القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

فرع : قال في الشرائع : إذا قال أحلتك عليه فقبض ، فقال المحيل : قصدت الوكالة‌ ، وقال المحتال : إنّما أحلتني بما عليك ، فالقول قول المحيل ، لأنّه أعرف بلفظه وفيه تردّد (١).

في المسألة صور :

إحديها : ما حكيناها عن الشرائع. وحاصل هذه الصورة هو أنّه لو كان لرجل دين على رجل‌ ، فقال لدائنه : أحلتك عليه ، فقبض الدائن من ذلك الرجل ، فوقع النزاع بين المحيل وذلك الدائن ، وادّعى المحيل أنّي قصدت الوكالة من قولي : أحلتك عليه ، وادّعى الدائن الحوالة كما هو ظاهر اللفظ.

وثمرة هذا النزاع هو أنّه لو كان ادّعاء المالك المحيل صحيحا فالمال المأخوذ من ذلك الرجل ليس ملكا للدائن ، بل ملك للمحيل ، فلو كان له نماء أو ارتفاع قيمة فكلّها للمحيل. وأمّا لو كان قول المحتال صحيحا فيكون المال المأخوذ ملكا له والنماء له.

وهناك ثمرات أخر لا تخفى على الفقيه.

فقد يقال ـ كما في الشرائع في العبارة السابقة ـ القول قول المحيل ، وإن أظهر التردّد فيه بعد هذه العبارة. وكما في القواعد حيث قال : والأقرب تقديم قول المحيل. (٢)

وما ذكراه في وجه تقديم قول المحيل وجهان :

الأوّل : أنّ المحيل أعرف بلفظه وقصده ، والمراد من كونه أعرف بلفظه ، أي بأنّه استعمل لفظ « أحلت » استعمالا حقيقيّا أو أراد منه الوكالة مجازا ، وكذلك أعرف بما قصده من هذا اللفظ وأنّه هل أراد المعنى الحقيقي من لفظ « أحلت » أو قصد الوكالة ، بل‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٨١.

١٤١

لا يعرف ما أراد إلاّ من قبله ، فيسمع قوله إذا قال : أردت من لفظ أحلت الوكالة مجازا.

ثمَّ إنّ المراد من سماع قوله أنّ في مقام تشخيص المدّعي والمنكر بناء على ما هو الحقّ وأنّ المنكر هو الذي يكون قوله موافقا للحجّة الفعليّة ، فيكون المنكر هو المحيل ، بناء على أن يكون كونه أعرف بلفظه وقصده حجّة في مقام الإثبات ، فيكلّف المحتال بالبيّنة ، فإن لم يأت يتوجّه الحلف إلى المحيل. وهذا هو المراد من أنّ القول قوله. وأيضا الفرض في هذه الصورة هو كون النزاع بعد قبض المحتال المحال به.

والوجه الثاني : هو استصحاب بقاء حقّ المحتال على المحيل ، وبقاء حقّ المحيل على المحال عليه.

وفي كلا الوجهين نظر واضح :

أمّا الأوّل : أي كون المحيل أعرف بلفظه وقصده ، فهذا إن كان له فهو فيما إذا كان اللفظ مجملا ولم يكن له ظهور ، وأمّا اللفظ الظاهر في معنى يؤخذ بظاهره في كشف مراده ، والظهور حجّة في كشف مراد المتكلم حتّى فيما عليه ، ولذلك يؤخذ بأقاريره ، وإقراره حجّة عليه يلزم به ، وليس له أن يقول : ما أردت هذا المعنى بل أردت المعنى الفلاني من باب المجاز ، واستعمال اللفظ في غير ما وضع له أو بحذف أو إضمار أو تقدير أو غير ذلك ، كذلك في سائر أبواب المعاملات.

فإذا أوقع معاملة من المعاملات ثمَّ أنكر قصد تلك المعاملة التي يكون اللفظ ظاهرا فيها لا يسمع منه. والسرّ في ذلك أنّ بناء العقلاء على حجّية الظهورات وأنّها كاشفة عن مراد المتكلّم ، والشارع أمضى هذه الطريقة ومشى عليها ، وأصالة الحقيقة أصل عقلائي.

فإذا شككنا في وجود قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي أو على إرادة المعنى المجازي الفلاني ، فأصالة عدم القرينة هي المرجع ، وإن شئت قلت : أصالة الحقيقة. وفيما‌

١٤٢

نحن فيه الكلام في صورة عدم وجود قرينة أو الشكّ فيها ، ولو تنازعا في صورة الشكّ في وجود القرينة فالأصل عدمها.

وبناء على ما ذكرنا لا يبقى وجه للوجه الثاني ، لحكومة الأمارات على الأصول العمليّة وإن كانت تنزيليّة ، كالاستصحاب المدّعى في المقام.

ثمَّ إنّه لا يقال : إنّ استصحاب بقاء حقّ المحيل على المحال عليه لا يجري على كلا التقديرين ، سواء كان المراد من لفظ « أحلت » الذي قاله للمحتال هي الحوالة أو الوكالة. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّه وكيلا في قبض حقّ المحيل ، والمفروض أنّه قبضه فلا يبقى شكّ في بقاء حقّ المحيل على المحال عليه كي يستصحب ، لأنّه على تقدير الوكالة ليس وكيلا في قبض حقّ المحيل ، بل وكيل في قبض مقدار من المال ، فيمكن بقاء الحقّ في عهدته ، ويكون ما يأخذه الوكيل دينا في ذمّة الموكّل.

نعم إذا كان حقّ المحيل الموكّل على المحال عليه مع دينه منه بتوسط الوكيل مساويا في الجنس والنوع والصفة والمقدار ، فيتهاتران قهرا.

