القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

والعرفي ، وأمّا ما هو الضابط عند الشرع في تعيين المثلي والقيمي سنذكره إن شاء الله تعالى ، وفعلا مقصودنا شرح معنى الحديث الشريف ، وأنّ « اليد » من أسباب الضمان كالإتلاف.

فقد ظهر ممّا ذكرنا دلالة هذا الحديث على صحّة هذه القاعدة ، وهي أنّ اليد سبب لضمان عين ما وقع تحت اليد.

بقي الكلام في ضمان منافع العين بقسميها ، أي المستوفاة وغير المستوفاة.

فنقول :

أمّا المنافع المستوفاة ، فلا شبهة في ضمانها ، وأنّها في عهدة المستوفي.

أمّا أوّلا : فلأنّها مال ، وقاعدتا « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » و « أنّ مال المسلم لا يحلّ إلاّ بطيب نفسه » تدلاّن على ضمانها ، وكونها في عهدة المستوفي ، وذلك لأنّه لا فرق في صدق الماليّة بين الأعيان والمنافع ، بل في كثير من الأشياء ماليّة العين بواسطة المنافع ، وإلاّ نفس العين لو لا تلك المنافع لا يبذل بإزائها المال.

وثانيا : وقوعها تحت اليد يتبع وقوع العين تحتها ، ولذلك يقال في باب إجارة الأعيان ـ بناء على أن تكون الإجارة فيها عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم ـ إنّ قبض المنفعة بقبض العين.

وأمّا منافع غير المستوفاة ، فالمشهور فيه أيضا الضمان ، وهو الصحيح ، وذلك للتفويت إن قلنا بأنّه من موجبات الضمان عند العقلاء ، كما هو كذلك عندهم ، ولم يردع الشارع عن هذه القاعدة العقلائيّة ، وهي أنّ « من فوّت مال الغير عليه فهو له ضامن » بل ربما يظهر من بعض الروايات إمضاؤها ، ولا شك في أنّ المنافع غير المستوفاة أيضا مال كالمستوفاة ، والغاصب الحابس للعين فوّت منافعها على المالك.

نعم يبقى هنا شي‌ء : وهو أنّه لو كانت للعين منافع متضادّة في الوجود ، فبناء على الضمان فهل يضمن الجميع ، أو يضمن الأكثر ماليّة ، أو أحدها مخيّرا ، والتخيير للمالك‌

٦١

أو للضامن؟ وجوه.

والأقوى بناء على أن يكون مدرك الضمان وموضوعه تفويت مال الغير كما هو المفروض ، هو ضمان المنفعة التي هي أكثر ماليّة ، وذلك من جهة أنّها بعد كونها متضادّة في عالم الوجود ، فصدق التفويت على جميعها جمعا محال ، لأنّ معنى التفويت معنى هو أنّه صار سبب الفوت ، بحيث أنّه لو لم يكن لكان هذا الفائت حاصلا ، وها هنا حصول الجميع في حدّ نفسه لا يمكن لتضادّها ، ففوت الجميع جمعا مستند إلى تضادّها ، لا إلى المفوّت.

وأمّا أنّ التي يضمنها المفوّت هي التي أكثر ماليّة ، لأنّ المقدار الزائد على البقيّة كان ممكن الحصول لو لا تفويته وحبسه للعين على المالك ، فيكون ضامنا له ، بناء على صحّة قاعدة التفويت واعتبارها ، كما هو المختار عندنا.

نعم هذه القاعدة لا تجري بالنسبة إلى جميع أقسام منافع غير المستوفاة وتكون مخصوصة بما إذا كان عدم الاستيفاء مستندا إلى تفويته ، لا إلى آفة سماويّة. فلو غصب بستانا ـ مثلا ـ أو دابّة كذلك ، وكان عدم استيفاء الغاصب لمنفعة ذلك البستان ، أو تلك الدابّة لوصول آفة سماويّة إليهما لا لحبس الغاصب لهما على مالكهما ، فلا تجري هذه القاعدة ، ولا يمكن الحكم بالضمان لأجل قاعدة التفويت ، وأيضا لقاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ، وذلك لما ذكرنا من أنّ اليد على العين يد على المنفعة ، فتكون في عهدته ، ولا يرتفع إلاّ بأدائها. ولا فرق من جهة وقوعها تحت اليد بين أن تكون مستوفاة أو غير مستوفاة.

فالحقّ هو أنّ اليد الغاصبة أو غير المأذونة موجبة لضمان العين والمنافع مطلقا ، سواء أكانت مستوفاة أو لم تكن.

ثمَّ إنّه مقتضى القاعدة هو أن يكون الضمان بالمثل في المثلي ، والقيمة في القيمي ، وقد عرفت ذلك مفصّلا عند شرحنا لمعنى الضمان.

٦٢

وأمّا الدليل على أنّ الضمان بالقيمة في القيمي وفي المثلي بالمثل ، فتارة يتمسّك بالإجماع ، وحاصله اتّفاق فقهائنا كافّة على أنّ الضمان في الضمان الواقعي في المثلي بالمثل ، وفي القيمي بالقيمة. وأمّا في ضمان المسمّى فهو نفس المسمّى ، قلّ أو كثر.

ولكن أنت خبير بأنّ الاستدلال في أمثال المقام بالإجماع لا يخلو عن الإشكال والمناقشة ، لوجود المدارك المتعدّدة من الآية والرواية.

وأخرى : بالآية الشريفة ، وهي قوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (١) ولا شك في أنّ الاعتداء بمثل ما اعتدى عليه في المثليّات هو المثل ، بل يمكن أن يقال إنّ الآية نصّ في ذلك.

وفيه : أوّلا أنّ كلمة « ما » في ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) يمكن أن تكون مصدريّة لا موصولة ، فيكون معناها : أنّ الله تعالى أمر بالاعتداء بمثل اعتداء المعتدي ، فالمماثلة في نفس الاعتداء ، لا في الشي‌ء الذي وقع الاعتداء عليه ، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (٢) حيث أنّه ظاهر في أنّ المماثلة في كون الجزاء أيضا سيّئة لا فيما يجزى به ، ولذلك قلنا إنّ إطلاق السيّئة ها هنا على الجزاء من باب صنعة ـ المشاكلة.

