القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

واشتغال عهدته في ذلك اليوم بقيمة بغل ، وأمّا قيمة يوم الغصب ، أو يوم التلف ، أو يوم الأداء ، أو أعلى القيم ، فكلّ ذلك ممكن ويصلح للجميع.

ولكن شيخنا الأستاذ قدس‌سره أفاد أنّ ضمان القيمة لو كان يوم المخالفة ، أي يوم الغصب يتعلّق بالعهدة ، وتشتغل الذمّة بها في ذلك اليوم (١) ، فلا يمكن أن تكون قيمة يوم المتأخّر عن يوم المخالفة ، وهو يوم التلف ، أو يوم الأداء.

وهذا الكلام وإن كان لا يخلو من تأمّل ـ بل وإشكال ـ ولكن يمكن أن يقال : إنّ معنى الضمان في ذلك اليوم ـ كما تقدّم ـ هو اشتغال ذمّته فيه بتلك العين التي وقعت تحت يده بدون إذن المالك ، أي اشتغال ذمّته بوجود العين في عالم الاعتبار ، وقلنا إنّ الوجود الخارجي لا يأتي في عالم الاعتبار ، فالذي يركب على العهدة هو الوجود الاعتباري لتلك العين المغصوبة ، أي الشارع أو العقلاء يعتبرون عليه وجود العين الخارجي بجهاتها الثلاث ، أي خصوصيّاتها الشخصيّة ، وصفاتها العارضية على النوع ، وماليّتها الموجودة في ذلك اليوم ، أي في يوم الضمان على الفرض وهو يوم الغصب. وهذا معنى اشتغال عهدته بقيمة يوم الغصب ، وقد تقدّم شرح ذلك تفصيلا.

فإذا تلفت العين وعدم المثل كما هو المفروض في تلف القيمي ، لا يبقى في العهدة إلاّ تلك الجهة الثالثة ، أي ماليّة تلك العين وقيمتها في يوم الغصب ، لأنّ العين بتلك الجهات الثلاث الموجودة في ذلك اليوم استقرّت في العهدة ، فتصير الصحيحة بناء على هذا الوجه موافقة في المضمون ، وبحسب مفادها مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

الموضع الثاني : قوله عليه‌السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك ».

والظاهر من قوله عليه‌السلام « قيمة البغل حين اكترى » هو قيمة يوم الغصب ، إذ وقت‌

__________________

(١) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٦١ ، في الوجوه المحتملة من صحيحة أبي ولاّد.

٨١

الاكتراء لا ضمان قطعا.

ولكن حيث أنّ وقت الغصب ويومه هو نفس يوم الاكتراء في هذا المورد ـ لأنّه اكترى في الكوفة ، ووقع الغصب قرب قنطرة الكوفة حين ما سمع بتوجّه غريمه إلى النيل ، وهذا عادة يتّفق في نفس يوم الاكتراء بعد ساعة أو ساعات ـ عبّر عن يوم الغصب بيوم الاكتراء.

ولعلّ العدول عن يوم الغصب إلى عنوان « حين الاكتراء » لأجل أنّ تحصيل الشهود حين الاكتراء أسهل من حال الغصب ، وذلك من جهة أنّ حين الاكتراء غالبا محلّ اجتماع المكّارين العارفين بقيمة الدوابّ ، وأمّا حين الغصب وهو الواقع في أثناء الطريق لا طريق غالبا إلى تحصيل الشهود على معرفة قيمته في ذلك الوقت ، فبناء على هذا تكون هذه الفقرة صريحة في أنّ المدار في ضمان القيمي قيمة يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بهذه الفقرة ضمان عين المستأجرة مع عدم شرط الضمان الذي مخالف للقواعد ، فلا ينبغي صدوره عن فقيه ، مع كون هذه أحد شقّي الترديد في مطلب واحد ، وفي مورد واحد وهو ضمان البغل الذي وقع عليه التلف بعقر أو كسر أو دير بعد تصرّفه العدواني بدون إذن صاحبه.

ثمَّ إنّ ها هنا مناقشات فيما استظهرناه من الرواية يجب أن تذكر مع الجواب عنها :

منها : أنّ قوله عليه‌السلام « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ظاهره أنّ المدار على قيمة يوم الأداء ، بناء على أن يكون هو المراد من « يوم تردّه عليه ».

وهذا بناء على أن يكون « يوم تردّه » قيدا للقيمة واضح ، وبناء على أن يكون متعلّقا بـ « عليك » يكون الظرف لغوا أو يكون العامل فيه من أفعال العموم ويكون الظرف مستقرا أيضا كذلك ، لأنّه بناء على الأوّل يكون المعنى : يلزمك القيمة يوم‌

٨٢

تردّه ، ولا يمكن أن يأتي يوم الردّ على عهدته قيمة يوم آخر سابق عليه. وبناء على الثاني يكون المعنى : أنّ القيمة يثبت عليك يوم الردّ ، ويستقرّ على عهدتك ذلك اليوم.

والجواب : أنّ ظاهر هذا الكلام هو أنّ الظرف متعلّق بـ « عليك » ويكون المعنى :

يلزم عليك يوم تردّ البغل ، مثلا أن تعطى له قيمة تفاوت ما بين الصحّة والعيب ، وأمّا أنّ القيمة قيمة أيّ يوم فالرواية ساكتة عنه ، فلا يعارض ظهور هذه الفقرة ظهور الفقرات السابقة.

هذا ، مع أنّ هذه الفقرة في مقام بيان ضمان أرش العيب ، ولا دليل على لزوم اتّحاد زمان ضمان التلف مع زمان ضمان أرش العيب ، فيمكن أن يكون زمان ضمان التلف يوم الغصب ، وزمان ضمان أرش العيب يوم ردّ العين ، فتأمل.

