جواهر الكلام - ج ٣٦

الشيخ محمّد حسن النّجفي

المسألة ( الثالثة : )

( إذا قطعت رقبة الذبيحة من القفا ) مثلا ( وبقيت أعضاء الذباحة فإن كانت حياتها مستقرة ذبحت وحلت بالذبح وإلا كانت ميتة ، ومعنى المستقرة ) كما في التحرير والقواعد والإرشاد ( التي يمكن أن يعيش مثلها اليوم والأيام ، وكذا لو عقرها السبع ) مثلا ( ولو كانت الحياة غير مستقرة ـ وهي التي يقضى بموتها عاجلا ـ لم تحل بالذباحة ، لأن حركتها كحركة المذبوح).

وبالجملة فمدار موضوع المسألة وما شاكلها على اعتبار استقرار الحياة في الحل بالذبح أو النحر ، كما عن الشيخ في الخلاف والمبسوط وابني حمزة وإدريس والفاضل وولده والشهيد في اللمعة وغاية المراد والسيوري في كنز العرفان والصيمري في تلخيص الخلاف والمقدس الأردبيلي والفاضل الأسترابادي والجواد الكاظمي في آيات الأحكام ، بل عن الصيمري نسبته إلى أكثر المتأخرين ، بل في الروضة نسبته إليهم.

بل لعله ظاهر المرتضى والطبرسي ، إذ الأول في المسائل الناصرية بعد أن حكى فيها عن الناصر تحريم ما ذبح وهو يكيد بنفسه قال : « هذا صحيح ، والحجة فيه أن الذي يكيد بنفسه من الحيوان يدخل في عموم ما حرم الله من الموقوذة ، لأن الموقوذة هي التي قد اشتد جهدها وتعاظم ألمها ، ولا فرق فيه بين أن يكون ذلك من ضرب لها أو من آلام يفعلها الله تعالى بها يفضي إلى موتها ، وإذا دخلت في عموم هذه اللفظة كانت محرمة بحكم الظاهر ». والثاني منهما قال في مجمع البيان : « والتذكية فرى الأوداج والحلقوم لما فيه حياة ، ولا يكون بحكم الميت ».

١٤١

نعم ظاهر أكثر القدماء كالاسكافي والصدوق والشيخ في النهاية وبني حمزة والبراج وزهرة وأبي الصلاح وسلار والطبرسي في جامع الجوامع بل وجملة من المتأخرين كالمحقق في النافع والعلامة في التبصرة والشهيد في الدروس والصيمري في غاية المرام وثاني الشهيدين في المسالك بل هو صريح بعضهم كيحيى بن سعيد في الجامع وثاني الشهيدين في الروضة الاكتفاء في حل الذبيحة بالحركة وحدها أو مع خروج الدم المعتدل ، جمعا أو تخييرا من غير اعتبار استقرار الحياة بالمعنى المزبور ، كما صرح به الأردبيلي في المجمع والخراساني والكاشاني والمجلسي والعلامة الطباطبائي والفاضل النراقى وغيرهم من متأخري المتأخرين.

بل عن المبسوط الذي قد عرفت اشتراطه لاستقرار الحياة « قال أصحابنا : إن أقل ما يلحق معه الذكاة أن تجده تطرف عينه أو تركض رجله أو يحرك ذنبه ، فإنه إذا وجده كذلك ولم يذكه لم يحل أكله » بل عنه « روى أصحابنا « أن أقل ما يلحق معه الذكاة أن تجد ذنبه يتحرك أو رجله تركض » محتجا بذلك على تحريم الصيد إذا أدركه وهو مستقر الحياة ولم يتسع الزمان لذبحه ، قال : « وهذا أكثر من ذلك ».

ثم إن القائلين باعتبار الاستقرار قد اختلفت عباراتهم ، ففي المتن وغيره ما سمعته ، وإليه يرجع ما عن المبسوط من أنه الذي يمكن أن يعيش يوما أو نصف يوم ، كما عن الفاضل في التلخيص وولده في الإيضاح والصيمري في تلخيص الخلاف ، بل عزاه فيه إلى المشهور ، واحتاط به المقداد في التنقيح ، وفي محكي الخلاف « أن يتحرك حركة قوية ، فان لم يكن فيه حركة قوية لم يحل أكلها ، لأنها ميتة » وعن ابن إدريس « وعلامتها أن تتحرك حركة قوية ، ومثلها يعيش اليوم واليومين » وكأنه أشار بذلك إلى اتحاد ما سمعته من المبسوط والخلاف.

١٤٢

وحكى العلامة والشهيد والمقداد عن ابن حمزة « أن أدنى الاستقرار أن تطرف عينه أو تركض رجله أو يحرك ذنبه » والذي عثرنا عليه من كلامه في الوسيلة في الصيد « أن ما صاده الكلب وأدركه صاحبه لم يخل إما أن يدركه وفيه حياة مستقرة أو غير مستقرة أو يدركه ممتنعا ، فالأول إن اتسع الزمان لذبحه لم يحل إلا بعد الذكاة ، ويعرف ذلك بأن يحرك ذنبه أو تركض رجله أو عينه تطرف » والمشار اليه بقوله : « ويعرف ذلك » كما يحتمل الاستقرار يحتمل الاتساع ، فلا يتعين أن يكون تفسيرا للأول ، بل في مصابيح العلامة الطباطبائي الظاهر الثاني ، لوقوع الكلام في حيزه وكونه المستفاد من النص (١) الوارد فيه ، ولأن المفهوم من كلامه في موضع آخر أن غير المستقر ما كان بحكم المذبوح ، ومعلوم أن الحركة يوجد في المذبوح ، فلا يصح تفسير الاستقرار بها ، ولو فسر بها فالمراد الحركة القوية ، كما قاله الشيخ ، فلا يكون تفسيرا آخر للاستقرار.