والاستدلال بها مبنيّ على أن تكن كلمة « ما » موصولة ، ويكون المراد منها أنّ الشي‌ء الذي تعتدون به على المعتدي الأوّل يكون مماثلا للشي‌ء الذي هو اعتدى به عليكم ، ولو لم يكن ظاهر الآية هو الاحتمال الأوّل ، فلا أقلّ من أن يكون سببا لإجمالها من هذه الجهة ، فلا يصحّ الاستدلال بها.

وثالثة : بما ذكرنا من أنّ ذلك مقتضى نفس أدلّة الضمان الواقعي ، ومنها : قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ». ومنها : قاعدة الإتلاف ، وهي قولهم : « من أتلف‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٩٤.

(٢) الشورى (٤٣) : ٣٩.

٦٣

مال الغير فهو له ضامن » المصطادة من الأخبار الواردة في أبواب مختلفة.

وقد شرحناها مفصّلا ، وقلنا : معنى الضمان هو اعتبار وجود التالف ، أو المغصوب ، أو المأخوذ بدون إذن المالك ، أو من يكون أمر ذلك الشي‌ء بيده ـ من قبل المالك أو من قبل الله ـ على ذمّة الشخص الذي يسمّى بالضامن ، إلى أن يفرغ ذمّته وعهدته عن ذلك الوجود الاعتباري بأداء ما أتلف ، أو ما وقع تحت يده ، أو ما فوّت على المالك.

وقلنا : إنّ لأداء ذلك الشي‌ء مراتب ودرجات ثلاث ، على التفصيل المتقدّم فلا نعيد. والمقصود ها هنا هو أنّه مع وجود المثل لا تصل النوبة إلى القيمة ، لأنّ القيمة هي الدرجة الثالثة من أداء الشي‌ء.

وقلنا : إنّ هذا المعنى للضمان من المرتكزات في أذهان العرف والعقلاء.

وأمّا ما ربما يقال : من لزوم أداء المثل في المثليّات لأنّه أقرب إلى التالف فلا أساس له ، لعدم الدليل على وجوب إعطاء الضامن في مقام تفريغ ذمّته ما هو أقرب إلى التالف ، بل الدليل مفاده ردّ المغصوب أو تفريغ ذمّته عمّا اعتبر عليها.

ولا شكّ في أنّه مع وجود العين المغصوبة أو الواقعة تحت اليد غير المأذونة ، فأداء العين المغصوبة وردّها إلى مالكها موجب لفراغ ذمّته عنها ، ومع تلفها حيث أنّه لا يمكن ردّ الخصوصيّات الشخصيّة فلا بدّ إمّا من القول بسقوط وجوب الأداء عنه بالمرّة ، وهذا شي‌ء لا يمكن الالتزام به ، وإمّا أن يقال بعد عدم إمكان ردّ الخصوصيّات الشخصيّة يردّ ما أمكن ردّه من التالف ، بحيث يكون عند العرف ردّه ردّ المغصوب في صورة عدم إمكان ردّ العين بخصوصياته الشخصيّة بأن يكون من أفراد ومصاديق تلك الماهيّة الواجدة لجميع جهات التالف ، ما عدى الجهات والخصوصيّات الشخصيّة ، وهو الذي نعبّر عنه بالمثل.

نعم عند عدم إمكان هذا ، أيضا لا بدّ وأن تكون الهويّة بينه وبين التالف باعتبار‌

٦٤

المالية فقط ، وهو الذي نسمّيه بالقيمي ، فظهر أنّ عنوان أنّه أقرب إلى التالف ما نزل في آية ، ولا وردت به رواية ، ولا دلّ عليه إجماع ، ولا دليل عقلي.

وأيضا لا يتوهّم : أنّ معنى الضمان هو أن ينتقل التالف إلى ملك من يقع التلف في يده آنا مّا قبل التلف بعوضه الواقعي كالقرض ، فيكون التالف ملكه تلف في يده وعليه ضمانه الواقعي مثل باب القرض ، لأنّه لا وجه لفرض هذا الانتقال وصيرورته آنا مّا ملكا لمن وقع التلف في يده قبل التلف ، لأنّه حصول ملكيّة للغاصب بدون قصد صاحب المال ، بل وبدون التفاته إلى ذلك أصلا ولا تخيّل الغاصب ولا التفاته إلى ذلك ، فهذا شعر بلا ضرورة.

وقياسه على تلف المبيع قبل قبضه مع الفارق ، لأنّه هناك لا موجب للضمان ، لا قاعدة الإتلاف ، لأنّه لا إتلاف ، ولا ضمان اليد ، لأنّ اليد يد أمانة من قبل المالك ، بخلاف المقام فإنّ الموجب ـ وهي اليد ـ موجود ، ولا حاجة إلى فرض أمور لا دليل عليها ، مع مخالفتها للارتكاز العرفي كما عرفت ، فلا نعيد.

ثمَّ إنّهم اختلفوا في بيان ضابط المثلي والقيمي ، والتعاريف التي ذكروها أشبه بالتعريف اللفظي من التعريف الحقيقي. وقد عرفت ممّا ذكرنا أنّ المثلي هي الطبيعة التي أفرادها متماثلة في الجهات النوعيّة والصفات الصنفيّة ، بحيث يكون ما به الامتياز بينها هي الخصوصيّات الشخصيّة ، وأمّا في الجهات الصنفيّة والنوعيّة فمشتركة ، ولذلك يصحّ السلم فيه ، بل بعضهم عرّف المثلي بأنّه ما يصحّ السلم فيه.

والحاصل : أنّ المراد من المثلي في هذا المقام هو أنّه لا ينقص عن التالف إلاّ في الخصوصيّات الشخصيّة ، وإلاّ ففي سائر الجهات فهو والتالف سواء.

