقا لهم ، فلا شكّ في أنّه أعطف وأرأف إلى إخوته ـ وإن كان فاسقا ـ من الأجانب وإن كانوا عدولا.

وأمّا الثاني : فلأنّ المسلمين مختلفون من حيث الأمانة ، لأنّه بين المسلم والأمين عموم وخصوص من وجه ، فربّ شخص يكون أمينا وليس بمسلم ، وكذلك العكس.

وما ورد في أمانة المسلم أو في خيانة الكافر غالبي ليس بطور الكلّيّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : اعتبار الوثوق أو الاطمئنان والأمانة فيما إذا كان أوصى إليه في أداء حقوق الواجبة ، كما إذا أوصى إلى شخص أن يحجّ عنه حجّة الإسلام أو حجّ واجب من جهة أخرى ، أو يقضي ما فات من فرائضه التي هو مأمور بقضائها ، أو جعله وصيّا وقيّما على أولاده وأحفاده القصر كي يدبّر في إدارة أموالهم أو سائر شؤونهم.

وإلاّ لو جعله وصيّا في صرف ثلثه في الخيرات والمبرات ، فلا دليل على لزوم وثوقه بالوصي فضلا عن لزوم كونه عادلا.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٥.

٣٣٥

وذلك من جهة أنّ اعتبار الوثوق أو الأمانة من جهة عدم تلف أمواله ، وأن يصرف في ما يريد أو في ما له الأجر والثواب ، لا أن لا يصرف في الخيرات بل لعلّه في بعض الأحيان يصرف في المحرّمات والجرائم الكبيرة ، بل وحتّى في مورد يحتمل أن يصرف الوصي بعض ماله في المحرّمات لا مانع من جعله وصيّا ، لأنّه مسلّط على ثلث ماله ، يفعل به كيف ما يشاء.

إلاّ أن يكون المنع من باب أن لا يكون إعانة على الإثم. ولكن هذا الاحتمال أيضا لا أثر له ، لأنّ الإعانة على الإثم لا تتحقق بدون قصد ترتّب الإثم على فعله ، والمفروض في المقام أنّ قصد الموصي ها هنا هو أن يصرف الوصي في الخيرات والمبرّات ، لا في المحرّمات.

وأمّا ما يقال من أنّ المال يخرج عن ملكه بعد الموت ، فيكون من قبيل تعيين الولي في أن يتصرّف في مال الغير ، فلا بدّ أن يكون موثوقا وأمينا كي لا يتلف عن طرف جعله ونصبه ذلك الشخص أموال القصر ، أو فيما أوصى للجهات العامّة حقوق الجميع.

مثلا إذا أوصى للمصرف في قنطرة فلان ، فبتلف ذلك المال الذي عيّنه لعمارة القنطرة يضيع حقوق جميع العابرين. وهكذا الأمر فيما أوصى لجميع الخيرات والجهات العامّة.

وأمّا جعل الوصي في تقسيم وتدبير ما أوصى بالوصيّة التمليكيّة للعناوين العامّة ، فلو خان الوصي يكون تلفا في ملكهم ، لأنّه بعد الموت يصير الموصى به ملكهم ، فإتلاف الوصي يقع في ملكهم لا في ملك الموصي ، لأنّ الموصى به خرج بالموت عن ملك الموصي ، فإتلاف الوصي وخيانته لا محالة تقع إمّا في ملك الموصى لهم أو في حقوقهم ، وليس له السلطنة على هذا الإتلاف ، فلا بدّ وأن يكون الوصي عادلا كي يأتمنه على مال الغير أو على حقّه ، ولا يؤتمن الفاسق ، كما ورد في بعض الروايات ،

٣٣٦

ولصريح آية النبإ التي أمر الله تعالى فيها بالتثبّت والتبيّن عمّا أخبره ، وعدم قبول قوله.

ففيه : أنّ الموصي ما دام حيّا والروح في بدنه ، له أن يتصرّف في ماله كيفما شاء ، ولذلك له أن يتصرّف فيه في مقدار الثلث بأيّ نحو أراد ، ما لم يكن التصرّف في المحرّمات من التصرّفات التي لا يجوز له حال الحياة.

