القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين

إنا لله وإنا إليه راجعون

لقد فاجأنا عند طبع هذا المجلد ـ المجلد السادس ـ من كتاب « القواعد الفقهية » القضاء الحاتم بمصيبة الدنيا والدين ، والكارثة الملمة بجامعة المسلمين ، وفات فقيد الأمة الإسلامية المؤلف قدس‌سره ونسأل الله تعالى ان يعوض الأمة الإسلامية عن هذه الخسارة الكبرى بأفضل العوض. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، لا راد لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، رضى برضاه ، وتسليما لأمره وقضائه.

أبيات في تاريخ وفات الإمام الراحل آية الله العظمى السيد البجنوردي قدس سره تفضل بها من النجف الأشرف سماحة الحجة السيد موسى آل بحر العلوم دامت بركاته :

قواعد الفقه بقت قائمة

آثارها على مرور الزمن

لم يبلها الدهر لأنها على

أساس منتهى الأصول تبتنى

قد أصبحت بعد أبي مهديها

موارد العقول ورد الألسن

فقلت لما أن قضى مؤرخا

راح وتبقى حسنات الحسن

١٣٩٥ ه‍ ـ ق

٥

فهرس الإجمالى

٥٦ ـ قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضاً .......................................... ٩

٥٧ ـ قاعدة الزعيم غارم ............................................... ٩٧

٥٨ ـ قاعدة الشفعة جائزة في كل شي‌ء ................................ ١٧٧

٥٩ ـ قاعدة الوصيّة حقّ على كلّ مسلم ................................ ٢٢١

٦

٥٦ ـ قاعدة

لا رهن إلاّ مقبوضا

٧
٨

قاعدة لا رهن إلاّ مقبوضا (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « لا رهن إلاّ مقبوضا ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌

وهو أمور :

الأوّل : قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١).

الثاني : رواية محمّد بن قيس عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا ». (٢)

وما رواه العيّاشي في تفسيره ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا رهن إلاّ مقبوضا » (٣).

__________________

(*) « ترجمه وتحقيق قاعدة فقهي لا رهن إلاّ مقبوضا » ، بررسى راشدي فرد ، ( ماجستير ) ، كلّية الهيات ، جامعة طهران ، ١٣٧٣.

(١) البقرة (٢) : آية ٢٨٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٧٦ ، ح ٧٧٩ ، باب الرهن ، ح ٣٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢٣ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ٣ ، ح ١.

(٣) « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ١٥٦ ، ح ٥٢٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢٤ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ٣ ، ح ٢.

٩

الجهة الثانية

في بيان المراد من هذه القاعدة‌

ظاهر هذه الجملة في الرواية نفي حقيقة الرهن بدون القبض ، كما هو شأن لا النافية للجنس ، فبناء على ذلك يكون القبض من مقوّمات حقيقة الرهن ، وبدونه لا يتحقّق الرهن.

ولا بدّ في توضيح المرام من بيان أمور :

الأوّل : بيان حقيقة الرهن عرفا وشرعا.

فنقول : قد عرّفه بعض بأنّه وثيقة لدين المرتهن (١). وهذا التعريف له مأخوذ من المعنى اللغوي ، إذ هو في اللغة عبارة عن وضع شي‌ء عند شخص ليكون نائبا عمّا أخذ منه ، وهذا عبارة أخرى عمّا ذكر في القاموس في معنى الرهن ، قال فيه : الرهن ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك (٢).

وأنت خبير بأنّ مرجع هذا إلى التعريف المذكور ، وينطبق على أخذ المرتهن الوثيقة من المديون لدينه.

وأيضا يقول في القاموس : وكلّ ما احتبس به شي‌ء فرهينة. (٣) وهذا أيضا يرجع إلى ذلك التعريف.

والى ما ذكرنا يرجع ما ذكروه من الحبس ، والدوام ، والثبات في سائر كتب اللغة (٤).

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٧٥ ، « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٩٤. ونسبه في « مجمع البحرين » ج ٦ ، ص ٢٥٨ إلى عرف الفقهاء‌

(٢) « القاموس المحيط » ج ٤ ، ص ٣٢٧ ( رهن )

(٣) المصدر‌

(٤) انظر : « المصباح المنير » ص ٢٤٢ ، « الصحاح » ج ٥ ، ص ٢١٢٩ ( رهن ).