وهذا هو السرّ في أنّه مع وجوده لا تصل النوبة في مقام تفريغ ما في ذمّته إلى القيمة ، لأنّه بأداء المثل لا يذهب من كيس مالك التالف إلاّ الخصوصيّات الشخصيّة فقط ، وأمّا مع أداء القيمة فيذهب من كيسه ـ مضافا إلى الخصوصيّات الشخصيّة ـ

٦٥

الجهات الصنفيّة ، والصفات والحالات والعوارض النوعيّة بلا موجب ولا مبرر.

نعم المثلي بهذا المعنى على قسمين :

لأنّ الاشتراك في الصفات والعوارض النوعيّة ، والاتّحاد في الجهات الصنفيّة قد يكون بحسب الخلقة الإلهيّة ، وذلك كأغلب الحبوبات ، فإنّ امتياز حبّة حنطة أو شعير أو عدس أو حمصة إلى غير ذلك عن سائر حبّات نوعه أو صنفه غالبا ليس إلاّ بالخصوصيّات الشخصيّة ، وليس امتياز بينها بحسب الصفات النوعيّة والجهات الصنفيّة غالبا عرفا.

ولذلك أحسن شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره في تعريفه المثلي ـ على ما يستفاد من عباراته في هذا المقام ـ بأنّه هو ما لا يتفاوت أفراد نوعه أو صنفه ، ولا يتميّز كلّ فرد عن الآخر ، بحيث لو اختلطا أو امتزجا وكانا من مالكين تحصل الشركة القهريّة ، وأيضا كلّما يصحّ السلم فيه فهو مثلي (١).

فهذا أحد القسمين من المثلي ، وهذا القسم هو القدر المتيقّن من المثلي في المقام من حيث حكمهم بأنّه مع وجوده لا تصل النوبة في أبواب الضمانات والغرامات إلى القيمة.

والقسم الثاني : هو أن يكون الاشتراك والاتّفاق في الجهات النوعيّة والصنفيّة بتوسّط الصناعة البشريّة ، كالقرّائين طبع حافظ عثمان مثلا ، فكلّ فرد من طبعة فلان من المطبعة الفلانيّة مشتركة من غير الجهات والخصوصيّات الشخصيّة مع الأفراد الأخر من نفس تلك الطبعة في نفس تلك المطبعة ، وهكذا الحال في سائر الكتب المطبوعة ، بل في جميع الأجناس التي تستخرج من المكائن العصريّة من الحاجيات وغيرها ، بل لا يكاد يوجد في العصر الحاضر في الأنواع الصناعيّة بغير هذا الشكل.

فجميع هذه الأنواع أفرادها مثليّات واقعا حسب التعريف والمناط الذي ذكرنا له ، ولكن مع ذلك كلّه وقع الخلاف في عدّ هذا القسم من المثليّات على ما ذكره شيخنا‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

٦٦

الأستاذ قدس‌سره (١) ويظهر من تقييده المثلي ـ بأن يكون تساوى الصفات والآثار بحسب الخلقة الأصليّة (٢) ـ عدم عدّ هذا القسم من المثلي ، ولكنّه كلام عجيب بناء على أن يكون مدرك هذا الحكم في المثلي ـ أي : عدم وصول النوبة إلى القيمة مع وجوده ـ هو نفس أدلّة الضمان ، لا الإجماع.

وذكر قدس‌سره وجها للفرق بين القسمين (٣) ، وهو أعجب من أصل فرقه. وحاصل ذلك هو أنّه النوع أو الصنف الذي أفراده متّحد الصفات والجهات ، إن كان من المخلوقات الإلهيّة ، فالمادّة والصورة فيه موجودان بوجود واحد ، أفيض عليهما من قبل الله تعالى بجعل واحد ، وخلقة واحدة ، وليست المادّة فيه مصنوعة لشخص ، والهيئة والصورة لشخص آخر.

وأمّا ما كان من المصنوعات البشريّة ، فمن الممكن أن تكون المادّة لشخص والهيئة لشخص آخر ، وحصلت من عمل إنسان غير من هو صاحب المادّة ، فقهرا يكون له مالكان : أحدهما مالك الهيئة ، والآخر مالك المادّة.

مثلا : إذا كان الخشب لشخص ، وعمل النجّار فيه عملا بحيث يكون عمله محترما ـ لا كالغاصب الذي لا احترام لعمله ـ فصنعه بابا أو سريرا أو غير ذلك من أنواع ما يمكن أن يصنعه النجّار ، فيكون الخشب في ذلك السرير مثلا ملكا لصاحب الخشب ، والهيئة السريرية ملكا لذلك النجّار الذي صنع ذلك السرير ، فإذا غصب هذا السرير غاصب ، أو وقع تحت يده بالعقد الفاسد ، أو بغير ذلك ممّا هو ليس بإذن المالك ، فمثل هذا السرير وإن كان موجودا ولكن حيث أنّ للتالف كان مالكين ، فلا يمكن إعطاء المثل لكلّ واحد منهما ، لعدم استحقاق كلّ واحد منهما تمام المثل ، بل أحدهما تلف هيئته والآخر مادّته ، فلا بدّ في مقام تفريغ الذمّة من إعطاء قيمة الهيئة لمن يملكها ،

__________________

(١) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

(٢) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٣٧.

(٣) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، في تحديد المثلي والقيمي.

٦٧

وقيمة المادة أيضا كذلك ، مع أنّ التالف من المثليّات بالمعنى الثاني.

وأمّا في الأنواع والأصناف التي لا دخل للصناعة البشريّة فيها ، بل هي بمادّتها وصورتها من المخلوقات الإلهيّة ، فلا يمكن أن تكون المادّة لشخص والصورة لشخص آخر ، فإذا صار تالفا فمقتضى كونه بوجوده الاعتباري في عهدة الضامن هو تفريغ ذمّته بأداء مثله في الدرجة الثانية ، أي بعد تعذّر العين ، لا القيمة التي هي الدرجة الثالثة ، كما بيّنّا هذه المطالب وشرحناها مفصّلا.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، مضافا إلى الإشكالات العلميّة التي فيه ، أنّ هذا الفرق غير فارق بالنسبة إلى ما هو المقصود.