وأمّا أنّ تصرّفه بلحاظ ما بعد الموت تصرّف في ملك الغير أو في حقّه فمغالطة واضحة ، لأنّه لا ينتقل إلى الورثة المال الذي لم يتصرّف فيه كي يكون تصرّفه في ملك الورثة ، بل انتقل إليهم المال الذي وقع فيه التصرّف بهذا القيد.

وذلك نظير أنّ المالك آجر ماله واستوفى المنفعة التي لسنين ثمَّ بعد ذلك باعه ، فينتقل إلى المشتري مال مسلوب منفعة وإن كان زمان حصول المنفعة بعد زمان انتقاله إلى المشتري ، وذلك من جهة أنّه قبل البيع له السلطنة على ماله عينا ومنفعة إلى الأبد ، ولذلك يجوز له التصرّفات المعيّنة للعين أو المنفعة إلى الأبد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ المحقق أجاد في مقام تعليل عدم اعتبار العدالة بقوله : ولأنّها ولاية تابعة لاختيار الموصي فتحقّق بتعيينه. (١) كما أنّ للمالك أن يوكل من يريد ويستودع عنه من يريد ، عادلا كان أم لا.

وهناك قول ثالث اختاره في المسالك (٢) وهو أنّ العدالة ليست بشرط ولكن ظهور الفسق مانع ، فلو كان ظاهر الفسق ومعلوم الحال أنّه فاسق لا يجوز جعله وصيّا ، وأمّا لو كان مجهول الحال ولا يعلم فسقه بحيث أنّ من نسب إليه الفسق وقال إنّه فاسق يعزّر ، فيجوز أن يوصى إليه ويجعله وصيّا.

ومن المحتمل أن يكون مراده من ظهور الفسق عليه أن يكون متجاهرا بالفسق ، ففرّق بين الفاسق الواقعي والمتجاهر بالفسق ، فجوّز جعله وصيّا في الأوّل ، ومنع‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٥٥.

(٢) « المسالك » ج ١ ، ص ٤١١.

٣٣٧

في الثانية.

ولكن ظاهر عبارته بعيد عن هذا المعنى ، وإن كان هو في نفسه لا بأس به.

فالأقوال في المسألة ثلاثة : اعتبار العدالة ، وعدم اعتبارها مطلقا سواء ظهر عليها الفسق أم لا ، وعدم اعتبار العدالة وعدم ظهور الفسق.

ثمَّ ظهر مما ذكرنا أنّ الأرجح هو القول الثاني.

نعم لا بأس بالقول باعتبار كونه ثقة مأمونا عن الخيانة ، كما هو بناء العقلاء في مقام الوصيّة ، فلا يوصون إلاّ إلى من يثقون به وأنّه لا يخون ولا يتلف بل يضع كلّ ما أوصى إليه في موضعه. وأمّا العدالة بالمعنى المعلوم عند الفقهاء فمن كلّ مائة من الأوصياء لا تجد واحدا فيهم ، ولا تعرّض في الأخبار من هذه الجهة أصلا مع كثرة سؤال الأوصياء عنهم عليهم‌السلام عن وظائفهم فيما أوصى إليهم. ولعلّ بعد التأمّل في جميع ما ذكرنا يحصل الاطمئنان بعدم اعتبار العدالة في الوصي ، وكفاية الوثوق بأمانته.

فرع : لو أوصى إلى عدل ففسق بعد موت الموصي فهل تبطل وصيّته مطلقا‌ ، أو على تقدير القول باشتراط صحّة الوصاية بعدالة الوصي ، أو لم تبطل مطلقا؟

وجه الأوّل الذي اختاره الأكثر ، بل ادّعى جماعة الإجماع عليه : أنّ الموصي لم ينصبه مطلقا وعاريا عن القيد ، بل نصب هذا الشخص بما أنّه عادل لا يخون ، فإذا زال الوصف يزول الموضوع ، كما أنّه إذا نصب المجتهد العادل قاضيا ففسق يزول عنه منصب القضاء لانعدام موضوعه ، فكذلك هنا جعل هذا الشخص العادل بما أنّه عادل وصيّا ، فموضوع الوصاية ليس ذات هذا الشخص بل بوصف أنّه عادل وإن لم تكن العدالة شرطا للوصاية ولكن الموصي أعطى هذا المنصب باعتبار أنّه عادل ، فعند‌

٣٣٨

فسقه انعدم الموضوع فانعدم الحكم.

