جواهر الكلام - ج ٣٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

ذلك في تفاوتهما ووجوب أزيد من النصف عليه ، لأنه شارك في تسعة واختص بواحد ، وهو واضح ».

وكذا الأردبيلي فإنه قال بعد أن ذكر الاحتمال المزبور : « وهذا الاحتمال لا يخلو من قوة ، وليس مبنيا على إخراج أرش جناية الأول وإدخال الثاني ، بل على أنه ما كان للأول شريك إلا بعد أن صيره تسعة مع شركته في قتله وإتلافه بالكلية ، وما كان له شريك قبل التسعة وليس النقصان على المالك معقولا ، ولا على الثاني أكثر من جنايته ، وهو إتلاف نصف التسعة ، فلا يكون إلا على الأول ما فعله مستقلا وما شارك ، ولأنه المبتدي ولإمكان أن يكون لفعله تأثير في القتل أكثر من الثاني ، لأنه صار شريكا بعد بعض التأثير ، فكأنه أتلف بعضه وميته ثم صار هذا شريكا له ، أو كأنه فعل أكثر من إتلاف نصف العشرة فإنه كان مستقلا إلى أن صارت تسعة ، وفيها حصل له شريك » إلى آخره. وإن كان ما قررناه أوضح. وعلى كل حال فهو الأقوى في النظر وفاقا لظاهر جماعة.

هذا ولا يخفى عليك أنه لا فرق في الاحتمالات المزبورة بين جناية الأجنبي والمالك ( و ) حينئذ فـ ( لو كانت إحدى الجنايتين من المالك سقط ما قابل جنايته ، وكان له مطالبة الآخر بنصيب جنايته ) الذي فيه الاحتمالات المزبورة.

بل في المسالك جريانها أيضا في مسألة الصيد ، قال : « إذا تقررت هذه المقدمات فلنرجع إلى ما يجب على الجاني الثاني على الصيد الذي قد أثبته الأول ، ونقول : أيما حكم به من هذه الأوجه على الأول يسقط ويلزم للأول ما يقابل جنايته ، كما لو كانت إحدى الجنايتين من المالك على عبده والأخرى من غيره ».

٢٢١

قلت : قد عرفت أن المصنف في مسألة الصيد قد استظهر التفصيل بين إدراك المالك التذكية وعدمه ، ففي الأول يغرم الثاني نصف قيمته معيبا وفي الثاني كمال قيمته معيبا ، وفي الدابة جعل الأقرب ما سمعته من غير إشارة إلى التفصيل المزبور ثم ضعفه ، وإن كان ما ذكره هنا من الأقرب ينطبق على ما ذكره في الصيد مع الإهمال ، وكذا سمعت ما ذكره في المسالك هناك وما قلناه عليه ، كما أنك سمعت ما حكيناه عن الدروس ، فلاحظ وتأمل.

هذا وفي القواعد « ولو ترتب الجرحان أي من الصائدين وحصل الإزمان بالمجموع فهو بينهما ، وقيل : للثاني ، فعلى الأخير لو عاد الأول فجرحه فالأولى هدر والثانية مضمونة ، فان مات بالجراحات الثلاث وجب قيمة الصيد وبه جراحة الهدر وجراحة المالك ، ويحتمل ثلث القيمة وربعها ».

قلت : كأن وجه احتمال كونه للثاني ما قدمناه سابقا من كون السبب فعل الثاني الذي حصل الجمع والضم اللذين سببا الاهلاك ، وفعل الأول حينئذ من قبيل الشرط أو المعد ، وحينئذ فيختص الضمان بالأول الذي هو جرحه ثالثا ، لكن يقوم عليه ، وبه الجراحتان السابقتان ، وهذا كله مؤيد لما ذكرناه من الاحتمال فيما ذكره المصنف أولا من الاحتمالات.

بل لعل ما ذكره أيضا في

المسألة ( الرابعة : )

كذلك أيضا ، وهي ( إذا كان الصيد يمتنع بأمرين كالدراج والقبج يمتنع بجناحه وعدوه فكسر الرامي جناحه ثم كسر آخر رجله قيل )

٢٢٢

والقائل الشيخ في محكي المبسوط ( هو لهما ) لاشتراكهما في المجموع الذي هو السبب في إثباته.

( وقيل ) : هو ( للأخير ، لأن بفعله تحقق الإثبات ، والأخير قوي ) إذ لا يخفى عليك أن المسألة كالجرحين المترتبين ، ولذا قال في المسالك في آخر المسائل : « وبقي من أحوال المسألة ما لو ترتب الجرحان وحصل الإزمان بمجموعهما فهو بينهما ، وقيل : هو للثاني ، وقد تقدم توجيه القولين فيما لو كان الصيد ممتنعا بأمرين فأبطل أحدهما أحدهما والآخر الآخر ».