١٠

وهذا المعنى اللغوي الذي ذكرناه هو المتفاهم العرفي من هذه الكلمة أيضا ، فمن موارد اتّفاق العرف واللغة بل الشرع أيضا.

وخلاصة الكلام : أنّ الرهن شرعا وعرفا ولغة عبارة عمّا يستوثق به المرتهن الدائن من ماله ، وقد ورد هذا المعنى في باب جواز الارتهان والاستيثاق من ماله في عدة روايات :

منها : رواية عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السلم في الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا ، قال : « نعم استوثق من مالك » (١).

ومثله رواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله (٢).

ومنها : رواية سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرهن يرهنه الرجل في سلم إذا أسلم في طعام أو متاع أو حيوان : فقال عليه‌السلام : « لا بأس بأن تستوثق من مالك » (٣). وروايات أخر بهذا المضمون (٤).

فمنها : ما عن دعائم الإسلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يكون الرهن إلاّ مقبوضا » (٥).

وقال عليه‌السلام أيضا في رواية أخرى : « ولا بأس برهن الحلي والطعام والأموال كلّها‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٥٩ ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح ٣٩٣٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ١ ، ح ١.

(٢) لم نعثر على رواية من داود بن سرحان بهذا المعنى ، ولعلّ سها قلمه الشريف حيث جاء في الوسائل بعد نقل رواية محمد بن مسلم : « وبإسناده عن داود بن سرحان. مثله ». أنظر : « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ١ ، ذيل ج ٢.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٦١ ، باب السلف في الطعام والحيوان وغيرهما ، ح ٣٩٤٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٤٢ ، ح ١٧٩ ، باب بيع المضمون ، ح ٦٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ١ ، ح ٤.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٢١ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ١.

(٥) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٢ ، ح ٢٤٤ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤١٩ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ٣ ، ح ١.

١١

إذا قبضت وإن لم تقبض فليس برهن » (١).

وعرّفه بعض بأنّه عبارة عن دفع العين للاستيثاق على الدين (٢). وقيل بأنّه عقد شرع للاستيثاق على الدين.

وكلّ هذه التعاريف يرجع إلى معنى واحد ، وهو أنّه بالمعنى الاسم المصدري هو المعنى الأوّل ، وسائر التعاريف إمّا لبيان المعنى المصدري ، أو لبيان ما ينشئ به هذا المعنى. ولا يهمّنا بيانها وشرحها والنقض والإبرام فيها بعد وضوح المقصود منها.

وأمّا « القبض » وأنّه ما المراد منه؟ وإن بسطوا الكلام فيه في الكتب المفصّلة ، ولكنّ الظاهر أنّه لا يحتاج إلى هذا التطويل.

لأنّ الظاهر من هذه الكلمة التي جعلها الشارع موضوعا لأحكام ـ من قبيل كون تلف المبيع قبل تحقّقه للمشتري من مال بائعه ، أو قالوا بشرطيته في صحّة السلم والسلف ، أو بشرطيّته في صحّة الهبة وأمثال ذلك ـ هو كون المقبوض تحت سيطرة القابض ، بحيث أن يكون له منع كلّ أحد من التصرّف فيه.

فمعنى قوله عليه‌السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » عدم تحقّق الرهن شرعا قبل أن يكون مقبوضا للمرتهن ، أي لا يترتّب عليه آثار الرهن الصحيح وأحكامه إلاّ بعد أن يقبض المرتهن العين المرهونة عن الراهن ، ويخرج عن تحت سلطنة الراهن ويدخل تحت سيطرة المرتهن.

ثمَّ إنّه وقع الكلام في أنّ القبض على تقدير اشتراط الرهن به هل دخيل في ماهيّته وحقيقته ، أو شرط شرعي لصحّته من دون دخله في تحقّق حقيقته وماهيّته ، أو شرط للزومه؟

__________________

(١) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٨٢ ، ح ٢٤٥ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤١٩ ، أبواب كتاب الرهن ، باب ٣ ، ح ٢.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ١١.

١٢

فبناء على الأوّل لا يتحقّق مسمّى الرهن لغة وعرفا إلاّ بعد حصول القبض من طرف المرتهن.

وبناء على الثاني يحصل المسمّى بدونه ، ولكن شرعا لا يترتّب آثار الشرعيّة عليه إلاّ بعد حصول القبض.

