القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ».

وفيها جهات من البحث :

الجهة الأولى

في مدرك هذه القاعدة‌

الأوّل : قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (١). إلى آخر الآيات.

الثاني : الأخبار الواردة فيها ، فنقول :

منها : ما رواه محمّد بن مسلم قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « الوصيّة حقّ ، وقد أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينبغي للمسلم أن يوصى » (٢).

ومنها : ما رواه أبو الصباح الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الوصية؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (٣).

ومنها : أيضا عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه قال : « الوصيّة حقّ على‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٧٧.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣ ، باب الوصيّة وما أمر بها ، ح ٥ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٨١ ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كلّ مسلم ، ح ٥٤١٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥١ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣ ، باب الوصية وما أمر بها ، ح ٤ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٨١ ، باب في الوصيّة أنّها حقّ على كل مسلم ، ح ٥٤١١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٧٢ ، ح ٧٠٢ ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥١ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٢.

٢٢١

كلّ مسلم » (١).

ومنها : عن زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصيّة؟ فقال : « هي حقّ على كلّ مسلم » (٢).

ومنها : عن المفيد قدس‌سره في المقنعة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الوصيّة حقّ على كلّ مسلم » (٣) قال : وقال عليه‌السلام : « من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة » (٤) قال : وقال عليه‌السلام : « ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة إلاّ ووصيّته تحت رأسه » (٥).

قال في الوسائل : والأحاديث الواردة في أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى ، وأنّ الأئمّة عليهم‌السلام أوصوا كثيرة متواترة من طرف العامّة والخاصّة (٦).

الجهة الثانية

في شرح ألفاظ هذه القاعدة ، وبيان المراد منها‌

فنقول : الوصية اسم من الإيصاء ، وربما يطلق على الموصى به كما في الكتاب العزيز ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٧) فيقال : هذه وصيّته ، أي ما أوصى به كعتق عبد أو بناء مسجد أو قنطرة أو رباط أو غير ذلك من الخيرات والمبرّات ، وأنواع العبادات من الواجبات والمستحبّات.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٧٢ ، ح ٧٠١ ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٧٢ ، ح ٧٠٣ ، باب الوصيّة ووجوبها ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٤.

(٣) « المقنعة » ص ٦٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٦.

(٤) « المقنعة » ص ٦٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٨.

(٥) « المقنعة » ص ٦٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٧.

(٦) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٥٢ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ١ ، ح ٨.

(٧) النساء (٤) : ١١.

٢٢٢

وعرّفها في الشرائع (١) بأنّها تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة. وقريب من هذا التعريف ما ذكره غير واحد من أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم.

وقال في تعريفه في القواعد : الوصيّة تمليك عين أو منفعة بعد الموت (٢). وهكذا غيرهما ، ولكن الوصيّة قسمان : تمليكيّة وعهديّة.

وهذا التعريف ينبغي أن يكون للتمليكيّة ، فأمّا الوصيّة العهديّة فهي عبارة عن أن يعهد إلى شخص أو أشخاص بفعل أمر يجوز له فعله مباشرة أو تسبيبا ، سواء كان ذلك الفعل راجحا أو مباحا بلا رجحان عليهما ، أي على الموصي والوصي ، ويسمّى ذلك الشخص أو الأشخاص بالوصيّ أو الأوصياء.

وإن كانت أركان الوصيّة التمليكيّة أربعة : الوصيّة ، والموصي ، والموصى به ، والموصى له ، وأمّا الوصيّة العهديّة فأركانها ثلاثة : الموصي ، والموصى به ، والوصيّ.

فهاهنا أمور :

الأمر الأوّل

في الوصيّة التمليكيّة‌

وقد عرفت أنّ أركانها أربعة :

الأوّل : الوصيّة. وقد ذكرنا أنّها اسم من الإيصاء ، وأيضا ذكرنا تعريفه. ويفتقر إلى إيجاب وقبول ، أي هو عقد وكلّ عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، وإن كان قبولا فعليّا لا قوليّا.

والحاصل : أنّ عقد الوصيّة حالها حال سائر العقود العهديّة من حيث الاحتياج‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٣.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٩٠.

٢٢٣

إلى الإيجاب والقبول ، ولا فرق بينه وبين عقد الهبة إلاّ أنّ الهبة تمليك مال أو حقّ لشخص في حال حياته ، وعقد الوصيّة تمليك مال أو حقّ لشخص بعد الموت. هذا ما قاله أكثر الأساطين.

ولكن التحقيق : أنّ الوصيّة العهديّة لا تحتاج إلى القبول ، لأنّه فيها تعهّد إلى إيجاد فعل متعلّق ببدنه كان يدفن في موضع كذا مثلا ، أو بماله مثل أن يحجّ عنه بماله أو يقضى عنه صلواته وصومه الفائتة أو يوقف داره الفلانيّة أو ضيعته أو يبنى مسجدا بماله وأمثال ذلك من الأعمال الراجحة.

نعم لو عيّن شخصا لتنفيذ ما عهد إليه الذي يسمّى بالوصي أو الموصى إليه يمكن أن يقال بالاحتياج إلى قبول ذلك الشخص إن اطّلع على الوصيّة في حال حياة الموصي كي يلزم عليه العمل بما أوصى إليه ، ولكن هذا لو قلنا به يكون من قبول الوصاية لا الوصيّة.