وهو ظاهر في اتحاد مدرك المسألتين ، لكن الإنصاف إمكان الفرق بصدق اسم بقاء الامتناع على الصيد فيستقل بأخذه الثاني ويكون الأول حينئذ له كالمعين بخلاف الجرحين الساريين ، والله العالم.

المسألة ( الخامسة : )

( لو رمى الصيد اثنان ) مثلا دفعة ( فعقراه ثم وجد ميتا ) حل بلا خلاف ولا إشكال ، لأن كلا منهما أصابه حال امتناعه ، فيكفي ذلك في تذكيته ، سواء استند موته إليهما أو إلى أحدهما معينا أو مشتبها ، وكذا لو كانا متعاقبين والثاني هو الذي أثبته وقتله ، لأن موته حصل بالجرح الواقع حال امتناعه ( فـ ) يكون تذكيته له.

بل هو كذلك أيضا ( إن ) لم يعلم وقد ( صادف ) الرمي ( مذبحه فذبحه ) على وجه جامع لشرائط الذباحة ( فهو حلال ) أيضا ( وكذا إن أدركا ) ذكات ( ه‍ أو أحدهما فذكاه ).

( فان ) لم يصب مذبحه و ( لم تدرك ذكاته ووجد ميتا لم يحل ،

٢٢٣

لاحتمال أن يكون الأول أثبته ولم يصيره في حكم المذبوح فقتله الآخر وهو غير ممتنع ) فيكون ميتة ، لأنه في هذه الحال لا يحله إلا الذبح ، وأولى من ذلك ما لو علم أن الأول أثبته والثاني خاصة قتله أو هو مع الأول ، لما عرفت من صيرورته غير ممتنع بإثبات الأول ، فلا يحله إلا الذبح ، كما هو واضح. هذا كله من حيث الحل والحرمة ، وأما حكمه من حيث الملك فقد عرفته سابقا وتعرفه أيضا ، والله العالم.

المسألة ( السادسة : )

( ما يقتله الكلب بالعقر يؤكل ) بلا خلاف ( و ) لا اشكال ، كما أنه لا خلاف في أنه ( لا يؤكل ما يقتله بصدمه أو غمه أو إتعابه ) اقتصارا في الخروج عن أصل عدم التذكية على المنساق والمتيقن ، وهو الازهاق بالعقر الذي هو المراد بالإمساك في الآية (١) وغيرها الذي لا ريب في عدم صدقه على الأخير ، بل في كشف اللثام أن الأول داخل في الموقوذة ، والثاني في المنخنقة ، وفي النبوي (٢) « ما أهريق الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا » بل يمكن إرادة الإدماء من إمساك الجوارح إن كان الاشتقاق من الجرح بمعناه لا بمعنى الكسب.

وكذا لو اشتبه سبب موته ، لاحتمال كونه سبب غير محلل ، ومن ثم حكم بتحريمه على تقدير أن يغيب عن عين المرسل ما لم يعلم استناد موته إلى العقر المحلل استصحابا لحكم التحريم إلى أن يثبت الناقل عن الأصل ، والله العالم.

_________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٢٤٧ وفيه « ما أنهر الدم ... ».

٢٢٤

المسألة ( السابعة )

( رمى صيدا فظنه كلبا أو خنزيرا أو غيره مما لا يؤكل فقتله فبان صيدا لم يحل ) بلا خلاف أجده فيه ، بل ادعى بعض الناس الإجماع عليه ، لانسياق قصد الصيد المحلل من إطلاق الأدلة الذي خرج به عن أصل عدم الحل وعدم التذكية.

( وكذا لو رمى سهما إلى فوق ) عبثا أو لقصد غير الصيد ( فأصاب صيدا ) لم يحل ( وكذا لو مر بحجر ثم عاد فرماه ظانا بقاؤه فبان صيدا ، وكذا لو أرسل كلبا ليلا ) مثلا لغرض غير الاصطياد ( فقتل ) لم يحل أيضا ( لأنه لم يقصد الإرسال ) للصيد ( فجرى مجرى الاسترسال ) إلى غير ذلك من الأمثلة المجردة عن قصد الصيد ، إنما الكلام في تحققه مع عدم العلم بالصيد أو عدم مشاهدته ولو مع ظنه ، وقد تقدم البحث في ذلك مفصلا.

