القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

مطلقا ، لا في حال حياة الموصي ولا في ما بعد وفاته. أمّا في غير هذا فيشملها العمومات والإطلاقات.

ومن تلك الأخبار ما رواه محمّد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بوصيّة وورثته شهود فأجازوا ذلك ، فلمّا مات الرجل نقضوا الوصيّة هل لهم أن يردّوا ما أقرّوا به؟ فقال عليه‌السلام : « ليس لهم ذلك والوصيّة جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته » (١) وعن جماعة من أفاضل المحدثين بطرق مختلفة مثله (٢).

ومنها : ما رواه منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بوصيّة أكثر من الثلث وورثته شهود فأجازوا ذلك له ، قال : « جائز » (٣).

وثانيا : تعليق النفوذ ـ إذا كانت الوصيّة زائدة على الثلث ـ على إجازة الورثة إنّما هو لمراعاة حقّ الورثة‌ ، ولا فرق في سقوط حقّهم بالإجازة بين أن تكون الإجازة في حال حياة الموصي أو بعد مماته.

وفيه : أنّ الفرق بينهما في كمال الوضوح ، فإنّه في حياة الموصي الورثة ليس لهم علاقة بما أوصى من التركة وهم والأجانب في ذلك سواء إلاّ في صدق قضيّة شرطيّة وهي أنّه على تقدير موته هم يرثون ، وأمّا بعد موته فالتركة ملك لهم ولذلك لو اعترفوا بعد وفاة الموصي أنّ هذا المال لزيد مثلا يعطى لزيد ، وأمّا في حال الحياة هذا الاعتراف لا يسمع منهم ولا يؤثّر في شي‌ء.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٢ ، باب بدون عنوان ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٠٠ ، باب فيمن أوصى بأكثر من الثلث. ، ح ٥٤٦١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٩٣ ، ح ٧٧٥ ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٢ ، ح ٤٦٤ ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح ١٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٧١ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٣ ، ح ١.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ٣٧١ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٣ ، ح ١.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٩٣ ، ح ٧٧٨ ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح ١٠ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٢٣ ، ح ٤٦٧ ، باب أنّه لا يجوز الوصيّة بأكثر. ، ح ١٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٧٢ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٣ ، ح ٢.

٢٦١

وثالثا : بأنّ الموصى به إمّا يكون للموصي لو برأ ، وإمّا للورثة لو مات. فإن كان للموصي فقد أعطاه للموصى له بالوصيّة ، وإن كان للورثة فقد أعطوه بالإجازة.

وفيه : أنّه لا شكّ في أنّ المال للموصي ما دام روحه في جسده ولم يخرج ، فالكلام في أنّ إجازة الورثة قبل أن يملكوا لها أثر أم لا؟

والظاهر أنّه لو لا هذه الأخبار كان مقتضى القواعد الأوّلية عدم تأثير إجازتهم في حال حياة الموصي ، لعدم ارتباط المال بهم في ذلك الوقت إلاّ بنحو القضيّة الشرطيّة التي لم يوجد شرطه ، مثل أن يقول : لو عقد على فلانة ـ مع اجتماع الشرائط المقرّرة في كتاب النكاح لصحّة العقد ولترتّب الأثر عليه ـ كانت تلك زوجة له ، ومن المعلوم أنّه مع عدم العقد لا ارتباط شرعا بينهما.

ورابعا : أنّ التعليق على الموت في الوصيّة ليس في الإنشاء‌ ، بل الإنشاء حاصل حال الوصيّة فعلا والمعلّق هي الملكيّة المنشأة بهذا الإنشاء ، فإنشاء الوصيّة قابل للقبول ولو قبل موته.

فكما أنّ القبول في العقود قبل حصول المنشأ بالإيجاب ـ إذ الملكيّة في البيع لا تحصل إلاّ بالقبول واجتماع الشرائط المعتبرة في الموجب والقابل والعوضين ، والزوجيّة كذلك لا تحصل إلاّ بعد قبول الزوج ، ولا ينافي ذلك قابليّة الإيجاب للقبول ، بل لا يعقل غير ذلك وإلاّ لا يحتاج إلى القبول أصلا ـ فكذلك في المقام وإن كان قبل موت الموصي لا تحصل ملكيّة الموصى به لا للموصى له ولا للورثة ، ولكن إنشاء الملكيّة للموصى له وجد ، وكذلك المنشأ بذلك الإنشاء.

غاية الأمر المنشأ هي الملكيّة المتأخّرة ، أي بعد وفاته ، فهذه الملكيّة المتأخّرة عن موته حيث أنّه أوجدها الموصي في عالم الاعتبار ، والإنشاء قابلة للإجازة والردّ فإن قلنا بأنّ ردّها لا أثر له فلدليل شرعي لا لعدم إمكانه ، فمقتضى القاعدة تأثير الإجازة لو لا دليل على عدم تأثيره ، وحيث لا دليل على عدم تأثيره فتؤثّر ، فلو لم تكن هذه‌

٢٦٢

الروايات لكنّا نقول أيضا بأنّه ليس لهم الردّ بعد الإجازة في حال الحياة ، لعدم الفرق بين الإجازة في حال الحياة وبعد الوفاة فيما هو المناط.

وفيه : أنّ الفرق هو أنّ الإجازة بعد الوفاة تكون في حال لو لم تكن وصيّة في البين لكان ملكا لهم ، فإجازتهم في ذلك الوقت تشبه إجازة المالك لمعاملة الفضولي ، ولذلك مقتضى القاعدة هو النقل لا الكشف ، فكان إجازة الوارث هي متمّم عقد الوصيّة ، مثل إجازة المرتهن للراهن بيع العين المرهونة ، إذ له حقّ المنع وحقّ الإمضاء ، وكذلك الوارث له حقّ الردّ وحقّ الإجازة.