ومنها : أنّه عليه‌السلام تارة جعل المالك منكرا ، لقوله عليه‌السلام : « إمّا أن يحلف هو فيلزمك » ، وأخرى جعله مدّعيا ، لقوله عليه‌السلام : « أو يأتي صاحب البغل بشهود » إلى آخره ، وذلك لوضوح أنّ الحلف ابتداء وظيفة المنكر ، والبيّنة وظيفة المدّعي ، وقد جمعها في الرواية للمالك ، فلا بدّ وأن يكونا في موردين كي لا يلزم هدم القاعدة المسلّمة المعروفة بين المسلمين ، وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (١) ولا يمكن أن يكونا في موردين إلاّ أن يكون ضمان القيمي قيمة يوم التلف ، لا يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كان المدار على الأخير فدائما يكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة براءة ذمّته عمّا يدّعيه المالك من الزيادة في يوم المخالفة.

وأمّا لو كان المدار على قيمة يوم التلف ، فيمكن أن يكون المالك مدّعيا ، وهو فيما‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٥ ، باب أنّ البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٣ ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٠ أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ١ ـ ٢.

٨٣

إذا كان معترفا بعدم تفاوت قيمة يوم الغصب مع قيمة يوم التلف ، وإنّما يدّعي قيمة زائدة على ما يقبله الغاصب ، وأصل البراءة مع الغاصب ، وليس دليل حاكم من استصحاب أو أمارة في البين ، فيكون المالك مدّعيا والغاصب منكرا ، لمطابقة قوله لأصل البراءة.

ويمكن أن يكون المالك منكرا ، وذلك فيما إذا ادّعى الغاصب نقصان القيمة يوم التلف عمّا كان يوم الغصب مع اتّفاقهما في ذلك اليوم ، فالمالك منكر ، لمطابقة قوله مع الاستصحاب.

والجواب عن هذه المناقشة : أنّ كون المالك تارة منكرا وأخرى مدّعيا أيضا يمكن مع كون المدار على قيمة يوم المخالفة.

بيان ذلك : أنّه لو كانا متّفقين على قيمة قبل يوم المخالفة ، وادّعى الغاصب نقصانها يوم المخالفة عن تلك القيمة المتّفقة عليها ، فيكون الغاصب مدّعيا والمالك منكرا ، وهذا واضح جدّا.

ولا ينبغي ذكر أمثال هذه المناقشات ، فترك ذكر باقي ما ذكروه في هذا المقام أولى.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » وصحيحة أبي ولاّد (١) أنّ المدار في تعيين قيمة القيمي هو قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لا يوم التلف ، ولا يوم الأداء ولا أعلى القيم بكلتا صورتيه ، فلا حاجة إلى ذكر مدارك تلك الأقوال والمناقشة فيها.

[ الأمر ] الرابع : فيما إذا كانت العين باقية ولم يطرأ عليها التلف ، ولكن يتعذّر أو يتعسر إيصالها إلى المالك ، فهل على الغاصب أو من بحكمه إعطاء بدل الحيلولة بين المالك وماله ، أم لا؟

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣١٣ ، أبواب الغصب ، باب ٧ ، ح ١.

٨٤

الظاهر هو الأوّل.

بيان ذلك : أنّهم وإن ذكروا للقول الأوّل أدلّة متعدّدة من التمسّك بقاعدة لا ضرر تارة ، وفوت سلطنة المالك أخرى ، وكون الغاصب حائلا بين المال ومالكه ثالثة وغيرها ، ولكن لا يخفى على الناقد البصير عدم صحّة تلك الأدلّة كلّها ، فلا وجه لذكرها والردّ عليها ، فإنّه تطويل بلا طائل.

فلنذكر ما هو العمدة في المقام ، وهو أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ـ كما بيّنّا فيما تقدّم ـ يدلّ على ما هو المتفاهم العرفي منه ، على أنّ العين المأخوذة بدون إذن المالك ورضاه ثابتة ومستقرّة في عالم الاعتبار التشريعي على عهدة المالك بجميع خصوصيّاتها الشخصيّة ، وعوارضها النوعيّة وصفاتها وماليّتها ، كما أنّ الأمر كذلك عند العقلاء أيضا ، فإنّ لكلّ عين متموّلة خارجيّة لها وجود اعتباري عندهم على عهدة من غصبها.

وإن شئت قلت : إنّ ما يقع تحت اليد غير المأذونة بوجوده الخارجي من الأموال يستقرّ بوجوده الاعتباري ـ أي في عالم الاعتبار ـ فوق اليد ، أي على عهدة الغاصب ، وما يعبّرون عنه بالعهدة أو بالذمّة ليس إلاّ اعتبار من طرف العقلاء ، أو من طرف الشارع ، أو من كليهما. فإذا كان الأمر كذلك فيجب تكليفا ووضعا ردّ الجهات الثلاث مع الإمكان ، وعند تلف العين يجب ردّ الجهتين الأخريين ، كما ذكرنا مفصّلا.

وأمّا إن كانت العين باقية ، ولكنّ تعذّر أو تعسّر ردّها ، فحيث يسقط التكليف بردّ نفس العين للتعذّر أو التعسّر ، فيدور الأمر بين أن يسقط عن ردّ جميع الجهات الثلاث ، أو يبقى بالنسبة إلى الجهتين الباقيتين إن كان مثليّا ، والجهة الواحدة الباقية إن كان قيميّا.

ولا وجه للأوّل ، لأنّه بلا دليل ، بل الدليل على عدمه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » الذي قلنا إنّه يدلّ على استقرار الجهات الثلاث في العهدة ،

٨٥

وبارتفاع أحدها ـ وهي الخصوصيّات الشخصيّة للتعذّر أو التعسّر ـ لا يرتفع الأخريان ، فيجب عليه إعطاء المثل إن كان مثليّا ، والقيمة إن كان قيميّا.

ولكن هذا المثل أو القيمة ليس بدلا واقعيّا للعين المغصوبة ، لأنّ ملكيّته للعين باقية ، فيلزم الجمع بين البدل والمبدل. وهذا غير معقول ، لأنّ المراد من البدل في باب المعاوضات هو أن يكون عوضا عمّا يخرج عن ملكه ، فمع فرض عدم خروجه كما في المقام فكونه بدلا واقعيّا محال ، ولذلك قالوا إنّه بدل الحيلولة بين المالك وملكه.