نعم قد يظهر من المصنف وغيره اعتبار قصد صيد الحيوان المأكول. وفيه أنه مع الاكتفاء بقصد أصل الصيد وقلنا بإباحة اصطياد غير المأكول من السباع ونحوها وإن لم يجد ذلك إلا في الطهارة يتجه حال ما صاده بقصد كونه غير المأكول فبان مأكولا وطهارة ما صاده بظن أنه مأكول فبان غير مأكول مما يصح تذكيته بالصيد ، لحصول الشرط الذي هو قصد الصيد ، ولا يعتبر فيه التعيين ، ولذا يحل لو قصد معينا فصاد غيره.

ويمكن حمل كلام المصنف وغيره على إرادة ما لا يذكيه الاصطياد من غير المأكول ، إذ لا قصد فيه للصيد المحلل ، بل هو كقصد صيد

٢٢٥

الكلب والخنزير والآدمي ونحوها ، أو يقال : إن أدلة التذكية الصيدية ظاهرة في المأكول ، وغير المأكول إنما صح تذكيته بالصيد للخبر الوارد في السباع (١) الظاهر في تعيينها وقصدها ، فيبقى غيره على أصالة عدم التذكية في الصورتين ، ولكنه كما ترى ، ضرورة ظهور الخبر المزبور في كون تذكيتها على حسب غيرها من الصيد.

هذا وقد تقدم تحقيق الحال في اعتبار المشاهدة أو العلم أو الظن في حل الصيد ، أو في تحقق قصد الصيد ، أو في صدق ذكر اسم الله عليه وعدمه ، وقد قلنا : إن ظاهر الأدلة عدم الاعتبار أصلا ، وحينئذ يتحقق صدق الصيد وذكر الاسم مع الاحتمال فضلا عن الظن أو العلم غير المشاهدة ، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه ، خصوصا مع أصالة عدم التذكية ، والله العالم.

المسألة ( الثامنة : )

( الطير إذا صيد مقصوصا لم يملكه الصائد ) بلا خلاف أجده فيه ، لظهور النصوص في اعتبار حل صيده ملك جناحيه قال الصادق عليه‌السلام في الموثق (٢) : « إذا ملك الطائر جناحه فهو لمن أخذه ».

وفي خبر إسماعيل بن جابر (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام « قلت له : الطائر يقع على الدار فيؤخذ إحلال هو أم حرام لمن أخذه؟ قال :

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ٤ من كتاب الأطعمة والأشربة.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٦.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٢.

٢٢٦

يا إسماعيل عاف هو أو غير عاف؟ قلت : وما العافي : قال : المستوي جناحاه المالك جناحيه يذهب حيث شاء ، قال : هو لمن أخذه حلال ».

وفي خبر السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن الطائر إذا ملك جناحيه فهو صيد ، وهو حلال لمن أخذه ».

ونحوه موثق إسحاق بن عمار (٢) عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام « إن عليا عليه‌السلام كان يقول : لا بأس بصيد الطير إذا ملك جناحيه ».

نعم هي ظاهرة في حله مع ملك جناحيه وإن لم يعلم إباحته ، بل وإن كان فيه أثر يدل على اليد المقتضية ملكيته ، بل وإن علم أنه مملوك لم يعرف صاحبه ، بل لعله صريح صحيح زرارة (٣) المروي عن مستطرفات السرائر نقلا عن كتاب جميل بن دراج عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجل صاد حماما أهليا ، قال : إذا ملك جناحه فهو لمن أخذه ».

بل هو أيضا ظاهر ما استطرفه من جامع البزنطي عن إسحاق بن عمار (٤) « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الطير يقع في الدار فنصيده وحولنا حمام لبعضهم ، فقال : إذا ملك جناحه فهو لمن أخذه ، قال : قلت : يقع علينا فنأخذه وقد نعلم لمن هو ، قال : إذا عرفته فرده على صاحبه ».

وصحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر (٥) « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يصيد الطير يساوي دراهم كثيرة وهو مستوي

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٤.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٥.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٦.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ١.

٢٢٧

الجناحين فيعرف صاحبه أو يجيئه فيطلبه من لا يتهمه ، فقال : لا يحل له إمساكه ، يرده عليه ، فقلت له : فان صاد ما هو مالك لجناحيه لا يعرف له طالبا ، قال : هو له ».

وموثق محمد بن الفضيل (١) « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن صيد الحمامة يسوى نصف درهم أو درهما ، قال : إذا عرفت صاحبه فرده عليه ، وإن لم تعرف صاحبه وكان مستوي الجناحين يطير بهما فهو لك ».