هذا إذا كان بعد الوفاة ، وأمّا في حال الحياة فالملك طلق للمورث ، ولا حقّ للوارث فيه أصلا كي يجيز ، فإجازته في ذلك الوقت كإجازة الأجنبي لا أثر له ، وليس البحث في أنّ إجازة الوارث هل لها متعلّق في حال الحياة أم لا كي تأتي هذه الكلمات.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن ما ذكرنا من الروايات لكان مقتضى القاعدة عدم تأثير الإجازة في حال الحياة خصوصا فيما إذا ردّ أوّل زمان الموت ، لكنّ الروايات صحيحة صريحة وقد عمل بها الأصحاب ، فلا يبقى مجال للشكّ في الحكم أي في أنّ الإجازة في حال الحياة تؤثّر وليس للوارث الردّ بعد ذلك. ولا فرق في هذا الحكم بين وقوع الوصيّة في حال مرض الموصي وحال صحّته ، ولا بين كون الوارث غنيا أو فقيرا ، كما قال بعض ، وذلك لإطلاق الروايات.

فرع : وهو أنّه هل إجازة الوارث بعد الوفاة هبة للموصى له أو تنفيذ للوصية؟ وبعبارة أخرى : الموصى له يتلقّى الملك من الموصي أو من الوارث؟ إذ لا يمكن أن بكون هبة إلاّ بأن يقال : إنّ الموصى به ينتقل بسبب الإرث إلى الوارث ثمَّ بالإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون نقل الملك من الوارث إلى الموصى له مجّانا وبلا عوض ، وهذا معناه أنّه هبة من الوارث إلى الموصى له ، فلا بدّ وأن يجري فيها أحكام الهبة‌

٢٦٣

من اشتراط صحّتها إلى قبض الموصى له ، وسائر أحكام الهبة من جواز رجوع الوارث الواهب إلى عين الموهوبة لو لم يكن الموصى له من ذوي الأرحام ، وغير ذلك من الأحكام.

والتحقيق في هذا الفرع موقوف على أنّ المقدار الزائد على الثلث هل ينتقل بالموت إلى الوارث ، ثمَّ منه بواسطة الإجازة ينتقل إلى الموصى له ، فيكون ابتداء هبة يقينا ، أم لا ينتقل إلى الوارث أصلا بل ينتقل إلى الموصى له ، غاية الأمر للإجازة دخل في هذا الانتقال وبدونها لا ينتقل ، لأنّه للوارث حقّ الإجازة والردّ؟

وبعبارة أخرى : يتلقّى الموصى له الملك عن الموصي ، والإجازة من قبيل إذن المرتهن في بيع الرهن إعمال حقّ من قبل المرتهن ، وإلاّ فالمشتري يتلقّى الملك من نفس البائع الراهن ، فبناء على هذا ليست بهبة يقينا ، لأنّ الموصى به ينتقل من الموصي إلى الموصى له ، والإجازة تكون تنفيذا لفعل الموصي ، لا أنّها ابتداء هبة وعطيّة من المجيز.

ثمَّ بعد وضوح هذه المقدمة ، فالظاهر من أدلّة الوصيّة كتابا وسنّة أنّ مقدار الوصيّة لا تنتقل إلى الوارث ، غاية الأمر إذا كانت زائدة على ثلث التركة انتقال الزائد إلى الموصى له مشروط بإجازة الوارث ، وللوارث حقّ الإجازة والردّ ، فإذا أجاز تكون إجازته تنفيذا لفعل الموصي ، لا انّ إجازته ابتداء هبة وعطيّة من قبله كما توهّمه بعض المخالفين ، وإلاّ فالحكم عندنا إجماعيّ ولم يخالفه أحد منّا فيه.

وها هنا تكلّموا كثيرا في أنّ المستفاد من أدلّة الوصيّة وأدلّة الإرث ـ أيّ واحد من الأمرين ـ هل هو انتقال المال إلى الورثة بعد الموت أوّلا ثمَّ بالإجازة تنتقل إلى الموصى له ، أو ابتداء ينتقل إلى الموصى له بشرط الإجازة؟

والأدلّة من الطرفين لكلّ واحد من القولين لا يخلو من نظر وإشكال ، ولكنّ الظاهر تخصيص أدلّة الإرث بأدلّة الوصيّة كما تقدّم منّا.

وأيضا تكلّموا كثيرا في الثمرات التي تترتّب على كلّ واحد من القولين ، مثلا لو‌

٢٦٤

قلنا بأنّ الإجازة تنفيذ لفعل الموصي ، فالنماء بعد الموت وقبل الإجازة للموصى له. وأمّا إن قلنا بأنّ الإجازة هبة وعطيّة من الوارث ، فالنماء فيما بين الإجازة وموت الموصي للوارث ، لأنّ المال ملكه فيكون له منفعته ونماؤه.

فلو أوصى له شاة ومات وفرضنا أنّه زائد على الثلث ، فحليبها وصوفها فيما بين موت الموصي وإجازة الوارث للوارث ، وهكذا في سائر الموارد. وكذلك الأمر في النفقة إذا كان الموصى به حيوانا ، فبناء على الأوّل ـ أي كون الإجازة تنفيذا لما فعله الموصي ـ فالنفقة بعد الموت إلى زمان الإجازة على الموصى له ، وبناء على القول الثاني ـ أي كون الإجازة هبة ـ فالنفقة على الوارث.

فرع : ويعتبر الثلث ـ الذي إذا كانت الوصيّة أزيد منه يفتقر إلى إجازة الوارث أن يكون بذلك المقدار ولا يكون أزيد منه ـ حال الوفاة لا حال الوصيّة ، فلو كانت وصيّته في زمان الوصيّة أقلّ من الثلث أو مساويا معه ولكن في زمان الوفاة صار أزيد فالاعتبار بحال الوفاة ، ويحتاج إلى إجازة الوارث في مقدار الزيادة. وبالعكس لو كان ما أوصى به حال الوصاية أزيد من الثلث ولكن صار فيما بعد حال الوفاة أقلّ من الثلث بواسطة زيادة ثروته لكثرة أرباحه في معاملاته فلا يحتاج إلى الإجازة ، فالمدار في كون الموصى به لا يزيد على الثلث وإلاّ يفتقر إلى الإجازة هو الثلث حال الوفاة ، لا حال الإيصاء.