نعم يقع الكلام في أنّه هل هذا البدل يصير ملكا للمغصوب منه دائما وأبدا ، أو ما دام لم يصل ماله إليه ، أو يكون مالكا لانتفاعاته إلى زمن إرجاع ماله إليه؟ احتمالات ، سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى.

وحاصل الكلام : أنّ التعذّر وعدم إمكان الردّ تارة يكون لمدّة قصيرة ، فمثل هذا لا يسقط التكليف بردّ العين ، ولا يوجب إعطاء بدل الحيلولة. وأمّا لو كان لمدّة طويلة فمع اليأس عن الوصول إليه عادة ، كما إذا وقع في قاع البحر فهو في حكم التلف ، ويجب على الغاصب إعطاء بدل الواقعي. نعم إذا ارتفع التعذّر من باب الاتّفاق ، وردّ الغاصب ذلك المال إلى مالكه يأتي البحث الآتي في بدل الحيلولة في وجوب ردّ البدل إلى الغاصب أم لا. وسنتكلّم فيه إن شاء الله تعالى.

وأمّا مع عدم اليأس بل رجاء ارتفاع التعذّر أو التعسّر ، فهذا هو مورد البحث عن بدل الحيلولة. وقد عرفت أنّ ذمّته مشغولة ولا تبرأ بصرف تعذّر أداء الخصوصيّة الشخصيّة ، بل يجب على الغاصب أداء مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا ، ولكن لا بعنوان كونه بدلا واقعيّا ، بل بعنوان كونه بدل الحيلولة بين المال ومالكه.

ثمَّ انّ ها هنا أمور يجب التنبيه عليها‌

الأوّل : هو أنّ المدار في التعذّر بناء على ما بيّنّا في معناه ، هو أن يكون موجبا‌

٨٦

لسقوط التكليف بأداء العين ، ولذلك قلنا أنّ أداء العين تعذّر أو تعسّر ، لأنّ التعسّر أيضا قد يكون موجبا لسقوط التكليف ، وذلك من جهة ما بيّنّا أنّ المناط في وجوب إعطاء بدل الحيلولة هو سقوط الجهة الأولى من الجهات الثلاث للتعذّر أو التعسّر ، وبقاء الجهتين الأخريين مع بقاء العين وعدم تلفها ، لا حقيقة ولا حكما.

وذلك من جهة أنّه مع التلف الحقيقي أو الحكمي يكون البدل بدلا واقعيّا ، لا بدل الحيلولة كما هو واضح.

ولا فرق في ثبوت بدل الحيلولة بين أن تكون العين مرجو الحصول ، أو كان مأيوس الحصول.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ في صورة اليأس تكون بحكم التلف ، فيكون البدل بدلا واقعيّا ، ويخرج عن موضوع بدل الحيلولة.

الثاني : أنّ بدل الحيلولة هل يصير ملكا لمالك العين ، أو يكون تصرّفه فيه مباحا فقط بدون حصول الملكيّة؟

والظاهر بناء على ما استظهرنا من الحديث الشريف ـ من استقرار العين وثبوتها على العهدة بوجودها الاعتباري بجميع جهاتها الثلاث ـ هو أن يكون البدل ملكا لمالك العين ، لأنّه أداء العين بعد سقوط التكليف.

ولكن يرد ها هنا إشكال ، وهو الجمع بين العوض والمعوّض للمالك إن قلنا ببقاء ملكيّة العين له ، كما هو كذلك ظاهرا.

ولا يمكن الخروج عن هذا الإشكال إلاّ بالقول بأنّها بإعطاء البدل تصير ملكا للضامن.

وهو كما ترى وإن قال به بعض ، مضافا إلى أنّ الالتزام بهذا يوجب خروج البدل عن كونه بدل الحيلولة ، وصيرورته بدلا واقعيّا وهو خلاف الفرض.

٨٧

ولكن يمكن أن يقال : إنّ إعطاء الضامن للمثل أو القيمة كلّ واحد في محلّه إن كان بعنوان المعاوضة وكونه بدلا عن المال الذي حيل بينه وبين المالك ـ كما توهّم ـ فيرد هذا الإشكال ، ولا مخرج عنه إلاّ ما قلنا.

وأمّا إن كان بعنوان الغرامة وتدارك خسارة التي أوردها على المالك كما هو المستفاد من ظاهر لفظ « بدل الحيلولة » فلا يرد هذا الإشكال أصلا.

إن قلت : إنّ تدارك الخسارة لا يقتضي ولا يوجب كون هذا البدل ملكا للمالك ، لأنّ تدارك خسارته يمكن بدون أن يصير ملكا له ، بل يحصل بجواز جميع التصرّفات له حتّى المتوقّفة على الملك وإن لم يكن ملكا.

قلنا : أوّلا : أنّ جواز جميع التصرّفات ـ حتّى المتوقّفة على الملك ـ ملازم عرفا للملكيّة ، ولا يمكن انفكاكهما في عالم الاعتبار.

وثانيا : بناء على ما استظهرنا من معنى الحديث إعطاء الضامن للمثل أو القيمة يكون بعنوان أداء ما في ذمّته من مال الغير ثبت واستقرّ على عهدته ، فلا يمكن أن لا يكون ملكا للمالك.

الثالث : أنّ ملكيّة المالك للبدل ـ بناء على ما اخترناه من القول بالملكيّة ـ هل هي ملكيّة دائمة أو ما دام بقاء تعذّر الردّ أو إلى أن يردّ؟ احتمالات ، والأظهر أنّها ملكيّة موقّتة ، وذلك من جهة أنّ تدارك الخسارة أو غرامتها لا يصدق إلاّ على مقدار ما خسر وفات ، وأمّا الزائد على ذلك المقدار فإن كان فيكون من قبيل الهبة وبدون مقابل.