مضافا إلى أنّ الأظهر عدم لزوم قبول الوصي في حال حياة الموصي ، بل يكفي في لزوم عمله وتنفيذه الوصيّة عدم ردّه في حال حياة الموصي وإن لم يقبل ، فبالردّ تبطل لا أنّ القبول شرط.

وأمّا الوصيّة التمليكيّة : فإن كانت تمليكا للنوع ، كالوصيّة للأقارب أو العلماء والسادات والفقراء ، فهي أيضا لا يعتبر فيها القبول كالعهديّة ، والقول بلزوم قبول الحاكم عن قبلهم لا دليل عليه. وأمّا إن كانت تمليكا لشخص أو أشخاص معيّنين ، فالظاهر أنّ حصول الملكيّة لهم موقوف على قبولهم ، لوجوه :

الأوّل : الإجماع والاتّفاق من غير خلاف على أنّه من العقود ، ولا شكّ في أنّ كلّ عقد مركّب من الإيجاب والقبول ، لأنّ المعاقدة والمعاهدة بين شخصين ، فأحدهما يعاهد مع الآخر بتمليك ماله ، غاية الأمر إنّ هذا التمليك والتملّك إذا لم يكن بعوض يدخل في باب العطايا والهبات ، وقد نبّهنا أنّ الوصيّة مثل الهبة ، والفرق بينهما هو أنّ‌

٢٢٤

الهبة تمليك في حال الحياة والوصيّة تمليك بعد الوفاة. وإن كان بعوض يدخل في باب المعاوضات كالبيع والإجارة وغيرهما ، فكما لا ينكر أحد كون تلك المعاوضات والهبات من العقود فليكن الأمر في الوصيّة أيضا كذلك.

الثاني : أصالة عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له مع احتمال أن يكون للقبول دخل فيه ، وأمّا ادّعاء القطع بعدم الدخل فمكابرة مع ذهاب المشهور إلى شرطيّته.

الثالث : أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وأسبابه تعبّدا كالإرث مثلا محصورة ليس منها إيقاع الوصيّة من دون قبول الموصى له.

وأمّا ادّعاء أنّ إطلاقات الوصيّة تكفي لذلك.

ففيه : أنّ إطلاقات الوصيّة ليست بأعظم من إطلاقات سائر المعاملات ، فكما أنّ تلك الإطلاقات لا تمنع عن الاحتياج إلى القبول في تحقّق عناوين تلك المعاملات ، فكذلك الأمر في الوصيّة.

والحاصل : أنّ ادّعاء شمول إطلاقات الوصيّة ـ لإنشاء الوصيّة من قبل الموصى بدون صدور القبول من طرف الموصى له فحصول الملكية للموصى له لا يتوقّف على قبوله ـ لا أساس له ، بل هو عقد مركّب من الإيجاب والقبول لا تحصل الوصيّة بالمعنى الاسم المصدري إلاّ بعد وجود كلا ركنية ، كما أنّ البيع بالمعنى الاسم المصدري لا يوجد إلاّ بعد وجود الإيجاب والقبول جميعا.

فبناء على هذا ردّ الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل لو قلنا أنّه يبطل الوصيّة ـ كما هو الأظهر بل المتّفق عليه ـ ليس من قبيل الفسخ بحيث يكون حلاّ للعقد من حينه كما هو التحقيق في باب الفسخ ، بل يكون مانعا عن تحقّقه لفقدان أحد ركنية ، أي القبول.

فرع : وهو أنّه بعد الفراغ من أنّه عقد ويفتقر إلى الإيجاب والقبول ، فالإيجاب‌

٢٢٥

يصحّ بكلّ لفظ من أيّ لغة دلّ دلالة صريحة واضحة على إنشاء ذلك المعنى عن قصد وإرادة ، أي تمليك مال عينا كان أو منفعة بعد الوفاة لشخص أو أشخاص ، أو لعنوان من العناوين كالعلماء والسادات والفقراء والطلاّب.

وذلك من جهة أنّ الإنشاء بدون القصد ، أو القصد بدون الإنشاء لا أثر له ، فلو قال : أعطوا فلانا بعد وفاتي كذا مقدار من مالي ، أو قال : لفلان كذا مقدار من مالي بعد وفاتي فلا إشكال في صحّة مثل هذه الوصيّة في صورة وجود الشرائط المقرّرة عند الشرع للموصي من البلوغ والعقل ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا لو قال : أوصيت لفلان بكذا ، بدون ذكر « بعد وفاتي » فهل يكون صريحة في الوصيّة باعتبار ظهور لفظ الوصيّة في هذا المعنى أم لا ، بل يحتاج إلى ذلك التقييد في إفادة التمليك بعد الوفاة الذي هو حقيقة الوصيّة؟

الظاهر عدم احتياجه إلى ذلك التقييد ، من جهة أنّ المناط في باب الإفادة والاستفادة وإلقاء المرادات في المحاورات هو الظهور العرفي ، لا كون المستعمل فيه معنى حقيقيّا أو مجازيّا. وهذه أمور تقرّر في الأصول في باب حجّية الظهورات.

ولا شكّ في أنّ لفظ « الوصيّة » في اللغة وإن كان بمعنى مطلق الإيصاء ، سواء كان إيصاءه بإعطاء مال أو شي‌ء آخر ، لشخص أو أشخاص آخرين أو لعنوان من العناوين ، في حال حياته أو بعد وفاته ، من ماله أو من مال من أوصى إليه أو غيرهما.