أما أوّلا : فلعدم جريانه فيما إذا كان التالف بمادّته وهيئته ملكا لشخص واحد ، وهذا القسم هو الغالب في الخارج ، لأنّ المتعارف في هذا العصر أنّهم يشترون من الأسواق من المصنوعات البشريّة ، وما من بيت إلاّ وفيه عشرات منها ، فالمادّة والهيئة كلاهما لشخص واحد ، فإذا تلف تحت يد غير مأذونه أو غاصبة أو التي أخذه بعقد فاسد أو بغير ذلك من الأيدي الموجبة للضمان ، فلا بدّ للضامن من إعطاء مثله ـ لما ذكرنا ، فلا نعيد ـ إلاّ أن يكون إجماع على عدم كفاية المثل لتفريغ ذمّة الضامن فيما إذا كان المثل من المصنوعات البشريّة ، وادّعاء هذا عجيب.

وثانيا : لا مانع من أن يكون الضامن في عهدته مثل التالف لكليهما ، فيشتركان في ما هو في عهدة الضامن ، كما كانا في الأصل كذلك.

وثالثا : حيث تحصل الشركة القهريّة بين العامل الصانع ـ كالنجّار مثلا ـ وبين صاحب المادّة ، فلا يبقى موضوع لهذا الفرض كي يكون ضامنا لأحدهما بالمادّة وللآخر بالهيئة ، بل لأحدهما ضامن بأحد الكسور وللآخر بالآخر ، سواء كانا متّفقين في الكسر أو كانا مختلفين.

وخلاصة الكلام : أنّ الفرق بين الأنواع والأصناف الطبيعيّة والصناعيّة خلاف‌

٦٨

المرتكزات العرفية وعند العقلاء في أبواب الضمانات والغرامات.

بل عندي أنّ لزوم إعطاء المثل ، وعدم جواز إلزام المالك للضامن بالقيمة في المثليّات الصناعيّة أولى وأرجح من المثليّات الطبيعيّة والمجعولات الإلهيّة ، وما لم تدخل في صنعة أيدي البشريّة ، وذلك من جهة أنّ الأخير ربما يكون بعض الاختلاف غالبا بين أفراد ذلك النوع من حيث الشكل والكبر والصغر ، فلو أنّ أحدا غصب أربع حبّات حنطة أو حمصة أو غير ذلك من الحبوب ، فالاختلاف بين الحبوب التالفة وبين ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة أزيد من الاختلاف بين استكان التالف المغصوب مع ما يعطي الغاصب بعنوان الغرامة من نفس الماركة.

بل عبارة شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره في مقام تعريف المثلي « بأنّه ما لا تتميّز أفراده بعد الاختلاط أو الامتزاج » (١) انطباقه على المثليّات الصناعيّة أوفق من الطبيعيّة ، لقلةّ الاختلاف في الأوّل.

هذا بحسب المرتكزات العرفيّة وكون مدرك المثل في المثليّات هو فهم العرف من أدلّة الضمان ذلك.

وأمّا لو كان مدركه الإجماع ، فيمكن أن يفرق بين المثلين ، ولكن دعواه عجيب بحيث ينتهي إلى المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا ، وذلك لعدم المكائن في تلك الأعصار ، وأمّا ما كان من صنع اليد في تلك الأزمنة فالاختلاف بينها كانت كثيرة ، فلا يجوز إجراء حكم ما كان يصنع باليد في تلك الأزمنة على ما يصنع بالمكائن في هذا العصر.

وإنّما طوّلنا البحث في المقام لأجل كثرة الاحتياج والابتلاء في هذا العصر بالصناعيّات ، والضمان والغرمات فيها.

إذا عرفت ما ذكرنا في أنّ مقتضى قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » هو‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ١٠٥.

٦٩

في الدرجة الأولى ردّ نفس العين ، ومع تلفها ردّ مثلها في المثليّات في الدرجة الثانية ، ومع كون التالف من القيميّات على الضابط المتقدّم تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة ، وهي ردّ القيمة في القيميّات. فنقول :

إنّ ها هنا أمور يجب ذكرها والتنبيه عليها‌

[ الأمر ] الأوّل : أنّه لو لم يوجد المثل إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله ، فهل ينتقل إلى الدرجة الثالثة ، ويكون عليه القيمة ، ويكون وجوده بمنزلة العدم ، أم لا بل يجب شراؤه وإعطاؤه غرامة للتالف؟

ثمَّ إنّ المراد بعدم وجوده إلاّ بأكثر من ثمن أمثاله هو عدم وجوده إلاّ عند شخص لا يبيعه إلاّ كذلك ، بحيث لو كان في السوق أو كان عند غير هذا الشخص لكان يباع بأقلّ من هذا ، وأمّا لو كانت زيادة القيمة من ناحية ترقّي قيمته في الأسواق ، فلا إشكال في وجوب شرائه ولزوم إعطائه لمالك التالف؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّه لا بدّ وأن ينظر ، وأنّ كونه في يد شخص لا يبيع إلاّ بأزيد من ثمن مثله وعدم وجوده في مكان آخر هل هو لانحصار وجوده فيما عند ذلك الشخص ، أو لقلّة وجوده؟ فإن كان كذلك ، فالظاهر أنّ هذا ملحق بتعذّره ، وسنتكلّم عنه.

وأمّا إن كان لأجل أنّ هذا الشخص أو مع غيره ـ ولكن ذلك الغير في بلاد بعيدة بحيث متعذّر أو متعسّر الاشتراء منه ـ حصروا هذا النوع أو الصنف عندهم ، ولم يكن وجوده في حدّ نفسه قليلا ، ففي مثل هذه الصورة لا يخرج عن كونه مثليّا ، لأنّ المثلي ـ بناء على ما ذكرنا ـ أن يكون نوع التالف أو صنفه ذا أفراد متماثلة غير متفاوتة من ناحية الصفات والجهات النوعيّة والصنفيّة ، وفيما نحن فيه يكون الأمر كذلك ، غاية الأمر حصره البعض عنده لأجل زيادة الربح ، كما هو شغل بعض المحتكرين ،

٧٠

فيخزنون الحنطة مثلا ويجعلونها منحصرة بما عندهم ، ثمَّ لا يبيعونها إلاّ بما هو أضعاف قيمتها لو لا هذا الاختزان.