وأما التفسيرات الباقية فهي تقريبية متقاربة ، بل متوافقة في الحقيقة فإن ذات الحركة القوية من شأنها إمكان البقاء يوما أو نصف يوم ، بل ويومين ، كما يفهم من كلام ابن إدريس السابق ، وحينئذ فيرتفع الخلاف في معنى الاستقرار ، ويبقى الكلام في اشتراطه وعدمه.

نعم ربما فسره بعض الناس بالذي لم يأخذ في النزع ، مدعيا أنه هو الذي يمكن أن يعيش المدة المزبورة بخلاف من أخذ فيه ، وإليه يرجع ما ذكره بعض آخر من أن غير المستقر هو الذي حركته حركة المذبوح ، كمأخوذ الحشوة ونحوه مما يكون قاتلا كالذبح ، والمستقر بخلافه.

وعلى كل حال فموضع النزاع ما علم كونه غير مستقر الحياة ، فإنه

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد.

١٤٣

قابل للتذكية على النفي مع فرض حصول الحركة منه والدم أو أحدهما غير قابل لها على الإثبات وإن حصلت الحركة والدم.

أما المشتبه فمقتضى اشتراط استقرار الحياة حرمته ، لأن الشك في الشرط شك في المشروط ، لكن ظاهرهم الاتفاق على الرجوع إلى العلامة الواردة لحل الذبيحة من الحركة وخروج الدم المعتدل ، كما اعترف به العلامة الطباطبائي.

قال العلامة في التحرير : « وإذا تيقن بقاء الحياة بعد الذبح فهو حلال ، وإن تيقن الموت قبله فهو حرام ، وإن اشتبه اعتبر بالحركة القوية وخروج الدم المسفوح المعتدل لا المتثاقل ، فان لم يعلم ذلك حرم ».

وفي القواعد « وإذا علم بقاء الحياة بعد الذبح فهو حلال ، وإن علم الموت قبله فهو حرام ، وإن اشتبه الحال كالمشرف على الموت اعتبر بخروج الدم المعتدل أو حركة تدل على استقرار الحياة ، فإن حصل أحدهما حل وإلا كان حراما ».

وفي الإرشاد « والمشرف على الموت إن عرف أن حركته حركة المذبوح حرم ، وإن ظن أنها حركة مستقر الحياة حل ، وإن اشتبه ولم يخرج الدم المعتدل حرم ».

وقال الشهيد في اللمعة بعد اشتراط أحد الأمرين من الحركة وخروج الدم المعتدل في الحل : « ولو علم عدم استقرار الحياة حرم ».

وفي الدروس « ولو ذبح المشرف على الموت كالنطيحة والموقوذة والمتردية وأكيل السبع وما ذبح من قفاه اعتبر في حله استقرار الحياة ، فلو علم موته قطعا في الحال حرم عند جماعة ، ولو علم بقاء الحياة فهو حلال ، ولو اشتبه اعتبر بالحركة وخروج الدم ».

وقال الصيمري في غاية المرام : « إذا ذبح المشرف على الموت

١٤٤

كالنطيحة والمتردية والموقوذة وأكيل السبع وما ذبح من قفاه اعتبر في حله استقرار الحياة ، فلو علم موته قطعا في الحال حرم عند أكثر المتأخرين ، وإن علم بقاؤه فهو حلال ، وإن اشتبه اعتبر بالحركة المعتبرة عند الذبح وخروج الدم المعتدل أو هما على الخلاف ».

وقال الشهيد الثاني في المسالك : « واعلم أنه على القول باعتبار استقرار الحياة وعدمه فالمرجع فيه إلى قرائن الأحوال المفيدة للظن الغالب بأحدهما ، فإن ظهر به أحدهما عمل عليه ، وإن اشتبه الحال رجع إلى الحركة بعد الذبح أو خروج الدم المعتدل على ما تقدم تقريره » إلى غير ذلك من كلماتهم المقتضية حل المشتبه مع تحقق العلامة ، لكونها دالة على الاستقرار.

فيتجه أن يقال : إنها إذا كانت دليلا على الاستقرار جاز الاكتفاء بها ، إذ يمتنع فرض وجودها مع العلم بانتفائه ، واللازم من ذلك سقوط اعتبار هذا الشرط ، فإن فائدته إنما تظهر فيما علم عدم استقراره مع وجود العلامة المقررة ، إذ مع انتفائها يثبت التحريم على القولين ، أما على القول باشتراط الاستقرار فلانتفاء الشرط ، وأما على القول بعدمه فلاناطة الحل عندهم بوجود العلامة ، والمفروض انتفاؤها.

ودعوى إمكان الجواب عن ذلك ـ بأن العلامة المذكورة لا توجب القطع باستقرار الحياة ، بل هي أمارة ظنية يحصل منها الظن به فلا يلتفت إليها مع العلم بعدم الاستقرار ، لأن الظن لا يعارض القطع ، أما مع الاشتباه فلا مانع من اعتبار ما يفيد الظن ـ يدفعها ظهور الأدلة في التلازم بين وجودها وبين الحياة الكافية في الحل ، فيمتنع حينئذ فرض وجودها مع العلم بانتفائها كما ذكرناه أولا ، واعترف به المجيب المزبور.

