القواعد الفقهيّة - ج ٦

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٦

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٣١

المقام الأوّل

في الضمان بالمعنى الأخصّ‌

وهو التعهّد بمال في ذمّة الغير من ذلك الغير من دون أن يكون له في ذمّته مثله ، وإلاّ لو كان في ذمّة المضمون عنه للضامن مثل ما ضمنه يكون حوالة لا ضمانا في مصطلح الفقهاء ، فيسمّى المتعهّد لذلك المال الذي في ذمّة غيره ضامنا ، وذلك الغير الذي على ذمّته مال ـ أي المديون ـ مضمونا عنه ، كما أنّه يسمّى الدائن مضمونا له.

وقد أثبتنا شرعيّته بالأدلّة المتقدّمة التي كانت تشمل هذا الضمان بالمعنى الأخصّ وقسميه أي الحوالة والكفالة ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

والضمان بهذا المعنى عندنا ناقل ، أي ينقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فيبرأ المضمون عنه ويسقط ما في ذمّته وتشغل ذمّة الضامن بالدين.

وأمّا مخالفونا فيقولون بأنّه لا تبرأ ذمّة المضمون عنه بل تكون ذمّته وذمّة الضامن كلاهما مشغولتان ، فيكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّ واحد منهما ، لاشتغال ذمّة كليهما له ، ولذلك قالوا باشتقاق الضمان من الضمّ.

ويردّهم ـ مضافا إلى صعوبة تصوير ضمانين لمال واحد بأن يكون كلّ واحد من الضامنين ضامنا لذلك المال في عرض ضمان الآخر ، ولا يتوهّم انتقاض ذلك بالقول بتعدّد الضمان في باب تعاقب الأيادي ، فإنّه ضمان طولي لا عرضي ، ولذلك قرار الضمان على من بيده التلف. والتفصيل ذكرناه في بعض القواعد المتقدّمة من هذا الكتاب ـ ضمان أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبي قتادة عن الميّت الذي كان مديونا بدرهمين ، فلم يصلّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : « صلّوا على صاحبكم » فقال علىّ عليه‌السلام « هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن » فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى عليه ، ثمَّ أقبل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علىّ عليه‌السلام ،

١٠١

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جزاك الله عن الإسلام خيرا وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » (١).

وأمّا ضمان أبي قتادة : فعن جابر بن عبد الله أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يصلّي على رجل عليه دين ، فأتي بجنازة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هل على صاحبكم دين؟ » فقالوا : نعم ديناران. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا على صاحبكم » فقال أبو قتادة : هما عليّ يا رسول الله ، قال : فصلّى عليه (٢).

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين بعد أن ضمن عن الميّت بدينه « فكّ رهانك كما فككت رهان أخيك » دليل قاطع على أنّ الضمان يوجب براءة ذمّة المضمون عنه وسقوط الدين عن ذمّته ، وكذا صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ضمان أبي قتادة يدلّ على براءة ذمّة ذلك الميّت ، وإلاّ فأيّ فرق بين قبل ضمانه فيمتنع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة عليه ، وبين بعد ضمانه فيصلّى عليه مع اشتغال ذمّة الميّت في كلتا الحالتين.

وأمّا حديث كون الضمان اشتقاقه من الضمّ ـ بتشديد الميم ـ فكلام شعري لا يليق بالذكر والإشكال عليه.

فالحقّ هو أنّ ذمّة المضمون عنه تبرأ بواسطة الضمان ، وينتقل الدين إلى ذمّة الضامن ، وهذا معنى كون الضمان ناقلا فالقول بأنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة بحيث يكون الدائن مخيّرا بين الرجوع إلى الضامن وبين الرجوع إلى المديون لا أساس له.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ الضمان بهذا المعنى لا بدّ وأن يكون بإنشاء الضامن تعهّده ، ولذلك عرّفوه كما في الشرائع (٣) والقواعد (٤) وغيرهما بأنّه عقد شرّع للتعهّد بمال ، إلى آخره.

فالمراد بهذا التعريف أنّ الضمان الذي هو عبارة عن التعهّد المذكور يحصل بهذا‌

__________________

(١) « الخلاف » ج ٢ ، ص ٧٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥١ ، أبواب الضمان ، باب ٣ ، ح ٢.

(٢) « الخلاف » ج ٢ ، ص ٨٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٥١ ، أبواب الضمان ، باب ٣ ، ح ٣.

(٣) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١٠٧.

(٤) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٧٧.

١٠٢

ومسبّب عنه ، لا أنّه نفس العقد أي الإيجاب والقبول ، كما هو الحال في سائر عناوين المعاملات حيث أنّها عبارة عن المسبّبات بتلك الأسباب.

فالبيع مثلا عبارة عن النقل والانتقال الحاصل من قول البائع « بعت » وعن قول المشترى « اشتريت » أو قوله « قبلت ». وعلى كلّ حال يحتاج إلى صيغة ينشأ بها ذلك التعهّد ، ويلزم أن يكون اللفظ صريحا في إفادته ذلك التعهّد. وهكذا الأمر في سائر العقود بالنسبة إلى سائر العناوين ، مثل « أنا ضامن » أو « ضمنت لك » أو « مالك فلان عليّ ما في ذمّته ».

وقد ذكر في التذكرة ألفاظا كثيرة لإنشاء الضمان ، مثل « تكفّلت » أو « تحمّلت » أو « تقلّدت ما على فلان » أو « التزمت بما على فلان » وأمثال ذلك (١).