فالإنصاف : أنّ في مثل هذه الصورة مقتضى ما ذكرنا من الارتكاز العرفي هو لزوم تفريغ ذميته ، وأداء ما أخذته يده بالمثل ، ويجب شراؤه وإن كان بأضعاف قيمته.

وهذا بعنوانه الأوّلي ، ولكن بعنوان أنّ وجوب الشراء في مثل هذه الصورة ضرريّ ، والحكم الضرريّ منفيّ في الإسلام فذلك أمر آخر ، ولا بدّ من الملاحظة والدقّة في أنّ مثل هذه الموارد هل من موارد جريان قاعدة لا ضرر ، أو ليس كذلك.

وفيه كلام طويل ، وقد بحثنا عن هذه القاعدة ومفادها ومدركها وموارد جريانها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

وإجماله : أنّ مفاد القاعدة هو نفي الحكم الضرري ، بحيث يكون عنوان أنّه ضرريّ عنوانا ثانويّا لذلك الحكم ، فالحكم الذي لا يترتّب عليه ضرر أصلا خارج عن تحت هذه القاعدة ، والحكم الذي يكون طبعه مقتضيا للضرر أيضا كذلك ، كالجهاد أو الخمس أو الزكاة ، والحجّ بالنسبة إلى الزاد والراحة ، فهذه الموارد كلّها خارجة عن تحت هذه القاعدة.

فمورد القاعدة هو فيما إذا كان الحكم بحسب طبعه لا يقتضي الضرر ، ولكن قد يتّفق لجهات خارجيّة ترتّب الضرر عليه ، سواء كان ذلك الضرر بدنيّا أو ماليّا أو اعتباريّا ، ففي مثل ذلك المورد تكون هذه القاعدة حاكمة على عموم الدليل الأوّلى أو إطلاقه ، ويخصّصه أو يقيّده بغير مورد ترتّب الضرر.

فلو نذر أن يطعم زيدا ـ مثلا ـ إن صار كذا ، فيتنجّز نذره بوجود المعلّق عليه ، فيجب عليه الوفاء بنذره وشراء الطعام من السوق ، وإن كان هذا الشراء ضررا ماليّا عليه. والقاعدة لا ترفع هذا الوجوب ، لأنّ هذا الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء بالنذر في الماليّات ، وفي المفروض من المورد لو ترقّى قيمة اللحم ترقّيا فاحشا في‌

٧١

الأسواق لا يمنع هذا الضرر عن وجوب الوفاء بالنذر ، لما قلنا إنّ هذا القسم من الضرر مقتضى طبع وجوب الوفاء.

وأمّا لو كان غلاء قيمة اللحم من جهة احتكار شخص أو أشخاص ، لا من جهة ترقّي القيمة السوقيّة ، فيمكن المورد مشمولا لقاعدة لا ضرر ، لأنّ هذا الضرر له جهة خارجيّة ، وليس من مقتضيات طبيعة الحكم ، كما هو واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال جريان القاعدة في محلّ كلامنا وعدم جريانها ، وأنّه إن كانت زيادة قيمة المثل بأكثر من ثمن أمثاله من جهة احتكار من عنده المثل أو ما يشبه الاحتكار ، فالقاعدة تجري ، وأمّا إن كان طلب الزيادة من جهة قلّة وجوده ، فالقاعدة لا تجري ، لأنّ الشي‌ء القليل الوجود إذا كان مطلوبا للعموم فقهرا تترقّى قيمته ويغلو سعره ، وإذا غلى سعره ـ وإن كان بواسطة قلّة وجوده في الأسواق ـ يكون الضرر من مقتضيات طبع الحكم ، فلا يكون مشمولا للقاعدة.

وكذلك الأمر في مسألة شراء الماء للوضوء ، فإن كان من عنده الماء يطلب قيمة زائدة لأجل كونه في قافلة في فصل الصيف ، والماء هناك قليل وطلاّبه كثيرون ، فلا تجري القاعدة ، ويجب الشراء وإن كان غالبا ، لاقتضاء الزمان والمكان ذلك ، وهذا الضرر من مقتضيات طبع الحكم.

وأمّا إن كانت الزيادة لأجل حصر الماء عن الآخرين ، فتجري القاعدة.

وهذا ضابط كلّي في جميع الموارد.

[ الأمر ] الثاني : لو تعذّر المثل في المثلي ، فلا شكّ في أنّ الأداء وتفريغ الذمّة ينتقل إلى الدرجة الثالثة وهي القيمة. إنّما الكلام في أنّ وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك ، أو يكون مطلقا؟

ولتوضيح المقام وتنقيحه نقدّم أمورا :

الأوّل : في أنّه ما المراد من تعذّر المثل؟ وهل المراد عدم وجوده وعدم إمكان‌

٧٢

تحصيله مطلقا حتّى مع التعب الشديد وصرف المال الكثير ، أو لا بل المراد منه عدم سهولة تحصيله من جهة قلّة وجوده ، أو كونه في بلد بعيد يصعب عليه جلبه من ذلك البلد؟

أقول : المناط في أبواب الضمانات والغرامات حسب الارتكاز العرفي في الانتقال من الدرجة الثانية إلى الثالثة ، عدم التمكّن من تحصيله عرفا ، فإذا حصل التعذّر بهذا المعنى فيجب عليه دفع القيمة ، بمعنى أنّه ليس للمالك إلزامه بإعطاء المثل ، ولو كان يجلبه من البلد البعيد وتحمّل المشقّة أو صرف المال الكثير ، فإنّ العرف يرى وجود المثل في هذه الصورة كالعدم ، فيفهم من أدلّة الضمان وجوب أداء القيمة.