ووجهه : أنّ مفاد الروايات التي قدّر الوصيّة التي لا يحتاج إلى الإجازة بأن لا يكون أزيد عن الثلث هو أن لا يكون أزيد من ثلث ما ترك ، وهذا العنوان لا يصدق إلاّ على الثلث حال الوفاة.

فقوله عليه‌السلام في رواية أحمد بن إسحاق المتقدّم « ليس يجب لها في تركتها إلاّ‌

٢٦٥

الثلث » (١) أي الثلث من تركتها ، ولا يصدق الثلث من التركة إلاّ على الثلث حال الوفاة ، لا على ثلث ماله في أيّ وقت من الأوقات.

وأيضا لأنّ حال الوفاة وقت تعلّق الوصيّة بالمال واستقرار الملك للوارث والموصى له ، لا حال الوصيّة ، ولذلك لو عاش الموصي زمانا طويلا بعد الوصيّة يكون جميع المال ملكا طلقا له لا يستحقّ الوارث شيئا منه ولا الموصى له ، فزمان استحقاقهما هو بعد الوفاة ، فلا بدّ وأن يكون التقدير بذلك اللحاظ وباعتبار زمان الاستحقاق وهو زمان الوفاة.

واستشكل في المسالك تبعا لجامع المقاصد على إطلاق هذه العبارة وقال : وهو يتمّ على إطلاقه مع كون الموصى به قدرا معيّنا كعين أو مائة درهم مثلا أو بجزء من التركة مع كونه حالة الموت أقلّ من زمان الوصيّة أو مساويا ، لأنّ تبرّعه بالحصّة المذكورة زائدة يقتضي رضاه بها ناقصة بطريق أولى ، أمّا لو انعكس أشكل اعتبار وقت الوفاة للشكّ في قصد الزائد وربما دلّت القرائن على عدم إرادته على تقدير زيادته كثيرا حيث لا يكون الزيادة متوقّعة غالبا (٢).

وفيه : أنّ ظهور الألفاظ حجّة في تشخيص المراد واستكشافه حتّى وإن ظنّ بالخلاف ، نعم لو علم بأنّ الظاهر ليس بمراد فيسقط عن الحجيّة ، لأنّ حجّية كلّ أمارة مقيّدة بعدم العلم بالخلاف ، بل ومع العلم بمؤدّاه ، لأنّ حجّية العلم ذاتيّة ، فلا يبقى محلّ لجعل الحجيّة مع العلم بمؤداه.

ولزوم القصد إلى التمليك في مقام التمليك وإن كان من المعلوم ، ولكن ظهور لفظه في أنّ مراده ما يكون اللفظ ظاهرا فيه يكون أمارة على أنّ مراده ومقصوده هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه. واحتمال أن لا يكون مراده ما هو ظاهر اللفظ ملغى في نظر‌

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٥٧ ، رقم (١).

(٢) « المسالك » ج ١ ، ص ٣٩٣.

٢٦٦

الشارع ولا يعتنى به.

نعم لو حصل العلم ولو كان بتوسّط القرائن بأنّ ما هو ظاهر اللفظ ليس بمراد ، فالظاهر ليس بحجّة. وأمّا الشكّ في أنّه هل قصد تمليك الزيادة المتجدّدة أم لا ، لا يضرّ بلزوم الأخذ بما هو ظاهر اللفظ واستكشاف القصد من ذلك الظاهر.

فهذا الإشكال الذي أورده المحقّقان في جامع المقاصد (١) والمسالك على إطلاق عبارة الشرائع (٢) والقواعد (٣) يمكن الجواب عنه بما ذكرناه.

وفي المسالك أشار إلى ما ذكرنا بقوله : ووجه إطلاق المصنّف وغيره اعتبار حال الوفاة الشامل لذلك النظر إطلاق اللفظ الشامل ذلك (٤).

فرع : لو أوصى لرجل بثلث ماله أو بربعه أو بكسر آخر ثمَّ قتله قاتل خطأ أو جرحه جارح كذلك‌ ، فوصيّته ماضية من ماله منضمّا إليه دينه وأرش جراحته. والمقصود أنّ دية المقتول خطاء أو عمدا إن صالحوا مع القاتل بالدية تكون جزء المال في مقام إخراج الثلث أو الربع أو غير ذلك ، ولا يكون مخرج الثلث أو الربع أو غيرهما من الكسور الذي أوصى بها المال الذي كان يملكه قبل وقوع الجناية فقط ، بل المال الذي يملكه بعد الوصيّة من دية قتله أو أرش جراحته أيضا داخل في مجموع الكسر الذي أوصى به ، فيخرج الثلث من المجموع.

مثلا لو كان ماله قبل ورود الجناية عليه ثلاثة آلاف دينار ، وبعد أن قتل خطأ زاد عليه ألف دينار من قبل ديته ، وهو أوصى بربع ماله ، فيخرج الربع من مجموع ماله وديته ، أي من أربعة آلاف دينارا ، فيعطى للموصى له ألف دينار.

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ١١٦.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٦.

(٣) « قواعد الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٩٧.

(٤) « المسالك » ج ١ ، ص ٣٩٤.

٢٦٧

والدليل عليه الأخبار :

منها : رواية محمّد بن قيس قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصيّة من ماله ثلث أو ربع ، فيقتل الرجل خطأ يعنى الموصي؟ فقال : « يجاز لهذا الوصيّة من ماله ومن ديته » (١).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال أمير المؤمنين : من أوصى بثلثه ثمَّ قتل خطأ ، فإنّ ثلث ديته داخل في وصيّته » (٢).

ومنها : أيضا رواية أخرى عن محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لرجل بوصيّة مقطوعة غير مسماّة من ماله ثلثا أو ربعا أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، ثمَّ قتل بعد ذلك الموصي فودي ، فقضى في وصيّته أنّها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى ».