ولا يقع بألفاظ غير الصريحة كما هو الحال في سائر العقود ، كما إذا قيل للدائن « أنا أعطي أو أؤدّي ما على فلان » فهذا بالوعد أشبه ، وليس صريحا في إنشاء تعهّده بكونه ـ أي المال ـ في ذمّته ، وأيضا لا يكفي في حصول الضمان الكتابة لعدم صراحته في ذلك ، وكذلك الإشارة من القادر على النطق.

وخلاصة الكلام : أنّه ليس للضمان خصوصيّة من هذه الجهة ، بل حاله حال سائر العقود وقال في التذكرة : لو قيل له : « ضمنت عن فلان أو تحمّلت عنه دينه »؟ فقال : « نعم » كفى في الإيجاب ، لأنّ « نعم » في تقدير إعادة المسؤول عنه (٢) وهو حسن.

إذا عرفت أنّ الضمان بالمعنى الأخصّ عقد يحتاج إلى صيغة كما شرحناه فهاهنا أبحاث.

[ البحث ] الأوّل : في الضامن. ويشترط فيه أن يكون مكلّفا‌ ، أي بالغا ، عاقلا ،

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٨٥.

(٢) المصدر.

١٠٣

رشيدا ، جائز التصرّف ، مختارا.

أمّا الأوّلان لأنّه لا يجوز أمر الصبي حتّى يحتلم ، وأمر المجنون حتّى يفيق.

وأمّا الثالث فلأنّ السفيه ممنوع عن التصرّفات الماليّة ومحجور عليه.

وأمّا الرابع فلأنّه لو لم يكن جائزا التصرّف لفلس أو غير ذلك لم تنفذ معاملاته شرعا.

وأمّا الخامس فلأنّ من شروط صحّة المعاملات أن يكون مختارا ولا يكون مكرها.

وممّا ذكر ظهر أنّه لا يصحّ ضمان العبد إلاّ بإذن مولاه ، وذلك من جهة أنّه ممنوع عن مثل هذه التصرّفات بدون إذن مولاه ، لقوله تعالى ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ ) (١).

وأيضا ظهر ممّا ذكرنا عدم صحّة ضمان كلّ من ليس أهلا للتبرّع ، كالساهي والغافل والسكران إن كان سكره غالبا على عقله ، وكذلك الهاذل الذي لا يمكن تشخيص مراده من ظهور كلامه.

وهذه الأمور التي ذكرناها كلّها يرجع إلى أحد أمور ثلاثة : إمّا إلى عدم حجّية ظهور كلامه في تشخيص مراده ، وإمّا إلى ممنوعيّته عن التصرّف شرعا ، أو إلى عدم نفوذ تصرّفاته كالمكره.

ويشترط في الضامن الملاءة بالمال الذي ضمنه وقت الضمان ، وإلاّ لو كان معسرا ذلك الوقت ولم يعلم المضمون له بذلك فله الخيار ، لنفي الضرر لأنّ الالتزام بمثل هذه المعاملة ضرريّ.

نعم لو كان عالما بإعساره حال الضمان ورضي مع ذلك بضمانه ، فليس له الخيار‌

__________________

(١) النحل (١٦) : ٧٥.

١٠٤

ولزمه الضمان ، لأنّ شرط الإيسار حال الضمان لرعاية حال المضمون له كي لا يقع في الضرر ولا يتلف ماله ، فإذا رضي هو بضمانه حتّى مع الإعسار حال الضمان فلا مانع من صحّته ، لأنّه هو بنفسه أقدم على الإتلاف المحتمل أو المظنون ، كما أنّه لو كان عالما حين الضمان بأنّه مماطل كان الأمر أيضا كذلك ، لأنّ رضاءه بضمانه مع علمه بأنّه مماطل أيضا إقدام منه على الإتلاف المحتمل أو المظنون لماله ، فليس له الخيار ويلزمه الضمان في الصورتين.

ولو تجدّد على الضامن الإعسار بعد ما كان موسرا حال الضمان ، فكذلك أيضا ليس للمضمون له أن يفسخ ، وذلك من جهة أنّ الضمان عقد لازم وقع عن رضائه بل وعن قبوله ، فرضاء المضمون له وقبوله وان كان شرطا في صحّة العقد وتماميّته إلاّ أنّهما حصلا على الفرض ، فوقع العقد صحيحا ، ولا دليل على أنّ تجدّد الإعسار من موجبات الفسخ.

وإطلاقات أدلّة اللزوم كافية في إثبات اللزوم فيما نحن فيه ، وعلى فرض وصول النوبة إلى الأصول العمليّة فاستصحاب اللزوم يجري ولا مانع منه.

ولو كان حال الضمان معسرا ولم يعلم المضمون له بذلك فثبت له الخيار ـ كما تقدّم شرحه ـ ثمَّ أيسر بعد ذلك لا يرتفع الخيار ، لعدم الدليل على أنّ تجدّد الإيسار بعد ما كان معسرا حال الضمان من موجبات سقوط الخيار وأسبابه.

مضافا إلى عدم مانع من جريان استصحاب بقاء الخيار لو وصل النوبة إليه.

ثمَّ إنّه يجوز اشتراط الخيار في عقد الضمان لكلّ واحد من الطرفين ، أي الضامن والمضمون له ، وذلك لأنّ لزوم الضمان ليس حكميّا مثل النكاح كي لا يجوز اشتراط الخيار ، فيشمله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كلّ شرط جائز إلاّ ما خالف كتاب الله » (١) فيشمله عموم‌

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٥٢ ، أبواب الخيار ، باب ٦.

١٠٥

« المؤمنون عند شروطهم » (١) فيجب الوفاء به.

فرع : هل يجوز ضمان الزوجة بدون إذن زوجها أم لا؟ ربما يقال بعدم الجواز ، لمزاحمته مع حقّ الزوج في بعض الأحيان ، كما لو أفضى ضمانها إلى حبسها لمطل أو جهة أخرى.