وفيما نحن فيه لم يخسر العين ، لأنّها موجودة وتردّ عليه ، وما هو الفائت ليس إلاّ مقدار خروجه عن تحت سلطانه ، وهو زمان موقّت معيّن ، وحصل تداركه بإعطائه البدل في ذلك الزمان وكون ذلك البدل تحت سلطانه في ذلك المقدار من الزمان. فإذا كان في تلك المدّة مثل ماله تحت سيطرته وسلطانه ، فعند العرف كأنّه لم يخسر ،

٨٨

ويصدق عليه أنّه حصل تداركه وغرم له ، فلا وجه لبقاء ملكيّته بعد أخذ غرامته وتدارك خسارته.

نعم لو كانت ملكيّته إلى الأبد ودائما مقابل تلك القطعة الفائتة ـ من كون ماله تحت سيطرته ـ فلا يرجع إلى الضامن أبدا ، ويصير ملكا دائميّا للمالك. ولكن هذا لا دليل عليه ، بل الدليل عن عدمه ، لأنّه إجحاف وتعدّ على الضامن بلا سبب يوجبه.

ثمَّ إنّه لا أثر لارتفاع التعذّر في ارتفاع ملكيّة المالك للبدل ، لأنّه ما لم يصل ملكه إليه ولم يقع تحت سلطانه ، خسارته لا ترتفع ، ويكون حاله حال التعذّر ، فالمناط كلّ المناط هو عود سلطنته على ماله ، وإلاّ ما لم يعدّ فالحيلولة بينه وبين ماله موجودة ، وتداركها بكون البدل عنده وتحت سلطانه.

ثمَّ إنّه ربما احتمل بعض القائلين بكون بدل الحيلولة ملكا دائميّا للمالك بأنّ العين المغصوبة تصير ملكا للغاصب الضامن بعد إعطائه للغرامة.

ولكن أنت خبير بأنّ صحّة هذا الكلام منوطة بأن يكون البدل بدلا واقعيّا ، ويكون إعطاء البدل من باب المعاوضة بين هذا البدل والعين المأخوذة بدون إذن المالك ، وهذا شي‌ء لا يمكن الالتزام به.

لأنّ المعاوضة إمّا مالكيّة يحتاج إلى قصدهما المعاوضة ، ومعلوم أنّه لم يتحقّق قصد المعاوضة بين المالك والغاصب. وإمّا شرعيّة تقع قهرا ، وذلك يحتاج إلى دليل ، وليس في المقام شي‌ء يدلّ على أنّ الشارع حكم بوقوع المعاوضة بين ما يعطى الضامن بعنوان بدل الحيلولة ، وغرامة خسارة المالك من فوت سلطانه على ماله.

وما ذكرناه هو السبب لعدم صيرورة العين المغصوبة ملكا لمعطي البدل ، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ الغرامات كلّها من باب واحد (١). فلو كانت الغرامة بإعطاء بدل الحيلولة سببا لصيرورة العين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فلا بدّ وأن‌

__________________

(١) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٨١ ، في بدل الحيلولة.

٨٩

يكون الأمر في باب التلف الحقيقي والحكمي أيضا كذلك ، بل لا بدّ وأن نقول بحصول الملكيّة له بنفس التعذّر ، لأنّ إعطاء البدل بيّنّا أنّه ليس بعنوان المعاوضة ، فليست الملكيّة مربوطة بإعطاء البدل ، بل يخرج عن ملك مالكه بمحض التعذّر ولو قبل إعطاء البدل ، ولازم ذلك أن تكون منافع العين المغصوبة ملكا للغاصب قبل إعطاء البدل ، ولا أظنّ أنّ أحدا يلتزم به.

وذلك من جهة أنّه أوّلا يمكن أن يقال بأنّ حصول الملكيّة للغاصب بعد إعطاء البدل وإن لم يكن إعطاؤه بعنوان المعاوضة.

وثانيا أنّ ملكيّة منافع العين ليست بأعظم من ملكيّة نفسها ، فمن يقول بملكيّة نفس العين بصرف حدوث التعذّر وليست متوقّفة على إعطاء البدل ، يلتزم بها في المنافع بطريق أولى.

وأمّا قوله قدس‌سره بأنّ الغرامات من باب واحد ، فلو كانت الغرامة أو نفس التعذّر في مورد بدل الحيلولة موجبة لملكيّة العين المغصوبة فلا بدّ وأن يكون في مورد التلف الحقيقي أو الحكمي أيضا كذلك.

ففيه : أنّ التلف سبب للغرامة ، والغرامة سبب للملكيّة ، فيلزم أن يصير الشي‌ء بعد تلفه وانعدامه ملكا للغاصب ، واعتبار ملكيّة الشي‌ء بعد انعدامه باطل ، ويكون من قبيل اعتبار الحكم بعد انعدام موضوعه ، فالقياس في غير محلّه.

إن قلت : يمكن تقدير ملكيّته آنا مّا قبل التلف ، كما يقدرون في مسألة التلف قبل قبض المشتري لكي لا يلزم هذا المحذور.

قلنا : إنّ في باب التلف قبل القبض حيث جاء الدليل على أنّ التلف من مال البائع مع أن المبيع انتقل إلى المشتري بعد العقد ، فلا بدّ من الالتزام بالتقدير آنا مّا. وأمّا فيما نحن فيه فلا ملزم لهذا التقدير ، بل القول بملكيّة الغاصب للعين المغصوبة ، خصوصا قبل إعطاء الغرامة وبعد التلف في نظر العرف أمر من الغرائب.

٩٠

فالحقّ في المقام هو بقاء العين في ملك مالكه حتّى بعد الغرامة ، وليس جمعا بين العوض والمعوّض في بعض الصور ، لأنّ إعطاء البدل ليس من باب المعاوضة ، بل يكون من باب الغرامة كما عرفت.

