جواهر الكلام - ج ٣٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

الله عز وجل : من شرب مسكرا أو سقاه صبيا لا يعقل سقيته من ماء الحميم مغفورا له أو معذبا ».

وفي المروي عن الخصال بسنده إلى علي عليه‌السلام (١) « من سقى صبيا مسكرا وهو لا يعقل حسبه الله عز وجل في طينة خبال حتى يأتي مما صنع بمخرج ».

وفي المروي عن عقاب الأعمال مسندا (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « من شرب الخمر سقاه الله من سم الأساود ومن سم العقارب ـ إلى أن قال ـ : ومن سقاها يهوديا أو نصرانيا أو صابئا أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها » والله العالم.

( و ) كذا ( يكره الإسلاف في العصير ) لخبر يزيد بن خليفة (٣) « كره أبو عبد الله عليه‌السلام بيع العصير بتأخير » بناء على إرادة السلف منه أو الأعم منه ومن بيعه مشروطا تأخيره إلى مدة.

لكن عن النهاية الاستدلال على ذلك بأنه لا يؤمن أن يطلبه من صاحبه ويكون قد تغير إلى حال الخمر ، فاعترضه ابن إدريس بأن السلف لا يكون إلا بالذمة ولا يكون في العين ، فإذا كان في الذمة لزمه تسليم ما في ذمته من العصير من أي موضع كان ، سواء تغير ما عنده إلى حال الخمر أم لم يتغير ، فلا وجه للكراهة.

وأجاب عنه الفاضل بإمكان أن يريد بالسلف بيع عين مشخصة يسلمها إليه في وقت معين ، وأطلق عليه السلف مجازا ، كما ورد السلف في مسك ( مسوك خ ل ) الغنم مع المشاهدة ، أو يحمل على الحقيقة وتعذر عليه تحصيل العصير عند الأجل لانقلابه كذلك.

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٩ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ٣ من كتاب التجارة.

٤٢١

وفي المسالك « لا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف ، وقوة كلام ابن إدريس » قلت : قد عرفت أن الأصل الخبر المزبور الذي يكفي في الكراهة المتسامح فيها ، والأمر سهل.

( و ) كذا يكره ( أن يستأمن على طبخه من يستحل شربه قبل أن يذهب ثلثاه إذا كان مسلما ) وإن أخبر بطبخه على الثلث ، وفاقا للفاضل في محكي تلخيصه وإرشاده وتحريره.

( وقيل ) كما عن النهاية والسرائر والجامع والإيضاح والدروس والتنقيح وغيرها ( لا يجوز مطلقا).

( والأول ) الذي هو الجواز ( أشبه ) بأصول المذهب وقواعده التي منها تصديق صاحب اليد على ما يده ، ومنها حمل فعل المسلم على الأحسن الذي هو الصحة الواقعية وإن لم يخبر ، ولذا يستحل المجتهد ومقلدته ما في يد مجتهد آخر ومقلدته محال الاختلاف في الطهارة والحل وغيرهما ، بل عليه مدار الناس في ذبائح العامة وأخذ الجلود منهم وغير ذلك مع اختلاف مذاهبهم ، وأصالة عدم ذهاب الثلثين مقطوعة بإخبار صاحب اليد وحمل فعل المسلم على الصحة الواقعية ، خصوصا إذا كان الغليان الذي هو عنوان التحريم قد استفيد من إخباره.

ولصحيح معاوية بن وهب (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن البختج ، فقال : إذا كان حلوا يخضب الإناء وقال صاحبه : قد ذهب ثلثاه وبقي الثلث فاشربه ».

وحسن عمر بن يزيد (٢) « إذا كان يخضب الإناء فلا بأس ».

ومن هنا يتجه حمل حسن عمر بن يزيد (٣) سأله « عن الرجل يهدي

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٢ « إذا كان يخضب الإناء فاشربه ».

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١.

٤٢٢

إلى البختج من غير أصحابنا ، فقال : إن كان ممن يستحل المسكر فلا تشربه ، وإن كان ممن لا يستحل فاشربه » على الكراهة.

كموثق ابن عمار (١) سأل الصادق عليه‌السلام « عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج وهو يقول قد طبخ على الثلث ، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف ، فقال : لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه ، قال : نعم ».

وصحيح علي بن جعفر (٢) سأل أخاه عليه‌السلام « عن الرجل يصلي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب زعم أنه على الثلث فيحل شربه قال : لا يصدق إلا أن يكون مسلما عارفا ».

والموثق (٣) « عن الرجل يأتي بالشراب فيقول : هذا مطبوخ على الثلث ، قال : إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب ».

لقصورها أجمع عن مقاومة ما عرفت ، خصوصا وليس في الأخير إلا ثبوت البأس الذي يجامع الكراهة ، كما أن سابقه فيمن لم يعلم استحلاله ولا يقول به الخصم ، بل لا يقول باعتبار الإسلام والمعرفة في قبول إخبار صاحب اليد ، بل هو مناف لما سمعته في ذيل الموثق السابق عليه.