ومنه يعلم ما في كلامه متصلا بما ذكره من الجواب المزبور ـ قال :

١٤٥

« ولقائل أن يقول : إن مقتضى ما ذكره العلامة في الإرشاد والشهيد الثاني الاكتفاء بالظن في هذا الشرط ، فيجب الاكتفاء بهذه العلامة ، لإفادتها الظن بالاستقرار » ثم أجاب عنه بأنه بعد تسليم الاكتفاء بالظن أن الظن إنما يكتفى به مع انتفاء المعارض ، وهو هنا متحقق ، فان المفروض عدم الاستقرار ، ويمتنع فرضه بدون العلم أو الظن بالانتفاء ، فلم يسلم الظن الحاصل من الأمارة في هذا الفرض ، بخلاف صورة الاشتباه ـ إذ قد عرفت أنه لا وقع لهذا الكلام من أصله بعد ظهور الأدلة في التلازم المزبور بينهما على وجه لا يمكن فرض وجود العلامة مع العلم بانتفاء الحياة الكافية في الحل ، وليس في كلامهما أن العلامتين المزبورتين من أمارتي الظن ، بل ظاهرهما أن ذلك أمر شرعي ، ولعله كذلك ، ضرورة أنه لا دليل في الحركة وخروج الدم على استقرار الحياة بالمعنى الذي ذكروه بوجه من الوجوه ، فليس حينئذ إلا التعبد الشرعي الذي لم يلحظ فيه الظن ولا غيره ، ولم يلحظ فيه قرار الحياة بالمعنى الذي ذكروه ولا غير ذلك كما هو واضح.

فحينئذ متى حصل العلامتان حكم بالحل على وجه يمتنع فرض وجودهما مع الحرمة لعدم استقرار الحياة ، كما أنه لا يمكن العلم بالبقاء مع فرض انتفائهما ، كما اعترف به المجيب المزبور ، قال : « إن المستفاد مما قالوه عدم اعتبار العلامة مع العلم بالاستقرار ، ووجهه أن العلامة إنما اعتبرت للدلالة على الاستقرار ، فمع فرض العلم يسقط اعتبارها ، لا يقال : أقصى ما يلزم من العلم بالاستقرار كون الحياة ممكن البقاء مدة طويلة ، وليس كل ممكن بواقع ، فيجوز أن يكون ممكن البقاء ثم يعرض له بعد لحظة ما يزيل حياته ، فلا بد من رعاية العلامة الدالة على البقاء ، لأنا نقول : المراد العلم ببقاء الحياة المستقرة حال الذبح بحيث يعلم استناد الموت إلى التذكية ، ومع ذلك فلا حاجة إلى العلامة ، نعم

١٤٦

لو كان المراد العلم بالاستقرار قبل الذبح اتجه اعتبار العلامة للعلم بالبقاء ، لكن فرض العلم بهذا الوجه لا ينفك عن وجود العلامة ، فلا بأس بطردها فيه ، نظرا إلى التلازم بينها وبين فرض الاستقرار حال التذكية ، وإن لم يكن محتاجا إليها في الحكم بالحل ، والأمر في ذلك بين » إلى آخره.

وكيف كان فقد ظهر لك أن الفائدة في اشتراط الاستقرار لا تظهر إلا مع فرض العلم بعدمه مع وجود العلامة المزبورة ، وقد عرفت امتناعه ، فلا فائدة ، ومع تسليمه فلا ريب أن ظاهر الكتاب (١) والسنة الحل ، بل يمكن دعوى تواتر النصوص (٢) أو القطع بذلك منها ، خصوصا بعد ملاحظة غير نصوص الحركة التي ذكرناها آنفا.

كبعض الأخبار (٣) الواردة فيما أخذته الحبالة ، وأنها إذا قطعت منه شيئا لا يؤكل وما يدرك من سائر جسده حيا يذكى ويؤكل ، فإنه إن لم يكن الغالب في المأخوذ بالحبالة المنقطع بعض أجزائه الحياة الغير المستقرة فلا شك في تناوله لها.

وكالأخبار (٤) الواردة في وجوب ذبح ما يدرك حياته من الصيود الشاملة لغير المستقر إن لم تكن ظاهرة فيه ، خصوصا خبر أبي بصير (٥) منها المتضمن لقوله عليه‌السلام : « فان عجل عليك فمات قبل أن تذكيه فكل » فان التعجيل مشعر بعدم كونه مستقر الحياة ، نحو خبره الآخر (٦) الوارد في البعير الممتنع المضروب بالسيف أو الرمح بعد

_________________

(١) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٣.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ و ٣ و ٤ ـ وغيرها من أبواب الذبائح.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الصيد.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد ـ الحديث ٣.

(٦) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الذبائح ـ الحديث ٥.

١٤٧

التسمية ، لقوله عليه‌السلام فيه : « فكل إلا أن تدركه ولم يمت بعد فذكه ».

وكالأخبار (١) الواردة فيما قطع بالسيف ونحوه قطعتين المجوزة لأكل الأكثر أو ما يلي الرأس أو المتحرك من القطعتين بعد الذبح ، إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في عدم اعتبار الاستقرار زيادة على ما سمعته من النصوص الظاهرة في الاكتفاء بوجود أصل الحياة الذي يدل عليه مع الاشتباه الحركة المزبورة وخروج الدم المعتدل.

بل في البحار « الظاهر أن هذا ـ أي اعتبار الاستقرار ـ مأخوذ من المخالفين ، وليس في أخبارنا منه عين ولا أثر ».