ولكن لو قلنا بأنّ أمثال هذه الاحتمالات يكون مانعا عن ضمانها فتمنع عن جميع المعاوضات ، لتطرّق هذه الاحتمالات ووجود هذا المحذور في جميعها ، ولا يمكن القول به.

ثمَّ لا يخفى أنّ المنع في العبد وفي الزوجة ـ لو قيل به ـ يرتفع بإذن السيّد والزوج ، بخلاف الصبي والمجنون فلا يرتفع المنع فيهما بإذن الولي. والفرق بين هذين وذين في كمال الوضوح ، فإنّ المنع في العبد والزوجة من جهة حقّ الغير ، وإلاّ فهما قابلان لذلك التعهّد الذي نسمّيه بالضمان ، بخلاف الطفل والمجنون فإنّ المحلّ فيهما غير قابل ، لأنّهما مسلوبا العبارة بحكم الشرع ، وعلى كلّ حال صحّة ضمان الزوجة وإن كان بدون إذن الزوج إجماعيّ عندنا.

ثمَّ إنّ هاهنا فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في ضمان العبد بدون إذن سيّده أو مع إذنه ، وصور وشقوق تركنا ذكرها لعدم الاحتياج إليها ، بل عدم وجود موضوع لها في هذه الأزمان.

البحث الثاني : في شرائط صحّة الضمان :

فمنها : التنجيز وعدم تعليقه على أمر. فإن قال : أنا ضامن لما على فلان إن لم يؤدّه هو ، أو إن رضي بذلك ، أو إن فعل كذا وأمثال ذلك ، كما أنّ المتعارف عند الناس الآن ـ

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٠٤ ، باب الشرط في النكاح وما يجوز منه وما لا يجوز منه ، ح ٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٧١ ، ح ١٥٠٣ ، باب المهور والأجور و. ، ح ٦٦ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٢٣٢ ، ح ٨٣٥ ، باب من عقد على امرأة وشرط لها. ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٣٠ ، أبواب المهور ، باب ٢٠ ، ح ٤.

١٠٦

أعطه نسيئة وأنا ضامن إن لم يف هو إلى زمان كذا ، أو إن لم يف أصلا من غير تقييده بزمان ـ فجميع هذه الصور باطلة ، وليس الضامن فيها ملزما بأداء الدين.

وذلك للإجماع على بطلان التعليق في العقود ، مضافا إلى أنّ الضمان موجب لنقل الدين من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن إجماعا عندنا ، بل هو حقيقة الضمان. وهذا المعنى لا يمكن حصوله مع التعليق ، ولأنّه من الممكن عدم حصول المعلّق عليه أصلا فلا يحصل ذلك النقل أصلا ، وهذا مناف لحقيقة الضمان.

وبهذا الوجه نقول بعدم جواز التعليق في الإبراء أيضا.

ومنها : أن يكون الدين الذي يضمنه ثابتا في ذمّة المضمون عنه‌ ، سواء كان مستقرّا أو متزلزلا ، لأنّه في كلتا الصورتين ثابت على ذمّة المضمون عنه شي‌ء قابل لأن ينتقل بالضمان إلى ذمّة الضامن. وأمّا لو لم يكن حال الضمان شي‌ء ثابت على ذمّة المضمون عنه فالضمان غير معقول. وهذا هو المراد من قولهم : ضمان ما لم يجب ـ أي ضمان ما لم يثبت ـ على ذمّة المضمون عنه باطل ، لأنّه غير معقول ، ويكون من نقل المعدوم الذي هو محال.

ومنها : تميّز الدين ، والمضمون له ، والمضمون عنه‌. فلو كان لشخص دينان فقال أنا ضامن لأحد دينيك لا يصحّ ، أو كان لشخصين لكلّ واحد منهما دين فقال أنا ضامن لدين أحدكما لا يصحّ أيضا ، وكذلك لو كان المديون مردّدا بين الشخصين فيقول أنا ضامن لدين المديون منكما ، كلّ ذلك من جهة عدم تحقّق حقيقة الضمان مع الإبهام والترديد في نفس الدين ، أو المضمون له ، أو المضمون عنه.

نعم لو كان الدين معيّنا في الواقع ولم يعلم الضامن جنسه وأنّه من النقود أو من العروض مثلا ، أو لم يعلم مقداره وأنّه دينار أو ديناران مثلا ويضمن أنّه على ما لزيد على عمرو مثلا ، فهذا الضمان صحيح من جهة أنّه ينقل في عالم الاعتبار ما على ذمّة عمرو لزيد إلى ذمّته والمفروض أنّ له واقع معلوم عند زيد وعمرو أو عند أحدهما أو‌

١٠٧

مكتوب في الدفتر ، فلا بأس بمثل هذا الضمان ، لتماميّة أركانه وشمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم له ». هذا بالنسبة إلى نفس الدين.

وأمّا تميّز المضمون له فمن جهة كونه طرف العقد بناء على أنّ الضمان من العقود ، ويحتاج بعد وقوع الإيجاب من طرف الضامن إلى القبول من طرف المضمون له كما تقدّم ، ومع الترديد والإبهام لا يمكن ذلك.

ولكن أنت خبير بأنّه لو كان المضمون له معيّنا في الواقع ، وحاضرا في المجلس وإن كان لا يعرفه الضامن ، فيقول الضامن : دين هذا الرجل سواء كان حيّا أو ميّتا عليّ ، فيقول المضمون له : قبلت ، كان هذا الضمان صحيحا ولا إشكال فيه ، من جهة تماميّة أركانه ، وشمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم له ».