ومرسل الصدوق (٢) قال : « قال : الطير إذا ملك جناحيه فهو لمن أخذه إلا أن يعرف صاحبه ، فيرده عليه ».

قال : « ونهى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن صيد الحمام بالأمصار » (٣).

وفي خبر النوفلي عن السكوني (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في رجل أبصر طيرا فتبعه حتى وقع على شجرة فجاء رجل فأخذه ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : للعين ما رأت ولليد ما أخذت ». وجميعها ظاهر فيما قلناه وإن اختلفت جهة الظهور فيها.

ولا ينافي ذلك ما تقدم سابقا من عدم خروج الصيد المملوك بامتناعه ، لإمكان القول بصحة تملك خصوص الطير المستوي الجناحين وإن كان مملوكا ، كلقطة ما دون الدرهم وفي المفازة ، بل يمكن القول بجريان حكم الصيد عليه في التذكية أيضا.

بل لعل في النصوص المزبورة إيماء إلى ذلك ، خصوصا مع تأييدها

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٢.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٤.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ١.

٢٢٨

بما تقدم من إجراء التذكية الصيدية في الحيوان الأهلي إذا توحش أو امتنع ، لكن ظاهر الأصحاب خلاف ذلك ، وأن الطير كغيره من الأموال المملوكة التي يجري عليها حكم الالتقاط ونحوه.

بل ظاهر قول المصنف والفاضل في القواعد وغيرهما ( وكذا مع كل أثر يدل على الملك ) أن عدم حل صيد المقصوص باعتبار كون القص أثر يقتضي الحكم بأنه مملوك ، وليس من المباح الذي يجري عليه حكم الصيد ، لا من حيث كونه غير مستوي الجناحين ، ولذا ألحقوا به كل أثر يدل على اليد المزبورة من شد خيط ونحوه في رجله أو في عنقه أو في جناحه ، قال في الدروس : « وكل صيد عليه أثر الملك كقص الجناح لا يملكه الصائد وكذا غيره ».

بل ظاهرهم ذلك وإن كان القص لا يمنعه من الطيران ، نعم تأمل المقدس الأردبيلي في دلالة ذلك ونحوه على التملك ، لأن أقصاه الدلالة على أنه كان في يد انسان ، وهو أعم من الملكية ، إلا أن يثبت أن ذلك مملك على كل حال ، وهو غير ظاهر بناء على اشتراط القصد في تملك المباح وعدم الغفلة أو عدم قصد عدم التملك أو الأخذ والتصرف بقصد التملك ، وليس في الأثر المزبور دلالة على ذلك ، بل يمكن كون القص بآلة من دون مباشرة أحد إلى غير ذلك مما ذكره مما هو مناف لظاهر الأصحاب.

بل في المسالك التصريح بعدم اعتبار هذه الاحتمالات ، قال : « في حكم المقصوص أن يكون مقرطا أو مخضوبا أو موسوما ، لدلالة هذه الآثار على أنه كان مملوكا وربما أفلت ، فيستصحب حكم الملك ولا ينظر إلى احتمال فعل ذلك به عبثا من غير قصد التملك ، لأن الأثر يدل على اليد ، واليد يحكم لها بالملك ولو لم يعلم سببه ، بل وإن احتمل عدم صحة

٢٢٩

السبب ، وكذا لا ينظر إلى احتمال أنه اصطاده محرم وفعل ذلك به ثم أرسله فإنه تقدير بعيد ».

وفي الرياض « أن حاصل ذلك يرجع إلى ترجيح الظاهر في هذه المسألة على أصالة الإباحة ، وعدم الحكم بمالك له بالكلية ، وهو وإن كان خلاف التحقيق إلا في موارد مخصوصة إلا أنه يمكن استفادته من الصحيح السابق (١) حيث اكتفي فيه بالملك لمن يدعيه بمجرد دعواه الغير معلوم أنها صادقة أم كاذبة بعد أن ذكر أنه ليس المدعي محل التهمة ، ولا ريب أن تلك الدعوى بمجردها ولو قرنت بعدم اتهام مدعيها لا تفيد سوى الظهور والمظنة ، ولعل المظنة الحاصلة من ترتب اليد بكونه مع النية أقوى من المظنة الحاصلة بمجرد الدعوى المقرونة بعدم تهمته ، هذا مع أن أصالة الملك على تقدير تسليم جواز الاستناد إليها مطلقا معارضة بأصالة بقاء عدم ملك الصائد لما صاده ، وبعد التعارض والتساقط يبقى إثبات ملكيته محتاجا إلى حجة أخرى عن المعارض سليمة ، ولا وجود لها هنا بالكلية سوى إطلاق النصوص (٢) بأنه لمن أخذه ، وقد مر إلى جوابه الإشارة ».