ولكن عند العرف ـ خصوصا في هذه الأزمان التي مرّ عليها مئات من السنين عن زمان تشريعها في الكتاب العزيز بقوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (١) ـ لها ظهور في هذا المعنى المذكور الذي عرّفوها به ، أي تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة ، فإذا كان كذلك فلا ينبغي المناقشة في صحّة الإيجاب ووقوعه بلفظ « أوصيت لفلان‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٧٧.

٢٢٦

بكذا » بدون قيد « بعد وفاتي » هذا بالنسبة إلى الإيجاب.

وأمّا القبول : فالظاهر ـ بناء على اعتباره كما رجّحناه ـ وقوعه بكلّ لفظ دالّ على الرضا بما أنشأ وأوجب ، بل بكلّ فعل دلّ على هذا المعنى مثل أن يتصرّف فيه نحو تصرّف الملاّك في أملاكهم.

ثمَّ إنّه تقدّم أنّ الوصيّة التمليكيّة ، تارة تتعلّق بشخص معيّن أو أشخاص معيّنين ، وأخرى تتعلّق بعنوان من العناوين. وعرفت أنّ القسم الثاني منها لا يشترط صحّتها وترتيب الأثر عليها بالقبول ، ولكن لا من جهة انعقاد الإجماع على عدم اشتراطها بالقبول ، ولا من جهة تعذّر قبول جميعهم وأنّ لزوم قبول البعض دون آخرين ترجيح بلا مرجّح ، بل من جهة أنّه لو قلنا بلزوم القبول يلزم أن يكون القبول من طرف الحاكم ولاية عليهم ، ولا دليل يلزمنا بذلك.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقد لا يتم بدون القبول ، وفي المورد حيث أنّ القبول من الجميع لا يمكن ومن البعض ترجيح بلا مرجّح ، فإن أرادوا تتميم العقد فلا بدّ من أحد أمرين :

إمّا أن يقبل أحدهم بعنوان أنّه مصداق للطبيعة ، لا بعنوان شخصه كي يلزم الترجيح بلا مرجّح ، بل أيّ فرد من الطبيعة قبل يكفي ولكن بعنوان أنّه مصداق الطبيعة.

وإمّا الحاكم بعنوان الولاية يقبل عن قبلهم ، وإلاّ لا يقع العقد فيكون الإيجاب لغوا وبلا ثمر ، فإذا أراد أن لا يكون الإيجاب لغوا لا بدّ من مداخلة الحاكم وقبوله من طرف الطبيعة الموصى لها.

وقد شرحنا هذه المسألة في قاعدة « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (١) في مورد الوقف على العناوين العامّة بناء على احتياج الوقف إلى قبول الموقوف عليه.

__________________

(١) « القواعد الفقهية » ج ٤ ، ص ٢٢٩.

٢٢٧

فرع : لا شكّ في أنّ انتقال الموصى به إلى الموصى له بعد صدور الإيجاب عن الموصي وبعد موته‌ ، وذلك لأنّ موضوع ملكيّة الموصى له كونه مصداقا لما أنشأ ، ولا يكون مصداقا إلاّ بهذين الأمرين ، أي صدور الإيجاب عن الموصي وموته ، لأنّه لو لم يصدر الإيجاب منه فلا وصيّة في البين ، ولو لم يمت فلا موضوع في البين ، لأنّ الموصى له حسب إنشاء الموصي مالك بعد وفاته ، فتوقّف ملكيّة الموصى له على هذين الأمرين ينبغي أن يعدّ من البديهيّات.

إنّما الكلام في أنّه يملك بعد قبوله أو يملك بصرف الموت وإن لم يقبل بعد؟

قال في الشرائع : وينتقل بها الملك إلى الموصى له بموت الموصي وقبول الموصى له ، ولا ينتقل بالموت منفردا عن القبول على الأظهر (١).

وما ذكره هو الصحيح بناء على ما ذكرنا من أنّ عقد الوصيّة التمليكيّة فيما إذا كان المنشأ هو التمليك للأفراد الخاصّة والأشخاص المعيّنة يحتاج إلى القبول ، وبدون القبول لا يتمّ العقد ، ولا شكّ في أنّ سبب التمليك والتملّك هو العقد التامّ ، فإذا فرضنا أنّ القبول جزء لما هو السبب فبدونه لا يتمّ السبب فلا يوجد المسبب ، أي ملكيّة الموصى له ، فيتوقّف على القبول لأنّه جزء السبب.

وأمّا توهّم كون القبول جزء السبب بنحو الشرط المتأخّر ، بمعنى أنّ حصول الملكيّة للموصى له حين موت الموصي مشروط بالقبول وإن كان متأخّرا عن الموت بزمان.

ففيه : ما حقّقنا في الأصول (٢) من عدم صحّة الشرط المتأخّر وأنّه محال ، للزوم تأخّر الموضوع عن حكمه. وهو محاليّته أوضح من محاليّة تأخّر العلّة عن معلولها ،

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٣.

(٢) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٢٨٥.

٢٢٨

وذلك من جهة رجوع شروط الحكم إلى قيود موضوعه ، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة ، أو كان نجاسة العصير مشروطا بالغليان معناه أنّ موضوع وجوب الحجّ هو المكلّف المستطيع ، وموضوع النجاسة هو العصير المغلي.