فرع : وهو أنّ الضمان المؤجّل للدين الحالّ جائز إجماعا وبلا خلاف‌ ، كما ادّعاه صاحب الجواهر (١) ، وحكى الإجماع على ذلك عن المسالك (٢) ، ومحكي التنقيح (٣) ، وإيضاح النافع (٤) وغيرها. وقال في جامع المقاصد في هذا الفرع أي ضمان المؤجّل للدين الحالّ : ظاهرهم أنّ صحّة هذا بالإجماع (٥).

وصور هذه المسألة :

إحديها : هذه المذكورة ، أي ضمان الدين الحالّ مؤجّلا ، وهو أن يقول الضامن : أنا ضامن لما في ذمّة زيد الذي حلّ أجله بشرط أن أعطيه بعد شهر مثلا.

الثانية : عكس هذا ، وهو أن يضمن الدين المؤجّل حالاّ بأن يقول للمضمون له :

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٢٩.

(٢) « المسالك » ج ١ ، ص ٢٥٣.

(٣) « تنقيح الرائع » ج ٢ ، ص ١٨٨.

(٤) حكى عنه في « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٢٩.

(٥) « جامع المقاصد » ج ٥ ، ص ٣١٠.

١٠٨

أنا ضامن لمالك في ذمّة زيد أن يعطى بعد شهر بأن أعطيك الآن وحالاّ.

الثالثة : أن يضمن الدين المؤجّل مؤجّلا بأزيد من أجله أو بأنقص من أجله. أمّا ضمان دين المؤجّل مؤجّلا بأجل ، أو ضمان الدين الحالّ حالاّ فصحّتهما واضحة وليس محلّ الكلام كي يبحث عنها.

نعم ادّعى بعض بأنّه لا بدّ في الضمان من الأجل ، سواء كان الدين حالاّ أو مؤجّلا ، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.

ولكن هذا قول بلا دليل.

أمّا الصورة الأولى من الصور الثلاث التي يمكن البحث عنها ، فمضافا إلى أنّ صحّتها إجماعيّ ، يدلّ عليها عموم أدلّة الضمان كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم » إذ لا شكّ في صدق الزعيم على مثل هذا الشخص الذي يضمن الدين الحالّ مؤجّلا.

ولا يتوهّم أنّه تعليق في الضمان ، لأنّ الضمان فعليّ وبتيّ بدون قيد وشرط ، وإنّما المقيّد أداء المضمون بأجل.

وأمّا الصورة الثانية : أي ضمان الدين المؤجّل حالاّ ، فأيضا يشملها إطلاقات أدلّة الضمان كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الزعيم غارم ».

ولا إشكال فيه إلاّ ما تخيّل بعض من اشتراط الضمان بكونه مؤجّلا وأنّ الضمان الحالّ لا معنى له ، وادّعى بعضهم الإجماع على لزوم كون الضمان مؤجّلا بأجل معلوم وإن كان الأجل قليلا.

ولكن عرفت أنّه قول بلا دليل.

وأمّا الصورة الثالثة : أي ضمان الدين المؤجّل مؤجّلا بأجله أو أنقص ، أو أزيد من أجله ، فلا وجه لعدم جوازه. وادّعى في الجواهر عدم الإشكال والخلاف فيه (١).

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٣٣.

١٠٩

وأمّا ما يتوهّم من أنّ حقيقة الضمان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن بجميع خصوصيّاته ومن دون تغيير فيه ، فلو كان في ذمّة المضمون حالاّ يأتي إلى ذمّة الضامن حالاّ ، وإن كان مؤجّلا يأتي مؤجّلا كما هو ، من دون زيادة أو نقيصة في أجله.

ففيه : أنّ حقيقة الضمان هو التعهّد بالمال الذي على عهدة المضمون عنه ، وأمّا تقييد أدائه بكونه حالاّ أو مؤجّلا بنفس أجل الدين الذي كان على عهدة المديون أي المضمون عنه أو بالأزيد أو بالأنقص منه ، فهذا خارج عن حقيقة الضمان. وهذه القيود تابعة للشروط الواقعة في عقد الضمان برضائه الطرفين ، والمؤمنون عند شروطهم.

وليس هذه الشروط تعليق في الضمان كي يكون باطلا ، كما تقدّم بيانه.

وفي جميع هذه الصور تبرأ ذمّة المضمون عنه ، وليس للدائن المطالبة عنه ، لفراغ ذمّته بعد تحقّق الضمان صحيحا تامّ الأركان واجدا للشرائط ، وينتقل المال إلى ذمّة الضامن ، ويكون عليه الأداء ولو كان الضامن ضمنه مؤجّلا ، سواء كان الدين حالاّ أم مؤجّلا ليس للمضمون له مطالبة الضامن قبل حلول الأجل الذي رضيا به.

نعم لو مات الضامن حيث أنّ الدين المؤجّل يحلّ بموت المديون وإن كان موته قبل حلول أجل الدين ويتعلّق بتركته ، يؤخذ من تركة الضامن ، ويرجع ورثة الضامن على المضمون عنه بما أخذ من تركة مورّثهم.

فرع : يجوز رجوع الضامن على المضمون عنه فيما أدّاه إذا كان الضمان بإذنه أو بطلبه‌ ، وأمّا إذا لم يكن بإذنه أو بطلبه ، بل تبرّع بالضمان من غير طلبه أو إذنه فلا رجوع.

إن قلت : قاعدة « احترام مال المسلم كاحترام دمه » تدلّ على أنّ الضامن يستحقّ على المضمون عنه مثل استحقاق المضمون له عليه.

١١٠

قلنا : هو الذي أتلف ماله إمّا لغرض دنيوي أو عوض أخروي بإقدامه ، وقاعدة الإقدام حاكمة على قاعدة الاحترام ، وإلاّ ينسدّ باب الهبات والعطايا والإباحات.