وعلى كل حال فلا ريب في قصورها عن مقاومة ما سمعته من قاعدة إخبار صاحب اليد وقاعدة الصحة في فعل المسلم ، فيتجه حملها على ضرب من الكراهة ، والاحتياط عن خصوص الخمر والمسكر والعصير باعتبار شدة ما ورد (٤) فيه من المبالغة في تحريمه. فما في كشف اللثام

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٧.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٧ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

٤٢٣

والرياض من الحرمة واضح الضعف.

ومن الغريب ما في الأول ، فإنه بعد أن ذكر الموثق الأول قال : « وإذا حرم بمجرد كونه ممن يشربه على النصف فمع استحلاله أولى ، وإذا حرم مع إيمانه وإخباره فبدونهما أولى » ضرورة بناء الأولوية المزبورة على ثبوت الحكم في الأصل ، وهو معلوم العدم ، بل أولى من ذلك القول بإشعاره بإرادة الكراهة من النهي في غيره أيضا بعد معلومية إرادتها من النهي فيه ، والله العالم.

( و ) كذا ( يكره الاستشفاء بمياه الجبال الحارة ) كما يستعمله الأكراد بلا خلاف أجده فيه ، لخبر مسعدة بن صدقة (١) عن الصادق عليه‌السلام « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الاستشفاء بالحميات ، وهي العيون الحارة التي تكون في الجبال التي يوجد فيها رائحة الكبريت ، فإنها تخرج من فوح جهنم » القاصر عن معارضة الأصول والعمومات المتضمنة للجواز ، خصوصا بعد مرسل محمد بن سنان (٢) « كان أبي يكره أن يتداوى بماء الكبريت » ولذا حمل على الكراهة ، نعم قد يستفاد من تعليله كراهية مطلق استعماله ، والله العالم.

( و ) كيف كان فـ ( من اللواحق النظر في حال الاضطرار و ) ذلك لأن ( كل ما قلنا بالمنع من تناوله فالبحث ) كان ( فيه مع الاختيار و ) أما ( مع الضرورة ) فلا خلاف في أنه ( يسوغ التناول ل ) ما عدا الخمر منه ، قيل : أو الطين ، بل الإجماع بقسميه عليه.

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب الماء المضاف ـ الحديث ٣ من كتاب الطهارة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الأشربة المباحة ـ الحديث ٢.

٤٢٤

مضافا إلى ( قوله تعالى ) (١) ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (. وقوله تعالى ) (٢) ( : « ) ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). ( وقوله تعالى ) (٣) ( وما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) ( ).

وإلى قاعدة نفي الضرر والضرار (٤) ونفي الحرج (٥) وإرادة اليسر (٦) وسهولة الملة وسماحتها (٧) وقاعدة « كلما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر » التي ينفتح منها ألف باب (٨).

وإلى ما في خبر المفضل الطويل (٩) من « أنه تعالى علم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم وأباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم ، ثم أباحه للمضطر ، فأحله في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة

_________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٣.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٣.

(٣) سورة الأنعام : ٦ ـ الآية ١١٩.

(٤) المستفادة من الروايات المروية في الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من كتاب إحياء الموات.

(٥) المصطادة من الآية الكريمة المذكورة في سورة الحج : ٢٢ ـ الآية ٧٨.

(٦) المأخوذة من الآية الشريفة الواردة في سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٨٥.

(٧) المستفادة من الروايات العديدة التي منها ما رواه في الكافي ج ٢ ص ١٧ ومنها ما رواه في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب مقدمة العبادات ـ الحديث ٢٦ وغيرهما.

(٨) استفيدت هذه القاعدة من الروايات المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب قضاء الصلوات من كتاب الصلاة.

(٩) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

٤٢٥

لا غير » ونحوه مرسل محمد بن عبد الله (١) ومحمد بن عذافر (٢).

وإلى مرسل الصدوق المروي عن نوادر الحكمة (٣) « من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر ».

ومرسل الدعائم (٤) عن علي عليه‌السلام « المضطر يأكل الميتة وكل محرم إذا اضطر إليه ».

وعن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه‌السلام (٥) « قال الله سبحانه : فمن اضطر إلى شي‌ء من هذه المحرمات فان الله غفور رحيم ، ستار لعيوبكم أيها المؤمنون رحيم بكم حتى أباح لكم في الضرورة ما حظره في الرخاء » وإلى غير ذلك من النصوص التي سيمر عليك بعضها.

وحينئذ ( فليكن النظر في المضطر وكيفية الاستباحة ، ) ( أما المضطر فـ ) عن النهاية ( هو الذي يخاف التلف ) على نفسه ( لو لم يتناول ) قال فيها : « ولا يجوز أن يأكل الميتة إلا إذا خاف تلف النفس ، فإذا خاف ذلك أكل منها ما يمسك رمقه ، ولا يتملأ منه ».