قلت : بل الموجود فيها خلافه ، بل قد يستفاد منها حل من ( ما ظ ) كانت حركته كحركة المذبوح بعد فرض صدق اسم الحياة عليه وبقاء أعضاء الذباحة ، ومن ذلك ما لو ذبح الإبل ثم نحرها أو نحر الغنم ثم ذبحها الذي صرح الشيخ وغيره بالحل ، لإطلاق الأدلة ، ومن حرم بناه على اعتبار استقرار الحياة الذي قد عرفت عدم الدليل عليه.

ومن ذلك يظهر لك ما في كلام الأردبيلي وغيره ، قال بعد إيراد ما سمعته من عبارة الدروس في المشرف : « لا يخفى الاجمال والاغلاق في هذه المسألة ، والذي هو معلوم أنه إذا صار الحيوان الذي يجري فيه الذبح بحيث علم أو ظن على الظاهر موته ـ أي أنه ميت بالفعل وأن حركته حركة المذبوح ، مثل حركة الشاة بعد إخراج حشوها وذبحها وقطع أعضائها والطير كذلك ـ فهو ميتة لا ينفعه الذبح ، وإن علم عدمه فهو حي يقبل التذكية ، ويصير بها طاهرا ، ويجري فيه أحكام المذبوح ، والظاهر أنه كذلك وإن علم أنه يموت في الحال والساعة ، لعموم الأدلة التي تقتضي

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الصيد.

١٤٨

ذبح ذي الحياة ، فإنه حي مقتول بالذبح ومذبوح بالذبح الشرعي ، ولا يؤثر في ذلك أنه لو لم يذبح لمات سريعا أو بعد ساعة. فما في الدروس « فلو علم موته » إلى آخره محل التأمل ، فإنه يفهم منه أن المدار على قلة الزمان وكثرته ، فتأمل. وبالجملة ينبغي أن يكون المدار على الحياة وعدمها لا طول زمانها وعدمه لما مر ، فافهم. وأما إذا اشتبه حاله ولم يعلم موته بالفعل ولا حياته ، وأن حركته حركة المذبوح أو حركته حركة ذي الحياة فيمكن الحكم بالحل للاستصحاب ، والتحريم للقاعدة السالفة » ثم أجرى فيه اعتبار الحركة والدم كما ذكرناه.

إذ لا يخفى عليك ما فيه من أنه إن أراد بالحركة المزبورة حركة التقلص التي قد تكون في اللحم المسلوخ ونحوه فلا شبهة في أنه لا عبرة بها ، لأنه قد زالت عنه الحياة.

وإن أراد بها الحركة التي تكون بعد فري الأوداج وشبهه وهي التي تسمى في العرف بحركة المذبوح كما هو الظاهر من كلامه ـ خصوصا وقد قال بعد ما نقل وجه الحل : « فتأمل ، لأن الحكم بالحل بعد قطع الأعضاء المهلك مشكل ، فإنه بعد ذلك في حكم الميت ، والاعتبار بتلك الحركة والدم مشكل ، فان مثلهما لا يدل على الحياة الموجبة للحل ، فلا ينبغي جعلهما دليلا ، والتحقيق ما أشرنا إليه » إلى آخره ـ ففيه أن عدم قبول التذكية أول الكلام ، إذ لا شك في عدم مفارقة الروح بعد ، كمن كان في النزع وبلغت روحه حلقومه ، فإنه لا يحكم عليه بالموت وإن علم أنه لا يعيش ساعة بل عشرها.

بل مقتضى العمومات والنصوص (١) المزبورة حل مثله ، بل يمكن دعوى ظهور جملة من النصوص المزبورة خصوصا الوارد منها في

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١١ و ١٢ ـ من أبواب الذبائح.

١٤٩

الصيد الذي يعجل موته (١) مؤيدا ذلك بالسيرة المستمرة ، خصوصا في مثل الصيد بالآلة المسماة بالتفقة ، فان الغالب فيما يصاد بها من الطير تكون حركته حركة المذبوح عند ما يدركه الصائد لأن يذكيه.

كل ذلك مع عدم دليل معتد به للقول باستقرار الحياة بالمعنى الذي ذكروه عدا ما قيل من أن غير مستقر الحياة بمنزلة الميت ، ومن أن استناد موته إلى الذبح ليس بأولى من استناده إلى السبب الموجب لعدم استقرارها ، بل السابق أولى ، فيكون هلاكه به ، ويكون ميتة ، على أن الأصل الحرمة بعد انسياق غير المفروض من إطلاق الكتاب (٢) والسنة (٣).

والجميع كما ترى ، إذ الأول مجرد دعوى لا شاهد لها ، بل الشاهد على خلافها متحقق ، بل الثاني كذلك ، ضرورة اقتضاء الأدلة كون ذبح الحي سببا في الحل وإن حصل سبب آخر بعد الذبح قال أبو جعفر عليه‌السلام في صحيح زرارة (٤) : « وإن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك إذا كنت قد أجدت الذبح فكل ».

ولا ينافي ذلك خبر حمران (٥) عنه عليه‌السلام أيضا ، قال : « سألته عن الذبح ، فقال : إن تردى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكل ولا تطعم ، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح » بعد أن لم نجد العامل به ممن يعتد بقوله.

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد.

(٢) سورة المائدة : ٥ ـ الآية ٣.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١ و ٢ و ٣ و ٤ ـ وغيرها من أبواب الذبائح.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الذبائح ـ الحديث ١.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ١٣ ـ من أبواب الذبائح ـ الحديث ٢.