وهذه الروايات صريحة في دلالتها على أنّ ما يملكه بعد الموت داخل في ما أوصى به. وبعبارة أخرى : يحسب الثلث أو الربع أو ما هو أقلّ أو أكثر من ذلك من مجموع ما كان يملكه قبل الموت وما يملكه بعد الموت بواسطة ديته أو غير ذلك.

ولا فرق بين ما يملكه الموصي بعد الموت بواسطة دية قتل الخطأ ، أو بواسطة قتل العمد بعد صلح الورثة مع القاتل بأخذ الدية ، وإن كان الحكم أوّلا أنّ للورثة حقّ القصاص ، ولكن بعد ما صالحوا مع القاتل بالدية تكون الدية عوضا عن نفس المجني عليه فهو أحقّ بها ، فإذا كان الإنسان يملك عوض ماله فهو أولى بأن يملك عوض‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٦٣ ، باب النوادر ، ح ٢١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٧ ، باب الرجل يوصى من ماله بشي‌ء. ، ح ٥٥٣٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٠٧ ، ح ٨٢٢ ، باب وصيّة من قتل نفسه أو قتله غيره ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٧٢ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٤ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ١١ ، باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته. ، ح ٧ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٧ ، باب الرجل يوصى من ماله بشي‌ء. ، ح ٥٥٣٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٩٣ ، ح ٧٧٤ ، باب الوصيّة بالثلث وأقلّ منه وأكثر ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٧٢ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ١٤ ، ح ٢.

٢٦٨

نفسه ، بأن يكون في حكم ماله يصرف في ما هو من شؤونه ، من أداء ديونه والعمل بوصاياه.

هذا بناء على أنّ اعتبار الملكيّة للميّت لا معنى له لعدم مساعدة العرف والعقلاء ، وأمّا لو قلنا بأنّه يملك حقيقة فلا إشكال وتكون كسائر أمواله.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه يملك الدية بعد الوفاة والموت ، لأنّ الموت علّة أو موضوع لها ، فتكون ملكيّته لها أو كونها في حكم ماله متأخّرة عن الوفاة ، فلا تشملها أدلّة أنّ الوفاء بالوصيّة من الثلث عند الوفاة ، والدية ليست من ملكه عند الوفاة ومقارنة لها بل بعدها.

فليس بشي‌ء لأنّ هذا التأخّر رتبيّ لا زماني ، بل لا يمكن أن يكون ، وإلاّ يلزم إمّا انفكاك المعلول عن العلّة زمانا ، وإمّا انفكاك الحكم عن الموضوع ، وكلاهما محالان.

هذا ، مضافا إلى النصوص الواردة في المقام من عدم الفرق بين دية الخطأ ودية العمد بإطلاقها أو بالتصريح.

منها : رواية يحيى الأزرق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : « نعم ». قلت : هو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه » (١).

ومنها : خبر عبد الحميد : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قتل وعليه دين ، وأخذ أهله الدية من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : « نعم ». قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : « إنّما إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا الدين » (٢).

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٥ ، باب قضاء الدين من الدية ، ح ٥٥٣٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٤٥ ، ح ٩٥٢ ، باب في الزيادات ، ح ٤٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١١ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٣١ ، ح ١.

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٥ ، باب قضاء الدين من الدية ، ح ٥٥٣٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ١٩٢ ، ح ٤١٦ ، باب الديون وأحكامها ، ح ٤١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١١١ ، أبواب الدين والقرض ، باب ٢٤ ، ح ١.

٢٦٩

وهاتان الروايتان ظاهر في عدم الفرق بين دية العمد والخطاء بالإطلاق.

وأمّا ما يدلّ على الصراحة فهو خبر عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قلت : فإنّه قتل عمدا وصالح أوليائه قاتله على الدية ، فعلى من الدين على أوليائه من الدية أو على إمام المسلمين؟ فقال : « بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنّه أحقّ بديته من غيره » (١).

فهذا الخبر نصّ في أنّ دية قتل العمد أيضا تصرّف في أداء ديونه والعمل بوصاياه.

وأمّا القول بأنّ المجعول ابتداء في قتل العمد هو حقّ القصاص للوارث ، غاية الأمر أنّه للوارث أن يصالح حقّه هذا مع القاتل بمقدار الدية أو أقلّ أو أكثر لا أنّ المجعول هي الدية أو حقّ الاقتصاص كي لو اختار الدية يكون ما يأخذ دية ويكون عوض نفس المجني عليه ، فيدخل في ملك الميّت أو يكون بحكم ماله فيؤدّي منها ديونه.

فمن قبيل الاجتهاد مقابل النصّ الصريح الصحيح المعمول به عند الأصحاب ، فلا ينبغي الاعتناء إلى أمثال هذه الكلمات ، ولذلك ادّعى بعضهم الإجماع على عدم الفرق بين الدية في قتل الخطاء أو في قتل العمد بعد مصالحة الورثة حقّ اقتصاصهم بمقدار الدية وأخذهم الدية عن القاتل ، خصوصا مع تعبيره عليه‌السلام « بأنّه أحقّ بديته من غيره ».

فرع : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ‌ ، وربما يشترط كونه قدر الثلث أو أقلّ. هذا هو فتوى المشهور من أصحابنا.

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ١١٢ ، باب القود ومبلغ الدية ، ح ٥٢٢٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٩ ، ص ٩٢ ، أبواب القصاص في النفس ، ح ٢.

٢٧٠

والأصل فيه رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، وأذن له عند الوصيّة أن يعمل بالمال وأن يكون الربح بينه وبينهم؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس به من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك وهو حيّ » (١).

وأيضا رواية محمّد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن خالد بن بكير الطويل قال : دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال : يا بنيّ اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به وخذ نصف الربح وأعطهم النصف وليس عليك ضمان ، فقدّمتني أمّ ولد أبي بعد وفاة أبي إلى ابن أبي ليلى فقالت : إنّ هذا يأكل أموال ولدي. قال : فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقال لي ابن أبي ليلى إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه ثمَّ أشهد عليّ بن أبي ليلى أنّ أنا حرّكته فأنا له ضامن فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقصصت عليه قصّتي ثمَّ قلت له : ما ترى؟ فقال عليه‌السلام : « أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه ، وأمّا فيما بينك وبين الله عزّ وجلّ فليس عليك ضمان » (٢).