وجه الثاني : أنّ ظاهر اشتراط عدالة الوصي في صحّة الوصاية هو أنّها شرط حدوثا وبقاء‌ ، لا حدوثا فقط ، وذلك لوحدة المناط حدوثا وبقاء ، لأنّ مناط الاشتراط هو عدم تلف أموال أولاده وأحفاده أو مال سائر الناس أو حقّهم. وهذا المعنى كما أنّه يوجب اشتراط العدالة في إعطاء الموصي الولاية في أوّل الأمر ، كذلك يوجب اشتراطها بقاء كي لا يوجد خلل من تلف مال أو حقّ بقاء.

وإذا قلنا بعدم اشتراط العدالة في أوّل الأمر حدوثا فلا وجه لاشتراطها بقاء ، فكما أنّ الفسق من أوّل الأمر ليس بمانع عروضه ، فيما بعد أيضا ليس بمانع.

وجه الثالث : هو أنّه بعد ما تحقّق الوصيّة صحيحا وصار الموصى إليه وصيّا واعطى هذا المنصب ، فبزواله يحتاج إلى دليل‌ وهو مفقود ، بل إذا شككنا فمقتضى الاستصحاب بقاء كونه وصيّا.

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في بيان وجه الأوّل أنّ الدليل على الزوال موجود وهو فقد وصف الموضوع أي العدالة ، والوجه الأوّل هو الصحيح ، أي القول بالبطلان مطلقا.

أمّا على تقدير اشتراط الصحّة بعدالة الوصي فالأمر واضح ، لما ذكرنا من عدم الفرق بين الحدوث والبقاء. وأمّا على تقدير عدم الاشتراط فأيضا لما ذكرنا من تقييد المتعلّق بوصف العدالة ، فبعد زوال الوصف لم يجعل له هذا المنصب ، وليس شكّ في البين كي يستصحب ، لأنّ المفروض أنّ الموضوع ها هنا مركّب وبزوال الوصف يحصل القطع بارتفاع الموضوع.

نعم لو كان ذات الوصي موضوعا للوصاية ، وكان وصف العدالة من قبيل الداعي للجعل فلا يرتفع الوصاية ، لأنّ تخلّف الداعي للجعل لا يوجب ارتفاع المجعول ، لأنّ ما هو العلّة في الجعل هي الصورة الذهنيّة لما هو الداعي ، وعدم مطابقة‌

٣٣٩

تلك الصورة مع الخارج لا تأثير له في الجعل ، ولا في وجود المجعول.

ولكن هذا فيما نحن فيه خلاف الفرض ، لأنّ المفروض أنّه جعل فلانا مثلا وصيّا بما هو عادل ، لا أنّه جعله وصيّا والداعي لهذا الجعل عدالته ، فالحقّ هو بطلان وصيّته بعد صيرورته فاسقا وانعزاله قهرا.

ثمَّ إنّه على تقدير عود العدالة هل تعود الوصيّة أم لا؟

الظاهر أنّه لا ، لأنّ عودها يحتاج إلى جعل جديد ، نعم كان له من أوّل الأمر أن يجعله هكذا ، أي العود بعودها.

فرع : وحيث أنّ من جملة شرائط الوصي أن يكون بالغا ـ لأنّ الصبي ممنوع عن التصرّف في ماله بنفسه ومباشرته ، ومحجور عن المعاملات ، ومسلوب عبادته ، ولا يعتني بقوله ولا بفعله ـ فلا تصحّ الوصيّة إلى الصبيّ منفردا لعدم قابليّته للتصرّفات شرعا ، ولمّا جعله منضمّا إلى الكبير بحيث يكون شريكا مع غيره المنضمّ إليه عند بلوغه ، فلا مانع منه عقلا ولا شرعا. وورود الدليل على ذلك أيضا مع أنّ جميع ذلك مطابق للقواعد الأوّليّة وإن لم يكن نصّ في البين ، فالكبير متفرّد في التصرّفات إلى أن يبلغ الكبير ، فإذا بلغ فليس له التفرّد لوجود الشريك ، كما أنّه ليس للصغير بعد بلوغه نفوذ شي‌ء ممّا أبرمه الكبير قبل بلوغ هذا الصغير.

وأمّا النصّ الوارد في المقام فروايات :

منها : ما عن محمد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام رجل أوصى إلى ولده ، وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار ، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته ويقضوا دينه لمن صحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع عليه‌السلام

٣٤٠