الصورة الثانية : أن يكون هذا النزاع بينهما قبل القبض.

وفي هذه الصورة لم يتردّد في الشرائع مثل الصورة الأولى بل قال : أمّا لو لم يقبض واختلفا فالقول قول المحيل قطعا (١).

ولعلّ وجه الفرق بين الصورتين هو أنّه في الأولى على تقدير كونه حوالة يكون ما أخذه المحتال ملكا له ، فيكون دعوى المحيل على ذي اليد الذي يدّعي ملكيّة ما في يده واليد أمارة الملكيّة ، فيكون المحيل مدّعيا والمحتال منكرا ، للضابط الذي ذكرناه لتشخيص المدّعي والمنكر. وقد ذكرنا أنّ كون القول قوله هو أن يكون منكرا.

فيمكن أن يدّعى أحد أنّه إن كان النزاع بعد القبض ، فليس القول قول المحيل لما‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١١٤.

١٤٣

ذكرنا ، بل هو مدّع ، لأنّ الحجّة الفعليّة مع المحتال وهي اليد ، وأمّا لو كان قبل القبض فلا يد للمحتال على المال ، فيرجع النزاع إلى مفاد قوله « أحلت » ، وقد سبق أنّه أعرف بمفاد لفظه وقصده ، فيكون القول قول المحيل قطعا.

وفيه أوّلا : ما عرفت من أنّ ظهور قوله « أحلت » في الحوالة حجّة وأمارة على أنّ المنشأ حوالة ، فمدّعى الحوالة هو الذي قوله موافق للحجة الفعليّة ولا فرق في ذلك بين أن يكون دعواه قبل القبض أو بعده ، فلا تصل النوبة إلى أنّه مالك من جهة يده عليه ، واليد أمارة الملكيّة ، فتكون قول المحيل من قبيل دعوى الأجنبي على المالك ذي اليد الذي هو المحتال هاهنا ، فيكون القول قول المحتال.

وثانيا : محطّ الدعوى ومصبّها هو أنّ المنشأ حوالة أم وكالة ، والقبض وعدمه أجنبي عن هذا المقام ، وفيه لا بدّ من إتيان الدليل على أنّ أيّ واحد منهما هو المنشأ ، ومعلوم أنّ ظهور لفظ يعيّن أنّ المنشأ هي الحوالة لا الوكالة.

الصورة الثالثة : عكس هذا الفرض ، وهو أن يدّعى المحيل الحوالة ويدّعى المحتال الوكالة.

وقال في الشرائع : القول قول المحتال (١).

ولكن يرد عليه : أنّه بناء على ما اختاره في الفرض الأوّل أنّه أعرف بلفظه وقصده وقال : إنّ القول قول المحيل ، مع أنّ المحيل هناك ادّعى إرادة الوكالة عن لفظ الحوالة وهاهنا يدّعى إرادة الحوالة من لفظ الحوالة ، فإذا صدق هناك لأنّه أعرف بما أراد فهاهنا لا بدّ أن يصدق بطريق أولى ، لأنّه هناك يدّعى إرادة خلاف الظاهر وهاهنا يدّعى إرادة ما هو ظاهر اللفظ ، ودعواه هاهنا على طريقة العرف والعقلاء وهناك على خلاف طريقتهم.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١١٤.

١٤٤

ولكن مع ذلك كلّه يمكن توجيه ما ذكره في الشرائع بأنّ لفظ « أحلت » يحتمل فيه أن يكون بمعنى الحوالة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره ، ويحتمل أن يكون المراد منه تحويل حقّ المطالبة عمّن هو مديون له إلى آخر ، فيكون نائبا عنه في المطالبة فقط ، لا أنّ ذمّة المديون تشتغل للمحتال ، فإذا كان اللفظ متحمّلا لمعنيين ، فتعيّن أحدهما يحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام ، فيكون مجملا ، فالمرجع هي الأصول العمليّة ، ومقتضاها هو سماع قول المحتال ، لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل على المحال عليه ، وحقّ المحتال على المحيل.

ويمكن أيضا أن يقال : بأنّ الحوالة الشرعيّة متضمّنة لمعنى الوكالة ، أي أذن المالك المحيل في القبض والأخذ عن المحال عليه ، غاية الأمر لها خصوصيّة زائدة وهي أنّ ماله أخذه عن المحال عليه عبارة عن استيفاء حقّه الذي انتقل من ذمّة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فالقدر المتيقّن الذي لا نزاع فيه إنشاء المعنى الأوّل ، أي تحويل حقّ المطالبة. وأمّا الخصوصيّة الزائدة ، أي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى المحال عليه فغير معلوم ، وتكون مجرى أصالة العدم.

ولكنّك خبير بأنّ أمثال هذه التوجيهات خلاف ظاهر لفظ « أحلت » ، وهذه اللفظة ظاهرة عرفا وشرعا في الحوالة الشرعيّة التي عبارة عن تحويل ما في ذمّته إلى ذمّة غيره وقد ذكرنا أنّ الظاهر حجّة وأمارة ، ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة.

نعم لو لم يكن لفظ « أحلت » في البين ، وكان النزاع بينهما بأن يقول الدائن للذي هو مديون له : وكّلتني في أخذ مبلغ كذا من زيد الذي هو مديون لك وينكر كون ما ذكره المحيل حوالة ، والمحيل المديون لهذا المحتال يدّعي أنّي حوّلتك بمالك عليّ على زيد بمالي عليه ، فحينئذ لا بأس بأن يقال في مقام تشخيص المدّعي والمنكر إنّ القول قول المحتال ، لموافقته للحجّة الفعليّة التي هي المناط في كونه منكرا ، وفي سماع قوله ، إذ‌

١٤٥

قوله موافق لأصالة بقاء الحقّين ، أي حقّ المحيل والمحتال ، وقد تقدّم بيانه.