١٥٠

كما لا ينافي ذلك ما تقدم في الصيد من اعتبار العلم باستناد الموت إلى السبب الحاصل من الصيد ، فمتى شك في اشتراك غيره معه لم يحل ، فضلا عن الظن والعلم ، لإمكان الفرق بينهما بعدم العلم بحصول السبب المقتضي لعدم استقرار الحياة في الصيد بخلافه في الذبح ، وإلا فلو علم أن آلة الصيد قد جعلت حياته غير مستقرة وصار كالذبح في المذبوح لم يضر اشتراك سبب آخر معه.

ومن ذلك يظهر لك ما في جواب بعضهم عن ذلك بأن ثبوته في الاصطياد لا يستلزم ثبوته في الذبح أيضا ، لإمكان كون التذكية الصيدية هي ما تخرج روحه بالاصطياد ، وليس غيره اصطيادا ، ولا كذلك التذكية الذبيحة المعتبر فيها قطع الأوداج مع الحياة وإن مات بعد ذلك بسبب آخر معها ، إذ قد عرفت عدم الفرق بينهما في ذلك ، إلا أن التذكية الذبيحة توجب العلم بعدم استقرار حياة المذبوح بعد الذبح بخلاف التذكية الصيدية ، ومع فرض كونها كذلك لا فرق بينهما في الحكم ، كما هو واضح.

هذا وقد ذكر بعض الناس أن الذي خلط الأمر في هذا المقام هو ما تقدم في مسألة تذكية الصيد المدرك ذكاته من أن المراد بعدم استقرار الحياة صيرورتها في شرف الزوال وشروعها في الخروج ، ولا يبعد أن يكون ذلك مرادهم من قولهم : « لا يمكن أن يعيش اليوم والأيام » فإنه ما لم يشرع بالخروج لا يمكن الحكم بعدم الإمكان ، والصيد الذي صار كذلك بالاصطياد يصدق عليه أنه مقتول الآلة ، سيما إذا ترك حتى خرج تمام روحه ، ومن يحكم بلزوم الذبح حينئذ فليس نظره إلا إلى بعض الأخبار كما مر ، ومن لم يعتبر هذه الأخبار حكم بعدم لزوم الذبح حينئذ ، واشترط في لزومه استقرار حياة الصيد ، لما عرفت. فاختلط الأمر ، وآل إلى التعدي إلى الذبيحة من غير استبصار.

١٥١

ولا يخفى عليك أنه لا حاصل له ، ضرورة عدم الفرق بين الذبيحة والصيد في ذلك ، بل النصوص (١) في الأولى ظاهرة في وقوع الذبح على المشرف ، وعلى المتشاغل في النزع أظهر منها (٢) في الصيد بالنسبة إلى ذلك ، كما هو واضح.

وبذلك كله ظهر لك صحة تذكية الحيوان وإن كان مشرفا على الموت بسبب آخر غير الذبح على وجه أثر فيه كالذبح ، بحيث جعل حياته غير مستقرة ، لإطلاق الأدلة وعمومها وخصوص النصوص (٣) المزبورة ، نعم يشترط فيه الحركة بعد الذبح وخروج الدم حتى يعلم أنه قد ذبح حيا وأنه قد زهقت روحه بعد الذبح.

فإن أرادوا باستقرار الحياة هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، كما عساه يومئ إليه ما ذكره الكركي في حاشية الكتاب من أنه « يعلم ـ أي استقرار الحياة الذي ذكره المصنف ـ بالحركة المعتدلة أو الدم المعتدل عند الاشتباه » انتهى. ويكون المراد حينئذ باستقرار الحياة أصل قرارها ، أي ثبوتها لا أمر زائد ، كما أومأ عليه‌السلام إليه بقوله (٤) : « إذا شككت في حياة الشاة » التي هي العنوان في جملة من نصوص الصيد (٥) حيث قال عليه‌السلام فيها : « فإن أدركته حيا فذكه » وإلا فلا دليل عليه ، بل ظاهر الأدلة خلافه.

ومن ذلك كله ظهر لك وجه النظر فيما حكيناه عن الرياض سابقا من تفسير استقرار الحياة بما عرفت.

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ١٠ و ١١ و ١٩ ـ من أبواب الذبائح.

(٢) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد.

(٣) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد والباب ـ ١٠ و ١١ و ١٩ ـ من أبواب الذبائح.

(٤) الوسائل ـ الباب ـ ١١ ـ من أبواب الذبائح ـ الحديث ٥.

(٥) الوسائل ـ الباب ـ ٤ ـ من أبواب الصيد.

١٥٢

بقي شي‌ء : وهو ما يكثر السؤال عنه في زماننا هذا ، وهو أن الذابح لو فرض خطاؤه بذبحه بسبب عدم قطع الأوداج من محل الذبح ثم أراد تدارك ذلك بأن يقطعها بعد القطع والفرض بقاء الحيوان حيا لكنه حياة مذبوح مقتضى ما ذكرناه الحل من حيث حصول الحياة وإن لم تكن مستقرة بالمعنى الذي ذكروه ، نعم قد يشك فيه من حيث عدم حصول قطع الأوداج معلقة بمحلها ، ولا أقل من الشك باعتبار انسياق التذكية لغيره والأصل عدمها ، ولا ريب في أنه أحوط إن لم يكن أقوى ، والله العالم.