وفيما نحن فيه موضوع ملكيّة الموصى له هو إنشاء الموصي المالك الجائز التصرّف له الملكيّة مع قبوله ، فقبوله من أجزاء موضوع الملكيّة ، فلا يعقل وجودها قبل وجود موضوعه بتمامه ، فلو لم يوجد جزءا وشرطا يسيرا منه محال أن يوجد حكمه ، وإلاّ يلزم الخلف.

وأمّا ما يقال : من أنّ ظاهر أدلّة الواردة في باب الوصيّة هو صيرورة الموصى به ملكا للموصى له بعد الموت بلا فصل ومن دون انتظار قبول الموصى له. والثمرة تظهر فيما إذا كانت للموصى به منفعة بعد الموت وقبل القبول فبناء على عدم دخل القبول تكون تلك المنفعة ملكا للموصى له ، وبناء على دخله لا بدّ وأن تكون في حكم مال الميّت بناء على عدم إمكان كون المال بلا مالك.

ففيه : أوّلا : أنّه لم تجد في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام في باب الوصايا ما يدلّ على انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل قبوله وبمحض الموت ، وعلى فرض إن كان لا بدّ بالتزام أحد أمرين : إمّا تأويله وصرفه عن ظاهره ، وإمّا القول بعدم احتياج عقد الوصيّة إلى القبول مطلقا ، سواء كانت الملكيّة المنشأة متعلّقة بالعناوين العامّة ، أو كانت متعلّقة بالأفراد والأشخاص المعيّنة.

أو نقول بأنّ شرطيّة القبول من قبيل الشرط المتأخّر ، فيكون ملكيّة الموصى له للموصى به بمحض الموت ولكن مراعى بوجود القبول فيما بعد.

وما عدا الأوّل محلّ تأمّل بل نظر وإشكال.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم من أنّ حصول الملك القهري خلاف الأصل ، وله أسباب خاصّة ليس صرف إنشاء الموصي مع موته من أسبابها ، ولم يرد دليل على ذلك من‌

٢٢٩

ناحية الشرع وربما ادّعى الإجماع في مسألتنا على العدم.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كلام صاحب الجواهر قدس‌سره في هذا المقام بقوله : « لكن الإنصاف أنّه لو لا دعوى الإجماع على خلافه لكان لا يخلو من قوّة » (١) ليس كما ينبغي وخال عن القوّة ، إذ عمدة مستندة في قوة هذا القول ، أي الانتقال إلى الموصى له بمحض الموت من دون الاحتياج إلى القبول ظهور أدلّة الوصيّة في ملك الموصى به للموصى له بمجرّد موت الموصي من دون الاحتياج إلى قبول الموصى له. وقد عرفت أنّه ليس هناك دليل يكون ظاهرا في هذا المعنى ، وعلى تقدير إن كان لا بدّ من تأويله ، أو الالتزام بما لا يجوز الالتزام به.

وأمّا توهّم أن يكون القبول هاهنا مثل الإجازة في باب الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، حيث أنّ الإجازة المتأخّرة ولو كانت بعد سنة تكشف عن الملكيّة السابقة حين العقد ، فالقبول المتأخّر عن الموت ولو كان بعد سنة يكشف عن الملكيّة السابقة أي بعد الموت بلا فصل.

ففيه : أوّلا : أنّ ما ذكر في باب الإجازة من الكشف الحقيقي هو باطل ومحال ، وقد حقّقنا المسألة في محلّها.

وثانيا : فرق واضح بين ما نحن فيه وما ذكروا هناك ، ففي هذا المقام بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة ، وأنّه بدونه غير تامّ ، وأنّه من أركان العقد مثل الإيجاب فلا يحصل الأثر قبل تماميّة الأثر ، وقع الكلام في أنّه هل تحصل ملكيّة الموصى به للموصى له بصرف الموت ، أو لا تحصل بمحض الموت منفردا بل لا بدّ من صدور القبول من الموصى له؟ وإلاّ لو قلنا بأنّ عقد الوصيّة يتمّ بصرف الإيجاب ولا يحتاج إلى القبول ، أو قلنا إنّها من الإيقاعات وليست من العقود ، فلا يبقى نزاع في البين بل تحصل بمجرّد الموت.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٢٥٠.

٢٣٠

وأمّا في مسألة الفضولي ، فالكلام في أنّه بعد وجود العقد بجميع أركانه من الإيجاب والقبول وكونه واجدا لجميع شرائط العقد ، غاية الأمر إنّ هذا العقد صادر عن غير من هو أهل لذلك ، أي لا مالك ولا وكيل من قبله ولا ولي عليه ، فلا يشمل المالك خطاب ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) من جهة عدم انتساب العقد إليه وعدم اتصافه به ، فإذا أجاز يحصل هذا الانتساب والالتصاق ، فيتوهّم المتوهّم أنّ العقد الواقع سابقا الذي كان سببا تامّا للنقل والانتقال ولم يكن فيه نقص إلاّ الانتساب ، فإذا حصل الانتساب بواسطة الإجازة المتأخّرة يؤثّر العقد من زمان وجوده.