وبناء على الثالث ـ هو عدم اشتراط الرهن بالقبض أصلا لا مسمّاه ولا صحّته بل لزومه فقط ـ فالرهن قبل القبض صحيح وتترتب عليه آثاره إلاّ أنّه جائز لكلّ واحد من الراهن والمرتهن ولا يحصل اللزوم إلاّ بالقبض.

وهناك قول آخر وهو عدم دخل القبض لا في صحّته ولا في لزومه ، وهو المحكي عن جماعة من أعاظم الفقهاء منهم الشيخ قدس‌سره في أحد قوليه (١) ، والعلاّمة (٢) ، وولده (٣) ، وابن إدريس (٤) ، والمحقّق (٥) والشهيد (٦) الثانيان ، وجماعة أخرى (٧) ، بل نسبه في السرائر إلى أكثر المحصّلين (٨) ، وفي كنز العرفان إلى المحقّقين (٩).

أمّا القول الأوّل أي كون القبض داخلا في ماهية الرهن وحقيقته ومسمّاه ، فيوجّه بأنّ حقيقة الرهن هو كون الشي‌ء وثيقة عنده لحفظ ماله ، بحيث لو لم يؤدّ المديون يستوفي دينه منه ، فلا يذهب ماله من البين.

وأنت خبير بأنّ هذا المعنى لا يتحقّق إلاّ بالقبض الخارجي لا باستحقاق القبض‌

__________________

(١) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٢٢٣ ، المسألة : ٥.

(٢) « مختلف الشيعة » ج ٥ ، ص ٤١٧.

(٣) « إيضاح الفوائد » ج ٢ ، ص ٢٥.

(٤) « السرائر » ج ٢ ، ص ٤١٧.

(٥) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٩٤.

(٦) « المسالك » ج ١ ، ص ٢٢٥.

(٧) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٩٩.

(٨) « السرائر » ج ١٢ ، ص ٤١٧.

(٩) كنز العرفان ، ج ٢ ، ص ٦٠.

١٣

لانّه ليس بأزيد من استحقاق الدين على المديون.

وبعبارة أخرى : كونه وثيقة عنده مناف مع عدم كونه مقبوضا له وكونه خارجا عن تحت يده وسلطانه.

وفيه : أنّ الرهن من العقود العهديّة ، وهو عبارة عن التعاهد بينهما أي الدائن والمديون أن يكون الشي‌ء الفلاني وثيقة دينه ، والقبض من طرف المرتهن وإقباض الراهن خارجا من آثار ذلك العقد والتعاهد ، وأحكامه كسائر العقود والمعاملات.

مثلا البيع عبارة عن التعاهد بين مالك المبيع والمشتري بأن تكون العين الفلاني ملكا للمشتري بإزاء ما يعطى للبائع من الثمن ، وأمّا قبض المشتري للمبيع أو قبض البائع للثمن فمن آثار تلك المعاملة ، بمعنى أنّه يجب على كلّ واحد من المتعاملين إقباض ما ملكه للآخر له ، لا أنّ القبض والإقباض جزء حقيقة البيع.

وهكذا الأمر في سائر العقود المملكة وغيرها كالنكاح مثلا ، فإنّ تمكين الزوجة للبضع ليس داخلا في حقيقة النكاح بل هو من آثاره وأحكامه ، فحقيقة الرهن وماهيته تحصل بنفس العقد الجامع لشرائطه التي نذكرها عمّا قريب إن شاء الله تعالى.

وأمّا القول الأخير ، أي عدم اشتراط صحّة الرهن بالقبض بل بعد وقوع العقد صحيحا ومن أحكامه وجوب اقباض الراهن العين المرهونة للمرتهن من دون توقّف صحّته على القبض.

فيردّه الأخبار المتقدّمة ، وعمدتها قوله عليه‌السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضا » في رواية محمّد بن قيس (١).

وقوله عليه‌السلام فيما رواه في دعائم الإسلام : « وإن لم يقبض فليس برهن » (٢).

__________________

(١) تقدّم في ص ٩ ، رقم (٢).

(٢) تقدّم في ص ١٢ ، رقم (١).

١٤

ويمكن أيضا الاستدلال بظاهر قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١).

لأنّه إن لم يكن القبض دخيلا في صحّة الرهن يلزم ان يكون القيد مستدركا ، وكون القيد للإرشاد إلى أنّ كمال التوثّق لا تحصل بدونه خلاف ظاهر التقييد ، بل ظاهره أنّ الرهن المشروع هو أن تكون العين المرهونة مقبوضا.