المسألة ( الرابعة : )

( إذا نذر أضحية معينة زال ملكه عنها ) وكانت أمانة في يده للمساكين بلا خلاف أجده فيه بيننا ، بل في كشف اللثام إجماعا كما في الخلاف إلا عن بعض العامة ، ولعله الحجة ، مضافا إلى المرسل (١) وإن لم أجده في طرقنا « إن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا رسول الله إني أوجبت على نفسي بدنة وهي تطلب مني بنوق ، فقال : انحرها ولا تبعها ولو طلبت بمأة بعير » بناء على إرادة الكناية عن عدم الملك بالنهي عن البيع.

_________________

(١) لم نعثر على هذه الرواية بنصها وقد ذكرها الشهيد ( قده ) في المسالك ، نعم روى البيهقي قريبا منها في سننه ج ٩ ص ٢٨٨.

١٥٣

وكذا المرسل عن علي عليه‌السلام (١) « من عين أضحية فلا يستبدل بها ». ومرسل أبي سعيد الخدري (٢) الآتي ، ولاستلزام النذر ـ بعد انعقاده لوجود المقتضي له باعتبار كون الأضحية طاعة ـ صيرورتها أضحية متعينة للذبح والتفرقة على الوجه المطلوب منها شرعا المنافي لبقاء الملكية على ما في المسالك ، وإن كان فيه ما فيه.

وحينئذ فلا ينفذ تصرفه فيها ببيع ولا هبة ولا إبدالها بمثلها ولا بخير منها ، بل لعل نفس إنشاء تعيينها أضحية يقتضي ذلك ، بل عن الشيخ تتعين بالنية حال الشراء وإن لم يتلفظ ولم يشعر ولم يقلد.

وفي الدروس « ولو كانت في ملكه تعينت بقوله : جعلتها أضحية ، فيزول ملكه عنها ، وليس له إبدالها ، وإن أتلفها أو فرط فيها فتلفت فعليه قيمتها يوم التلف ، وإن أتلفها غيره فعليه أرفع القيم عند الشيخ ، فيشتري به غيرها ، ولو أمكن شراء أكثر من واحدة بقيمتها فعل ولو كان جزءا من أخرى ، ولو قصر عن واحدة كفاه شقص ، ولو عجز عن شقص تصدق به ، ولو وجد بها عيبا بعد التعيين لا يردها ، ويصنع بالأرش ما ذكرناه ، ولو عابت بعد القبض نحرها على ما بها ، ولو تلفت أو ضلت بغير تفريط لم يضمن ، فان عادت ذبحها أداء ، وإن كان بعد الأيام ذبحها قضاء ، ولو ذبحها غيره عنه أجزأه ، وفي وجوب الأرش

_________________

(١) لم نعثر على هذا المرسل في كتب الأخبار مع التتبع التام في مظانه ، وقد قال العلامة ( قده ) في المنتهى في كتاب الحج ـ بحث الضحايا ـ ( المجلد الثاني ص ٧٦٠ ) : « مسألة : إذا عين الأضحية. احتج الشافعي بما روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : من عين أضحية فلا يستبدل بها ... » وتعرض له الشهيد الأول ( قده ) في غاية المراد في كتاب الحج كما سيذكر عبارته قريبا في الجواهر.

(٢) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٢٨٩.

١٥٤

هنا بعد ، فان قلنا به تصدق به إن لم يمكن الشراء به ».

وفي الإرشاد « إذا نذر أضحية زال ملكه عنها ، وإن تلفت بتفريط ضمن وإلا فلا ، ولو عابت من غير تفريط نحرها على ما بها ، ولو ذبحها غيره ولم ينو عن المالك لم يجز عنه ، وإن نوى عنه أجزأ ، ولا يسقط استحباب الأكل من المنذورة ، ويتعين بقوله : جعلت هذه الشاة أضحية ، ولو قال : لله علي التضحية بهذه تعينت ، ولو أطلق ثم قال : هذه عن نذري ففي التعيين إشكال ».

وفي غاية المراد « يفهم من التعيين أمران : أحدهما وجوب ذبح المعينة ما دامت سليمة ، الثاني البراءة من النذر لو تلفت ، والشيخ في المبسوط أراد الأول وأفتى بالتعيين ، لما روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : « من عين أضحية فلا يستبدل بها » ولأنه لا يقصر عن سياق الهدي المقتضي لتعينه للذبح ولو لم يتقدم نذر ، ويحتمل عدم التعيين ، لما روي (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شرك عليا عليه‌السلام في هداياه ، والتشريك إنما يكون بالنقل ، ولأصالة البقاء على الإطلاق ، وفي الوجهين نظر ، أما الأول فلجواز أن يراد به المنذور المعين ، والحمل على السياق قياس ، وأما الثاني فيمكن سبق قصد علي عليه‌السلام إن ثبت كونه من صورة النزاع ، ويمكن أن يقال : إنه إن قرنها بنسك عاقدا بها تعينت بالمعنى الأول لا الثاني ، وكذا إن عقد بالتلبية وساقها في حج القران ، ويستثنى هاتان الصورتان من الاشكال ، ويتجه فيما عداهما ، وأما المعنى الثاني فيحتمل كتعيين الزكاة ، وهو ضعيف ، لاشتغال الذمة بالأضحية ، فلا يبرأ إلا بها ».

قلت : هو قوي بناء على تعين الأضحية بالتعيين بدون نذر

_________________

(١) الوسائل ـ الباب ـ ٢ ـ من أبواب أقسام الحج ـ الحديث ٤ و ١٤ و ٢٥ و ٣٢.