وهذا الكلام وإن كان باطلا ولكن في بادئ النظر يمكن أن ينخدع السامع أو الناظر ويقول بإمكانه بخلاف المقام ، فإنّ كلام من يقول بحصول الملكيّة بمجرّد الموت صريح في جواز وجود المسبّب قبل وجود السبب بتمام أجزاءه ، وهذا ممّا ينكره العقل السليم ، فالقياس ليس في محلّه وإن كان المدّعى في المقيس عليه أيضا باطل.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على تركّب عقد الوصيّة من الإيجاب والقبول لا يبقى مجال للقول بحصول الملكيّة بمحض موت الموصي قبل أن يقبل الموصى له.

ثمَّ إنّه بناء على ما ذكرنا من عدم انتقال الموصى به إلى الموصى له قبل الفوت بصرف موت الموصي ، فيأتي سؤال وهو أنّ ما أوصى به لمن يكون في الزمان الفاصل بين الموت والقبول؟ وأنّه هل يبقى بلا مالك أم يبقى في حكم مال الميّت هو ومنافعه؟ أم ينتقل إلى الوارث موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل أو يردّ ، فإن قبل ينتقل إليه ، وإن ردّ يستقرّ الملك للورثة ويخرج عن كونه وصيّة؟

ولكلّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاث وجه.

أمّا وجه الأوّل : فلعدم صحّة الاحتمالات الآخر ، فلا يبقى إلاّ احتمال الأوّل. أمّا عدم صحّة بقائه في حكم مال الميّت لأجل عدم قابليّة الميّت لأن يكون مالكا. وأمّا‌

٢٣١

عدم صحّة انتقاله إلى الورثة لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١).

وأمّا وجه الثاني : أي بقاء المال في حكم مال الميّت هو عدم إمكان بقاء المال بلا مالك لما سيجي‌ء ، وعدم انتقاله إلى الورثة لما ذكرنا من الآية الشريفة ، فقهرا يبقى في حكم مال الميّت.

وأمّا وجه الثالث : ـ أي الانتقال إلى الورثة موقّتا متزلزلا ومراعى إلى أن يقبل فينتقل إلى الموصى له ، أو يردّ فيستقرّ في ملك الورثة ـ هو عدم صحّة الوجه الأوّل والثاني كما عرفت.

والأظهر من هذه الاحتمالات ـ بناء على كون قبول الموصى له جزءا للعقد والسبب ـ هو أن يبقى على حكم مال الميّت ، فإن قبل الموصى له فيما بعد ينتقل إليه حسب الوصيّة ، وإن ردّ ينتقل إلى الورثة.

وذلك من جهة أنّ انتقاله إلى الورثة وإن كان مراعى وموقّتا إلى أن يقبل خلاف أدلّة الوصيّة وخلاف الآية الشريفة ، أي قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) وكونه بلا مالك معناه أن يكون لكلّ أحد التصرّف فيه ، لأنّ المفروض عدم مالك في البين كي يكون التصرّف بدون إذنه وطيب نفسه ممنوعا ، ويكون كالمباحات الأصليّة ، فلا بدّ من القول ببقائه على حكم مال الميّت.

وله نظائر : منها : شبكة الصيد الذي ينصبه الميّت في حال حياته ، فيقع فيه الصيد بعد موته.

ومنها : الدية في الجنايات التي تردّ على الميّت.

ومنها : مئونة تجهيزه ، ومنها ما يقضي به دينه من التركة.

__________________

(١) النساء (٤) : ١٠٥.

٢٣٢

فرع : وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟ بعد الفراغ عن لزوم القبول في عقد الوصيّة ـ وأنّه أحد ركني العقد إلاّ فيما إذا كانت الوصيّة تمليك عنوان عامّ كالعلماء والسادات أو كانت في مصلحة المسجد أو قنطرة أو رباط ينزل فيه المسافرين والحجاج والزوّار ـ وقع الكلام في أنّه لا بدّ وأن يكون القبول بعد الوفاة ، أو يصحّ أن يكون في حال حياة الموصي ويتمّ به العقد؟

قال في الشرائع : ولو قبل قبل الوفاة وبعد الوفاة آكد وإن تأخّر القبول عن الوفاة ما لم يرد (١).

وقال في القواعد ، بعد قوله : ويفتقر إلى إيجاب وقبول بعد الموت ولا أثر له لو تقدّم (٢).

وقال في جامع المقاصد في توجيه كلام العلاّمة قدس‌سره لأنّ الإيجاب في الوصيّة إنّما تعلّق بما بعد الوفاة لأنّها تمليك بعد الموت ، فلو قبل قبل الموت لم يطابق القبول الإيجاب (٣).

ولكن أنت خبير بضعف هذا التوجيه ، لأنّ القابل يقبل ما أنشأه الموجب ، فيقبل في المفروض ملكيّته بعد الموت التي أنشأها الموصي ، فزمان إنشاء القبول وإن كان في زمان حياة الموصي ولكن المنشأ بهذا القبول هو التملّك بعد الموت ، والمناط في مطابقة القبول والإيجاب هو أن يكون القبول هو قبول نفس ما أنشأه الموجب من غير زيادة ولا نقيصة.

مثلا لو أنشأ الموجب تمليك الغنم الأبيض والقابل أنشأ قبول الغنم الأسود ، فلا تطابق بين القبول والإيجاب ، لأنّه أنشأ شيئا والقابل قبل شيئا آخر ، واتّحاد زماني الإيجاب والقبول ليس شرطا في العقود ، بل دائما يكون القبول متأخّرا عن الإيجاب ،

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٣.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٩٠.