ثمَّ إنّه من فروع عدم كون إعطاء البدل من باب المعاوضة القهريّة أنّه لو خرج المال المغصوب عن الماليّة في يد الغاصب إمّا شرعا أو عرفا ، كما إذا صار الخلّ المغصوب خمرا ، أو بقي الجمد المغصوب صيفا إلى الشتاء عند الغاصب ، فلا شك في أنّ الغاصب يغرم بالبدل. فلو قلنا بأنّ إعطاء البدل يكون من باب المعاوضة القهريّة ، فحقّ الاختصاص في ذلك الخمر أو في ذلك الجمد لا يبقى للمالك بعد إعطاء البدل لخروجه عن ملكه بالإعطاء ، بل يكون للغاصب. فلو صار ذلك الخمر ثانيا خلا ، أو بقي ذلك الجمد إلى الصيف الآتي يكونان ملكا للغاصب بمقتضى تلك المعاوضة القهرية.

وأمّا إن قلنا بأنّه ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة لما فات من كيس المالك من ماليّة ماله ، فيكون حقّ الاختصاص للمالك.

لا يقال : إنّ التلف وما في حكمه يخرج المال عن ملك مالكه ، لعدم صحّة اعتبار الملكيّة في التالف والمعدوم أو ما كان بحكمها ، فحال المالك حال سائر الأجانب عن ذلك المال. بل يمكن أن يقال بأنّه للغاصب ، لكونه في يده ، وبعد التلف ليس يده يدا عادية كي لا يترتّب عليها آثار اليد.

لأنّ زوال الملكيّة لا ينافي بقاء حقّ الاختصاص ، لأنّه مرتبة ضعيفة من الملكيّة ، وذهاب المرتبة القويّة لا يلازم عدم بقاء المرتبة الضعيفة أيضا.

ولو حصل الشكّ في بقائها يكون مجرى للاستصحاب ، ويكون هذا الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، فمع مساعدة العرف في وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة يجري الاستصحاب.

٩١

فرع آخر :

وهو أنّه لو توضّأ بماء الغير بدون إذن مالكه جهلا بكونه غصبا ، وبناء على صحّة الوضوء بالماء المغصوب جهلا بالموضوع ، فلو علم بالغصبيّة بعد تمام الغسلتين ووصول النوبة إلى المسح ، فذلك الماء حيث صار تالفا بسبب التوضّي به ـ وفرضنا أنّ المتوضّي أعطى البدل ، فعلى تقدير كونه من باب المعاوضة القهريّة ـ يجوز له أن يمسح ببلّة ذلك الوضوء حتّى مع منع المالك ، لأنّه خرج عن ملكه بإعطاء البدل ، فهو أجنبيّ عن هذه البلّة.

وأمّا إن لم يكن من باب المعاوضة القهريّة ، بل كان صرف غرامة ـ كما رجّحنا ـ فحقّ الاختصاص باق للمالك ، فبدون إذنه لا يجوز له أن يمسح بتلك البلّة إلاّ بناء على ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من إنكار كون تلك البلّة ممّا تقبل حقّ الاختصاص أيضا ، لعدم الانتفاع بها إلاّ بالنسبة إلى من هي في يده. (١)

وهذا كلام عجيب.

الرابع : هل للغاصب إلزام المالك بأخذ البدل ، وإن امتنع يرفع أمره إلى الحاكم ، أو لا؟

الظاهر أنّه بناء على ما ذكرنا في معنى الحديث الشريف من أنّه يدلّ على اشتغال ذمّة الضامن بالجهات الثلاث التي في العين ، فكلّ واحد من المالك والغاصب إلزام الآخر بدفع البدل.

أمّا المالك فواضح ، لأنّ له في ذمّته الجهات الثلاث ، فبعد تعذّر إحدى الجهات وهي الخصوصيّة الشخصيّة ، فله المطالبة بالجهتين الباقيتين وإلزام الغاصب بدفعهما ، ويجوز له أن لا يطالب بحقّه ، فإنّ هذا حقّ له لا عليه.

__________________

(١) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٩٣ ، في بدل الحيلولة.

٩٢

وأمّا الغاصب فله أيضا المطالبة بتفريغ ذمّته عن ذلك الثقل الذي عليه ، أي عن الجهتين الباقيتين في ذمّته ولا ينافي ذلك بقاء الخصوصيّات الشخصيّة في ملك المالك ، لأنّه حين ما تمكّن من ردّها برفع التعذّر وجب ردّها ، فلا يفوت من المالك شي‌ء.

هذا ، مضافا إلى أنّ حال هذا الضمان حال سائر الضمانات ، فكما أنّ في سائر الضمانات للضامن مطالبة المضمون له بتفريغ ذمّته ـ ففي الدين الذي حلّ أجله للمديون إلزام الدائن بالأخذ ، وإن لم يقبل يرفع أمره إلى الحاكم ـ فكذلك في المقام.

واعتذار المالك بأنّه لا يريد إلاّ جميع جهات ماله من الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهتين الأخريين ، لا يقبل منه ، لأنّ تلك الجهة المتعذّرة فعلا ليست مكلّفة بالأداء لعجز الضامن ، والمفروض أنّ تلك الجهة لا تذهب من البين بالمرّة في التعذر الموقت ، غاية الأمر يتأخّر أداؤها.

وهذا يشبه أن يكون المغصوب شيئين ، فتعذّر ردّ أحدهما موقّتا وأمكن ردّ الآخر ، فامتنع المالك من قبول الموجود ويعتذر لامتناعه بأنّي أريد الاثنين.

وصرف أنّهما موجودان بوجودين ، والجهات الثلاث موجودة بوجود واحد ، لا يوجب فرقا فيما هو محلّ الكلام.

فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الاستدلال لما اختاره (١) ـ تبعا لشيخنا الأعظم قدس‌سره من عدم حقّ للضامن بإلزام المالك بأخذ البدل (٢) ، بأنّ الخصوصيّات الشخصيّة وإن سقط التكليف عنها بالأداء للتعذّر ، ولكن لم يسقط ضمان الخصوصيّات الشخصيّة وضعا.