وقد ذكر سابقا « أن عدم تملك المقصوص ونحوه باعتبار الأثر الدال على ترتب اليد الموجب للملكية له بمجرده ، كما عليه جماعة ودل عليه بعض النصوص المتقدمة ونحوه مضاهية في السنة « للعين ما رأت ولليد ما أخذت » (٣) ـ قال ـ : وأما على القول بعدم إفادته ذلك بمجرده ـ بل لا بد معه من النية كما عليه آخرون ، لاستصحاب بقاء عدم الملكية ، واختصاص ما مر من النصوص بحكم التبادر بصورة مقارنة النية لترتب اليد ـ فكذلك ، لما

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ١.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الصيد.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ١.

٢٣٠

عرفت من الظهور المستفاد من وجه اختصاص النصوص بتلك الصورة ، فلا يلتفت إلى احتمالات منافية للملكية ، كأن فعل ذلك به عبثا من غير قصد التملك ».

وهو كما ترى لا يصلح جوابا عما تقتضيه إطلاق النصوص المزبورة الذي لو لا الإجماع لكان شاملا لمعلوم الملكية.

وأضعف من ذلك دعوى معارضة أصالة الإباحة بأصالة عدم تملك الصائد المقطوعة بما دل على تملكه لما يصيده كتابا (١) وسنة (٢) المقتصر في الخروج منه على المملوك خاصة لا غيره ، فلا يقدح احتمال كون الطير مملوكا ولو لكونه متكونا من بيض مملوك أو غير ذلك مما لا ينافي إطلاق الأدلة المزبورة الذي مقتضاه عموم الحل إلا للمملوك لا خصوص المباح منه ، ومع التسليم فلا ريب في صلاحية الأصل لتنقيح ذلك ، وإلا لم يحل الصيد أصلا ، لاستحالة العلم بكونه مباح الأصل أو تعسره ، كما هو واضح.

وأضعف من ذلك ما ذكره من الاستفادة من الصحيح المزبور التي لا ترجع إلى حاصل يصلح لأن يكون دليلا شرعيا بعد تسليم العمل بما في الصحيح المزبور من وجوب الدفع بمجرد الدعوى التي لا تهمة فيها إذا لم يحصل العلم منها ، وربما أمكن إرادة ذلك من الصحيح ، خصوصا مع فرض كون المراد من العلم الذي عليه المدار الطمأنينة.

وبذلك كله يتجه الأخذ بإطلاق الأدلة ، خصوصا مع احتمال عدم اليد أو احتمال كونها غير صالحة للملك بإحرام أو ارتداد فطري أو نحوهما إلا إن ظاهر من تعرض للحكم هنا ممن وقفنا على كلامه عدم الفرق بين الطير وغيره ، وبين القص وغيره من الآثار التي تدل على حصول اليد المقتضية

_________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ و ٤ وغيرها ـ من أبواب الصيد.

٢٣١

للملك ، وبين ملك الجناح وعدمه مع فرض عدم الأثر ، ولذا قال في كشف اللثام في شرح عبارة الفاضل : « لو كان مالكا جناحه أو ساقطة ولا أثر عليه لملك فهو لصائده ».

وكذا قول المصنف في مقابل ذي الأثر ( وإن كان مالكا جناحه فهو لصائده إلا أن يكون له مالك ) ولو مجهولا ، فيكون لقطة ( وعلى هذا لو انتقلت الطيور من برج إلى آخر لم يملكها الثاني ) مع فرض أنها كانت مملوكة لذي البرج الأول.

وبالجملة لا فرق عندهم بين الطير وغيره من الصيد ، إن كان فيه أثر يدل على اليد جرى عليه حكم اللقطة ، وإلا كان لآخذه ، وهو إن تم إجماعا كان هو الحجة التي يمكن تنزيل النصوص المزبورة عليه ، وإلا كان المتجه ما سمعت.

وبيض الطير تبع للأنثى ، فمع فرض وجود المالك لها يكون ملكا له كغيره من الحيوانات غير الآدمي.

ولو كان الحمام المتحول من برج إلى آخر مباحا ففي دخوله في ملك صاحب البرج ما تقدم من الكلام فيما إذا عشش في داره طائر ، نعم في المسالك أن البرج أولى بالملك من ذلك ، لأنه يقصد لذلك ، وقد عرفت أن المدار على صدق الحيازة والدخول تحت اليد والقبضة.