والمناط في جواز الرجوع وعدمه هو كون الضمان بإذنه أو بطلبه ، وأمّا الأداء فلا تأثير له في الرجوع ، سواء كان بإذنه أو لم يكن بإذنه. فإذا كان بإذنه الضمان فيستحقّ الضامن على المضمون عنه ، وإن لم يكن الأداء بإذنه بل وإن منع عن الأداء ، لأنّه بالضمان بإذنه اشتغلت ذمّة الضامن فيجب عليه تفريغ ذمّته ، فلا تأثير لمنع المضمون عنه عن الأداء.

وأمّا إن لم يكن الضمان بإذنه فلا موجب لاشتغال ذمّته وإن قال المديون أدّ ديني ، إلاّ أن يصرّح المضمون عنه بأنّه أدّ ديني عنّي وارجع به علىّ ، لجريان قاعدة الاحترام من دون وجود حاكم عليه ، لأنّه يقدم على الأداء بقصد الرجوع وأمر الطرف بالرجوع عليه.

هذا ، مضافا إلى عدم خلاف من الأصحاب فيما ذكرنا ، بل دعوى الإجماع من صاحب الجواهر قدس‌سره بقسميه في الصورتين (١) ، أي الرجوع مع الإذن في الضمان وإن كان أداؤه بغير إذن المضمون عنه بل ومع منعه عن الأداء ، وعدم جواز الرجوع وإن كان الأداء بإذنه ، إلاّ فيما استثناه من الأمر بالأداء مع التصريح بالرجوع من طرف المضمون عنه.

ثمَّ إن ما قلنا من جواز رجوع الضامن على المضمون عنه هو فيما إذا حلّ أجل دينه ، وإلاّ لو استعجل الضامن وأدّى الدين قبل حلول أجله لا يستحقّ على المضمون عنه قبل حلول أجل دينه ، إلاّ بتصريح من قبل المضمون عنه بأن يقول : أدّ ديني حالاّ قبل حلول الأجل وارجع به عليّ ، فهذا كأنّه قرار ومواضعة جديدة بين الضامن والمضمون عنه.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٦ ، ص ١٣٣ ـ ١٣٤.

١١١

هذا فيما إذا كان الدين مؤجّلا والضامن ضمنه حالاّ ، أو أسرع في الأداء قبل حلول أجل الدين.

وأمّا لو كان الدين حالاّ وضمنه مؤجّلا ، فادّى الضامن قبل حلول أجل الذي ضمنه ، فله الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ هذا التأجيل جاء من قبل الضمان ، وإلاّ فالمضمون له كان يستحقّ على المضمون عنه من وقت الضمان على الفرض. والتأجيل في الضمان لا يحدث حقّا للمضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون عنه ، ولا يسقط حقّ المضمون له ، وهو كون دينه حالاّ غاية الأمر بالنسبة إلى الضمان وقع تأجيل ، لا أنّ الدين تغيّر عن كونه حالاّ وصار مؤجّلا.

وإن شئت قلت : إنّ التأجيل ليس للدين وإنّما الأجل للضمان ، وإلاّ فالدين باق على ما كان ، فالمديون ـ أي المضمون عنه ـ يلزمه أداء الدين من أوّل وقت وقوع الضمان ، فلو أدّى الضامن قبل حلول أجل ضمانه وكان الضمان بإذن المضمون عنه يستحقّ الضامن عليه من حين الأداء ، لأنّه يكون بمنزلة المضمون له ، فيجوز له مطالبة المضمون عنه من ذلك الحين.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدين المؤجّل لو ضمنه بأكثر من أجله ، فلو أدّى الضامن بعد حلول أجل الدين ولكن قبل الوصول إلى آخر الأجل الذي ضمنه بذلك ، فله المطالبة عن المضمون عنه بعين البيان المتقدّم ، فإنّ هذا الأجل الزائد عن أجل الدين لا يغيّر الدين عمّا هو عليه ، بل إنّما هو أجل الضمان لا أجل الدين.

وكذلك الأمر لو مات الضامن من قبل انقضاء الأجل وحلّ الدين وأدّاه ورثة الضامن من تركته ، فلهم الرجوع على المضمون عنه ، لأنّ المفروض أنّ الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضمان ، حيث أنّ الضامن ضمن الدين الحالّ مؤجّلا ، وإلاّ فالدين في نفسه ليس مؤجّلا ، فإذا مات الضامن وصار الدين بالنسبة إليه حالاّ وأخذ من تركته فالورثة لم يذهب ما لهم مجّانا ، بل يستحقّون العوض في نفس ذلك‌

١١٢

الوقت ، فلهم الرجوع على المضمون عنه.

وأمّا لو كان الدين مؤجّلا وضمن بإذن المضمون له ذلك الدين المؤجّل مؤجّلا ومات قبل انقضاء أجل الدين وحلّ ما عليه وأخذ المضمون له من تركته ، ليس لورثة الضامن الرجوع إلى المضمون عنه إلاّ بعد حلول أجل الدين الذي كان عليه قبل الضمان.

والسرّ في ذلك : أنّ الدين الذي كان على المضمون عنه كان مؤجّلا ، وبموت الضامن لا يحلّ الدين بالنسبة إلى المضمون عنه ، وإنّما يحلّ بالنسبة إلى الضامن. وهذا بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ أصل الدين كان حالاّ وإنّما التأجيل جاء من قبل الضامن وذهب بموته ، ولذلك لورثته الرجوع على المضمون عنه.