ولا يجوز للمحتال الذي ينكر الحوالة ويدّعي الوكالة مع إنكار المحيل الوكالة أخذ ما يدّعي الوكالة فيه ، لأنّ إنكار المحيل المديون لوكالة المحتال بمنزلة عزله ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة في أيّ وقت شاء له أن يعزله ، فإذا قال : أنت لست بوكيلي لا يخلو من أحد أمرين : إمّا ليس بوكيل واقعا فليس له أن يقبض ما يدّعي الوكالة فيه ، وإمّا وكيل واقعا والمحتال صادق في دعواه فينعزل بهذه العبارة ، فلا يجوز له القبض على كلّ حال.

فرع : إذا كان له على اثنين ألف درهم مثلا بالسويّة‌ ، أي كان على كلّ واحد خمسمائة مثلا ، وكان كلّ واحد منهما كفيلا أي ضامنا لصاحبه ، وكان لرجل آخر عليه ألف درهم فأحاله عليهما ، صحّ هذا الحوالة ، لتماميّة أركانها ، وشمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم » وسائر الإطلاقات لها.

قال في الشرائع : وإن حصل الرفق في المطالبة (١).

ولعلّ مراده أنّه بناء على أنّ مقتضى هذه الحوالة هو جواز مراجعة المحتال إلى كلّ واحد من المحال عليهما ومطالبته بالألف ، وذلك من جهة أنّ كلّ واحد منهما عليه خمسمائة من ناحية الدين وخمسمائة من ناحية ضمانه لصاحبه.

فقوله في الشرائع « وإن حصل الرفق » دفع توهّم ، وهو أنّ الحوالة لا تقتضي أزيد من اشتغال ذمّة المحال عليه بنفس ما هو في ذمّة المحيل بلا زيادة ولا نقيصة ، وهاهنا توجب الحوالة زيادة وهو الارتفاق ، وذلك لأنّ المحتال قبل هذه الحوالة كان يستحقّ استيفاء دينه من شخص واحد وهو المحيل ، وبعد الحوالة له أن يستوفي من كلّ واحد‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١١٤.

١٤٦

منهما ، وهذا نحو إرفاق حصل من ناحية الحوالة.

وجوابه ، أنّ حصول مثل هذه الإرفاقات لا تضرّ بصحّة الحوالة إذا كانت واجدة لشرائط الصحّة التي تقدّم ذكرها ، لشمول أدلّة تشريعها لها.

ألا ترى أنّه يجوز الإحالة على من هو إملاء وأوفى من المحيل ، وإذا كان المحيل صعب الوصول إليه فيحيل دائنه إلى طرف له محلّ شغل في السوق والوصول إليه في كمال السهولة ، وتحصيل الدين أسهل منه بكثير عن المحيل.

نعم لو كانت الزيادة في نفس ما أحال به وهو الذي كان في ذمّة المحيل ، فهو محلّ الإشكال ، لما بيّنّا أنّ حقيقة الحوالة عندنا تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة شخص آخر بالشرائط المتقدّمة بلا زيادة. وأمّا اختلاف الأحوال في ناحية المحيل والمحتال والمحال عليه فلا بأس به إن كانت واجدة لشرائط الصحّة.

نعم هاهنا إشكال آخر أورده في المختلف (١) على ما قاله الشيخ قدس‌سره في المبسوط ، فإنّه أوّل من ذكر هذا الفرع بهذه الصورة في المبسوط على حسب اطّلاعنا.

وخلاصته : أنّ رجوع المحتال إلى كلّ واحد منهما بتمام الألف في المثل المفروض إنّما يستقيم على مذهب من يقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وأمّا بناء على ما هو المختار عند الطائفة من أنّه عبارة عن نقل ما هو في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة كلّ واحد منهما بتمام الألف ، وذلك من جهة أنّ بضمان كلّ واحد منهما لصاحبه ينتقل ما في ذمّة صاحبه من الدين الأصلي إلى ذمّة ذلك الضامن ، وهو في المثال المفروض خمسمائة درهم.

فالنتيجة أنّ ما في ذمّة كلّ واحد منهما يتبدّل بما في ذمّة الآخر وهو خمسمائة درهم في المثال المذكور ، فبعد الضمان أيضا ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ خمسمائة‌

__________________

(١) « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٩٧.

١٤٧

مثل قبل الضمان.

إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ قبل الضمان كانت الخمسمائة التي في ذمّة كلّ واحد منهما هي التي كانت من ناحية الدين الأصلي ، والتي بعد الضمان هي التي كانت في ذمّة صاحبه بالدين الأصلي وانتقل إلى ذمّته بواسطة الضمان ، وإلاّ على كلّ حال ليس في ذمّة كلّ واحد منهما إلاّ نفس ذلك المقدار الأوّل ، فليس له من كلّ واحد منهما مطالبة الألف على كلّ حال ، إلاّ على القول بأنّ حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة أخرى.

لأنّه لو كان كذلك فالدين الأصلي لكلّ واحد منهما لم ينتقل عن مكانه ، وذمّة كلّ واحد منهما مشغولة به كما كانت ، وبواسطة الضمان وضمّ ذمّته إلى صاحبه المديون أيضا بخمسمائة يستحقّ المحتال مطالبته به أيضا ، فيستحقّ مطالبة الألف من كلّ واحد منهما ، خمسمائة بواسطة الدين الأصلي ، وخمسمائة بواسطة ضمانه الذي يقتضي ضمّ ذمّته إلى ذمّة المديون.