ثمَّ إنّ ظاهر هاتين الروايتين الحكم بصحّة الوصيّة بالمضاربة وعدم الضمان للعامل لو خسرت المعاملة ، وأيضا مقتضى الظاهر في كلتا الروايتين كون الأولاد صغارا.

أمّا رواية محمّد بن مسلم فظهورها في كون الأولاد صغارا فمن أجل قول محمّد بن مسلم أنّه سأل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم ، فإنّ الوصيّة بولده إلى رجل لا يصحّ إلاّ أن يكونوا صغارا ، وظاهر الرواية أنّها وصية صحيحة.

وأمّا رواية خالد بن بكير فصرّح فيها بذلك في قول أبيه له « يا بنيّ اقبض مال‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٦٢ ، باب النوادر ، ح ١٩ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٧ ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح ٥٥٣٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣٦ ، ح ٩٢١ ، باب الزيادات الوصايا ، ح ١٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٧٨ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٩٢ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٦١ ، باب النوادر ، ح ٦١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٢٨ ، باب الرجل يوصى إلى رجل بولده. ، ح ٥٥٣٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣٦ ، ح ٩١٩ ، باب الإقرار في المرض ، ح ٣٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٧٨ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٩٢ ، ح ٢.

٢٧١

إخوتك الصغار واعمل به » ومعلوم أنّ للأب جعل القيّم لولده الصغار بعد موته كي يدبّر أمورهم وشؤونهم ، وأيضا له أن يجعل أجرة له بإزاء عمله بما يرى من صلاحهم ، فإذا رأى من صلاحهم أن يجعل من يعمل في أموالهم بالمضاربة فله أن يوصى بذلك إلى رجل أمين عنده ويعيّن حصّته من الربح أجر عمله ، ولا إشكال في ذلك وفي فتوى المشهور بصحّة مثل هذه الوصيّة. وهذا إذا كان فتواهم في مورد الروايتين أو الوصية بالمضاربة في مال أولاده الصغار.

وأمّا الظاهر من بعض العبائر هو صحّة الوصيّة بالمضاربة على ورثته مطلقا ، كانوا بالغين أم صغارا ، كالعنوان الذي ذكرنا في أوّل هذا الفرع تبعا للشرائع (١) وهو قولنا : لو أوصى إلى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن يكون الربح بينه وبين ورثته نصفان صحّ.

ولا شكّ في أنّ إطلاق الورثة يشمل الصغير والكبير ، وأيضا يشمل ما إذا كان ما عيّنه عن حصّة العامل ، أي نصف الربح أزيد من الثلث ، أو أقلّ ، أو المساوي.

ثمَّ إنّه ربما يأتي إشكال : وهو أنّه لو كانت الورثة كبارا فليس للموصي أن يوصي بالمضاربة في أموالهم ، خصوصا إذا كانت مدّة المضاربة كثيرة ، مثل خمسين سنة والربح الذي يعود إليهم قليل ، فيرجع المضاربة حينئذ إلى منعهم عن التصرّف في ملكهم مدّة طويلة إذا أوصى بتلك المدّة وقلنا بوجوب إنفاذ تلك الوصيّة لقوله تعالى ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) (٢).

ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال : بأن الوصيّة يمكن أن تكون صحيحة وتكون مشروطة بإجازة المالك إن كانت الورثة كبارا ، فإذا أجازوا فلا يأتي كلا الإشكالين ، لأنّها بإذنهم ، غاية الأمر في صورة بلوغ الوارث تكون الوصيّة مثل سائر‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٦.

(٢) البقرة (٢) : ١٨١.

٢٧٢

المعاملات الفضوليّة ، فيحتاج إلى إجازة المالك.

وأمّا إذا كانوا صغارا ، فله الولاية عليهم وجعل القيّم عليهم ، وأن يفعل كذا وكذا.

وأمّا الإشكال على إطلاق العبارة بأنّها تشمل ما إذا كانت حصّة العامل أزيد من الثلث فتكون الوصيّة باطلة فيما زاد ، إلاّ أن تكون بإجازة الوارث.

ففيه : أوّلا : أنّ الربح ليس ممّا ترك ، بل هو نتيجة سعي العامل ، وإلاّ فالمال الذي تركه الميّت باق إمّا عينا أو ما يقابله من ثمنه ، ولم يتلف منه شي‌ء مع وجود الربح ، وإلاّ يكون فرض الخسران لا الربح. وأمّا مع عدم وجود الربح فلا يأتي هذا الإشكال أصلا ، لأنّه حينئذ لا حصّة للعامل كي يقال حصّته أزيد من الثلث ، فلا يرد إشكال على كلا التقديرين ، سواء كان هناك ربح أو لم يكن ، وسواء كان على تقدير وجوده أزيد من الثلث أو لم يكن.

وثانيا : أنّ الربح يحدث على ملك العامل ، بمعنى أنّه على فرض صحّة المضاربة حصّة العامل من أوّل حدوثه يكون حدوثه على ملك العامل ، لا أنّه يحدث على ملك الموصي المورث ، أو يحدث على ملك الورثة ثمَّ تنتقل إلى العامل ، فليست من تركة الميت كي لا تنفذ في أزيد من الثلث.

وقال في جامع المقاصد (١) ما مفاده : أنّه يلزم من فساد هذه المضاربة عدم فسادها ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال. وبيّن هذا المطلب : أنّ فسادها على تقدير ثبوته إنّما يكون لتفويت ما زاد على الثلث من التركة تبرّعا ، وذلك إنّما يكون على تقدير أن يكون حصّة العامل أزيد من أجرة المثل بزيادة على الثلث ، وأن تكون ذلك من نماء مال التركة إذا صحّت المضاربة ليكون الشراء نافذا ، فإذا فسدت المضاربة لم ينفذ الشراء فلم يتحقّق الربح ، فانتفى التصرّف في الزائد على الثلث ، فانتفى المقتضي للفساد ، فوجب الحكم بالصحّة. ومتى أدّى فرض الفساد إلى عدمه كان‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ١١٨.