فرع : يجوز ضمان مال الجعالة المسمّى بالجعل قبل فعل ما جعل عليه الجعل‌ ، وكذا ضمان مال السبق والرماية وهو المسمّى بالسبق ـ بفتح السين والباء ـ قبل حصول الغلبة على من يسابقه أو يراميه.

وقد يقال : إنّ هذا من قبيل ضمان ما لم يجب ، لأنّه قبل العمل في كلا البابين لا يثبت في ذمّة المضمون عنه شي‌ء كي ينقله إلى ذمّة نفسه ، فلا وجه لصحّة ضمانه بناء على أنّ الضمان عبارة عن التعهّد بما في ذمّة الغير ونقله إلى ذمّة نفسه.

ولكن يمكن أنّ يقال : إن الجاعل جعل الجعل في ذمّته لعنوان من يردّ ضالّته عليه ، فيثبت في ذمّة الجاعل ذلك الجعل بنفس العقد وان لم يعمل بالشرط بعد. وكذلك الأمر في باب السبق والرماية بنفس العقد يثبت في ذمّة الشارط السبق ـ بفتحتين ـ قبل العمل وحصول السبق.

غاية الأمر قبل العمل له أن يفسخ العقد فيكون كالبيع الخياري بعد قبض المبيع ، فإنّه يثبت الثمن في ذمّة المشتري بعد قبض المبيع وأنّ له الفسخ. ومعلوم أنّه بالفسخ‌

١١٣

يرجع المبيع إلى البائع وتبرأ ذمّة المشتري ، ومع ذلك قبل الفسخ يصحّ الضمان عن المشتري بلا شكّ وارتياب.

وأيضا يمكن أنّ يقال : إنّ العمل في البابين شرط كاشف عن ثبوت المال في ذمّة الجاعل بنفس العقد ، وردّ الضالة خارجا يكون على حدّ الإجازة من طرف المالك في بيع الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، فبوجود العمل خارجا يستكشف ثبوت المال في ذمّة الجاعل من حين العقد ، كما أنّ بعدمه يستكشف عدمه.

ولكن كلا الوجهين لا يصحّ الركون إليهما والموافقة عليهما :

أمّا الأوّل : فلأنّ الجاعل وإن جعل في ذمّته الجعل لذلك العنوان ، ولكن نتيجة مثل هذا الجعل أنّه بعد وجود مصداق هذا العنوان في الخارج تشتغل ذمّة الجاعل بذلك الجعل له ، وإلاّ قبل وجوده ليس من يملك في ذمّته. فلو قلنا باشتغال ذمّته يلزم أن يكون الملك بلا مالك.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك العنوان الكلّي يملك قبل أن يوجد في الخارج ، وهذا غريب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الملكيّة مجعولة لمن كان مصداقا لهذا العنوان بالحمل الشائع ، فلا يمكن أن يكون العمل شرطا كاشفا عن ثبوتها بنفس العقد قبل العمل.

وذلك من جهة جعل الجاعل الجعل لعنوان من ردّ الضالّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فكلّ من كان مصداقا لذلك العنوان يملكه ، فحيث أنّه قبل العمل لا مصداق لذلك العنوان ، فلا مالك في البين ، فلا معنى لاشتغال ذمّته بناء على أن يكون حقيقة الضمان عبارة عن التعهّد بمال ثابت في ذمّة شخص غيره. ونتيجته نقل ما ثبت في ذمّة الغير الى ذمّته.

اللهمّ إلاّ أن يقال : يصحّ تمليك العناوين العامّة قبل أن يوجد لها مصداق ، كالوقف على الأولاد والذريّة قبل وجودهم.

١١٤

وأمّا الإشكال على ثبوت المال في ذمّة الجاعل قبل العمل بأنّ العقد جزء السبب ، والجزء الآخر هو العمل ، ولا يمكن وجود المسبّب عند وجود أحد جزئي السبب دون الجزء الآخر كما هو المفروض في المقام.

ففيه : أنّ ما نحن فيه ليس من باب الأسباب والمسبّبات التكوينيّة ، بل من باب الحكم والموضوع فيمكن جعل الحكم على الموضوع الكلّي قبل أن يوجد له مصداق في الخارج ، كما قلنا في الوقف على الأولاد قبل وجودهم بناء على أنّ الوقف تمليك ، غاية الأمر ليست الملكيّة طلقا بل مقيّدة بأن لا تباع ولا تورث.

وما قلنا بناء على أن يكون جعل الجعل في الجعالة أو السبق في السبق والرماية على نحو القضية الحقيقيّة ، وأمّا لو كان على نحو القضايا الخارجيّة فلا سبيل إلى ثبوت الملكيّة قبل العمل ، وحيث أنّ الظاهر أنّ الجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة وعلى هذا الأساس بنينا جريان الاستصحاب فيما إذا شكّ بعد الفسخ في لزومها ، فلا مانع من ضمان مال الجعل حتّى قبل الشروع في العمل ، فضلا عن صحّته بعد الشروع قبل إتمام العمل.

ولا يتوهم أنّ ما أشكلنا ـ من أنّه لو كان الجعل بنحو القضيّة الحقيقيّة فمفادها أنّه إذا وجد في الخارج فرد وكان مصداقا لذلك الكلّي يكون محكوما بحكم ذلك الكلّي ـ يأتي هاهنا ، وفي الوقف على الأولاد والذريّة الأمر كذلك ، فما لم يوجد مصداق للأولاد والذريّة لا يتّصف بالمالكيّة ، فهاهنا أيضا ما لم يوجد شخص يردّ الضالّة لا تشتغل ذمّة الجاعل بشي‌ء.