وفي المسالك « وافقه عليه تلميذه القاضي وابن إدريس والعلامة في المختلف » ولعله لأنه المتيقن في الرخصة ، ولخبر المفضل (٦) ومرسل

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) أشار إليه في الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١ وذكره في علل الشرائع ص ٤٨٣ ط النجف.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٤) المستدرك ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤.

(٥) المستدرك ـ الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

٤٢٦

محمد بن عبد الله (١) ومحمد بن عذافر (٢) المتقدمين.

وفيه أن عنوان الرخصة المضطر الذي لا ريب في تحققه بغير ذلك والخبران المزبوران بعد الإغماض عن السند لا دلالة فيهما على الاختصاص وآية المخمصة مع عدم القائل بتقييد الاضطرار فيها حتى من الخصم لا تصلح لتقييد إطلاق غيرها لو سلم ظهورها في التقييد من جهة الشرطية.

ومن هنا قال المصنف بل المشهور كما في المسالك ( وكذا ) يتحقق الاضطرار ( لو خاف المرض بالترك ) بل ( وكذا لو خاف ( خشي خ ل ) الضعف المؤدي إلى التخلف عن الرفقة مع ظهور أمارة العطب ) بذلك ( أو ) إلى ( ضعف ) عن ( الركوب ) أو المشي ( المؤدي إلى خوف التلف).

بل الظاهر تحققه بالخوف على نفس غيره المحترمة ، كالحامل تخاف على الجنين ، والمرضع على الطفل ، وبالإكراه وبالتقية الحاصلة بالخوف على إتلاف نفسه أو نفس محترمة أو عرضه أو عرض محترم أو ماله أو مال محترم يجب عليه حفظه ، أو غير ذلك من الضرر الذي لا يتحمل عادة ، بل لو كان مريضا وخاف بترك التناول طول المرض أو عسر علاجه فهو مضطر خوفا.

ولا فرق في ذلك كله بين السفر والحضر ، إذ المدار على صدق الاضطرار الظاهر تحققه بخوف الضرر الذي لا يتحمل عادة إذا كان خوفا معتدا به عند العقلاء ، لا مجرد وهم فضلا عن العلم والظن ، بل قد يدعى تحققه عرفا مع عدم معارضة واجب من حفظ النفس ونحوه.

وعلى كل حال متى تحقق الاضطرار عرفا ( فحينئذ يحل له تناول

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

(٢) راجع التعليقة (٢) ص ٤٢٦.

٤٢٧

ما يزيل به تلك الضرورة ، ولا يختص ذلك نوعا من المحرمات إلا ما سنذكره ) عن قريب إنشاء الله ، لإطلاق الآيات (١) والروايات (٢) وغيرهما من الأدلة السابقة على الرخصة في الجميع.

( و ) كيف كان فـ ( لا يترخص الباغي ) لقوله تعالى (٣) : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ) بل في الإيضاح الإجماع عليه وعلى العادي وإن اختلف في المراد منهما ، ففي المتن ( و ) غيره الباغي ( هو الخارج على الامام ) العادل. قال الصادق عليه‌السلام في مرسل البزنطي (٤) : « الباغي : الذي يخرج على الامام والعادي : الذي يقطع الطريق لا يحل له الميتة » وعن التبيان ومجمع البيان أنه المروي عن الصادقين عليهما‌السلام (٥).

( وقيل ) كما عن الحسن وقتادة ومجاهد ( الذي يبغي الميتة ) ويتلذذ بها.

وقيل كما عن الزجاج : المفرط المتجاوز للحد الذي أحل له.

وقيل كما عن ابن عباس : غير المضطر ، ولعله يرجع إلى ما سمعته عن الحسن ، وكذا ما قيل من أنه المستحل لها.

وعن النهاية وابني البراج وإدريس أنه باغي الصيد بطرا ولهوا للخبرين الآتيين (٦).

( و ) كذا ( لا ) يترخص ( العادي ، وهو ) كما عن النهاية وابني البراج وإدريس ، وفي مرسل البزنطي (٧) المتقدم ( قاطع الطريق ).

_________________

(١) المتقدمة في ص ٤٢٥.

(٢) المتقدمة في ص ٤٢٦.

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٣.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأشربة المحرمة ـ الحديث ١ و ٢.

(٧) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٥.

٤٢٨

( وقيل ) كما عن الحسن وقتادة ومجاهد : هو ( الذي يعدو شبعه ) وعن ابن عباس : أنه الذي يعدو سد الرمق ، وعن الزجاج : المقصر وقيل : المتزود منها. وقيل : العادي بالمعصية طريقة المحقين. وعن التبيان ومجمع البيان أنه مع تفسير الباغي بالخارج على الامام هو المروي عن الصادقين عليهما‌السلام (١).