ولو شك صاحب البرج في أن الحمام الداخل من المباح أو ملك الغير ولا أثر لليد عليه فهو أولى به ، لإطلاق الأدلة ، نعم في المرسل (١) النهي عن حمام الأمصار ، ويمكن حمله على الكراهة أو على المعلوم أن له مالكا.

ولو علم اختلاط ملك الغير بملكه فان كان محصورا اجتنب الجميع حتى يصالح ، وكذا في الاجتناب لو اختلط المملوك للغير بالمباح وكان

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٤.

٢٣٢

محصورا. نعم إن لم يكن محصورا جاز ، وفي المسالك « ومن هذا الباب ما لو انثالت حنطة انسان على غيره أو انصب مائع في مائع وجهل المقدار فالحكم كما ذكر في اختلاط الحمام ، والطريق التخلص بالصلح ، ولو ملك انسان ماءا بالاستقاء ونحوه ثم صبه في نهر لم يزل ملكه عنه ، ولكن لا يمنع الناس من الاستقاء ، لأنه غير محصور » قلت : لا يخفى عليك ما تقتضيه القواعد العامة في ذلك وغيره ، والله العالم.

المسألة ( التاسعة )

قد عرفت في ما تقدم أن ( ما يقطع من السمك ) حال حياته ( بعد ) تذكيته بـ ( إخراجه من الماء ) مثلا ( ذكي ، سواء ماتت أو وقعت في الماء مستقرة الحياة ، لأنه مقطوع بعد تذكيتها ) وليس هو من الأجزاء المبانة من حي المحكوم بأنها ميتة المراد بها المقطوعة قبل تذكيته ، كما هو واضح ، والله العالم.

المسألة ( العاشرة : )

( إذا أصابا صيدا دفعة فان ) تساويا في سبب الملك بأن ( أثبتاه فهو لهما ) وفي المسالك « وذلك بأن يكون كل واحد منهما مذففا أو مزمنا لو انفرد ، وكذا لو كان أحدهما مزمنا لو انفرد بأن كسر الجناح والآخر مذففا لو انفرد ، لأن كل واحد من المعنيين يثبت الملك ، ولا

٢٣٣

فرق بين أن يتفاوت الجراحتان صغرا وكبرا أو يتساويان ، ولا بين أن يكون في غير المذبح أو فيه أو أحدهما فيه والآخر خارجه ».

قلت : لا فرق بين أن يكون جرح كل منهما كذلك ( و ) عدمه بعد استناد الإثبات إلى مجموعهما الذي هو سبب الملك ، إذ الفرض كونهما دفعة.

نعم ( لو كان أحدهما جارحا والآخر مثبتا فهو للمثبت ) منهما ( ولا ضمان على الجارح ، لأن جنايته لم تصادف ملكا لغيره). ( ولو ) اشتبه الحال بأن ( جهل المثبت منهما ) بعد العلم بأنه أحدهما ( فـ ) عن بعض ( الصيد بينهما ) ظاهرا ، لاتحاد نسبتهما إليه واستحالة الترجيح من غير مرجح ، وإن كان الأحوط أن يستحل أحدهما من الآخر.

( و ) لكن ( لو قيل يستخرج ) المثبت منهما الذي هو المالك ( بالقرعة كان حسنا ) لأن الفرض العلم بكونه أحدهما ، ولا قاعدة شرعية تقتضي الاشتراك أو التعيين ، فيكون من المشكل الذي له القرعة.

هذا وعلل في المسالك احتمال القرعة في الفرض بأنا لا نعلم أن أحدهما أثبته دون الآخر ، والاشتراك يوجب تمليك من ليس بمقطوع الملك ، والقرعة لكل أمر مشكل ، وهذا أولى ، ولو علمنا أن أحدهما المذفف وشككنا في الآخر هل له أثر في الازمان والتذفيف أم لا؟ فالوجهان ، وأولى بالقرعة هنا ، لان ملك المذفف معلوم دون غيره.

قلت : لا يخفى عليك ما فيه من عدم موافقة مفروض المتن للتعليل المزبور ، نعم هو موضوع آخر كما ذكره في القواعد ، قال : « ولو أصاباه دفعة وكان أحدهما مزمنا أو مذففا دون الآخر فهو له ، ولا ضمان على الآخر ، وإن احتمل أن يكون الازمان لهما أو لأحدهما فهو لهما ، ولو

٢٣٤

علمنا أن أحدهما مذفف وشككنا في الثاني للمعلوم النصف والنصف الآخر موقوف على التصالح ، ولو أثبته أحدهما وجرحه الآخر فهو للمثبت ، ولا شي‌ء على الجارح ، ولو جهل المثبت منهما اشتركا ، ويحتمل القرعة ».