والشيخ قدس‌سره في المبسوط يصرّح بهذا أم لا يمكن يستند إليه مثل هذا القول الذي قد صرح بأنّه خلاف ما عليه الطائفة وهو قول مخالفينا.

ولذلك وجّه كلامه في الجواهر بأنّ مراده من قوله : « وكلّ واحد منهما ضامن لصاحبه » أي : كفيل (١) ومن المعلوم أنّ الكفالة ـ وهو الالتزام بإحضار من عليه الحقّ ـ لا يوجب انتقال ما في ذمّة من عليه الحقّ إلى ذمّة الكفيل ، فلا يبقى مجال لإشكال المختلف.

ولكن الإنصاف أنّ عبارة المبسوط لا تلائم مع هذا التوجيه ، لأنّه صرّح في المفروض والمثل المذكور بعد قوله « إذا كان له على رجلين ألف درهم على كلّ واحد خمسمائة وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه » بقوله : فإنّ للمضمون له أن يطالب أيّهما‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٨١.

١٤٨

شاء بالألف (١).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تلائم مع الكفالة التي في قبال الضمان وقسم آخر من كونه زعيما وهو الالتزام بإحضار الغريم مؤجّلا أو معجّلا ، بل لو كان كفيلا بذلك المعنى ، له أن يطالب في المثل المذكور بخمسمائة التي هي دينه وإحضار الغريم الآخر ، لا أن يطالب بالألف.

نعم لو هو أعطى الألف من عند نفسه أو باستدعاء صاحبه الغريم الآخر تبرأ ذمّتهما بلا كلام ، إذ لا يبقى بعد ذلك حقّ للدائن كي تكون ذمّة الرجلين الغريمين أو أحدهما مشغولة بشي‌ء له.

ولهذا الفرع شقوق وصور باعتبار احالة الدائن إلى كليهما أو إلى جميعهم إذا كانوا أكثر من اثنين ، أو إلى بعضهم ، وباعتبار إبراء الدائن جميعهم أو بعضهم ، وباعتبار أداء بعضهم أو جميعهم بعض ما عليهم أو جميعه. ذكر أغلبها الشيخ في المبسوط (٢) وإن شئت فراجع إليه ، وتركنا ذكر هذه الصور لوضوح حكمها بعد معرفة المباني من أنّ حقيقة الحوالة تحويل ما في الذمّة إلى ذمّة الغير وأنّ إبراء الأصل أي الدين الأوّل يوجب إبراء الضمانات المتعاقبة والمترتّبة على الدين الأوّل ، وأنّ الوكالة يمكن أن تقع بلفظ الحوالة أو لا يمكن ، فلا يحتاج إلى ذكرها والنقص والإبرام فيها.

فرع : هل يجوز شرط الأجل في الحوالة أم لا‌ ، بمعنى أنّه يحيل دينه من زيد على عمرو ويشترط عليه أن لا يقبض ذلك الدين من عمرو إلاّ بعد مضيّ مدّة معيّنة ، كانت تلك المدّة طويلة أم قصيرة؟

الظاهر أنّه لا بأس بهذا الاشتراط ، وأنّه لا ينافي مقتضى عقد الحوالة ، لأنّ عقد‌

__________________

(١) « المبسوط » ج ٢ ، ص ٣٢٩.

(٢) « المبسوط » ج ٢ ، ص ٣١٧.

١٤٩

الحوالة يقتضي انتقال ما في ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه وأن تكون ذمّة المحال عليه مشغولة للمحتال بدل ذمّة المحيل ، وأمّا جواز المطالبة فورا فليس من مقتضيات عقد الحوالة ، وإنّما هو من آثار نفس الدين لو لم يكن مؤجّلا أو مشروطا بعدم المطالبة والقبض إلاّ بعد مضيّ مدّة.

فلو شرط المحيل على المحتال عدم القبض إلاّ بعد مضيّ مدّة فلا مانع من نفوذ هذا الشرط ، لأنّه شرط جائز لأنّه لا يحتمل عدم جوازه إلاّ من ناحية كونه مخالفا لمقتضى العقد ، وقد عرفت عدم كونه مخالفا لمقتضى عقد الحوالة ، فيشمله عموم « المؤمنون عند شروطهم ».

وهذا أمر متعارف في الأسواق عند التّجار ، خصوصا إذا كان مبلغ المحال به كثيرا والمحيل في بلد والمحال عليه في بلد آخر ، فيجعلون في ورقة الحوالة مدّة كي لا يقع المحال عليه في ضيق وحرج من ناحية تلك الحوالة ، ويتمكّن من تهيئة المبلغ في تلك المدّة ، فكانوا يكتبون في الورقة : سلّم إلى فلان ـ أي المحتال ـ مبلغ كذا بعد مضيّ ثلاثة أيّام من رؤية هذه الورقة.

المقام الثالث

في الكفالة‌

وهي في اصطلاح الفقهاء عبارة عن التعهّد والالتزام لشخص بإحضار من له حقّ عليه مؤجّلا أو معجّلا ، أو بإحضار شي‌ء آخر كالأعيان المضمونة.

وقال في القواعد : وهي عقد شرّع للتعهّد بالنفس (١).

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٨٢.

١٥٠

وكذلك قال في الجواهر : والمعروف في تعريفها أنّها عقد شرّع للتعهّد بالنفس (١).

والظاهر أنّ الكفالة عبارة عن نفس التعهّد والالتزام بإحضار شخص أو عين ، كما ذكرنا.