١٥٥

ضرورة أولويته من ذلك ، فهو حينئذ كالدين الذي يكون وليا عليه ، ومع فرض التعيين لا إشكال في البراءة ، وكان اتفاقهم هنا على التعين بالتعيين بنذر مثلا أو بإنشائه لكونها قسما من الهدي الذي حكمه كذلك ، ولعله لأن الأمر بها مالي مطلق ، فأشبه الدين والفرض كون الخطاب له ، فيكون حينئذ له ولاية التعيين ، فإذا عينها في فرد تعين من دون نذر أو يمين أو عهد فضلا عن النذر.

ومن الغريب ما حكاه في المسالك عن بعض من عدم زوال ملكه عنها في مفروض المسألة حتى يذبح ويتصدق باللحم ، وله بيعها وإبدالها ، كما لو قال : لله علي أن أعتق هذا العبد ، فإنه لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه ولعله أراد بعض العامة ، وقد رده بأنه قد أشرنا إلى الفرق بين الأمرين في هذا ونظائره فيما سلف ، فان نذر الأضحية يقتضي صيرورتها حقا لمن يستحق لحمها ، كما لو نذر أن يكون ذلك الحيوان صدقة ، بخلاف ما لو نذر أن يعتق أو يتصدق ، فان المستحق عليه هو إيقاع العتق على ماله أو الصدقة به ، فالمنذور ليس هو المال ، بل الصيغة الواقعة عليه ، فلا يخرج عن ملكه بدونها.

وفيه ـ بعد الإغضاء عن وجه الفرق بين نذر الحيوان صدقة وبين نذر أن يتصدق به المبني على صحة نذر نتيجة السبب ، وقد عرفت ما فيه في كتاب العتق ـ أن ظاهره الموافقة على جواز بيع العبد المخصوص المنذور عتقه ، وهو واضح المنع ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

كما أنه قد يظهر من كلامه أن المقام من نذر النتيجة الذي قد تقدم منا في كتاب العتق أن الأقوى عدمه ، لظهور أدلة النذر في كونه من الملزمات ، لا أنه سبب يقوم مقام العتق والطلاق والنكاح والبيع والإجارة وغيرها مما كان ظاهر أدلته توقفه على إنشاء مخصوص وصيغة مخصوصة.

وعلى كل حال فليس المقام منه قطعا ، ولذا كان مجمعا عليه هنا

١٥٦

فيما بينهم ، بخلاف ذلك المقام الذي لم يعرف القائل به إلا الفاضل وبعض من تبعه ، على أنك قد سمعت ما ذكره الشهيد والفاضل من التعيين بإنشاء التعيين بلا نذر فضلا عنه ، وليس إلا لفهمهم له من أدلة الأضحية أو من حكم الهدي أو من غير ذلك وإن ناقشهم فيه بعض الناس بأنه إنما يتجه في النذر دون غيره.

وبذلك كله يظهر لك أن المقام له خصوصية ، لا من مسألة نذر النتائج ، ومن هنا يتجه الاقتصار فيه على الأضحية ، ولا يلحق بها العقيقة فضلا عن غيرها ، بل قد يتوقف في إلحاق أخوي النذر به ، فتأمل جيدا.

بقي شي‌ء : وهو أنه بناء على تعيين الأضحية بإنشاء التعيين من دون نذر فأي فائدة للنذر في ذلك ، ويمكن أن يقال : إنه به يحصل الالتزام بخلاف الإنشاء بدونه ، إلا أنه مخالف لظاهر القائل ، ضرورة ظهور كلامه في أن الإنشاء كالنذر في التعيين المزبور ، ومن هنا يمكن أن يقال : لا فرق بين الإنشاء المزبور وبين النذر الذي ليس فيه إلا إنشاء النذر ، وهو غير إنشاء التعيين ، ولا يخفى عليك أن أصل الحكم المزبور لا يخلو من نظر ، وربما مضى في كتاب الحج (١) نوع تنقيح له ، فلاحظ. والله العالم.

( و ) على كل حال فلا إشكال ـ بعد صيرورة مفروض مسألة الكتاب أمانة في يده ـ في أنه ( لو أتلفها ) هو ولو بتفريط منه أو عيبها كذلك أو الأجنبي ( كان عليه ) للفقراء ( قيمتها ) لعموم « من أتلف » (٢) وهي قيمته ، لكن عن الشافعي ضمان أكثر الأمرين

_________________

(١) راجع ج ١٩ ص ١٩٢ ـ ١٩٦.

(٢) المراد هو الحديث المشتهر على ألسنة الفقهاء « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » إلا أنه لم أجد نص ذلك مع التتبع التام في مظانه ، وإنما هي قاعدة مصطادة من

١٥٧

من المثل أو القيمة ، ولا ريب في ضعفه ، وليس عليه إلا القيمة يوم التلف ، فيشتري هو بها أو الحاكم مثلها فصاعدا ، حتى لو وجد به أزيد من واحدة وجب ، فان لم يجد به مثلها اشترى ما دونه.

بل قد سمعت ما في الدروس من أنه يشتري شقصا ، ولا بأس به ، إذ ليس الفرض كمن نذر إعتاق عبد فقتل ، فإنه يأخذ قيمته ولا يشتري بها عبدا آخر ويعتقه ، لأن ملكه باق عليه ، ومستحق العتق قد هلك ، بخلاف مستحق الأضحية ، والقيمة المضمونة على من أتلف قد تعلق بها حق الغير ، فهي للفقراء أضحية ، فوجب الشراء بها ولو جزءا من أضحيته ، لأنه شي‌ء عن أضحيته أيضا ، كما لو اشترك جماعة في أضحية.