وفي كشف اللثام في شرح قوله : « على التصالح » قال : « أو يتبين الحال ، للإشكال ، وقد يقال : يكون بينهما نصفين ، فيكون للأول ثلاثة أرباعه وللثاني ربعه ، كمتداعيين في نصف عين بيد ثالث مع الاتفاق على تفرد أحدهما بالنصف الآخر وتعارض البينتين ».

قلت : لا يخفى عليك ما فيه ، كما لا يخفى عليك ما تقتضيه القواعد العامة في ذلك ، والله العالم.

٢٣٥

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

كتاب

معرفة أحكام

الأطعمة والأشربة

التي هي من المهمات للإنسان باعتبار كونه جسدا لا يمكن استغناؤه عنهما ، قال الله تعالى (١) ( وما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ ) مع التوعد الشديد كتابا وسنة على تناول المحرم منهما ، حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) : « أي لحم نبت على الحرام فالنار أولى به » ومن المعلوم المقرر في الأصول أن العقل والشرع تطابقا على أصالة الإباحة والحل في تناول كل ما لم يعلم حرمته من الشرع ولو لاشتماله على ضرر في البدن من المأكول والمشروب.

قال الله تعالى شأنه (٣) في مقام الامتنان على عباده ( هُوَ الَّذِي

_________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ ـ الآية ٨.

(٢) مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٢٩١ وفيه « أيما عبد نبت لحمه من سحت ... ».

(٣) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٩.

٢٣٦

خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وقال ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (١) ( قُلْ : لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام (٣) : « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي ». وقال عليه‌السلام أيضا (٤) : « كل شي‌ء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصول في مقابل القول بأن الأشياء على الحظر أو الوقف.

نعم قال الله تعالى (٥) ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، قُلْ : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) والطيب وإن أطلق على الحلال كقوله تعالى (٦) ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) ـ ويقابله إطلاق الخبيث على الحرام في قوله تعالى (٧) ( ولا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) ـ وعلى الطاهر في قوله تعالى (٨) ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) وعلى ما لا أذى فيه في النفس والبدن ، كما يقال : زمان طيب ، أي لا أذى فيه من حر أو برد إلا

_________________

(١) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٦٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ ـ الآية ١٤٥.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٢ ـ من أبواب صفات القاضي ـ الحديث ٦٠ من كتاب القضاء.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به ـ الحديث ١ من كتاب التجارة.

(٥) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٤.

(٦) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ١٧٢.

(٧) سورة البقرة : ٢ ـ الآية ٢٦٧.

(٨) سورة النساء : ٤ ـ الآية ٤٣.

٢٣٧

أن الأولين غير مرادين هنا ، ضرورة عدم الفائدة في الجواب على الأول منهما ، بل وعلى الثاني الذي هو توقيفي من الشارع ، بل في المسالك ولا الثالث ، لأن المأكول لا يوصف به وإن كان فيه منع واضح.

ثم قال : « فتعين أن يكون المراد ردهم إلى ما يستطيبونه ولا يستخبثونه ، فردهم إلى عادتهم وما هو مغرز في طبائعهم ، ولأن ذلك هو المتبادر من معنى الطيب عرفا ، وسيأتي في الأخبار ما ينبه عليه ، والمراد بالعرف الذي يرجع إليه في الاستطابة عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار دون أهل البوادي وذوي الاضطرار من جفاة العرب ، فإنهم يستطيبون ما دب ودرج ، كما سئل بعضهم عما يأكلون فقال : كل ما دب ودرج إلا أم جنين ، فقال بعضهم : لتهن أم جنين العافية لكونها أمنت أن تؤكل ». وفيه أن أكلهم ذلك لا يقتضي استطابتهم له.

ومنه يعلم ما في مجمع البرهان قال : « معنى الخبيث غير ظاهر ، إذ الشرع ما بينه ، واللغة غير مرادة ، والعرف غير منضبط ، فيمكن أن يقال : المراد عرف أوساط الناس وأكثرهم حال الاختيار من أهل المدن والدور لا أهل البادية ، لأنه لا خبيث عندهم ، بل يستطيبون جميع ما يمكن أكله ، فلا اعتداد بهم » بل ربما نوقش أيضا بأنه إن أراد إحالة التنفر والاشمئزاز إلى عرفهم فهو إنما يتم لو علم أنه معنى الخباثة وهو بعد غير معلوم ، وإن أراد إحالة الخباثة إلى غيرهم فلا عرف لها عند غير العرب ، لأنها ليست من لغتهم ولم يتعين مرادفها في لغتهم.