والعقد الذي ذكروه في مقام التعريف إن كان المراد به ألفاظ الإيجاب والقبول ، فهو سبب وآلة لإنشاء الكفالة لا أنّها عين الكفالة ، والحال في الإيجاب والقبول فيها كحالهما في سائر عناوين المعاملات من البيع والصلح والرهن والإجارة وغيرها ، من أنّهما أسباب لها لا أنّها عين المسبّبات وتلك العناوين.

وعلى كلّ فالأمر فيها سهل بعد وضوح المقصود ، وما هو المهمّ في المقام ، أي معنى الكفالة التي هي موضوعة للأحكام.

فرع : يشترط في صحّة الكفالة أمور :

منها : رضا الكفيل والمكفول له‌ ، ووجهه واضح ، إذ الكفالة عقد واقع بين الكفيل والمكفول له ، وصحّة كلّ عقد منوطة برضاء المتعاقدين بما هو مضمون العقد ، إذ لا تتحقّق إنشاء المعاملة حقيقة من المتعاقدين إلاّ باستعمالهما لفظ الإيجاب والقبول في معناهما بإرادة جدّية ، وهذا ملازم مع رضا كلّ واحد منهما بما هو مضمون ، فلو لم يكونا راضيين أو أحدهما لم يتحقّق الإنشاء الحقيقي ، فلا عقد ولا عهد بينهما كي يكون موضوعا للصحّة ، وهذا واضح جدّا.

ولكن المراد من الرضاء الرضا المعاملي لا طيب النفس ، وقد حقق المسألة في شرائط عقد البيع. وقد تكلّم شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره في مكاسبه مفصّلا في اعتبار الرضا في عقد البيع (٢).

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٨٥.

(٢) « المكاسب » ص ١١٨.

١٥١

مضافا إلى ادّعاء الإجماع من صاحب الجواهر قدس‌سره بقسميه ، وقال : لا إشكال بل ولا خلاف في أنّه يعتبر رضاهما أي الكفيل والمكفول له ، بل الإجماع بقسميه (١).

هذا بالنسبة إلى الكفيل والمكفول له.

وأمّا بالنسبة إلى المكفول فهل يعتبر رضاه أم لا؟

المشهور بل في التذكرة قال : عند علمائنا عدم الاعتبار (٢) ، وقال الشيخ في المبسوط باعتبار رضاه ، وقال ابن إدريس أيضا : الكفالة صحيحة إذا كان بإذن من تكفّل عنه (٣) ، ونسب في الجواهر إلى القاضي وابن حمزة أيضا اعتباره ، وقد حكى عن العلاّمة أنّه قال : وفيه أي في اعتبار الرضا في المكفول قوّة (٤).

وقال في الجواهر : لا استبعاد في تركيب عقد الكفالة من إيجاب من الكفيل وقبولين : أحدهما من المكفول له ، والآخر من المكفول (٥).

وإلى هذا مال سيّدنا الأستاذ فقيه عصره السيّد الأصفهاني قدس‌سره في وسيلته وقال : والأحوط اعتباره ، بل الأحوط كونه طرفا للعقد ، بأن يكون عقدها مركّبا من إيجاب وقبولين من المكفول له والمكفول (٦).

ولا شكّ في أنّه لو كان الأمر كذلك لكان اعتباره من الواضحات ، لما ذكرنا من أنّ إنشاء الإيجاب لا بدّ وأن يكون عن إرادة جدّية بمضمونهما ، فبناء على كون المكفول أحد القابلين لا مناص عن القول باعتبار الرضا في المكفول أيضا مثل المكفول له.

ولكنّ الشأن في صحّة هذا الأمر وأنّه من أركان عقد الكفالة كما توهّم أم لا‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٨٦.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ١٠٠.

(٣) « السرائر » ج ٢ ، ص ٧٧.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٨٧.

(٥) المصدر.

(٦) « وسيلة النجاة » ج ٢ ، ص ٢١٤.

١٥٢

والعقد واقع بين الكفيل والمكفول له والمكفول أجنبي عن هذا الأمر ، وذلك من جهة أنّ المقصود من عقد الكفالة هو وثوق المكفول له واطمينانه بعدم ذهاب حقّه ، وهذا أمر راجع إلى الكفيل والمكفول له والمكفول ، لا شأن له في هذا المقام ، ويكون حاله في باب الكفالة مثل حال المضمون عنه في باب الضمان. فكما أنّ المضمون عنه خارج عن أطراف العقد ـ والعقد واقع بين الضامن والمضمون له ـ فكذلك المكفول.

وبناء على صحّة كفالة الأعيان المضمونة حال المكفول إذا كان إنسانا حال المكفول إذا كان من الأعيان المضمونة فكما لا يمكن ادّعاء اعتبار الرضا فيها ولا يعقل ، فكذلك إذا كان إنسانا.

وبعبارة أخرى : التعاقد والتعاهد بين الكفيل والمكفول له ، لأنّ الكفيل يتعهّد للمكفول له بإحضار ذلك مؤجّلا بأجل معيّن أو معجّلا ، وهذا العقد والتعاهد لا ربط له بالمكفول أصلا. وحال المكفول إذا كان من ذوي العقول حاله إذا كان من غير ذوي العقول ، مثل أن يكون حيوانا أو متاعا.

وأمّا ما ذكروا في وجه اعتبار رضاه أنّ وجهه إمكان إحضاره فإنّه متى لم يرض لم يلزمه الحضور معه ، فعجيب ، لأنّ طريق إحضاره ليس منحصرا بكونه راضيا بهذه الكفالة ، بل وإن لم يكن راضيا ولا يرى نفسه ملزما بالحضور ولكن الكفيل قادر على إحضاره بالطرق العادية ، وهذا المقدار يكفي في تحقّق الكفالة وشمول الإطلاقات له.