وأيضا يدلّ على اشتراط صحّة الرهن بالقبض ما رواه العيّاشي في تفسيره عن محمّد بن عيسى ، وقد تقدّم.

ويؤيّد ما ذكرنا حكاية الجواهر عن الطبرسي الإجماع على الاشتراط (٢).

فبناء على ما ذكرنا يكون أصحّ الأقوال هو القول الثاني ، أي كونه شرطا لصحة الرهن.

فيتفرع على هذا فروع.

منها : أنّه لو قبضه من غير إذن الراهن لا يصحّ الرهن‌ ، لكونه بدون إذنه يكون قبضا غير مشروع ، ويكون وجوده كالعدم.

وذلك من جهة أنّ القبض بناء على هذا يكون كالقبض في الصرف من متمّمات العقد ، وبه يكون العقد صحيحا ومؤثّرا ، وقبله لا أثر له ولا استحقاق للمرتهن ، فيكون قبضه وأخذه قبل ذلك تصرّفا في مال الغير بدون إذنه وطيب نفسه ، فيكون حراما ، فلا يترتّب عليه الأثر.

وكذلك لو أذن في قبضه لكن رجع عن إذنه قبل أن يقبض المرتهن ، أي قبض المرتهن بعد رجوع الراهن عن إذنه يكون كالعدم ، لأنّه بعد رجوعه ينعدم الإذن‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٨٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ٩٩.

١٥

فيكون من قبيل القبض بدون الإذن.

نعم لو كان الرجوع عن إذنه بعد قبض المرتهن فلا أثر لرجوعه ، لأنّ رجوعه يكون بعد تماميّة العقد وصيرورة المرتهن ذا حقّ ، لوقوع العقد صحيحا بعد الإذن ووجود آثاره التي منها صيرورة المرتهن ذا حقّ على العين المرهونة ، ورجوعه بعد ذلك ليس من أسباب سقوط حقّه.

ومنها : أنّه لو مات الراهن ، أو جنّ ، أو أغمي عليه قبل القبض وبعد وقوع العقد ، فلو قلنا بأنّ القبض شرط صحّة العقد ـ كما اخترناه ـ فلا يصحّ العقد ، بل يبطل ولا يكون له أثر.

أمّا بناء على أن يكون شرط اللزوم لا الصحّة ، فهل يبطل بوقوع أحد هذه الأمور ، لأنّه بناء على هذا يكون من قبيل العقود الجائزة التي تبطل بخروج أحد المتعاقدين عن صلاحيّة كونه طرفا للمعاملة بأحد هذه الأمور أو بغيرها.

والسرّ في ذلك : أنّ العقود الجائزة متقوّمة بالإذن ، ولذلك قد يعبّر عنها بالعقود الإذنيّة ، فإذا خرج عن صلاحيّة الإذن بموت أو جنون أو إغماء أو غير ذلك ، فلا يبقى إذن فيكون باطلا قهرا ، أو لا يبطل ويرجع أمره إلى وليّه أو وارثه ، فإن أقبض أو أذن في القبض يكون صحيحا ، وإلاّ يكون باطلا؟

والظاهر هو الثاني ، لأنّ المفروض أنّ عقد الرهن وقع صحيحا وترتّب عليه آثاره ، أي صارت عين المرهونة وثيقة عند المرتهن ، ولا تخرج عن كونها وثيقة إلاّ بفسخ الراهن ، أو من يقوم مقامه عن وليّه أو وارثه ، فالبطلان لا وجه له.

وقياسه على العقود الجائزة بالذات ، كالوكالة والعارية والوديعة لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّها متقوّمة بالإذن وإذا خرج عن صلاحيّة الإذن فبقاء يبقى بلا إذن ، ولا يمكن بقاؤه بدون الإذن.

وما نحن فيه ليس كذلك ، بل بناء على أن يكون القبض شرط اللزوم لا الصحّة‌

١٦

فالرهن صحيح ولكن ليس بلازم ، فيكون كالمعاملة اللازمة التي فيها الخيار ، فيجوز للوارث أو الولي فسخه ، وهذا غير بطلانه بنفسه من دون الفسخ.