هذا مع أن طباع أكثر أهل المدن العظيمة أيضا مختلفة في التنفر وعدمه جدا ، كما لا يخفى على من اطلع على أحوال سكان بلاد الهند والترك والإفرنج والعجم والعرب في مطاعمهم ومشاربهم ، ولذا خص بعض بعرف

٢٣٨

بلاد العرب ، وهو أيضا غير مفيد ، لأن عرفهم في هذا الزمان غير معلوم مع أنه لو كان مخالفا للغة لم يصلح مرجعا ، وكذا عرفهم في زمان الشرع.

وبالجملة لا يتحصل لنا اليوم من الخبائث معنى منضبطا يرجع اليه ، فيجب الاقتصار فيها على ما علم صدقها عليه قطعا ، كفضلة الإنسان ، بل فضلة كل ما لا يؤكل لحمه من الفضلات التحتية المنتنة ، وكالميتات المتعفنة ونحوها ، والرجوع في البواقي إلى الأصل الأول ، ولا يضر عدم حجية بعض العمومات المبيحة للأشياء لتخصيصها بالمجمل ، إذ الأصل العقلي والشرعي في حلية ما لم يعلم حرمته كاف في المطلوب.

وربما يؤيد ذلك بأن عقاقير الأدوية المركبة تنفر عنها غالب الطباع وتشمئز منها أكثر النفوس مع أنها ليست خبيثة عرفا ولا محرمة شرعا ، بل ربما كان عدم الاعتياد سببا في تنفر الطبع ، كما في الجراد الذي تنفر عنه طباع العجم دون العرب ، وكالحية والفأرة والضب ونحوها التي تنفر عنها طباع أهل المدن دون أهل البادية ، وربما كانت الحرمة الشرعية سببا في ذلك كالخنزير الذي يستطيبه النصارى دون المسلمين.

إلا أنه لا يخفى عليك ما في الجميع ، ضرورة كون المراد من الخبيث الذي هو عنوان التحريم هو ما يستخبثه الإنسان بطبعه السليم من آفة من حيث ذاته وينفر منه ويشمئز منه ، من غير فرق بين العرب والعجم وأهل المدن والبادية وزمان اليسار وغيره ، إذ هو معنى قائم في المستخبث لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والناس ، ويقابله الطيب الذي هو كذلك ، فلا عبرة بنفرة بعض الطباع ، لعدم تعود أو لعدم ملائمة لخصوص ذلك الطبع أو لغير ذلك مما يكون سببا للنفرة لا من حيث الطبع الإنساني المشترك بين غالب أفراده.

أو يقال : إن المراد بيان سهولة هذه الملة وسماحتها وعدم الحرج

٢٣٩

فيها وعدم التكليف الابتلائي فيها ، كما اتفق لبني إسرائيل الذين حرم عليهم بعض الطيبات بسبب أفعالهم ، وإن المحرم فيها الخبائث ، والمحلل فيها الطيب لتشتد الرغبة في الدخول فيها قال المفضل (١) : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : لم حرم الله الخمر والميتة والدم والدم ولحم الخنزير؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبته منه فيما حرم عليهم ولا زهد فيما أحل لهم ، ولكنه خلق الخلق ، فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم ، فأحله لهم وأباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم ، ثم أباحه للمضطر وأحل له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به ، فأمره أن يتناول منه بقدر البلغة لا غير ذلك ـ ثم قال ـ : أما الميتة فإنه لا يدمنها أحد إلا ضعف بدنه ونحل جسمه ووهنت قوته وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة ، وأما الدم فإنه يورث أكله الماء الأصفر ، ويبخر الفم ويورث الكلب والقسوة في القلب وقلة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده وو الدية ، ولا يؤمن على حميمه ، ولا يؤمن على من يصحبه وأما لحم الخنزير فان الله تبارك وتعالى مسخ قوما من صور شتى مثل الخنزير والقرد والدب وما كان من المسوخ ، ثم نهى عن أكل المثلة ( عن أكل الثلاثة خ ل عن أكله مثله خ ل ) لكيلا ينتفع الناس به ، ولا يستخفوا بعقوبته ، وأما الخمر فان الله حرمها لفعلها وفسادها ، وقال : مدمن الخمر كعابد وثن يورثه الارتعاش ، ويذهب بنوره ، ويهدم مروته ، ويحمله على أن يجسر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا ، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على محرمه وهو لا يعقل ذلك ، والخمر لا يزداد شاربها

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب الأطعمة المحرمة ـ الحديث ١.

٢٤٠