وفي خبر عبد العظيم الحسني (٢) عن الباقر عليه‌السلام وخبر حماد بن عثمان (٣) عن الصادق عليه‌السلام أنه السارق قال في الأخير في قوله تعالى (٤) ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) إلى آخرها : « الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة ».

وفي الأول في قوله عز وجل ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) إلى آخرها : « العادي السارق ، والباغي الذي يبغي الصيد بطرا ولهوا لا ليعود به على عياله ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا ، هي حرام عليهما في حال الاضطرار ، كما هي حرام عليهما في حال الاختيار ، وليس لهما أن يقصرا في صوم ولا صلاة في سفر ».

قلت : قد يقال : إن الظاهر إرادة المعنى المطابق لقوله تعالى في

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٦.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١ عن محمد بن علي الرضا عليه‌السلام وهو الصحيح ، لأن عبد العظيم عدوه من أصحاب الجواد والهادي والعسكري عليهم‌السلام فهو لم يدرك الباقر عليه‌السلام.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٣.

٤٢٩

الآية الأخرى (١) ( غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) من الباغي والعادي ، للاتفاق ظاهرا على تفسير المتجانف للإثم بالميل إلى أكل الميتة استحلالا أو اقترافا للإثم ، بخلاف البغي والعدوان الذي قد عرفت الاختلاف في تفسيرهما وإن كان منه ما ينطبق على ما ذكرنا.

ومنه يظهر رجحان ذلك على احتمال العكس ، بأن يراد بالمتجانف للإثم خصوص الباغي والعادي ، وحينئذ فيكون المراد الرخصة للمضطر من حيث كونه كذلك ، لا المتناول لها القادم على الإثم في ذلك أو المستحل لها ، فإنه لا رخصة لهما ولو في حال الاضطرار ، ضرورة عدم كون الباعث لهما الاضطرار بل البغي والعدوان ، أي التجانف للإثم في أكل الميتة حال الاختيار ، بل في الحقيقة لا اضطرار بالنسبة إليه ، ضرورة عدم حالة امتناع له حتى يكون ما فيه من الحال حال اضطرار له ، إذ المنساق من قوله (٢) ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) الرخصة للممتنع حال الاختيار إن اتفق اضطراره.

وحينئذ فقوله ( غَيْرَ مُتَجانِفٍ ) كالحال المؤكدة والكاشفة ، وكذا قوله ( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ) بناء على إرادة معنى غير المتجانف للإثم منهما ، ولا ينافي ذلك النصوص المزبورة التي لم تثبت حجيتها ، ومع التسليم يكون ما فيها أمر آخر (٣) تنتفي الرخصة فيه أيضا مضافا إلى ذلك.

وحينئذ فالمتجه بناء على الأول الرخصة للممتنع عنها اختيارا إذا اضطر إليها ولو كان باغيا أو قاطعا للطريق كما عن أبي حنيفة ، لإطلاق

_________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٣.

(٣) هكذا في النسختين الأصليتين ، والصحيح « يكون ما فيها أمرا آخر ».

٤٣٠

الأدلة فضلا عن مطلق العاصي بسفره ، وإن استشكل فيه الفاضل من قصر الأخبار على ما ذكر ، ومن عموم الآية والاشتراك في العلة ، واستناد الضرورة إلى سفر هو معصية ، والمعصية لا توجب الرخصة.

بل عن الإسكافي وعلي بن إبراهيم والشيخ أبي الفتوح الجزم بالعدم ، بل ذكر الأول منهم أنه مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وهو المحكي عن الشافعي ، بناء على أن المراد من الآية الرخصة للمضطر الموصوف بكونه غير باغ ولا عاد مطلقا ، لا في خصوص الأكل الذي هو المنساق من الآية ، إلا أنه لا يخفى عليك ما في الجميع بعد ما عرفت والله العالم.

( وأما كيفية الاستباحة فالمأذون فيه حفظ الرمق ) مع كون الاضطرار بالنسبة إليه خاصة ( و ) حينئذ فـ ( التجاوز حرام ، لأن القصد حفظ النفس ) والفرض حصوله ، فلا ضرورة بعده ، ومن هنا قالوا : إن الضرورة تقدر بقدرها ، بل عن ظاهر التبيان ومجمع البيان وروض الجنان وصريح الخلاف الإجماع على حرمة التجاوز.

بل ستسمع عن المنتهى والتذكرة ما يؤيد ذلك في المحرم المضطر لأكل الصيد ، سواء بلغ الشبع أو لا ، خلافا لبعض العامة ، فأباح الشبع ، وضعفه واضح.

نعم لو اضطر إليه للالتحاق بالرفقة جاز أو وجب حيث يجب ، ولو افتقر إليه ولكن يتوقع مباحا قبل رجوع الضرورة قيل : تعين سد الرمق وحرم الشبع.