غير خال عن الخلل ، لما ذكرنا أنّ بقاء الخصوصيّات الشخصيّة بوجودها الاعتباري في ذمّة الضامن لا ينافي مع حقّ الضامن بتفريغ ذمّته عن المقدار الممكن‌

__________________

(١) النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٩٠ ، في بدل الحيلولة.

(٢) « المكاسب » ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

٩٣

غير المتعذّر أدائه.

الخامس : أنّه حيث رجّحنا ـ بل اخترنا ـ أنّ بدل الحيلولة ليس من باب المعاوضة القهريّة ، بل يكون من باب الغرامة ، فالعين المغصوبة بجميع جهاتها باقية على ملك المالك ، فجميع منافعها المتّصلة والمنفصلة بعد البدل تكون للمالك ، كما كانت له قبل البدل ، إذ لم تتغيّر حال العين عمّا هي عليه قبل إعطاء البدل وبعده ، وهذا واضح جدّا.

السادس : أنّه بناء على ما اخترنا في بدل الحيلولة من أنّ الضمان فيه من باب الغرامة لا من باب المعاوضة القهريّة ، فحيث أنّ العين المغصوبة تبقى في ملك المالك ولا تخرج عنه ، فإذا ارتفع التعذّر يجب ردّها إلى المالك.

وأمّا بناء على المعاوضة فهل يجب أيضا ردّها ، لأنّ موضوع المعاوضة هو التعذّر ، فإذا ارتفع التعذّر فلا يبقى موضوع للمعاوضة ، فيدور المعاوضة مدار التعذّر ، فبعد ارتفاع التعذّر يرجع كلّ مال إلى صاحبه الأوّل ، فيكون ارتفاع التعذّر من قبيل فسخ المعاوضة ، أو لا ، لأنّه بعد حصول المعاوضة وصيرورة البدل ملكا للمالك والعين المغصوبة ملكا للضامن الغاصب ، فخروج كلّ واحد من البدل والعين من ملك مالكه يحتاج إلى دليل؟

نعم لو كانت المعاوضة من أوّل الأمر موقّتة إلى زمان ارتفاع العذر ، كان لهذا الكلام وجه صحيح تامّ ، لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ الملكيّة الموقّتة في باب المعاوضات في الأعيان أوّلا غير معهودة في الشرع ، وثانيا أنّ التعذّر ليس موضوعا للمعاوضة كي تكون دائرة مداره ، بل موضوع المعاوضة هو البدل والعين ، فإنّ المعاوضة القهريّة ـ إن قلنا بها ـ تقع بحكم الشارع بين المالين ، والتعذّر علّة وواسطة في الثبوت ، لا في العروض ، بالنسبة إلى حكم الشارع بالمعاوضة القهريّة.

ولكن بعد حكم الشارع بهذه المعاوضة بعلّة التعذّر وصيرورة البدل ملكا للمالك‌

٩٤

والعين ملكا للضامن الغاصب ، فارتفاع التعذّر لا تأثير له في ارتفاع هذه المعاوضة ، فإذا ارتفع التعذّر لا يجب ردّ العين بناء على المعاوضة ، خلافا لشيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث قال بوجوب ردّ العين بعد ارتفاع التعذّر حتّى على مبنى المعاوضة. (١)

السابع : هل تعذّر الردّ بواسطة أنّه موجب لتلف مال محترم أو نفس محترمة ـ كالخيط الذي خيط به ثوب ، أو جرح حيوان أو إنسان ـ في حكم التعذّر العقلي والعرفي أم لا؟ وكذلك الكلام فيما تعذّر ردّه بواسطة الخلط أو المزج؟

فنقول : أمّا مسألة الخيط المذكور وما يشبهه ـ ممّا يؤدّي ردّه إلى تلف حيوان أو مال محترم ـ فإن كان يؤدّي إلى تلف حيوان محترم ، فلا يجوز للمالك مطالبته قطعا ، لعدم جواز إتلاف الحيوان المحترم ، سواء أكان إنسانا أو غير إنسان ، فيكون كالتعذّر العقلي ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

وإن كان يؤدّي إلى تلف مال آخر ، كالثوب مثلا ، أو الخشب الذي استعمل في البناء ، أو اللوح في السفينة الموجودة في الساحل فارغة عن الراكب وأمثال ذلك ، فإن كان ذلك المال الذي يتلف بردّ العين المغصوبة لنفس الغاصب ، فقد يقال بوجوب ردّه ، لعدم احترام ماله ، لأنّه بنفسه هتك احترام ماله ، وأوجد سبب إتلافه ، وأضرّ بنفسه.

ولكن الإنصاف : أنّ الالتزام بهذا مشكل ويأباه الذوق الفقهي ، خصوصا إذا كان موجبا لضرر مالي عظيم ، كما إذا كان المغصوب خشبة وضعها الغاصب في أساس بنائه ، بحيث يكون ردّها موجبا لهدم ذلك البنيان العظيم.

فالأولى أن يقال بأنّه في حكم التلف إن كان التعذّر دائميّا ، ومورد بدل الحيلولة إن كان موقّتا ، كما هو كذلك في بعض صور المسألة.

وأمّا إن كان ذلك المال لغير الغاصب ، فلا شكّ في أنّه لا يجوز إتلافه ، فيكون بحكم التالف بلا كلام ، وعلى الغاصب ردّ مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميّا إن‌

__________________

(١) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٨٦ ، في بدل الحيلولة.

٩٥

كان التعذّر دائميّا ، وإن كان موقّتا فعليه بدل الحيلولة.

وأمّا إن كان تعذّر ردّه من جهة الخلط أو المزج مع مال آخر من الغاصب أو من غيره ، فإن كان الخلط أو المزج مع غير جنسه ، فإمّا أن يستهلك المغصوب في الآخر ، فهذا في حكم التلف وعلى الغاصب دفع مثله في المثلي وقيمته في القيمي ، ولا فرق بين أن يكون استهلاكا حقيقيّا أو عرفيّا ، وذلك كما إذا غصب ملح شخص وصار ممزوجا مع عجين شخص آخر من غير اختيار أحد.