وذلك من جهة أنّ عنوان رادّ الضالّة ، أو عنوان من يردّ الضالّ صار مالكا ، ولكن أفراد هذا العنوان لا يثبت لهم الملكيّة إلاّ بعد وجودهم وصيرورتهم مصداقا خارجيّا لذلك العنوان ، وهذا لا ينافي اشتغال ذمّة الجاعل للعنوان ، فيصحّ أن ينقل الضامن عن الجاعل ما على ذمّة الجاعل إلى ذمّته.

١١٥

غاية الأمر إنّ العنوان الكلّي ما لم ينطبق على الخارج لا يمكن أن يطالب الضامن ، بل إذا وجد فردّ ومصداق بالحمل الشائع يأتي ويطالب الضامن ، كما أنّه لو لم يكن ضامن في البين يطالب الجاعل.

ففي المقام يثبت بنفس عقد الجعالة حقّ للعنوان في ذمّة الجاعل الذي هو المضمون عنه ، فالضامن ينقل ما يثبت في ذمّة الجاعل إلى ذمّة نفسه ، فتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل ، وتشتغل ذمّة الضامن للعنوان الذي هو المضمون له.

فهذا هو المقام الأوّل الذي يشتغل ذمّة الضامن وتبرأ ذمّة المضمون عنه الذي هو الجاعل.

والمقام الثاني هو مقام أداء حقّ المضمون له الذي هو العنوان. وفي هذا المقام تكون القضيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، أي يجب على الضامن أن يؤدّي ما على ذمّته إلى مصاديق ذلك العنوان. وهذا يستقيم فيما إذا كان جعل الضمان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وإلاّ فإن كان بنحو القضيّة الخارجيّة من أوّل الأمر يكون المضمون له هم الأفراد. فتأمّل فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

فرع : يجوز ضمان نفقة الزوجة عن الزوج في المورد الذي ثبت في ذمّته. وذلك بالنسبة إلى النفقة الماضية واضح ، لأنّها كسائر ديون الزوج ، لأنّ الزوجة إذا لم تكن ناشزة وكانت ممكّنة زوجها من نفسها متى شاء ، فهي تستحقّ على زوجها نفقتها ، فإن لم يعطها تبقى دينا في ذمّته ، فلا مانع من أن يضمن عنه شخص آخر.

وهذا في النفقة الماضية لا إشكال فيه ، كما أنّه لا إشكال في عدم صحّته بالنسبة إلى النفقة المستقبلة ، لعدم ثبوت شي‌ء في ذمّة الزوج كي يضمن عنه شخص آخر ، فيكون الضمان بالنسبة إلى النفقة المستقبلة من قبيل ضمان ما لم يجب ، الذي قلنا إنّه باطل بل غير معقول.

١١٦

وإنّما الكلام في ضمان نفقة الحاضرة ، كنفقة ذلك اليوم الذي يقع فيه الضمان.

والحقّ فيه جواز الضمان كالنفقة الماضية.

بيان ذلك : أنّه بعد البناء على أنّ الزوجة تملك في صبيحة كلّ يوم نفقة ذلك اليوم على ذمّة الزوج إذا لم تكن ناشزة ، ففي نفس ذلك اليوم يصحّ ضمان نفقة ذلك اليوم المسمّاة بالنفقة الحاضرة.

وأمّا الإشكال على هذا ـ بأنّها يمكن أن تصير ناشزة في أثناء النهار ، فتسقط نفقتها ـ لا يردّ ، لأنّ السقوط بعد الثبوت لا ينافي مع صحّة الضمان قبل السقوط.

فرع : هل يصحّ ضمان الأعيان المضمونة أم لا‌ ، كالأعيان المغصوبة ، أو المقبوضة بالعقد الفاسد ، أو العارية المضمونة ، أو الأمانة مع التعدّي؟

فقال العلاّمة في التذكرة : وفي ضمان الأعيان المضمونة والعهدة إشكال ، أقربه عندي جواز مطالبة كلّ من الضامن والمضمون عنه (١).

وقال المحقّق في الشرائع : ففي ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوضة بالبيع الفاسد تردّد ، والأشبه الجواز (٢).

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ حقيقة الضمان إن كان عبارة عن نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن وبراءة ذمّة المضمون عنه ، فلا يجوز الضمان في هذه المذكورات ، لعدم براءة المضمون عنه بالضمان إجماعا ، بل يجوز للمضمون له مطالبته بلا خلاف.

ولذلك قال العلاّمة في عبارته المتقدّمة : « إشكال أقربه عندي جواز مطالبة كلّ‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٩٢.

(٢) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١٠٩.

١١٧

من الضامن والمضمون عنه ». وما ذكره أمر ممكن في حدّ نفسه ، ولكنّه مخالف لما عليه إجماع الطائفة ، على أنّ الضمان نقل ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وبراءة ذمّة المضمون عنه بمحض وقوع الضمان الصحيح.

وأمّا القول بأنّ الضمان هاهنا عبارة عن التعهّد بردّ العين المضمونة أو قيمتها أو مثلها.

ففيه : أنّه خروج عمّا هو حقيقة الضمان عندنا والالتزام بمعنى آخر ، والمعنى العرفي للضمان هو الذي ذكرنا أي التعهّد بمال ثابت في ذمّة غيره ، بمعنى انتقاله إلى ذمّة الضامن وبرأه ذمّة المضمون عنه التي كانت مشغولة بذلك المال قبل الضمان.