نعم ما في المسالك ـ من أنه لو تعذر الشراء حتى الشقص اشترى بها لحما وفرقه على وجهها ، لأنه أقرب إلى التضحية من تفرقة الدراهم ، ولو تعذر جميع ذلك تصدق حينئذ بها ـ لا يخلو من إشكال بل منع ، لعدم الدليل ، وما ذكره وجه اعتباري هو ونحوه يذكر تقريبا للدليل.

( و ) على كل حال فـ ( لو نذرها أضحية وهي سليمة فعابت ) من دون تفريط عيبا يمنع من الأضحية فضلا عن غيره ( نحرها على ما بها ، وأجزأته ) لأن الفرض تعينها وبقاؤها في يده أمانة ، وفي

_________________

عدة روايات كما أشار إلى ذلك أيضا شيخنا صاحب الجواهر ( قده ) في كتاب الغصب ـ ج ٣٧ ص ٦٠ ـ فمن تلك الروايات ما رواه في الوسائل ـ الباب ـ ١٠ و ١١ و ١٤ ـ من كتاب الشهادات. والباب ـ ٥ و ٧ ـ من كتاب الرهن ـ الحديث ٢ منهما. والباب ـ ٢٩ ـ من كتاب الإجارة. والباب ـ ١٨ ـ من كتاب العتق ـ الحديث ١ و ٥ و ٩. والباب ـ ٢٢ ـ من أبواب حد الزنا ـ الحديث ٤. والباب ـ ١ ـ من أبواب نكاح البهائم ـ الحديث ٤ من كتاب الحدود والتعزيرات.

١٥٨

المرسل العامي عن أبي سعيد الخدري (١) « أنه قال : اشتريت كبشا لأضحي به فعدى الذئب فأخذ منه الألية ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ، فقال : ضح به ».

بل ( و ) كذا ( لو ضلت أو عطبت أو ضاعت من غير تفريط لم يضمن ) وسقط عنه خطاب النذر بل والأضحية ، لما عرفت. نعم لو وجدت بعد ذلك ذبحها في يوم الأضحية ، بل قد سمعت ما في الدروس من أنها تذبح قضاء ، وفيه نظر ، والله العالم.

المسألة ( الخامسة : )

( لو نذر أضحية فذبحها يوم النحر غيره ولم ينو عن صاحبها ) أو نوى غيره ( لم تجز عنه ) أي الناذر ، للأصل ولعدم سقوط النية المعتبرة في كل عمل بالنذر ( و ) إن اقتضى تعيينها.

نعم ( لو نوى ) التضحية بها ( عنه أجزأته وإن لم يأمره ) به للإجماع كما عن الخلاف ، ولما في كشف اللثام من أنه إنما نذر كونها أضحية وقد حصل ، فإنه أعم من التضحية بنفسه إلا أن ينوي ذلك في النذر ، وإن كان فيه ما فيه ، كتعليله في المسالك بأنها تعينت للذبح الذي قد وقع موقعه ، فيأخذ صاحبها لحمها ويفرقه ، ضرورة أنه غير متجه بناء على اعتبار النية من الناسك نفسه ، ولو أن تعيينها للذبح يجزئ عنها اكتفى به وإن لم ينوها عن صاحبها ، وكأنه لذلك لم يجتز به مالك ، ولكن قد عرفت الإجماع منا الذي هو دليل المسألة إن لم نقل بتوقف الاجزاء

_________________

(١) سنن البيهقي ـ ج ٩ ص ٢٨٩.

١٥٩

على الإجازة ، وإلا كان دليله دليل الفضولي بناء على جريانه في مثل ذلك ، فتأمل جيدا ، والله العالم.

ثم إنه هل يجب على الذابح أرش ما نقص بالذبح؟ الأشهر الأقوى العدم ، للأصل بعد أن لم يفوت عليه شيئا مقصودا ، بل خفف عنه مئونة ، وربما قيل بثبوته ، لأن إراقة الدم من المالك مقصودة وقد فوتها عليه ، وفيه أن ذلك شي‌ء لا يضمن.

وأضعف منه ما عن آخر من التفصيل بأنه إن ذبحها وفي الوقت سعة فعليه الأرش ، لأنه لم يتعين ذبحه حينئذ ، وإن ضاق ولم يبق إلا ما يسع الذبح فذبحها فلا أرش عليه ، لتعيين الوقت ، وعلى تقدير الأرش فيحتمل كونه للمضحي ، لأنه ليس من عين الأضحية المستحقة للمساكين ويحتمل كونه لهم ، لأنه بدل الأضحية التي ليس للمضحي فيها إلا الأكل ، والثالث أن يسلك به مسلك الضحايا ، ولعله الأقوى ، كأرش العيب بتفريط ، وحينئذ فيشتري به شاة أو جزءها أو لحما ويتصدق به على التفصيل السابق.

هذا كله مع عدم صدور غير الذبح والنحر من الأجنبي ، أما إذا أتلفه مع ذلك بتفريق ونحوه ففي المسالك « هو كالإتلاف ، لأن تعيين المصرف اليه لا إلى الذابح ، فيضمن حينئذ له القيمة ، ويشتري بها على نحو ما مر » قلت : يمكن القول بالاجتزاء به أيضا كالذبح خصوصا بناء على الفضولي.

ثم على تقدير الضمان فالوجه ضمان قيمة اللحم بناء على عدم ثبوت الأرش بالذبح ، ويحتمل ضمان أرش الذبح وقيمة اللحم ، وقيمتها عند الذبح كما في صورة الإتلاف ، وأكثر الأمرين من قيمتها وقيمة اللحم ، لأنه فرق اللحم متعديا بعد ما ذبح متعديا.

١٦٠