ولا شكّ في أنّ هذا المورد لا يمكن ردّ الملح ، فيدور الأمر بين أن يقال بتلف الملح ، فيكون كما ذكرنا من وجوب دفع المثل أو القيمة على الغاصب ، أو يقال بشركة مالك الملح مع مالك العجين بنسبة قيمة ماليهما.

وإمّا أن لا يستهلك ، فلا محاله تحصل الشركة.

وحيث أنّ الاستهلاك لا يمكن إلاّ في الجنسين المختلفين ، لأنّ الاستهلاك عبارة عن صيرورة المستهلك من جنس المستهلك فيه بواسطة المزج معه بعد ما لم يكن كذلك ، وأمّا لو كان الممزوجان من جنس واحد فلا يمكن هذا المعنى ، فلو وقعت قطرة ماء في البحر لا تصير مستهلكا فيه ، لأنّها بصورتها النوعيّة موجودة فيه.

والاستهلاك لا يمكن إلاّ بتبدّل صورته النوعيّة حقيقة أو عرفا إلى صورة المستهلك فيه ، فلو امتزج المغصوب مع ما هو من جنسه ، سواء أكان من غير اختيار أحد أو كان بفعل الغاصب أو بفعل شخص ، وسواء أكان المزج بحقّ أو بغير حقّ كمزج الغاصب ، وسواء أكان مع مال الغاصب أو مع مال غيره ، ففي جميع هذه الصور تحصل الشركة القهريّة بين المالكين ، فيكون مالك المغصوب شريكا مع ذلك الآخر بنسبة ماليهما إذا كان المالان متساويين في الجودة والرداءة.

وأمّا إذا كان أحدهما أجود فإن كان المزج من غير اختيار أحد ، أو كان باختيار من له الحقّ كما في مورد غير الغصب ، فلا بدّ وأن تكون الشركة بنسبة قيمة المالين في‌

٩٦

قيمة مجموع الممتزجين ، لا في نفس الممتزجين كي لا يلزم الرباء.

وإن كان المزج بفعل الغاصب وكان مع ماله ، فإن كان الغاصب هو الأردء فتحصل الشركة في العين بنسبة مقدار ماليهما كي لا يلزم الرباء ، ولكن على الغاصب تفاوت القيمة التي حصلت في المغصوب.

وأمّا إن كان مال الغاصب هو الأجود ، فأيضا تكون الشركة بنسبة مقدار المالين كي لا يلزم الرباء ، فالزيادة التي حصلت في قيمة مال المغصوب رزق رزقه الله ، كما أنّ النقصان التي حصلت في قيمة مال الغاصب لا يضمنه أحد ، لأنّه بفعل نفسه.

وأمّا إن كان مع مال الغير ، فإن كان المغصوب أجود فالزيادة التي حصلت في مال ذلك الغير رزق رزقه الله ، والنقصان الذي حصل في المغصوب يضمنه الغاصب ، لأنّه بفعله. وأمّا الشركة في العين فبنسبة مقدار المالين على أيّ حال كي لا يلزم الرباء.

وأمّا لو كان المالان متساويين وكانا من جنس واحد ـ كما هو المفروض ـ ففي جميع صور المسألة تكون الشركة بنسبة مقدار المالين ، سواء أكان الخلط والمزج بفعل الغاصب أو بفعل غيره ، أو كان من باب الاتفاق ولم يكن بفعل أحد ، لا أحد المالكين ولا غيرهما.

الثامن : كلّ ما ذكرنا فيما تقدّم كان راجعا إلى المغصوب أو المقبوض بدون إذن المالك تحت يد واحدة. وأمّا لو تعاقبت الأيدي الغاصبة ـ أو غير المأذونة على مال الغير ـ فلا شكّ في أنّ كل واحدة من تلك الأيدي تضمن المال الذي وقع تحت سيطرتها ، وللمالك أن يرجع إلى أيّة واحدة منها إذا شاء ، وإذا رجع إلى اليد السابقة وأخذ منها فلها أن ترجع إلى اللاحقة من تلك الأيدي.

أمّا الأوّل ـ أي : ضمان كلّ واحدة من الأيدي المتعاقبة على ذلك المال الواحد ـ فلهذه القاعدة ، أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

فمفاد هذا الحديث الشريف جعل الضمان لكلّ يد عادية بطور القضيّة الحقيقيّة ،

٩٧

فكما أنّ الحديث الشريف يشمل وقوع الأيدي المتعدّدة على الأموال المتعدّدة ، كذلك يشمل الأيدي المتعدّدة إن وقعت على مال واحد.

وذلك من جهة أنّ المناط في تعدّد الضمان تعدّد اليد ، إذ هو موضوع الحكم بالضمان على نحو القضيّة الحقيقيّة ، فتنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد أفراد موضوعها الذي هي اليد ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، ولا دخل في تعدّد ما تقع عليه اليد في الحكم بالضمان ، فإذا صارت الأيدي كلّ واحدة منها موضوعا مستقلاّ للضمان ، فمن آثار ذلك ، جواز رجوع المالك إلى كلّ واحدة منها.

نعم إذا رجع إلى إحديهنّ وأخذ منها المثل أو القيمة ـ في صورة تلف المغصوب ـ فليس له الرجوع إلى غيره من الأيدي ، لأنّه لم يكن له إلاّ مال واحد وقد قبضه.