٢٧٣

فرضه محالا.

وقال ابن إدريس (١) ببطلان هذه الوصيّة لأنّه وصيّة بالباطل ، ووافق ابن أبي ليلى حيث قال لخالد بن بكير الطويل بعد ما سمع منه ما أوصاه أبوه من المضاربة والعمل في مال إخوته الصغار وأخذ نصف الربح لنفسه وإعطاء النصف الآخر لإخوته : إن كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه.

ووجه البطلان بأنّ الوصيّة لا تنفذ إلاّ في ثلث المال قبل موته ، والربح تجدد بعد موته ولم يكن له وجود قبل موته ، فكيف تنفذ وصيّة دخوله فيه.

وفيه : أنّ منافع ما يملكه الميّت قبل موته تصحّ الوصيّة فيها مع أنّها توجد بعد موته ، فلا يعتبر في صحّة الوصيّة وجود الموصى به قبل الموت ، بل الوصيّة تنفذ في ثلث ما يملكه الميّت ، سواء كان وجوده قبل موت الموصي أو كان من منافع ما يملكه وإن كان وجود تلك المنافع بعد موته ، فهي باعتبار أنّها تابعة لما كان يملكه قبل موته يصحّ الوصيّة فيها وإن كان حدوثها في ملك الوارث إذا وجدت بعد موت المورث.

وبعبارة أخرى : حينما كانت الأعيان في ملك الموصي وكان حيّا كانت تلك المنافع متوقّعة الوجود ، فلذلك تحسب من أمواله وتدخل في ثلثه ، خصوصا إذا كانت من قبيل الأثمار للأشجار أو الحمل للدابّة.

ولذلك لم يشكل أحد في جواز الوصيّة بهما وأمثالهما فكلام ابن إدريس وابن أبي ليلى لا أساس لهما ، فالروايتان ليستا مخالفتان للقواعد الأوّليّة في باب الوصيّة وقد عمل بهما الأصحاب ، فلا إشكال في حجّيتهما ولزوم العمل بهما ، أي في مورد الوصيّة بالمضاربة في أموال أولاده الصغار.

وأمّا إذا كانت الورثة كبارا وبالغين ، أيضا لا مانع من صحّة الوصيّة. نعم تكون من قبيل المعاملة الفضوليّة فتكون موقوفا على الإجازة ، من جهة أنّ المال بعد الموت‌

__________________

(١) « السرائر » ج ٣ ، ص ١٩٢.

٢٧٤

ملك للورثة البالغين ، وليست للمورّث الموصي ولاية عليهم.

إن قلت : إنّ له الوصيّة والتصرّف بمقدار الثلث من ماله وإن كانت ورثته من الكبار والبالغين ، وفي الزائد موقوف نفوذها على الإجازة.

قلنا : أوّلا أنّ المورد ليس عن ذلك القبيل بأن يملّك مقدارا من ماله للموصى له وصيّة تمليكيّة كي تكون نافذة في مقدار الثلث وفي الزائد تكون موقوفا على الإجازة ، بل إيصاء للوصي أن يضارب بهذه الكيفيّة ، وإن كانت الورثة صغارا لا يحتاج إلى إجازتهم ، لأنّ وليّهم أذن وأجاز.

وأمّا إن كانوا كبارا فليس لأحد التصرّف والتجارة في أموالهم إلاّ بإذنهم وإجازتهم ، فليست وصيّته للعامل المضارب كي تكون نافذة في مقدار الثلث ، بل يكون أذن في التجارة والعمل بإزاء نصف الربح.

وثانيا : تقدّم أنّ الربح ليس من أموال الميّت كي يكون بمقدار الثلث نافذا غير محتاج إلى الإجازة ، فإن لم يكن أذن الأب بالتجارة في أموال أولاده وصيّة بمقدار من ماله فلا مجال لأن يقال بالنفوذ في مقدار الثلث أو أقلّ ، سواء كانوا صغارا أو كبارا بل إذا كانوا صغارا يؤثّر إذنه مطلقا ، وإذا كانوا كبارا لا أثر لإذنه ويكون من قبيل الفضولي ليس للوصي التصرّف مطلقا إلاّ بإجازتهم.

فرع : لو أوصى بواجب وغيره ، فإن وسع الثلث عمل بالجميع‌ ، وإن قصر ولم يجز الورثة بدأ بالواجب من الأصل وكان الباقي من الثلث ، ويبدأ بالأوّل فالأوّل ، ولو كان الكلّ غير واجب بدأ بالأوّل فالأوّل حتّى يستوفي الثلث.

أقول : الواجب قسمان : ماليّ وبدنيّ. والواجب المالي تارة مالي محض كالزكاة والخمس والكفارات الماليّة ، لا مثل الصوم شهرين متتابعين في بعض الكفارات أو عشرة أيّام أو ثلاثة أيّام أو غير ذلك في البعض الآخر. والكفّارات الماليّة كعتق رقبة‌

٢٧٥

أو الطعام ستّين مسكينا أو إعطاء مدّ من الطعام وأمثال ذلك. وأخرى : ماليّ مشوب بالبدن كالحجّ الواجب.

وأمّا الواجب البدني فهو مثل الصلاة والصوم وغيرهما ممّا ليس المطلوب فيها صرف المال ، بل المطلوب فيها الأعمال البدنيّة.

أمّا القسم الأوّل لو أوصى به يخرج من أصل المال ، بل يخرج من أصل المال وإن لم يوص به ، لأنّها في الحقيقة ديون تعلّقت بماله في حياته ويجب أداؤها والإرث فيما سواها وبعد أدائها.