وهل للمضطر الترود من الميتة؟ الأقرب ذلك ، كما عن أبي علي ، لاشتراك العلة مع الأصل ، ويحتمل العدم بناء على حرمة الانتفاع بها ، وإنما خرج الأكل بالنص والإجماع ، وضعفه واضح.

٤٣١

ولو لقيه مضطر آخر لم يجز له بيعها عليه ، إذ لا ضرورة في البيع ويجب دفعها إليه بغير عوض إذا لم يكن هو مضطرا في الحال وإن توقعه للتساوي في الاحترام ووجوب الحفظ مع رجحان الاضطرار في الحال على المتوقع ، لاحتمال العدم.

( وهل يجب التناول للحفظ؟ قيل : نعم ) بل قد يظهر من بعض الإجماع عليه ( وهو الحق ) لوجوب دفع الضرر وحفظ النفس وللمرسل (١) السابق المنجبر بالعمل ، خلافا لأحد وجهي الشافعي من جوازه له ، لكونه ضربا من الورع ، فيكون الصبر عليه كالصبر على القتل لمن يراد منه إظهار كلمة الكفر.

وفيه ما لا يخفى من وضوح الفرق بين الأمرين بعد تسليم الحكم في المقيس عليه ، بل الظاهر أن نحو التلف غيره من المضار على النفس المبيحة للتناول ، فعلم أنه متى جاز التناول لذلك وجب حفظا للنفس ، فليس هنا جواز بمعنى الإباحة وتساوي الطرفين ، نعم قد يأتي ذلك في غير النفس.

وعلى كل حال ( فـ ) ظهر لك أنه ( لو أراد التنزه والحال حالة خوف التلف ) للنفس بل أو الضرر الذي لا يتحمل عليها ( لم يجز ) ذلك ، لأنه إلقاء بيده في التهلكة ولما سمعته ، والله العالم.

( ولو اضطر إلى طعام الغير وليس له الثمن وجب على صاحبه ) الحاضر غير المضطر إليه ( بذله ، لأن في الامتناع إعانة على قتل المسلم ) وقد قال عليه‌السلام (٢) : « من أعان على قتل مسلم ولو بشطر

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب القصاص في النفس ـ الحديث ٤ من كتاب القصاص وفيه « من أعان على قتل مؤمن ... » وفي المستدرك الباب ـ ٢ ـ منها ـ الحديث ٤ « من أعان على قتل مسلم ... ».

٤٣٢

كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله » ولأنه يجب عليه حفظ النفس المحترمة ولو لغيره.

خلافا لمحكي الخلاف والسرائر فلم يوجباه ، للأصل بعد منع كونه إعانة ، وعدم دليل يدل على وجوب حفظ نفس الغير مطلقا ، حتى لو توقف على بذل المال ، إذ ليس إلا الإجماع ، وهو في الفرض ممنوع ، بل لعل السيرة في الأعصار والأمصار على خلافه في المقتولين ظلما مع إمكان دفعه بالمال ، وفي المرضي إذا توقف علاجهم ـ المقتضي حياتهم باخبار أهل الخبرة ـ على بذل المال.

إلا أنه لا يخفى عليك ما في ذلك كله ، ضرورة المفروغية من وجوب حفظ نفس المؤمن المحترمة ، وربما يشهد لذلك ما تقدم في النفقات التي أوجبوها على الناس كفاية على العاجز ، مضافا إلى النصوص الدالة على المواساة وغيرها ، بل لعله من الأمور التي استغنت بضرورتها عن الدليل المخصوص.

نعم لو كان هو مضطرا إليه أيضا لم يجب بذله له إلا أن يكون نبيا أولى به من نفسه أو وصي نبي كذلك ، بل لا يجوز بذله لغيرهما ، وإن قال في المسالك : « الأصح الجواز مع التساوي في الإسلام والاحترام لعموم قوله تعالى (١) ( ويُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) ولأن المقصود حفظ النفس المحترمة وهو حاصل بأحدهما ، فلا ترجيح ».

لكن فيه أن ظاهر الآية في غير الفرض ، كما أن من المعلوم عقلا ونقلا تقديم حفظ نفسه التي يعبد الله بها على غيره ، بل لعل ذلك من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، ودعوى كونه كثبات المجاهد لمثله مع ظهور أمارات العطب فإنه غير ملق بل فائز واضحة المنع.

_________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ ـ الآية ٩.

٤٣٣

فالتحقيق عدم جواز إيثاره ، كما لو كان ذميا أو بهيمة أو غيرهما من محترم الدم.

نعم لو لم يكن مضطرا اليه وجب عليه بذله للمضطر اليه كما عرفت ، بل في المسالك « مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا » بل فيها « وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأظهر » ولا يخلو من نظر.

ولو لم يبذله المالك فللمضطر أخذه منه قهرا ، بل ذكروا أن له أن يقاتله عليه ، بل لعل المتجه وجوب ذلك عليه ، بناء على ما سمعته في المتن من وجوب أكله منها حفظا لنفسه.