(٣) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ١٠.

٢٣٣

بل لا يصدق المطاوعة والقبول إلاّ بعد تحقّق الإيجاب.

ثمَّ قاس المقام بأن يبيع ما سيملكه في عدم جوازه.

أنت خبير بأنّ المقام ليس من ذلك القبيل.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقيس عليه يمكن أن يكون باطلا من جهة النهي عن بيع ما ليس عنده ، ولا شكّ في أنّ الذي سيملكه مضافا إلى أنّه يمكن أن لا يملكه لحادث من الحوادث حال البيع لا يملكه فيصدق عليه أنّه من بيع ما ليس عنده ، بخلاف المقام فإنّه يملكه وله السلطنة على ماله ، فيملّكه بحيث ينتقل إلى الموصى له بعد وفاته ، وهذا ليس مانع شرعي ولا عقلي.

وثانيا : ليس له السلطنة على مال الغير كي يبيعه ، لأنّه لا مالك حال البيع ، ولا وكيل من قبل المالك ، ولا ولي عليه فهو أجنبي عن هذا المال.

وثالثا : حقيقة البيع هو تبديل ماله بمال الغير ، وهذا هو معنى المعاوضة عند العرف ، والذي سيملكه ليس له مال فعلا قبل أن يملكه كي يبدّل بمال الغير ، فهذا القياس ليس في محلّه.

وأمّا ما قاله من أنّ القبول إمّا كاشف أو ناقل وجزء السبب ، وكلاهما منتفيان هنا.

أمّا أنّه ليس بكاشف ، لأنّ معنى الكاشف هو تحقّق الملكيّة في مقام الثبوت قبل القبول كي يكون القبول كاشفا عنها ، وفي المقام لا يمكن ذلك من جهة أنّ الملكيّة التي أنشأها الموصي هي بعد الموت ، ففي حال الحياة لا يمكن وجودها وثبوتها ، فلا يمكن أن يكون القبول كاشفا.

وأمّا أنّه ليس بناقل ، لأنّ معنى الناقل هو أن يكون بوجوده ينتقل الملك إلى الموصى له ، وهاهنا لا يمكن انتقال المال إلى الموصى له في زمان القبول الذي هو في حال الحياة ، لأنّ الملكيّة المنشأة بعد الوفاة لا يمكن أن توجد قبلها.

٢٣٤

ففيه : أنّ القبول جزء السبب ، والسبب عبارة عن الإيجاب والقبول ، ولكن تأثير هذا السبب مشروط بشرط وهو الموت ، بل مفاد هذا السبب هي الملكيّة بعد الموت ، فتأخّر وجود المسبّب عن السبب ليس لتخلّفه عنه ، بل مفاد السبب هي الملكيّة المتأخّرة.

وذلك كما أنّ الإجارة يصحّ أن يكون فيها زمان ملكيّة المنفعة متأخّرا عن زمان عقدها إجماعا ـ أي من زمان إيجابها وقبولها ـ فليكن في الوصيّة أيضا كذلك ، فظهر أنّه لا مانع من تأثير القبول حال الحياة في تماميّة العقد وصحّته ، وإن كان المنشأ بالعقد لا يوجد إلاّ بعد الوفاة.

ثمَّ إنّه استشكل جامع المقاصد (١) أيضا على تأثير القبول حال حياة الموصي بأنّه لو كان القبول قبل الوفاة مؤثّرا لكان ردّه أيضا مؤثّرا ، والمشهور ذهبوا إلى عدم تأثير الردّ في حال الحياة.

وفيه : أنّ تأثير القبول في حال الحياة من جهة وقوعه بعد الإيجاب وهما ركنا العقد ، فإذا وجد الركن الأوّل في محلّه وصحيحا فتصل النوبة إلى الركن الثاني أي القبول ، ويقع في محله من جهة أنّه مطاوعة ذاك الإيجاب.

وأمّا عدم تأثير الردّ من جهة أنّ الوصيّة تمليك مال أو منفعة بعد الوفاة ، فالمناط في ردّه هو الردّ في ظرف وقوع التمليك ، فإذا لم يكن تمليك في البين فلا أثر للرّد مع قبوله في ظرف التمليك.

نعم لو ردّ في حال الحياة وبقي رادّا مستمرّا إلى ما بعد الوفاة يؤثّر الردّ. والحاصل : أنّه لا ملازمة بين تأثير القبول وتأثير الردّ.

وأمّا ما أورد على تأثير القبول في حال حياة الموصي بأنّه لو كان كذلك لما كان يعتبر قبول الوارث ولا ردّه لو مات الموصى له قبل موت الموصي وقد قبل أي الموصى‌

__________________

(١) « جامع المقاصد » ج ١٠ ، ص ١٠.

٢٣٥

له وذلك لأنّه لو كان الموصى له قبل الوصيّة في حال حياة الموصي وكان قبوله مؤثّرا فتصير الوصيّة ملكا للموصى له بمحض موت الموصي ، لحصول أركان العقد من الإيجاب والقبول ، والشرط ـ أي موت الموصي ـ أيضا حصل على الفرض ، فلا يحتاج الى قبول الوارث ويلزم أن لا يؤثر ردّه ، لأنّ سبب ملكيّة الوصيّة مع الشرط حصل ، فلا يحتاج إلى شي‌ء آخر.