ومنها : تعيين المكفول‌. قال في القواعد : فلو قال : كفلت أحدهما ، أو قال : كفلت زيدا فإن لم آت به فبعمرو ، أو بزيد أو عمرو بطلت (١). وذلك لما قلنا من أنّ حقيقة الكفالة هو التعهّد بإحضار شخص ، ومع الترديد أو كونه مجهولا كيف يتعهّد بإحضاره.

ولكن الإنصاف أنّه لو قال : كفلت أحد هذين ، أي أتعهّد بإحضار أحد هذين تتحقّق الكفالة عرفا وتشمله الإطلاقات ، إلاّ أن يرد دليل خاصّ على بطلان مثل هذا‌

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٨٢.

١٥٣

التعهّد ، وعدم تحقّق الكفالة شرعا من إجماع أو غيره.

ومنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر‌ ، سواء كان مشكوك الوقوع أو معلوم. والعمدة في دليل بطلان التعليق في جميع العقود التي منها الكفالة هو الإجماع ، وإلاّ فلا مانع عقلا.

نعم تعليق الإنشاء عقلا لا يمكن ، وذلك لأنّ الإنشاء في التشريعيّات مثل الإيجاد في التكوينيّات ، وكما أنّ الثاني لا يمكن التعليق فيه بل أمره دائر بين الوجود والعدم كذلك الحال في الأوّل ، لأنّ الإنشاء أيضا إيجاد في عالم التشريع.

وأمّا القضايا الشرطيّة في لسان الشرع ، فالإنشاء منجّز على الموضوع المقيّد ، فقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) ليس الإنشاء معلقّا ، بل المعلّق هو المنشأ. وبعبارة أخرى : موضوع الحكم مقيّد ، فكأنّه تعالى قال : المستطيع يجب عليه ، فإنشاء الحكم منجّزا على هذا الموضوع المقيّد. وكذا قوله تعالى في باب الجعالة ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (٢).

قال العلاّمة قدس‌سره في القواعد : لو قال : إن جئت فأنا كفيل به ، لم يصحّ على إشكال (٣).

ولعلّ غرضه من الإشكال هو ورود رواية على الصحّة ، وهي رواية أبي العبّاس البقباق قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل كفل لرجل بنفس رجل وقال : إن جئت به وإلاّ فعليّ خمسمائة درهم ، قال : « عليه نفسه ولا شي‌ء عليه من الدراهم ». فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، قال : « تلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه » (٤).

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٢) يوسف (١٢) : ٧٢.

(٣) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٨٢.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٠٤ ، باب الكفالة والحوالة ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٠ ، ح ٤٩٣ ، باب في الكفالات والضمانات ، ح ١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٧ ، أبواب الضمان ، باب ١٠ ، ح ١.

١٥٤

قال فخر المحقّقين قدس‌سره في الإيضاح (١) في تقريب دلالة الرواية على صحّة الكفالة مع التعليق بأنّ ظاهرها هو أنّ لزوم دفع الخمسمائة درهم معلّق على عدم الإتيان به ، وهذا ملازم مع كون لزوم الإتيان به وإحضاره معلّقا على عدم الدفع ، فيكون وجوب إحضاره الذي هو عبارة أخرى عن الكفالة معلّقا على عدم الدفع ، وقد حكم الإمام عليه‌السلام بصحّة مثل هذه الكفالة وأفاد أنّ حكم الإمام عليه‌السلام في جواب سؤال الراوي بنحو قضيّة المانعة الخلوّ ، أي لا يخلو وظيفته وما يجب عليه من أحد أمرين : إمّا دفع الخمسمائة ، وإمّا الإتيان بذلك الرجل الذي كفل بإحضاره والإتيان به.

وهذا كلام عجيب ، لأنّ الرواية ظاهرة في أنّ لزوم الدفع معلّق على عدم الإتيان به ، وأمّا لزوم الإتيان فليس معلّقا على عدم الدفع ، بل هو لازم على كلّ حال ، دفع أو لم يدفع. نعم هو التزم بالدفع معلّقا على عدم الإتيان به ، وهذا تعليق في التزامه وليس تعليقا لا في الكفالة ولا في الضمان المصطلح ، بل تعليق في ما التزم به ، فالرواية أجنبيّة عن المقام. ولو كانت دالّة على تعليق الكفالة يجب طرحها ، للإجماع على خلافها.

وقد ذكروا هاهنا لبطلان التعليق وجوها تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها مضافا إلى عدم صحّتها في نفسها.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ الشرائط العامّة التي ذكروها لصحّة العقود تأتي كلّها في عقد الكفالة أيضا ، من البلوغ والعقل والرشد والاختيار بالنسبة إلى المتعاقدين ، أي الكفيل والمكفول له إن كان قابلا لأن يقع طرفا في العقد ، وإلاّ ففي وليّه.

وبعبارة أخرى : هذه الشروط لمطلق المتعاقدين ، ولا اختصاص لها بعقد خاصّ ، فلا يجب ذكرها وتكرارها في كلّ عقد بعد أن كان دأب الفقهاء وديدنهم ذكرها في أوّل أبواب المعاملات أعني البيع. وإنّما ذكروا خصوص التنجيز لأجل الرواية التي ذكرناها واستظهار بعضهم عدم اعتبار التنجيز فيها. وقد عرفت الحال فيها وأنّه لا دلالة لها‌

__________________

(١) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ٩٨.