إلا أن ذلك كله لا يخلو من نظر وإن تجشم بعضهم له بادراجه في الدفاع ، ولكن عليه فلو قتله كان دمه هدرا ، بخلاف العكس ، بل في المسالك « لو منعه ـ أي غير المضطر ـ المضطر فمات جوعا ففي ضمانه له وجهان :

من أنه لم يحدث فيه فعلا مهلكا ، ومن أن الضرورة أثبتت له في ماله حقا ، فكأنه منعه من طعامه » وإن كان لا يخفى عليك ضعف الوجه الثاني.

كما أن ما فيه أيضا من أنه « في مقدار ما يجب على المالك بذله من سد الرمق أو القدر المشبع وجهان مبنيان على القدر الذي يحل من الميتة » كذلك لما عرفته من وضوح ضعف الثاني منهما عندنا ، لأن الضرورة تقدر بقدرها ، إلا أن يفرض ضرورته إلى أزيد من ذلك.

ثم إن كان المضطر قادرا على دفع ثمنه لم يجب على المالك بذله مجانا قطعا ، لأن ضرورة الجائع تندفع ببذله الثمن القادر عليه ، بل لو كان عاجزا لم يجب بذله كذلك وإن قيل ، كما حكاه المصنف بقوله : ( وهل له المطالبة بالثمن؟ قيل : لا ، لأن بذله واجب فلا يلزم العوض ) للأصل ومعلومية عصمة مال المسلم ، ووجوب البذل عليه لا ينافي ثبوت العوض في ذمة المبذول له ، فهو حينئذ كوجوب بذل

٤٣٤

الطعام في الغلاء على المحتكر والتسعير عليه الذي لا خلاف في أن له العوض وليس هو كاستنقاذ المشرف على الهلاك في عدم وجوب أجرة المثل التي لا تندرج في عموم « من أتلف » (١) ولا غيره مما يقتضي الضمان.

ولعل هذا مرادهم بما ذكروه من الفرق بين المقام وبين تخليص المشرف بأنه هناك يلزمه التخليص وإن لم يكن للمشرف مال ، ولا يجوز التأخير إلى تقدير الأجرة وتقريرها ، بخلاف ما هنا ، وإن قال في المسالك : « لا يخلو هذا الفرق من قصور ».

ثم قال : « وربما ساوى بعضهم بين الأمرين ، حيث يحتمل الحال موافقته على أجرة يبذلها أو يقبلها ، فلا يلزمه تخليصه حتى يقبل الأجرة كالمضطر ، كما أنه لو لم يحتمل الحال مساومة المضطر يجب عليه بذله ، ولا يلزمه العوض ، بخلاف ما إذا احتمل وإن لم يكن هناك مال مقدور عليه » وظاهره الميل إلى ذلك ، إلا أنه كما ترى ، ضرورة وضوح الفرق بين المقامين ، كوضوح ضمان الثمن في الأخير ، لقاعدة « من أتلف » وغيره بخلاف الأجرة.

نعم لو بذله مجانا وجب عليه قبوله وإن استلزم المنة التي لا تقابل حفظ النفس.

ولو بذله بالعوض ولم يقدره فأكله المضطر كان عليه قيمته في ذلك الزمان والمكان ، لأنه من الإباحة بالعوض ، فلا يحتاج إلى معلومية قدر المبذول ، بل له الشبع كائنا ما كان.

وفي المسالك « أو مثله إن كان مثليا » وفيه أنه مناف لقاعدة لا ضرر ولا ضرار لو بذل له ماء مثلا في الأرض القفراء ووفاه عند وروده الماء بمثله ، فتأمل.

_________________

(١) راجع التعليقة (٢) في ص ١٥٧.

٤٣٥

وإن قدر العوض فان لم يفرد له ما يأكله فله الأكل كذلك حتى يشبع مع فرض وقوع التراضي بذلك على أن يكون من الصلح أو الهبة بالعوض أو نحوهما ، وإن أفرده فإن كان المقدر ثمن المثل أخذه بعقد بيع جامع لشرائط صحته أو صلح كذلك أو غيرهما أو معاطاتهما ، وله أن يأخذ حينئذ ما فضل ، وإن كان أكثر من ثمن المثل فسيأتي البحث فيه.

وإن أطعمه المالك ولم يصرح بالإباحة ففي المسالك « فيه وجهان ، أصحهما أنه لا عوض عليه ، ويحمل على المسامحة العادية في الطعام ، سيما في حق المضطر » وفيه أن الأصل الضمان مع عدم تصريحه بالمجانية ولو بظهور حال يقوم مقام التصريح.

ومنه يعلم ما في قوله متصلا بما سمعت : « ولو اختلفا فقال المطعم : أطعمتك بعوض وقال المضطر : بلا عوض ففي تصديق المطعم لأنه أعرف بكيفية بذله أو المضطر لأصالة براءة ذمته وجهان » ضرورة كون المتجه بناء على ما ذكرناه أن القول قول المطعم.