نعم المقبوض منه إن لم يكن هو الذي صار عنده التلف واستقرّ عليه ، فله أن يرجع إلى كلّ واحدة من الأيدي اللاحقة لو لم يكن غارّا لها. وسيظهر وجهه إن شاء الله تعالى.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ المال الواحد كيف يمكن أن يكون مضمونا بضمانات متعدّدة في عرض واحد؟ فإنّ تدارك المال الواحد من شخصين مستقلاّ ، بمعنى أن يكون على كلّ واحد منهما ردّ تمام هذا المال بتمامه غير ممكن ، فكما أنّ وجود شخص مال واحد في الخارج بتمامه عند شخص ، وكذلك بتمامه عند شخص آخر في نفس ذلك الزمان لا يمكن ـ وإلاّ يلزم أن يكون الواحد اثنين وهو محال ـ فكذلك وجوده في عهدة اثنين في عالم الاعتبار ـ بحيث يكون تفريغ ما في ذمّته يصدق عليه أنّه أداؤه ـ لا يمكن ، لأنّه لا يعقل أن يكون للشي‌ء الواحد أداءين في عرض واحد لما قلنا أنّه مستلزم لأن يكون الواحد اثنين ، وهو محال.

وقد صحّحه صاحب الكفاية قدس‌سره في حاشيته على مكاسب شيخنا الأعظم قدس‌سره

٩٨

بإمكانه بنحو الواجب الكفائي (١) ، بأن يكون كلّ واحد من الشخصين مكلّفا بالأداء في ظرف عدم أداء الآخر ، فليس تكليف بأداءين كي يكن ممتنعا ، بل امتثال مثل هذا التكليف لا يقتضي إلاّ أداء واحدا ، فلا يمتنع أن يكون كلّ واحد منهما ضامنا في زمان واحد ، وفي عرض ضمان الآخر ، بأن يكون عليه وجوب تدارك المال التالف وأدائه في ظرف عدم تدارك الآخر وأدائه.

ولكن أنت خبير بأنّه ليس حكما تكليفيّا ، ويكون عبارة عن وجوب أداء التالف كي يصحّح ضمان شخصين ، كلّ واحد منهما لتمام مال واحد وفي عرض الآخر في ظرف عدم أداء الآخر ، بل هو حكم وضعي وعبارة عن وجود ذلك المال الخارجي في عهدة شخص ، ولا يرتفع عن عهدته.

وحيث أنّ أداءين لا يمكن كما بيّنّا ، فلو كان في عهدة شخصين وفرضنا أنّ أحدهما أدّاه ، فلا يرتفع عن عهدة الآخر إلى قيام يوم القيمة ، لأنّ أداءه ثانيا غير ممكن ، فقياس المقام بالواجب الكفائي ليس في محلّه ، كما فرضه قدس‌سره.

فظهر : أنّ المال الواحد بتمامه لا يمكن أن يكون في عهدة شخصين ، فلو دلّ الدليل في مورد على ضمان شخصين لمال واحد لا بدّ وأن يحمل على اشتراكهما في ضمان واحد ، بمعنى أنّ قيمة ذلك الواحد أو مثله في عهدة الشخصين بالشراكة ، فيجب على الاثنين بنحو الشركة أداء مثله أو قيمته.

فلو ضمن شخصان في زمان واحد كلّ واحد منهما تمام دين مديون ، فلا بدّ بناء على القول بصحّة مثل هذا الضمان من الالتزام بأنّ لكلاهما بنحو الاشتراك ضمان واحد ، لما ذكرنا من امتناع كون المال الواحد في عهدة شخصين ، بحيث أن يكون على كلّ واحد منهما أداء تمام المال في عرض واحد ، بل لا بدّ من أحد الأمرين : إمّا الطوليّة أو الاشتراك.

__________________

(١) آخوند الخراساني في « حاشية كتاب المكاسب » ص ٨٣.

٩٩

والمراد من الطوليّة أن يكون اللاحق ضامنا لما يؤدّى السابق ، فالمالك له الرجوع إلى أيّ واحد من العادين. فإذا رجع إلى بعضهم فليس لذلك البعض الرجوع إلى السابق ، لأنّ السابق ليس ضامنا لذلك البعض اللاحق له. نعم له أن يرجع إلى لاحقه بناء على أنّ اللاحق يضمن لما يؤدّى اليد السابقة.

وأمّا وجه جواز رجوع المالك إلى كلّ واحد من الأيدي المتعاقبة ـ مع ما عرفت أنّ ضمان الجميع عرضا ـ أي كلّ واحد منهم يكون ضامنا لتمام ذلك المال الواحد ـ محال ، هو أنّ كلّ واحدة منها ضامن ، ولكن طولا لا عرضا.

بيان ذلك : أنّ اليد الأولى والغاصب الأوّل ضامن لنفس المالك ابتداء بنفس المال المغصوب ، بمعنى أنّ نفس المال بوجوده الاعتباري في عهدته كما بيّنّا مفصلا. واليد الثانية ـ أي : الغاصب الثاني ـ ضامن للعين المضمونة بما هي مضمونة ، أي العين التي في ذمّة الضامن الأوّل.

وبعبارة أخرى : المال الذي صار مغصوبا ووقع تحت اليد العادية ، يكون في ذمّة الغاصب بما له من الصفات والخصوصيّات ، تكوينيّة أم اعتباريّة. ولكن ما يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها التكوينيّة فقط ، وفي اليد الثانية تقع العين تحتها بما هي مضمونة ، ففي اليد الثانية يزيد على ما وقع تحت اليد الأولى صفة اعتباريّة ، وهي كونها في ذمّة الغاصب الأوّل.

فكما أنّ لو كان للعين صفة خارجيّة تضمن اليد الواقعة عليها تلك الصفة الخارجيّة ، كذلك تضمن الصفة الاعتباريّة لو كانت لها. وحيث أنّ العين المغصوبة تكون في ذمّة الغاصب الأوّل ، ففي الغصب الثاني تكون ذات العين مع صفة كونها في ذمّة الغاصب الأوّل في ذمّة الغاصب الثاني.

وهكذا الحال لو وقع المال تحت يد ألف غاصب ، فما يقع تحت يد الغاصب الأخير ليس هي العين الخارجيّة فقط ، بل العين الخارجيّة مع كونها في ذمّة تسعمائة وتسعة‌

١٠٠