وأمّا القسم الثاني فلا يخرج من أصل المال بل يخرج من الثلث ، لعدم وجوب إخراجها من تركة الميّت إلاّ إذا أوصى بها ، فتكون كالوصايا التبرعيّة لا تنفذ بدون إجازة الورثة إلاّ في الثلث.

فبناء على هذا لو كان الواجب الذي ذكرنا في العنوان واجبا ماليّا وأوصى به مع ما ليس بواجب أصلا ، فمقتضى القواعد الأوّليّة وإطلاقات أدلّة وجوب العمل بالوصيّة وإنفاذها في الثلث فقط إلاّ مع إجازة الورثة أنّه يجب العمل بالجميع إن وسّع الثلث لذلك. وأمّا إن قصّر ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث ، فيبدأ بالواجب من الأصل وغير الواجب من الثلث ، الأوّل فالأوّل.

مثلا لو كانت تركته تسعمائة دينار وأوصى بحجّ واجب وإعطاء مصارف الزواج لزيد مثلا مائتي دينار ، ومصارف الزواج لعمرو أيضا مائتي دينار ، وأجرة الحجّ يفرض أنّها ثلاثمائة دينار ، فالحج الواجب أوّلا يخرج من أصل التركة ثلاثمائة دينار ، فيبقى التركة ستمائة دينار بعد إخراج ثلاثمائة للحجّ الواجب وثلث الباقي مائتان.

فبناء على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المالي على الترتيب ـ أي الأوّل فالأوّل لا يبقى لزواج عمرو مال ، لأنّ الوارث لم يجز والثلث لا يسع للجميع ، فإذا بنينا على إنفاذ الوصيّة في غير الواجب المذكور الأوّل فالأوّل ، فلا يبقى محلّ للوصيّة الثالثة ـ أي‌

٢٧٦

زواج عمرو ـ فتبطل بالنسبة إليه.

وذلك لأنّ الشارع لم يمض تصرّفات الموصي المتبرّعة في أمواله بتمليكه بعد موته لغيره في أزيد من ثلث ما يملكه إلاّ بإجازة الورثة ، ولا شكّ في أنّ الوصيّة في غير الواجبات من التبرّعات ، بل وحتّى في الواجبات غير المالي ، فلا بدّ من إخراجها من الثلث فيما إذا لم يجز الورثة كما هو المفروض.

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فإمّا من جهة تصريح الموصي بذلك بأن قال : خذوا نائبا لي في الحجّ الذي كان واجبا عليّ وما أديته ، وأعطوا زيدا مائتي دينار لزواجه ، ثمَّ أعطوا لعمرو كذلك مائتي دينار لزواجه ، أو فأعطوا لعمرو أو أعطوا عمروا بعد زواج زيد أو بعد إعطائكم زيدا.

والحاصل : أنّ الترتيب قد يستفاد من تصريح الموصي بذلك ، وقد يستفاد من ظواهر الألفاظ ، وقد يستفاد من القرائن الحاليّة والمقاليّة ، ولو كانت تلك القرينة هو الترتيب الذكري.

هذا كلّه فيما إذا كانت الوصيّة مركبة من الواجب المالي وغيره ، وأمّا إذا كان كلّها واجبا غير مالي ، أو كان كلّها غير واجب أصلا بل كان من التبرّعات ، أو كان مركّبا من الواجب غير المالي وغير الواجب أصلا ، فالحقّ أنّها تخرج من الثلث. وإن قيل بأنّ الواجبات غير الماليّة كالصلاة والصوم أيضا تخرج من الأصل ، ولكنّ الحقّ خلافه ، لما أشرنا إليه وهو أنّها أيضا من التبرّعات ، وكذلك بعد الفراغ من أنّها من الثلث لا من الأصل يكون إخراجها أوّلا فأوّلا إن لم يسع الثلث للجميع.

أمّا إخراج جميع هذه الأقسام الثلاثة ـ أي فيما إذا كان جميع ما أوصى بها غير واجب أصلا ، أو كان جميعها واجبا غير مالي ، أو كان مركّبا منهما ـ من الثلث لا من الأصل ، فلأنّها ليست مثل الديون بحيث يجب إخراجها ، ولو لم تكن وصيّة في البين بل وصيّة تبرعيّة بها ، فلا تنفذ إلاّ في الثلث إلاّ بإجازة الورثة.

٢٧٧

وأمّا كونها أوّلا فأوّلا فيما إذا لا يسع الثلث للجميع ، فمثل ما ذكرنا وتقدّم من استفادة الترتيب إمّا من تصريح الموصي بذلك ، أو من الظهور اللفظي ككونها عقيب الفاء أو ثمَّ ، أو من القرائن الحاليّة أو المقاليّة ولو كانت هي الترتيب في الذكر كما تقدّم.

وأمّا لو لم يستفد الترتيب من تصريحه أو ظهور لفظه بما ذكرنا ، أو صرّح بعدم الترتيب في مقام الوصيّة كأن قال : لا تقدّموا بعض هذه على بعض ، فإن لم يسع الثلث للجميع ولم يجز الورثة فيما زاد ، فيقسّط النقص على الجميع بنسبة نقص الثلث عن مجموع الوصايا.

مثلا لو أوصى وصيّة تبرعية لأحدهم بمائتين وللآخرين كلّ واحد منهما بمائة فالمجموع يصير أربعمائة يفرض أنّ الثلث ثلاثمائة فالثلث ينقص عن الوصيّة بالربع أي يكون الثلث ثلاثة أرباع الوصيّة ، فينقص عن نصيب كلّ واحد منهم ربع ما أوصى له ، فمن صاحب المائتين يسقط خمسين ، ومن الآخرين من كلّ واحد منهما خمسة وعشرين ، وبعد إسقاط ما ذكرنا يبقى مجموع الوصيّة ثلاثمائة وهو مساو للثلث. وهكذا الأمر في جميع موارد نقص الثلث عن مجموع الوصيّة فيما إذا لم يفهم ترتيب أو فهم عدمه.