ومن الغريب ميلة إلى الضمان في صورة الإيجار بعد ما سمعته منه ، قال : « ولو افتقر المضطر إلى وجود الطعام في فمه فوجره المالك وهو مغمى عليه بنية العوض ففي استحقاقه العوض وجهان ، والأولى القول بالاستحقاق هنا ، لأنه خلصه من الهلاك ، وكان كالعفو من القصاص إلى الدية ، ولما فيه من التحريض على تدارك المضطرين ، ووجه العدم أن المضطر لم يطلب ولم يتناول ، فكان المالك متبرعا ، والأقوى الأول » مع أنه يمكن كون الأمر بالعكس ، ضرورة قوة السبب على المباشر في الفرض.

ثم قال فيها أيضا : « وكما يجب بذل المال لإبقاء الآدمي يجب

٤٣٦

بذله لإبقاء البهيمة المحترمة وإن كانت ملكا للغير ، ولا يجب البذل للحربي والكلب العقور ، ولو كان للإنسان كلب غير عقور جائع وشاة فعليه إطعام الشاة » وفيه منع ، بل قد يقال بأولوية الكلب ، لإمكان ذبح الشاة بخلاف الكلب.

هذا كله لو كان صاحب الطعام حاضرا ، ولو كان غائبا أكل منه وجوبا وغرم قيمة ما أكل إن كان متقوما ، وفي المسالك « ومثله إن كان مثليا » وفيه ما عرفت.

ولا فرق في ذلك بين القدرة على العوض وعدمها ، لأن الذمة تقوم مقام الأعيان ، والله العالم.

( وإن كان الثمن موجودا وطلب ثمن مثله وجب ) على المضطر ( دفع الثمن ) حفظا لنفسه ، ولا يجوز له قهر صاحبه بدونه اتفاقا كما في كشف اللثام.

( ولا يجب على صاحب الطعام بذله لو امتنع من بذل العوض ، لأن الضرورة المبيحة لاقتساره مجانا ) لو قلنا به ( زالت بالتمكن من البذل ) نعم قد يقال بوجوب بذله له من غير ذكر المعاوضة وإلزامه بالقيمة بعد ذلك.

( وإن طلب زيادة عن الثمن قال الشيخ : لا تجب الزيادة ) وربما حمل على صورة العجز ، وفيه أن لفظه المحكي عن مبسوطة على ما في المسالك ـ « إذا امتنع صاحب الطعام من بذله إلا بأزيد من ثمن مثله فان كان المضطر قادرا على قتاله قاتله ، فان قتل المضطر كان مظلوما ، مضمونا ، وإن قتل المالك كان هدرا ، وإن لم يكن قادرا على قتاله أو قدر فتركه حذرا من إراقة الدماء فان قدر على أن يحتال عليه ويشتري منه بعقد فاسد حتى لا يلزمه إلا بثمن مثله فعله ، فان لم يقدر إلا على

٤٣٧

العقد الصحيح فاشتراه بأكثر من ثمن مثله قال قوم : يلزمه الثمن ، لأنه باختياره بذل ، وقال آخرون لا تلزمه الزيادة على ثمن المثل ، لأنه مضطر إلى بذلها ، فكان كالمكره عليها ، وهو الأقوى عندنا » ـ خال عن التقييد بذلك ، بل ظاهر تعليله وغيره القدرة عليها.

ومن هنا قال المصنف ( ولو قيل : تجب ) الزيادة ( كان حسنا ) وتبعه غيره ( لارتفاع الضرورة بالتمكن ) من بذل العوض ولو زائدا فلم يجب على المالك بذله ، لأنه غير مضطر حينئذ ( و ) لعله الأقوى.

نعم ( لو امتنع صاحب الطعام والحال هذه ) أي بذل المضطر الزيادة ( جاز له قتاله دفعا لضرورة العطب ) لا كما ذكره الشيخ من جواز القتال بدون دفع الزيادة.

( ولو واطأه فاشتراه بأزيد من الثمن كراهية لإراقة الدماء قال الشيخ ) كما سمعته من عبارته ( لا يلزمه إلا ثمن المثل ، لأن الزيادة لم يبذلها اختيارا ، وفيه إشكال ، لأن الضرورة المبيحة للإكراه ترتفع بإمكان الاختيار ) ولما عرفت من وجوب بذلها عليه ، والله العالم.

( ولو وجد ميتة وطعام الغير فان بذل له الغير طعامه بغير عوض أو عوض هو قادر عليه ) غير مضر بحاله ( لم تحل ) له ( الميتة ) بلا خلاف ولا إشكال ، لعدم صدق الاضطرار ، وإن بذله بزيادة كثيرة ففي المسالك « في تقديمه على الميتة مع القدرة أوجه : أحدها أنه لا يلزمه ولا بأس به مع الإضرار بالحال ، أما مع عدمه فالمتجه تقديمه عليها ، لعدم صدق الاضطرار.