الثاني : أنّ حكم تعذّر المثل هو حكم تلف العين ، أو حكم تعذّر العين؟ فإن كان هو الأوّل فقهرا ينتقل ما في الذمّة من كونه مثلا إلى القيمة ، كما أنّ العين إذا وقع عليها التلف ينتقل الضمان من العين إلى بدلها من المثل أو القيمة ، كلّ واحد منهما في مورده.

أمّا إن كان مثل تعذّر العين ، فكما أنّ في تعذّرها لا ينتقل الضمان إلى البدل ما دامت العين موجودة ـ غاية الأمر على الغاصب إعطاء بدل الحيلولة لا بدل نفس العين ـ فكذلك ها هنا لا ينتقل الضمان إلى القيمة ، بل المثل باق على عهدة الغاصب إلى زمان الأداء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ قياس تعذّر المثل بتعذّر العين لا وجه له ، لأنّ العين مع وجودها وبقائها لا وجه لخروجها عن ملك مالكها ، لأنّ تعذّر الوصول إلى الملك ليس ممّا يوجب سقوط الملكيّة ، فمع بقاء عين ماله في ملكه لا معنى لأخذ بدله الواقعي ، لأنّه من الجمع بين البدل والمبدل ، فلو قلنا بلزوم تدارك ما فات من المالك لا بدّ أن يكون بدل حيلولته بين المال ومالكه.

وأمّا فيما نحن فيه ، فبعد تلف العين قلنا إنّ المرتكز العرفي ـ فيما إذا قيل إنّ الذمّة مشغولة ولا يرتفع بعد تلفها إلاّ بأداء ما أخذه ـ أنّ عليه أداء ما أخذه بالمثل إن كان ،

٧٣

وبعد تعذّره تصل النوبة إلى القيمة ، فلا وجه لبقاء المثل في عهدته إلى زمان الأداء ولو بالقيمة. وقياسه على تعذّر العين باطل ، ومع الفارق إذ هو لم يملك المثل إلاّ بعد أن يعطى له بخلاف العين ، فإنّه يملكها ولا وجه لسقوط ملكيّتها بصرف التعذّر.

الثالث : أنّه بناء على ما عرفت في الأمرين المتقدّمين ـ وهما عدم سهولة تحصيله المثل عرفا ، وكون تعذّره بمنزلة تلف العين ـ فقهرا يكون التعذّر موجبا لأن يكون ذمّة الغاصب أو من هو بحكمه مشغولة بالقيمة. وإن شئت سمه بانقلاب المثل إلى القيمة ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

فبناء على هذا يجب دفع القيمة إلى المالك ، طالب أو لم يطالب ، بل له إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون المثل مرجو الحصول في زمان قريب ، فله أن يمتنع عن أخذ القيمة ويصبر إلى زمان حصول المثل ، كما إذا كان التالف حنطة ، والحنطة إمّا ليس بموجود أو عزيز الوجود ، فللغاصب إلزام المالك بأخذ القيمة إلاّ أن يكون في زمان الحصاد والمتوقّع وفور الحنطة في زمان قريب.

ولا فرق فيما ذكرنا من الانقلاب بين التعذّر الطاري والبدوي أصلا ، كما هو واضح فلا يحتاج إلى تطويل الكلام.

[ الأمر ] الثالث : من الأمور التي قلنا يجب التنبيه عليها هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ المغصوب أو ما كان بحكمه إن كان قيميّا يجب أداء قيمته ـ إمّا للإجماع على ذلك كما ادّعى في المقام ، أو من جهة أنّ المرتكز في أذهان العرف هو ذلك من أدلّة الضمان كما هو المختار عندنا ـ هل المدار في تعيين القيمة قيمة يوم دخول العين تحت اليد ، أو قيمة يوم التلف ، أو قيمة يوم الأداء ، أو أعلى القيم من زمان دخول العين تحت اليد إلى زمان التلف ، أو إلى زمان الأداء؟

وجوه وأقوال ، وذكروا لهذه الأقوال والوجوه الخمسة أدلّة ومدارك ، ويطول المقام بذكر جميع ما قالوا في مدارك هذا القول ، ولذلك نحن نكتفي بذكر ما هو المختار‌

٧٤

عندنا ، وهو قيمة يوم الأخذ غصبا ، أو بدون إذن المالك وإن لم يطلق عليه عنوان الغصب عرفا.

فنقول : ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ـ كما تقدّم ـ هو أنّ نفس ما وقع تحت اليد يثبت ويستقرّ على عهدة الآخذ ، ولا شك في أنّ هذا المعنى ـ أي استقرار ما أخذته اليد عليها ـ حكم شرعي وضعي في عالم الاعتبار التشريعي ، ونفس المأخوذ مال وعين خارجيّة وقعت تحت اليد ، فنفس العين الخارجيّة من الموجودات الخارجيّة ، ولا يمكن أن تنتقل بنفسها إلى العهدة ، لأنّ المراد من العهدة والذمّة عالم الاعتبار ، والموجود الخارجي محال أن ينتقل بوجوده الخارجي إلى عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم أن ينقلب الخارج اعتبارا ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يأتي إلى الذهن للزوم الانقلاب ، فكذلك الأمر ها هنا. بل المحاليّة هاهنا أوضح ، لأنّ الموجود الخارجي والذهني كلاهما موجودان خارجيّان واقعيّان ، والقول بأنّ أحدهما ذهني والآخر خارجي مجرّد اصطلاح.

وأمّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، بل الموجود الخارجي أمر واقعي وله وجود في الخارج ، سواء كان معتبر في العالم أو لم يكن ، بخلاف الأمر الاعتباري ، فليس له وجود أصلا وإنّما هو صرف اعتبار ممّن بيده الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ للأشياء وجود خارجي ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود كتبي ، كذلك للأشياء المتموّلة وجود اعتباري ، أي يعتبرها الشارع أو العقلاء في عالم الاعتبار لترتيب آثار ذلك الموجود عليه ، فالمراد من « على اليد ما أخذت » اعتبار ذلك الوجود الذي وقع تحت اليد فوق اليد ، أي على العهدة.