وأمّا التفصيل بين موت الراهن والمرتهن ببطلانه في الأوّل ، وانتقال حقّ القبض إلى الورثة في الثاني ، بأن يقال : إنّ العين المرهونة وثيقة الدين ، والدين باق ، فلورثة المرتهن حقّ استيفاء الرهن للاستيثاق من مالهم فهذا حقّ ينتقل إليهم. وأمّا الراهن إذا مات فينتقل المال إلى ورثته وليس للمرتهن حقّ عليهم ، والمفروض أنّ الرهن غير لازم ، لأنّ القبض شرط اللزوم ولم يحصل فقهرا يبطل الرهن.

ففيه : أنّ هذا المال ، أي العين المرهونة وقع متعلّقا لحقّ المرتهن لصحّة الرهن على الفرض ، فله حقّ الإبقاء ما لم يفسخ ورثة الراهن ، ولا يبطل من عند نفسه. وجواز فسخهم لأجل أنّ المفروض أنّ القبض شرط اللزوم وهو لم يحصل ، وإلاّ مقتضى كون الرهينة متعلّقة لحقّ المرتهن عدم جواز استرجاعهم لها ، لأنّه تصرف ينافي حقّ الغير وإتلاف له ، فلا فرق بين موت الراهن والمرتهن.

فرع : لو قبض المرتهن الرهن ثمَّ أخذه الراهن‌ بإذن من المرتهن أو بدون إذنه ، أو صار في يد غيرهما بإذن منهما أو بدون الإذن ، لا يبطل الرهن وإن قلنا بأنّ القبض شرط في صحّة الرهن.

وذلك لأنّ الشرط حصول القبض لا استدامته وقد حصل. وكذلك لو قلنا بأنّه شرط للزومه لا لصحّته ، فاللزوم يحصل أيضا بتحقّق القبض ولا يعتبر دوامه.

وادّعى في الجواهر عدم وجدانه الخلاف في هذا الحكم ، وقال بعد ذلك : بل الإجماع بقسميه عليه ، بل لعلّ المحكي منهما مستفيض أو متواتر (١). نعم للمرتهن استحقاق مطالبته ممّن كان بيده ، لأنّه متعلّق حقّه ولا يسقط حقّه بصيرورته في يد‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ١٠٨.

١٧

غيره ، سواء كان بإذنه أو بدون إذنه.

وعلى كلّ حال ليس استدامة القبض شرطا للصحّة ، وإن قلنا بأنّ أصل القبض شرطا لها ، للأدلّة المقدّمة من الآية والروايات والإجماعات.

وذلك لما ذكرنا من تحقّق الإجماع على عدم شرطيّة الاستدامة ، بل يكفي في تحقّق الصحّة أصل وجود القبض ، فلو عاد الرهن إلى الراهن أو تصرّف فيه تصرّفا لا ينافي كونه رهنا لم يخرج عن حقّ الرهانة ، لعدم ما هو مسقط لهذا الحقّ بمثل هذه الأمور.

فرع : ولو رهن ما هو في يد المرتهن وتحت استيلائه‌ ، ولو كانت يده واستيلاؤه غصبا لزم الرهن ، سواء قلنا بأنّ القبض شرط للصحّة أو شرط للزوم ، وذلك لحصول الشرط أي القبض ، فأخذه من المرتهن وإقباضه له ثانيا يكون من قبيل تحصيل الحاصل.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم مت عدم صحّة الرهن لو كان القبض بدون إذن الراهن ، لأن القبض بدون الإذن بمنزلة العدم ، خصوصا على تقدير كونه في يد المرتهن غصبا ، أي غصبه بعد عقد الرهن لا ما غصبه قبل الرهن ، لأنّه في الأخير إذا ورد الرهن على ما هو المغصوب يخرج عن كونه غصبا للزومه مع الرضا بالبقاء ، وذلك لملازمة إرهان ما في يد المرتهن سواء كان غصبا أو وديعة أو عارية مع الإذن والرضا بكونه في يده بقاء أي من حين وقوع الرهن ، فلا يحتاج إلى الأخذ وإقباضه من جديد ، لما ذكرنا من كونه من قبيل تحصيل الحاصل.

وإلاّ لو لم يكن كما ذكرنا ، وكان الرضا والإذن بقاء أيضا بمنزلة العدم ، فلا يفيد في تصحيح الرهن ما ذكره صاحب الجواهر قدس‌سره من عدم تناول دليل شرطية القبض لمثل المقام (١).

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٥ ، ص ١٠٩.

١٨

لأنّه بعد أن فرضنا أنّ مثل هذا القبض بمنزلة العدم في نظر الشارع مع أنّ القبض شرط شرعي لصحّة الرهن ، فكيف يمكن القول بعدم تناول دليل الشرطيّة لمثل المقام ، وهل هذا إلاّ التناقض؟!