وبناء على أن يكون هذا معنى الضمان عرفا فلا تشمل العمومات حتّى مثل « الزعيم غارم » لمثل هذا المعنى ، أي الالتزام بردّ الأعيان المضمونة أو قيمتها أو ردّ مثلها ، فلا دليل على شرعيّة مثل هذا الضمان بهذا المعنى.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) فالظاهر منه هو وجوب الوفاء بمضمون كلّ عقد ، ومضمون عقد الضمان ـ بقوله : أنا ضامن لما على فلان ـ عبارة عن نقل ما في ذمّته إلى ذمّة نفسه ، وليس الالتزام بردّ ما هو مضمون عنده ، أو أداء قيمته ، أو ردّ مثله مضمون عقد الضمان كي يكون مشمولا لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ). بل لو كان هذا المعنى ضمانا صحيحا شرعيّا فيكون مفاده أنّه يجب على الضامن والمضمون عنه كلاهما ردّ العين ما دام باقية ، وأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة. وهذا مرجعه إلى كون حقيقة الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة. وهذا المعنى ممّا انعقد الإجماع على خلافه.

فالضمان بمعناه العرفي ـ أي التعهّد بمال ثابت في ذمة المضمون عنه ـ لا يصحّ في الأعيان المضمونة ، وإن قال بصحّته وجوازه أساطين الفقه ، كالشيخ في المبسوط (٢) ،

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) « المبسوط » ج ٢ ، ص ٣٢٦.

١١٨

والمحقّق في الشرائع (١) ، والعلاّمة في التذكرة (٢) والقواعد (٣).

وأمّا ما وجّهه العلاّمة ـ أي ضمان الأعيان المضمونة ـ في التذكرة بوجهين : أحدهما : أنّ المراد من ضمانها الالتزام بردّ نفس أعيانها. الثاني : أن يضمن قيمتها على تقدير التلف (٤).

ففيه بطلان كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فقد عرفت الحال فيه مفصّلا ، وأنّه خروج عن الضمان المصطلح عندنا ، وأنّ مرجعه إلى كونه عبارة عن ضمّ ذمّة إلى ذمّة الذي لا نقول به ، والإجماع على خلافه.

وأمّا الوجه الثاني : فمرجعه إلى التعليق في الضمان ، وأيضا يكون ضمان ما لم يجب.

وهذا أيضا ممّا انعقد الإجماع على خلافه. هذا ما ذكروه.

والتحقيق في هذا المقام : هو أنّه يمكن تصوير كون الأعيان المضمونة في الذمّة بوجودها الاعتباري ، لا الوجود الحقيقي الخارجي ، فإنّه غير معقول البتة. وقد حقّقنا ذلك في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » مفصّلا (٥) ، وإجماله : أنّ معنى ضمان العين هو أنّ العين الخارجيّة تعتبر في الذمّة بوجودها الاعتباري ، إذ الذم ظرف الاعتبار وليست ظرفا للموجودات الخارجيّة. وقد يعبرون عن الذمّة بالعهدة أو الرقبة ، وكلّها بمعنى واحد.

وقلنا هناك : إنّ معنى الحديث الشريف « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أنّ كلّ مال ـ سواء كان عينا أو منفعة ـ تسلّط عليه الشخص ولم يكن تسلّطه من حيث أنّه‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١٠٩.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٩٠.

(٣) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ١٧٨.

(٤) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٩٠.

(٥) « القواعد الفقهيّة » ج ، ص.

١١٩

ملكه أو بإذن المالك أو بإذن الله تعالى ـ ويعبّر عن هذين الأخيرين بالأمانة ، وأوّلها أمانة مالكيّة ، وثانيهما أمانة شرعيّة ـ فيعتبر ذلك المال في ذمّته ، ولا يفرغ ذمّته بل تكون مشغولة به إلى أن يؤدّيه ، ففراغ ذمّته يكون بأداء ما اعتبر في ذمّته.

فبناء على هذا ، ضمان العين عبارة عن اعتبار تلك العين في ذمّة الضامن وعدته ، وأسباب ضمان العين مثل أسباب ضمان المال متعدّدة ، ومن جملتها عقد الضمان بأن يقول أنا ضامن للعين الفلانيّة ، فيعتبر تلك العين في عهدته وذمّته ، ولا يرتفع ولا تبرأ ذمّته إلاّ بأداء ما في ذمّته بردّها إن كانت تلك العين موجودة ، وبأداء مثلها أو قيمتها إن كانت تالفة ، فضمان العين لا إشكال فيه في حدّ نفسه.

ولكنّ الإشكال هاهنا في شي‌ء آخر ، وهو أنّ الأعيان المضمونة ـ سواء كانت من جهة غصبها ، أو من جهة كونها مقبوضة بالعقد الفاسد ـ لا تبرأ ذمّة الضامن إلاّ بأداء عينها أو مثلها أو قيمتها ، كلّ واحد في محلّها.

فلو ضمنها شخص فإن كان ضمانة لها بعد أداء الضامن الأوّل لها بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة فضمانها غير معقول ، لأنّه لم يبق في ذمّته شي‌ء كي يضمنه أحد.

وإن كان قبل أدائها فبالضمان لا تبرأ ذمّته ، بل الفراغ يكون مغيّى في الحديث الشريف بالأداء بأحد الأنحاء الثلاثة المذكورة ، فيجب الأداء على كلّ واحد منهما ، مثل مورد تعاقب الأيادي ، ويصحّ لصاحب العين المطالبة من كلّ واحد منهما.

وهذا خلاف إجماع الطائفة في معنى الضمان ، ويكون موافقا لأصول غيرنا.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ ضمان الأعيان المضمونة ـ سواء كانت مقبوضة بالعقد الفاسد أو مغصوبة بالمعنى المصطلح في الضمان ـ غير ممكن ولا يصحّ.

فرع : يجوز الترامي في الضمان‌ ، وهو أن يضمن شخص عمّا في ذمّة الآخر فيأتي شخص آخر ويضمن عمّا في ذمّة الضامن الأوّل ، وهكذا أي يأتي ثالث ويضمن عمّا في‌

١٢٠