وذلك الوجود المأخوذ له جهات ثلاث : الخصوصيّات الشخصيّة ، والجهات الصنفيّة والصفات والعوارض الطارئة على نفس الطبيعة ، والثالثة ماليّته التي هي العمدة في أبواب الضمانات والغرامات ، ففي عالم الاعتبار يعتبر ما هو الواجد للجهات‌

٧٥

الثلاث ، فما دام يمكن أداء الجهات الثلاث يجب عليه أداؤها جميعا. وهذا فيما إذا كانت عين المال المغصوب موجودة يجب على الآخذ أداؤها جميعا ، لأنّ في ذمّته بالمعنى الذي ذكرنا للذمّة.

وإذا تلفت العين تسقط الخصوصيّات الشخصيّة ، لأنّ اعتبارها على الذمّة لترتيب الأثر الذي هو وجوب أدائها ، فإذا لم يمكن فاعتبارها لغو وتبقى الجهتان الآخريان ، أي الماليّة ، والعوارض والطواري النوعيّة الموجبة لتصنيفه. وإذا فقد المثل وانعدم بالمرّة ـ إمّا من أوّل الأمر ، أو طرأ الفقدان بعد ما كان ـ فتسقط الجهات المصنّفة أيضا ، وتبقى الجهة الماليّة فقط.

وبقاء الجهة الماليّة في العهدة يجتمع حتّى مع وجود العين فيما إذا سقطت عن المالية كقربة من الماء في المفازة التي تحتاج إليه القافلة ، خصوصا مع فقد غيرها إذا أتي بها الغاصب ويريد أن يرجعها إلى المالك في حافة الشط ، وكالأوراق الماليّة التي غصبها في حال اعتبارها ويريد ردّها إلى مالكها في حال سقوط اعتبارها.

ثمَّ إنّه قد ظهر لك أنّ المدار في القيمي قيمة يوم الأخذ ، لأنّ ظرف الضمان حسب مفاد هذا الحديث الشريف هو وقت الأخذ ، فيأتي المأخوذ بجهاته الثلاث في العهدة في ذلك الوقت ، منها قيمته في ذلك الوقت.

وبناء على ما ذكرنا لو سقطت العين المغصوبة بعد أن غصبها عن الماليّة ، فيجب عليه أداء قيمتها ، وأيضا أداء نفس العين مع بقائها ، وذلك من جهة إمكان أداء الجهات ، أمّا القيمة فمن الخارج ، وأمّا الجهات المصنّفة والخصوصيّات المشخصة فلوجودها في العين مع بقائها.

إن قلت : إن كان المدار في القيمة قيمة يوم الأخذ ، فلما ذا قالوا بضمان النماءات التي تحصل للعين المغصوبة بعد الغصب ، وإن تلفت تلك النماءات بعد حصولها ، كما لو سمن الشاة مثلا في يد الغاصب ثمَّ زال عنها السمن وعادت حالته الأولى ، فلو كان الضمان‌

٧٦

قيمة يوم الأخذ فقط ، فلا وجه لضمان تلك النماءات التي تحصل بعد يوم الأخذ.

قلنا : إنّ النماءات التي تحصل بعد الغصب تقع تحت اليد جديدا بتبع بقاء العين ، وفي الحقيقة تكون غصبا آخر غير مربوط بالغصب الأوّل ، ولذلك نفرق بين تلك النماءات وترقّى القيمة السوقيّة. وذلك من جهة أنّ ترقّيات القيمة السوقيّة ليست من أشياء تقع تحت اليد كي تكون غصبا جديدا وموجبا لضمان جديد.

هذا ، مضافا إلى دلالة صحيحة أبي ولاّد على أنّ المدار في القيمة قيمة يوم الغصب ، فلنذكر الصحيحة ونبيّن كيفيّة دلالتها على أنّ المدار في تعيين القيمة قيمة يوم الأخذ والغصب ، وهي هذه :

في الوسائل : محمّد بن الحسن بإسناده عن أبي ولاّد ، قال : اكتريت بغلا إلى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت نحو النيل ، فلمّا أتيت النيل خبرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتبعته فظفرت به ورجعت إلى الكوفة ـ إلى أن قال : ـ فأخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال : « أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه » ، قال : قلت : قد علفته بدراهم ، فلي عليه علفه؟ قال : « لا ، لأنّك غاصب » ، فقلت : أرأيت لو عطب البغل ، أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال : « نعم قيمة بغل يوم خالفته » قلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو عقر؟ فقال : « عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه » ، قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال : « أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك ، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك » الحديث (١).

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣١٣ ، أبواب الغصب ، باب ٧ ، ح ١.

٧٧

ثمَّ إنّه ربما يستشكل بالاستدلال بهذه الصحيحة بأنّها مخالفة للقواعد العامّة ، والأخبار المستفيضة ، بل الأخبار القطعيّة (١). وهي أنّه لا شكّ في أنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، والتفصيل قاطع للشركة ، فلا يجتمعان بالنسبة إلى أحد المتخاصمين في واقعة واحدة ، وهنا اجتمع بالنسبة إلى المالك.

وفيه أوّلا : أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام باعتبارين واختلاف كيفية إنشاء دعويهما ، وذلك كما إذا ادّعى شخص على زيد مثلا بكذا ، فإن قال زيد في مقام جوابه :

لم تطلب مني شيئا ، يكون منكرا. وإن قال : أعطيتك ، يكون مدّعيا ، ففي المقام إذا ادّعى الغاصب تنزل القيمة يوم المخالفة بعد الاتّفاق في القيمة قبل يوم المخالفة بيوم أو بأيّام ، فيكون المالك منكرا للتنزّل ، وعليه الحلف وعلى الغاصب أن يأتي بشهود.