١٥٥

على ذلك.

فرع : تصحّ الكفالة حالّة ومؤجّلة‌ ، وذلك من جهة أنّ الكفالة كما تقدّم عبارة عن التزام لشخص بإحضار شخص آخر لحق للأوّل ـ أي المكفول له ـ على الثاني المسمّى بالمكفول لاستيفاء حقّه منه.

وللملتزم أن يلتزم بإحضاره مطلقا من قيد التعجيل والتأجيل ، أو يقيّد الملتزم به ـ أي الإحضار ـ بالتعجيل أي حالاّ ، أو يقيّد بالتأجيل فيسمّى بالكفالة المؤجّلة.

والكفيل مختار في جعل التزامه على كلّ واحد من هذه الأوجه الثلاث ، والإنسان مختار في معاهداته والتزاماته ، إلاّ أن يكون ما التزم به حراما.

وأمّا دليل نفوذ هذه الالتزامات على الأوجه الثلاث ، فهي إطلاقات باب الكفالة.

أمّا صحّتها مؤجّلة ، فقد ادّعى في الروضة أنّه موضع وفاق ، وادّعى في الجواهر عدم الخلاف فيها (١).

وأمّا صحّتها حالّة ومعجّلة ، فقد حكى الخلاف فيها عن المفيد في المقنعة (٢) ، وعن الشيخ في النهاية (٣) ، وعن ابن حمزة (٤) ، وسلاّر (٥) ، والقاضي في أحد قوليه (٦) ، ولم يأتوا بدليل يركن إليه في تقييد الإطلاقات.

وأمّا ما ذكر في وجه عدم صحّتها من لغويّتها لو كانت حالّة لأنّ المكفول له أن‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٨٨.

(٢) « المقنعة » ص ٨١٥.

(٣) « النهاية » ص ٣١٥.

(٤) « الوسيلة » ص ٢٨١.

(٥) « المراسم » ص ٢٠٠.

(٦) حكى عنه في « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٩٩.

١٥٦

يطالبه في نفس وقت إيقاع الكفالة ومع حضور المديون ، وهذا يكون عبثا.

ففيه : أنّ مورد تعجيل الكفالة وكونها حالّة ليس منحصرا بهذا المورد المذكور كي يكون لغوا وعبثا ، بل يمكن أن يكون المكفول في نفس الوقت غائبا عن مجلس الكفالة بل غائبا عن البلد ، ولكن الكفيل متمكّن من إحضاره فورا ولو بتوسّط البرقية أو التلفون.

هذا ، مضافا إلى أنّ المراد من كونها حالّة ليس بمعناه الدقي ، بل بمعناه العرفي ولو بأن يكون زمان حضوره تميد إلى ساعات لا ينافي صدق كونها معجّلة وحالّة.

ثمَّ إنّه بعد الفراغ عن صحّة كونها مؤجّلة لا بدّ من تعيين مدّتها ، وذلك للإجماع أوّلا ، ولبطلان المعاملة الغرريّة بناء على صحّة رواية « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الغرر » (١) أو للإجماع على بطلان المعاملة الغرريّة.

والحاصل : أنّ الإجماع انعقد على أنّ العقد اللازم يجب أن لا يكون غرريّا وأنّه موجب لبطلانها.

هذا ، مضافا إلى أنّ العقلاء في العقود اللازمة يبنون على عدم صحّة المعاملة الغررية ، وهذا لا ينافي مسامحتهم في بعض مراتب الغرر ، وكأنّه لا يرونه غررا.

فرع : لا شبهة في أنّ للمكفول له مطالبة الكفيل بإحضار المكفول عاجلا في صورتين‌ من الصور الثلاث المتقدّمة ، وهما إذا كانت الكفالة حالّة أو مطلقة. وأمّا إن كانت مؤجّلة فلا يستحقّ المطالبة إلاّ بعد حلول أجلها.

__________________

(١) « عيون أخبار الرضا عليه‌السلام » ج ٢ ، ص ٤٥ ، ح ١٦٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٣٠ ، أبواب آداب التجارة ، باب ٤٠ ، ح ٣ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٢٨٣ ، أبواب آداب التجارة ، باب ٣٣ ، ح ١ ، « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ٢٥٤ ، في بيع الغرر ، ح ٣٣٧٦ ، « سنن الترمذي » ج ٢ ، ص ٣٤٩ ، باب ١٧ ، ح ١٢٤٨ ، « كنز العمّال » ج ٤ ، ص ٧٤ ، الفرع السابع في بيع الغرر ، ح ٩٥٨٥ ـ ٩٥٨٦.

١٥٧

ووجه ما ذكرنا هو التزام الكفيل بذلك ، فالمكفول له حسب التزام الكفيل يصير مستحقّا على الكفيل ما التزام به ، فما التزمه عاجلا يستحقّ عليه عاجلا ، ولو كانت مطلقة أيضا كذلك ، لأنّ الإطلاق يقتضي وجود أثر العقد بمحض وجوده من دون حالة منتظرة ، كما أنّه في باب البيع أو الإجارة مثلا تتحقّق ملكيّة العين في الأوّل ، والمنفعة في الثاني بمحض وجود عقديهما تامّين جامعين للأجزاء والشرائط مع فقد موانعهما ، فكذلك هاهنا بمحض وجود عقد الكفالة يوجد حقّ المطالبة بالإحضار للمكفول له الذي هو أثر هذا العقد.

وأمّا لو كان ما التزم به إحضاره بعد مضيّ زمان ومدّة معيّنة ، فلا يستحقّ إلاّ بعد مضيّ ذلك الزمان وحلول الأجل ، فإن أحضره حسب ما التزم به في الصور المذكورة حسب التزامه فهو ، وإلاّ يحبس حتّى يأتي به أو يؤدّى حقّ المكفول له على المكفول.