ثمَّ إنّه لو اشتبه الأمر ولم يكن دليل على الترتيب ولا على عدمه ، كما أنّه لو عدّد أشياء ثمَّ أوصى بمجموعها وكان الثلث أقلّ ، فهل يقسّط النقص على الجميع أو يقرع؟ وجهان ، والأظهر هو الأوّل.

هذا فيما إذا عيّن مقدار الموصى به لكلّ واحد منهم ، وأمّا إذا لم يعيّن فيقسّم بينهم بالسويّة ، كما إذا قال : أعطوا ثلث مالي بعد وفاتي زيدا وعمروا وبكرا ، أو قال : ملّكت ثلث أموالي هؤلاء وعددّهم.

وها هنا رواية تدلّ على نفوذ الوصيّة أوّلا فأوّلا فيما إذا يفي الثلث بالجميع ، بمعنى أنّه يبدأ بإنفاذ الوصيّة بما أوصى أوّلا ، ثمَّ بما بعدها ، وهكذا حتّى يتمّ الثلث ، وبطل‌

٢٧٨

الزائد مع عدم إجازة الوارث.

وهي ما رواه حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى عند موته وقال : أعتق فلانا وفلانا وفلانا حتّى ذكر خمسة ، فنظر في ثلثه فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم قال عليه‌السلام : « ينظر إلى الذين سمّاهم وبدأ بعتقهم فيقوّمون وينظر إلى ثلثه ، فيعتق منه أوّل شي‌ء ذكر ، ثمَّ الثاني ، ثمَّ الثالث ، ثمَّ الرابع ، ثمَّ الخامس فإن عجز الثلث كان في الذين سمى أخيرا ، لأنّه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك » (١).

وهذه الرواية تدلّ على أنّ الترتيب الذكري كاشف وأمارة على الترتيب الواقعي ، خصوصا بملاحظة التعليل الذي ذكره عليه‌السلام لحكمه بإنفاذ الوصيّة الأوّل فالأوّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا في هذا الفرع أنّه إذا أوصى بوصايا متعدّدة ، فإن كان كلّها أو بعضها واجبا ماليّا ، يخرج ذلك الواجب المالي من الأصل ، سواء زاد على الثلث أم لم يزد. وأمّا إن لم يكن فيها واجب مالي ، سواء كان فيها واجب بدني أو لا ، أي سواء كان كلّها من واجبات بدنيّة أو بعضها أو لم يكن فيها واجب أصلا ، فيكون كلّها من الثلث ولا يكون في أزيد منه إلاّ بإجازة الوارث.

هذا فيما إذا كان الثلث وافيا بالجميع ، وأمّا إن لم يف بالجميع فقيل بتقديم الواجب على غيره ويخرج من الثلث ابتداء ثمَّ تصل النوبة إلى التبرّعات. ولكن عرفت أنّ الواجب البدني في عرض سائر المتبرّعات ، ولا تقدّم له عليها.

ثمَّ إنّه إن استفدنا الترتيب من تصريح الموصي أو من ظهور ألفاظه وضعا أو بتوسّط القرائن الحاليّة أو المقاليّة فيؤخذ به. وأمّا إن لم نستفد شيئا من هذا القبيل ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٩ ، باب من أوصى بعتق أو صدقة أو حجّ ، ح ١٥ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢١٢ ، باب الوصيّة بالعتق والصدقة والحجّ ، ح ٥٤٩٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٩٧ ، ح ٧٧٨ ، باب الوصيّة بالثلث وأقل منه وأكثر ، ح ٢٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٥٧ ، أبواب أحكام الوصايا ، باب ٦٦ ، ح ١.

٢٧٩

أو فهمنا من كلامه عدم الترتيب لتصريحه أو من القرائن ، فمقتضى القاعدة هو التقسيط وورود النقص على الجميع ، فينقص عن كلّ وصية من تلك الوصايا بنسبة نقص الثلث إلى مجموع الوصايا كما تقدّم ، لا القرعة كما توهّم.

نعم مقتضى رواية حمران المتقدّم هو الأخذ بالأوّل فالأوّل ، لكن بيّنّا أنّه بواسطة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما يظهر من تعليله عليه‌السلام بذلك حكمه بالإنفاذ أوّلا فأوّلا إلى أنّ يتمّ الثلث. وأمّا لو علم أنّه لم يرد الترتيب الواقعي ، بل أراد أن يكون الثلث لجميعهم ، فلا يبقى محلّ للأخذ بالأوّل فالأوّل.

فرع : لو أوصى لشخص بثلث ما يملك ، ولآخر بربعه ، ولثالث بسدسه ولم يجز الورثة في الزائد على الثلث‌ ، فبناء على استفادة الترتيب من هذه الوصيّة ، إمّا من ترتيب الذكري ، أو من القرائن المقاميّة أو الحاليّة أو المقاليّة ، أو من الظهور الوضعي كما إذا عقب الوصيّة الأولى بالفاء أو بثمّ في الثانية والثالثة وهكذا ، أو من جهة كون الترتيب الذكري أمارة على الترتيب الواقعي كما أشرنا إليه في بيان رواية حمران ، فيكون الثلث للشخص الأوّل وبطلت الوصيّة لمن عداه.

وأمّا بناء على عدم استفادة الترتيب ، أو استفادة عدمه من القرائن المقاميّة ، أو تصريحه كما لو قال : لا تقدّموا أحدا على أحد في هذه الوصية بل يكون ثلثي لكلّهم ، فمقتضى القاعدة هو تقسيط الثلث على كلّهم ، أو القرعة إذا كان المورد واجدا لشرائط الاستخراج بالقرعة.

ولكن الظاهر أنّ مورد القرعة ما يكون له واقع وصار مجهولا في الظاهر. وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ الوصايا المتعدّدة مقدار ما أوصى به في كلّ واحد منها معلوم ظاهرا وواقعا ، غاية الأمر لا يمكن العمل بها ، لأنّ العمل بمجموعها يوجب إخراج أزيد من الثلث ، وهو لا يجوز إلاّ بإجازة الورثة ، والمفروض أنّهم لم يجيزوا فيردّ عليهم‌

٢٨٠