وفيه : أنّ هذا كلام عجيب ، لأنّ الشرط حصل في وقت ليس الموصى له قابلا لأن يملك الموصى به ، لأنّ المفروض أنّه ميّت حال حصول الشرط وليس قابلا لأن يملك فينتقل إلى ورثته ، فلا يحتاج إلى قبولهم.

ومقتضى القواعد الأوّليّة هو أنّه لو قلنا بأنّ الميّت يملك ، فلو مات الموصى له في حال حياة الموصي وقد قبل فيملك الموصى به وينتقل إلى ورثته ، ولا يحتاج إلى قبولهم. وإن قلنا بأنّه لا يملك فيرجع المال بعد موت الموصي إلى ورثته لا إلى ورثة الموصي له ، سواء قبلوا أو لم يقبلوا.

لكن وردت روايات أنّ الموصى له لو مات في حياة الموصي يعطى المال ورثة الموصي بدون اشتراط قبول من طرفهم في البين ، وقد عقد بابا في الوسائل بعنوان أنّ الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع في الوصيّة فهي لوارث الموصى له ، وفيه روايات :

منها : رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفّي الموصى له الذي أوصى له قبل الموصي ، قال عليه‌السلام : الوصيّة لوارث الذي أوصى له. قال : ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفّي الموصى له قبل الموصي فالوصيّة لوارث الذي أوصى له إلاّ أن يرجع في وصيّته قبل موته » (١)

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٣ ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢١٠ ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح ٥٤٨٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣٠ ، ح ٩٠٣ ، باب الموصى له بشي‌ء يموت قبل الموصي ، ح ١ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣٧ ، ح ٥١٥ ، باب الموصى له يموت قبل الموصي ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٠٩ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ٣٠ ، ح ١.

٢٣٦

ومنها : رواية عبّاس بن عامر قال : سألته عن رجل أوصى له بوصيّة ، فمات قبل أن يقبضها ولم يترك عقبا ، قال : « اطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه » قلت : فإن لم أعلم له وليّا؟ قال : « اجهد على أن تقدر له على وليّ ، فإن لم تجد وعلم الله منك الجدّ فتصدق بها » (١).

ومنها : رواية محمّد بن عمر الباهلي الساباطي قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أوصى إليّ وأمرني أن أعطى عمّاله في كلّ سنة شيئا فمات العمّ ، فكتب : « أعط ورثته » (٢).

وهذه الروايات لها إطلاق من ناحية قبول الموصى له في حياة الموصي وعدم قبوله ، بل ربما يستظهر من رواية محمّد بن قيس عدم قبول الموصى له في حال حياة الموصي لفرض المسألة فيما إذا أوصى لرجل وهو ـ أي الموصى له ـ غائب ، ففي مثل هذا المورد قضى عليه‌السلام بأنّ الوصيّة لوارث الموصى له إن مات هو في حياة الموصي ، وذيل الرواية مطلق من ناحية قبول الموصى له وعدم قبوله. وعلى أيّ حال مقتضى القاعدة ما ذكرنا.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٣ ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح ٣ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢١١ ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح ٥٤٩٠ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣١ ، ح ٩٠٥ ، باب الموصى له بشي‌ء يموت قبل الموصي ، ح ٣ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣٨ ، ح ٥١٧ ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤٠٩ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ٣٠ ، ح ٢.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ١٣ ، باب من أوصى بوصيّة فمات الموصى له. ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢١٠ ، باب الموصى له يموت قبل الموصي. ، ح ٥٤٨٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ٢٣١ ، ح ٩٠٤ ، باب الموصى له بشي‌ء يموت قبل الموصي ، ح ٢ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٣٨ ، ح ٥١٦ ، باب الموصى له يموت قبل الموصى ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٤١٠ ، أبواب كتاب الوصايا ، باب ٣٠ ، ح ٣.

٢٣٧

فرع : لو مات الموصى له قبل أن يقبل ، فتارة يكون موته في حياة الموصي ، وأخرى بعد موته. فإن كان بعد موته ، فلا شكّ في أنّ وارثه يقوم مقامه في أنّ له القبول والردّ ، لأنّ هذا حقّ له ، وما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه ، فيكون للوارث حقّ القبول والردّ. وإنكار كون قبول الوصيّة وردّها حقّا للموصى له مكابرة ، إذ الحقّ عبارة عمّا هو مجعول شرعا رعاية لذي الحقّ ، بحيث يكون له إسقاطه أو أعماله أو عدم إعماله.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ القابلية للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ بحيث عرّف به فيقال : الحقّ هو ما كان قابلا للإسقاط ، وهاهنا كون القبول للموصى له ليس قابلا للإسقاط ، فلو قال الموصى له : أسقط حقّ هذا ، لا يسقط. فليس مالا ولا حقّا كي يرثه الوارث. فإذا مات الموصى له يكون حال الوارث بالنسبة إلى هذه الوصيّة حال الأجانب ، وبناء على هذا يكون القبول وعدمه من الأفعال التكوينيّة التي مباح للموصى له ، وقد يعرض عليه سائر الأحكام الخمسة التكليفيّة. هذا ممّا يمكن أن يقال.

ولكن فيه نظر واضح ، لأنّ كون القبول حقّا شرعيّا أمر واضح ، فإن لم يكن قابلا للإسقاط فليست الخاصّة شاملة بحيث تشمل جميع أفراد الحقّ ، وعلى كلّ حال يقوم الوارث مقام مورّثه في إعمال هذا الحقّ فتكون الوصيّة له.