أمّا حبسه فمن جهة أنّ كلّ ممتنع عن أداء حقّ الغير ، للحاكم حبسه إلى أن يؤدّيه إن كان متمكّنا من الأداء وأمّا لو أدّى حقّ المكفول له فلا يحبس إن كان الأداء قبلا ويطلق لو كان الأداء في أثناء الحبس ، لأنّ بعد الأداء لا يبقى له حقّ كي يحبس الكفيل لأجله.

وهاهنا أخبار ذكرها في الكافي والفقيه والتهذيب تدلّ على حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول.

منها : ما نقل عن الكافي ، عن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أتي أمير المؤمنين برجل قد تكفّل بنفس رجل ، فحبسه وقال : اطلب صاحبك » (١).

ومنها : رواية أصبغ بن نباتة قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل تكفّل بنفس‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٠٥ ، باب الكفالة والحوالة ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٦ ، أبواب الضمان ، باب ٩ ، ح ١.

١٥٨

رجل أن يحبس وقال له : « اطلب صاحبك » (١).

ومنها : رواية إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أنّ عليّا عليه‌السلام أتي برجل كفل برجل بعينه ، فأخذ بالكفيل فقال : « احبسوه حتّى يأتي بصاحبه » (٢).

ومنها : رواية عامر بن مروان ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام عن على عليه‌السلام : « أنّه أتي برجل قد كفل بنفس رجل ، فحبسه فقال : اطلب صاحبك » (٣).

ولكن مفاد هذه الأخبار هو حبس الكفيل إلى أن يحضر المكفول ، وليس فيها التخيير بين أن يحضر المكفول أو يؤدّى حقّ المكفول له ، فلا بد من التماس دليل آخر لهذا التخيير. وقد عرفت أنّه مع أداء الحقّ لا يبقى شي‌ء يوجب الحبس أو الإحضار.

ويمكن أن يقال : إنّ ظاهر هذه الروايات وإن كان كما ذكر ، ولكن يمكن أن يكون الحكم بالحبس ـ إلى أن يحضر المكفول ـ في مورد امتناع الكفيل عن أداء حقّ المكفول له ، وإلاّ فالإحضار ليس له موضوعيّة وإنّما هو مقدّمة لاستيفاء الحقّ منه.

وما ذكره في الجواهر في وجه إلزامه بالإحضار وعدم قبول الأداء من قوله : إذ ربما يكون غرض المكفول له يتعلّق بالأداء من الغريم لا من غيره (٤).

فيه أوّلا : أنّ هذه الفروض النادرة لا يمكن أن تكون منشأ لجعل حكم كلّي وهو عدم قبول الأداء من الكفيل وإلزامه بإحضار المكفول مطلقا.

وثانيا : ليس للمكفول له حقّ إلاّ استيفاء حقّه وعدم ضياع ماله ، وهو يحصل‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٩٥ ، باب الكفالة ، ح ٣٤٠٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٦ ، أبواب الضمان ، باب ٧ ، ح ٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، ح ٤٨٦ ، باب في الكفالات والضمانات ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٦ ، أبواب الضمان ، باب ٩ ، ح ٣.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠٩ ، ح ٤٨٧ ، باب في الكفالات والضمانات ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، أبواب الضمان باب ٩ ، ح ٤.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٩٠.

١٥٩

بأداء الكفيل ، ووجوب الإحضار على الكفيل وجوب مقدّمي لاستيفاء الحقّ ، فإذا كان يصل حقّه إليه من دون الإحضار فلا معنى لوجوب الإحضار وجوبا تعيينيّا.

وبناء العقلاء في باب الكفالة هو هذا أيضا من الأوّل ، أي على أنّ الكفيل يلزم بأحد أمرين : إمّا إحضار المكفول ، وإمّا أداء حقّ المكفول له ، ولذلك لو امتنع إحضاره بجهة من الجهات يجب على الكفيل الغرامة.

ولعلّ إلى هذا يشير قوله عليه‌السلام ـ في وجه مرجوحيّة الكفالة ، وكراهة ارتكابها وحسن اجتنابها ـ : « الكفالة خسارة غرامة ندامة » (١). وخبر داود الرقي قال : « مكتوب في التوراة : كفالة ندامة غرامة » (٢) وغيرهما من الأخبار الأخر.

فرع : من أطلق غريما عن يد صاحب الحقّ قهرا وإجبارا ، ضمن إحضاره أو أداء ما عليه. وكذلك لو أطلق قاتلا عمدا عن يد وليّ الدم قهرا وإجبارا يلزم عليه إحضاره ، وإن تعذّر عليه إحضاره لموت القاتل أو لجهة أخرى يجب عليه دفع دية المقتول.

أمّا الأوّل : أي إطلاق الغريم عن يد صاحب الحقّ يوجب أحد الأمرين‌ ، فقد ذكروا له وجوها.

منها : الاتّفاق وعدم الخلاف‌ كما عن الرياض (٣) ، والإجماع كما حكى في الجواهر عن الصيمري (٤).

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٩٧ ، باب الكفالة ، ح ٣٤٠٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٤ ، أبواب الضمان ، باب ٧ ، ح ٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١٠ ، ح ٤٩٢ ، باب في الكفالات والضمانات ، ح ٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥٥ ، أبواب الضمان ، باب ٧ ، ح ٥.

(٣) « رياض المسائل » ج ١ ، ص ٥٩٩.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٩٨.

١٦٠