فرع : لو رهن مالا غائبا عن مجلس الرهن‌ ، وقال مثلا أرهنتك المال الفلاني الموجود في بلد آخر غير البلد الذي هما فيه ، فلا يتحقّق الرهن شرعا إلاّ بإقباض نفسه ذلك المال للمرتهن ، أو بإقباض وكيله إن قلنا بأنّ القبض شرط الصحّة ، ولا يصير لازما إلاّ بإقباضه كذلك هو ، أو وكيله إن قلنا بأنّه شرط اللزوم.

وذلك من جهة أنّ القبض الذي قلنا أنّه شرط الصحّة أو اللزوم عبارة عن استيلاء القابض ووقوعه تحت يده وسيطرته ، فما دام الرهن يكون غائبا كيف يستولي عليه كي يحصل القبض.

نعم لو كان للمرتهن وكيل في بلد المال ويأمره قبض المال هناك خصوصا إذا كان للراهن أيضا وكيل يقبضه إيّاه ، فلا شكّ في حصول القبض. ولكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام.

وأيضا لو كان هذا المال قبل إيقاع عقد الرهن في قبض المرتهن فأوقعا الرهن فلا يحتاج إلى قبض جديد ، وإن كان فعلا حال وقوع الرهن غائبا. ولكن هذا أيضا خارج عن محلّ الكلام.

وذلك لما تقدّم أنّ هذا من قبيل استدامة قبض الحاصل ، فيكون تجديده من قبيل تحصيل الحاصل ، فحيث أنّه مع غياب الرهن عن مجلس عقد الرهن لا يمكن تحقّق القبض المعتبر في صحّته أو لزومه ، إلاّ في الموارد التي ذكرنا خروجها عن محلّ البحث ، فلا يصحّ أو لا يكون لازما على القولين في اعتباره فيه.

١٩

فرع : لو كان ما جعله رهنا مشاعا فلا يجوز تسليمه إلى المرتهن إلاّ برضاء شريكه‌ ، لأنّه تصرّف في مال الغير فلا يجوز بدون رضاه ، نعم لو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا يأتي هذا ، وهو واضح.

ثمَّ إنّ الراهن لو سلّمه إلى المرتهن ، فهل يحصل القبض بذلك وإن أثم بتسليم حصّة الغير بدون إذنه ورضاه ، أم لا؟ لا يبعد كفاية ذلك في حصول القبض المعتبر في الصحّة أو اللزوم ، للصدق العرفي وحصول الاستيثاق ، غاية الأمر لا يجوز للمرتهن التصرّف فيه بدون إذن شريك الراهن ، كما أنّه كان لا يجوز له التصرّف فيه بدون إذن الراهن أيضا وإن كان له وحدة.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مال المشاع المذكور منقولا أو غير منقول ، وأمّا كون التسليم ممنوعا شرعا والمانع الشرعي كالمانع العقلي فكأنّه لم يسلم.

ففيه : أنّ الممنوع شرعا هو تسليم حصّة الشريك ، وهذا منهي عنه وحرام ، فمتعلّق الحرمة والجواز في الحقيقة شيئان وإن كانا يوجدان بفعل واحد ، ولذلك لو باع هذا المال المشاع يصحّ في حصّة نفسه ، ويكون فضوليّا بالنسبة إلى حصّة الآخر ، فلا مانع من وقوع القبض الصحيح وإن صدر منه حرام أيضا. نعم لو كان الإقباض عبادة لما يقع لانضمامه مع المحرّم ، فلا يمكن فيه قصد القربة مع الالتفات إلى انضمامه على ما هو محرّم ، لأنّه من قبيل باب اجتماع الأمر والنهي بناء على كون التركيب بين متعلّقيهما انضماميّا.

وما ذكرنا بناء على دلالة النهي في المعاملات على الفساد ، وأمّا بناء على العدم فالقبض وإن كان منهيّا عنه لكنّه صحيح ، فيترتّب عليه أثره وهو اللزوم أو الصحة بناء على القولين في المسألة.

هذا كلّه لو كان القابض هو نفس المرتهن الذي هو غير الشريك ، أمّا لو وكّل الشريك في القبض ، أو كان المرتهن هو نفس الشريك فلا مانع ويحل القبض الصحيح‌

٢٠