وأمّا إن كان موت الموصى له في حال حياة الموصي ، فإن قلنا إنّ حقّ القبول والردّ ثابت للموصى له حتّى في حال حياة الموصي ، فيكون الحكم مثل الصورة السابقة ، لأنّه ينقل هذا الحقّ بعد موت الموصى له إلى وارثه. وأمّا إن قلنا بأنّ قبول الموصى له في حال حياة الموصي وكذلك ردّه لا أثر له ، فيكون لغوا ، أي لا حقّ له ، فليس للإرث موضوع فيكون الوارث أجنبيا ، ولا مجال للقول بأنّه يقوم مقامه في القبول والردّ.

٢٣٨

نعم مقتضى إطلاق رواية محمّد بن قيس المتقدّمة في الفرع السابق وروايات أخر أنّ الوصيّة للوارث ، سواء قبل الموصى له في حياته أو لم يقبل.

ثمَّ إنّ مقتضى إطلاق تلك الروايات أنّ الوصيّة تعطي للوارث من دون الاحتياج إلى قبوله ، اللهم إلاّ أن يدّعى الإجماع على لزوم القبول من الوارث ، كما يظهر من بعض عباراتهم. وحكى في الجواهر (١) عن كشف الرموز (٢) ما يقرب من ذلك.

فرع : لو ردّ الموصى له في حياة الموصي فهل تبطل الوصيّة كما لو ردّها بعد موت الموصي ، أم لا‌ فيجوز له القبول بعد الردّ كما هو المشهور؟

والعمدة في دليلهم هو أنّ محلّ القبول والردّ بعد وفاة الموصي ، لأنّ الوصيّة عبارة عن إنشاء ملكيّة مال أو منفعة للموصى له بعد وفاته ، فالإنشاء في حال حياة الموصي ولكن ظرف تحقّق المنشأ على حسب الإيجاب هو بعد وفاة الموصي ، وأمّا في حال حياته فلم يجعل له شي‌ء فلا موضوع لا للردّ ولا للقبول ، فلو ردّ في حال حياة الموصي لا يؤثّر في شي‌ء بل القبول هو الذي يقع في ظرف هو ظرف الردّ والقبول.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد المحقّق قدس‌سره حيث قال في الشرائع : فإن ردّ في حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرّد (٣). هذا إذا كان الردّ في حال حياة الموصي ، وأمّا إن كان ردّه بعد موت الموصي وكان ردّه هذا قبل أن يقبل ، فتبطل الوصيّة ولا يبقى موضوع للقبول فيما بعد. وهذا الحكم إجماعي لا خلاف فيه من أحد.

والسرّ في عدم تأثير القبول بعد الردّ هو أنّ العقد والمعاهدة بين شخصين لا يمكن إلاّ بتعهّد الموجب والتزامه بما أوجب في قبال تعهّد الآخر بشي‌ء أو أمر ، وإلاّ لا يقع‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٢٥٩.

(٢) « كشف الرموز » ج ٢ ، ص ٧٧.

(٣) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢٤٣.

٢٣٩

العقد. وهذا إذا لم يكن ردّ ولا قبول ، وأمّا إذا ردّ فلا يحتمل إبقاء العقد والعهد بينهما إلاّ إذا وقع إنشاء وإيجاب جديد كي يكون القبول قبول ذلك الإيجاب الجديد.

وأمّا إن كان ردّه بعد وفاة الموصي وبعد أن قبل بعد الوفاة الموصي وبعد قبض الوصيّة أيضا ، فمثل هذا الردّ لا أثر له ، لأنّه بالقبول والقبض بعد موت الموصي يستقرّ الملك للموصى له ، ولا يخرج إلاّ بالأسباب المخرجة شرعا كبيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك من المخرجات.

نعم وقع الكلام فيما إذ ردّ بعد القبول بعد موت الموصي ولكن كان ردّه قبل أن يقبض الوصيّة ، بمعنى أنّ الموصى له بعد موت الموصي قبل ، ثمَّ ردّ قبل أن يقبض ، فقيل : تبطل الوصيّة ، وقيل : لا تبطل ، وهو الأظهر ، لوجوه :

أوّلا : لكونه مشهورا بين الطائفة ، بل قيل كاد أن يكون إجماعا.

وثانيا : إنّ العقد بكلا ركنية وجد وتمَّ ، ولم يكن شرط في البين غير موجود ، فالنتيجة وهو استقرار الملك للموصى له حصلت ، فلا وجه للبطلان.

وثالثا : لم يدلّ دليل من آية أو رواية أو إجماع على أنّ القبض شرط في صحّة الوصيّة.

فرع : لو ردّ الموصى له بعضا وقبل بعضا ممّا أوصى له صحّ فيما قبله وتبطل فيما ردّه‌ ، خصوصا فيما إذا كان كلّ واحد ممّا يقبل ويردّ له وجود مستقلّ غير مربوط بالآخر ، مثلا لو أوصى بداره وبستانه لشخص ، فبعد وفاته واطّلاع الموصى له قبل الدار وردّ البستان أو بالعكس ، صحّ فيما قبل وبطل فيما يردّ إعطاء لكلّ واحد منهما حقّه.

وقال في جامع المقاصد : وليست الوصيّة كالبيع ونحوه يجب فيها مطابقة القبول‌

٢٤٠