وأمّا لو كان مصبّ الدعوى والاختلاف في القيمة هو نفس يوم المخالفة ، من غير اتّفاق على القيمة سابقا ، فالقول قول الغاصب ، لمطابقة قوله للحجّة الفعليّة ، وهي البراءة عن الزائد الذي يدّعيه المالك ، فيكون على المالك إقامة البيّنة على ما يدّعيه.

وثانيا : اختلال بعض الفقرات لا ينافي مع حجّية فقرات الأخر.

وأمّا دلالة هذه الصحيحة على أنّ المدار في تعيين القيمة هو قيمة يوم المخالفة ، ففي موضعين :

[ الموضع ] الأوّل : قوله عليه‌السلام : « نعم قيمة بغل يوم خالفته ». وقد أفاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في وجه دلالة هذه الفقرة على أنّ المدار في قيمة القيمي التالف قيمة يوم الغصب والأخذ هو أنّ الظرف قيد للقيمة ، وذكر لذلك وجهين :

الأوّل : إضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا ، فيكون معنى الكلام بناء على‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤١٥ ، باب ان البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٢٩ ، ح ٥٥٣ ، باب (٨٩) كيفية الحكم والقضاء ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٧٠ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٣ ، ح ١ ـ ٢.

٧٨

هذا الاحتمال هكذا : قيمة بغل قيمة يوم المخالفة (١). وهو يوم الغصب والأخذ بدون إذن المالك ، فيكون صريحا فيما هو المقصود ، وهو أنّ المدار على قيمة يوم الأخذ في ضمان القيميّات.

ولكن الإشكال في أنّ الكلمة الواحدة في جملة واحدة تكون مضافة إلى شيئين في عرض واحد ـ كما هو مدعاه قدس‌سره على تقدير إمكانه ، ـ والإغماض عما استشكل عليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في استعمال ولحاظ واحد ـ وهو محال (٢) ليس معهودا في تراكيب الكلام والجمل العربيّة ، فمثل هذه الدعوى لا تقبل في استظهار مفاد الكلام العربي.

نعم الذي لا مانع منه هو تتابع الإضافات ، مثل ماء حوض ، دار فلان ومثل دأب قوم نوح الوارد في القرآن كريم ، ولكن هذا غير ما ذكره قدس‌سره.

الثاني : أن يكون الظرف قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل ، فيكون المعنى قيمة مختصّة بالبغل يوم المخالفة. وحيث أنّ كلمة « مختصّة » ـ الحاصلة من إضافة القيمة إلى البغل ـ شبه فعل ، فيجوز أن تكون عاملا في الظرف.

وعلى هذا التقدير أيضا يكون صريحا على أنّ المدار قيمة يوم الأخذ بدون إذن المالك ، لأنّ القيمة المختصّة بالبغل يوم المخالفة هي عين قيمة يوم الأخذ.

واستشكل شيخنا الأستاذ قدس‌سره على هذا الوجه أيضا بمثل الإشكال الأوّل ، وهو أنّ الاختصاص الحاصل من الإضافة معنى حرفي ، وملحوظ آلي ، فلا يمكن أن يرد عليه القيد (٣) ، لأنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلة للتقييد ، وذلك من جهة أنّ التقييد لا يمكن إلاّ مع ملاحظة القيد والمقيّد استقلاليّا ، فيلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ١١٠.

(٢) الشيخ الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٥٩ ، في مدرك القول بيوم الضمان.

(٣) الأستاذ النائيني في « المكاسب والبيع » ج ١ ، ص ٣٥٩ ، في مدرك القول بيوم الضمان.

٧٩

في لحاظ واحد.

ولكن الإنصاف أنّه يمكن أن يلاحظ ذلك الاختصاص الحاصل من الإضافة باللحاظ الآلي ، ثانيا بلحاظ آخر استقلالي. ونظائره كثيرة ، مثلا يقال : هذا عصاء زيد يوم سفره ، أو هذا عباؤه يوم الجمعة ، أي : عصائه المختص بيوم سفره ، أو عباؤه المختصّ بلبسها يوم الجمعة ، فليس التقييد بلحاظ ذلك اللحاظ الآلي في حال الإضافة ، بل بلحاظ آخر استقلالي بعد الإضافة.

نعم هنا وجهان آخران لاستفادة كون المدار على قيمة يوم الأخذ من هذه الفقرة :

أحدهما : كونها من تتابع الإضافات ، وهو أن تكون القيمة مضافة إلى بغل ، وبغل مضافا إلى يوم وسقوط اللام عن بغل بواسطة إضافته إلى يوم ، فيكون المعنى : قيمة بغل ذلك اليوم. وهذه عبارة أخرى عن قيمة ذلك اليوم ، أي يوم الغصب والأخذ بدون اذن المالك.

وذلك من جهة أنّ اختلاف البغل باختلاف الأيّام ، وإن كان من الممكن أن يكون باعتبار سمنه في يوم وهزاله في يوم آخر ، أو صحّته ومرضه كذلك ، ولكن في المورد ظاهر في أنّ تخصيص البغل بيوم المخالفة باعتبار قيمته في ذلك اليوم ، لأنّ مجموع الأيّام التي كان البغل تحت يده لا يتجاوز أيّام قليلة ، والبغل لا يختلف في تلك الأيّام القليلة من جهة السمن والهزال ، والصحّة والمرض ، فيكون ظاهر التخصيص بيوم المخالفة هو باعتبار قيمة ذلك اليوم. وبناء على هذا يكون الظرف قيدا للبغل.

الثاني : أن يكون الظرف قيدا لـ « نعم » ويكون متعلّقا بـ « يلزمك » المقدّر في جواب قول السائل والمستفهم ، أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني ، فقوله عليه‌السلام :

« نعم » في جواب هذا الاستفهام تصديق وتقرير لما قال : أليس كان يلزمني ، فيصير المعنى : نعم يلزمك قيمة بغل يوم خالفته. وظاهر هذه العبارة وإن كان أنّ ضمانه‌

٨٠