( ولو كان صاحب الطعام غائبا أو حاضرا ولم يبذله وقوي صاحبه على دفعه عن طعامه أكل الميتة ) لوضوح صدق الاضطرار في الأخير ، أما الأول فوجه بأن الميتة محرمة لحق الله تعالى المبني على المساهلة ، وبأن

٤٣٨

إباحة الميتة للمضطر منصوص (١) عليها ، وجواز الأكل من مال الغير بغير إذنه يؤخذ من الاجتهاد ، وبأن الميتة يتعلق بها حق واحد لله تعالى ، ومال الغير يتعلق به الحقان واشتغال الذمة ، إلا أن الجميع كما ترى.

والاولى الاستدلال بصدق الاضطرار بعد إطلاق الأدلة وعمومها بحرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ، والممنوع شرعا كالممنوع عقلا ، فيتحقق الاضطرار الذي هو عنوان الرخصة.

ومنه يعلم وجه ضعف احتمال أكل الطعام لصدق القدرة على طعام حلال العين ، فأشبه ما إذا كان المالك حاضرا وبذله ، والتصرف في مال الغير منجبر بثبوت عوضه في الذمة.

وأضعف منه احتمال تخييره بين الأمرين لتعارض الحقين ، نعم يتجه ـ بناء على ما ذكرنا ـ ذلك في الحاضر إذا لم يبذل لعموم « الناس مسلطون على أموالهم » (٢) من غير فرق بين كونه قويا أو ضعيفا.

( و ) حينئذ فالقول بأنه ( إن كان صاحب الطعام ضعيفا لا يمنع أكل الطعام ، وضمنه ، ولم تحل الميتة ) لا يخلو من نظر.

ودعوى الفرق بينه وبين الغائب ـ بأن الغائب غير مخاطب بدفعه إلى المضطر ، وماله باق على أصل احترامه ، بخلاف الحاضر ، فإنه مأمور شرعا بدفعه ، فإذا امتنع جاز أخذه قهرا موافقة لأمر الشارع ، ولم يكن بسبب ذلك مضطرا إلى الميتة ـ واضحة الفساد.

ولعله لذا قال المصنف ( وفيه تردد ) وإن كان أولى من ذلك الجزم بالعدم ، خصوصا بعد الجزم بالحكم في الغائب ، والله العالم.

( وإذا لم يجد المضطر إلا الآدمي ميتا حل له إمساك الرمق من

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٥٦ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة.

(٢) البحار ـ ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث.

٤٣٩

لحمه ) وإن كان محترما إذا لم يكن نبيا أو وصي نبي ، ولا ينافي ذلك كون ميتته محترمة ، لإطلاق الرخصة في الميتة الشاملة للفرض عند الاضطرار ، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت ، بل مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين أكله نيا أو مطبوخا أو مشويا ، وإن كان الأولى الاقتصار على الأول مع فرض اندفاع الضرورة به ، محافظة على مقدار الضرورة في هتك حرمته بخلاف الميتة من غيره ، فإنه لا احترام لها.

ومن ذلك يعلم الوجه في المستفاد من قول المصنف : « وإذا لم يجد » إلى آخره من أنه إذا وجد المضطر ميتة ولحم آدمي أكل الميتة دون الآدمي من غير فرق بين الخنزير وغيره ، نعم ينبغي تقييده بمحترم الميتة من الآدمي دون غيره الذي هو كالخنزير ونحوه.

وكذا المحرم لو وجد الصيد ولحم الآدمي قدم الصيد ، وإن قيل بتقديم الميتة على الصيد في حقه مطلقا ، أو إذا لم يقدر على الفداء ، كما عن النهاية والتهذيب ، وإلا أكل الصيد ، لأن الميتة نجسة مضرة تنفر عنها الطبائع.

وعن أبي علي التفصيل بين ميتة ما يقبل الذكاة وبين غيرها ، فتقدم الأولى عن الصيد دون الثانية ، وعن الصدوق ذلك مع القدرة على الفداء.

وعن الخلاف والمبسوط والسرائر بل والتهذيب والاستبصار في وجه التفصيل بأنه إن كان الصيد حيا أكل الميتة مطلقا ، لأنه إذا ذبح الصيد كان ميتة ، أما لو وجد لحم الصيد الذي ذبحه المحل في الحل كان أولى من الميتة ، لأن تحريمه أخف من وجوه : منها أنه طاهر ، ومنها أنه خاص بالمحرم ، ومنها أنه لا يضر ، ومنها أنه لا تنفر منه الطباع ، ولكن الشيخ أطلق الحكم في اللحم ، وفصل ابن إدريس بأنه يأكله إن قدر على الفداء وإلا فالميتة.

٤٤٠