القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

« ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (١). والتهذيب مع ذلك الذيل (٢).

وإذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة ، ولو أنّ أصالة عدم الزيادة مقدّمة على أصالة عدم النقيصة عند العقلاء والاعتبار ، ولكن لا يجرى ذلك في هذا المقام ، لأنّه كيف يمكن لمثل الصدوق قدس‌سره الذي هو خرّيت هذه الصناعة ، ومن أحذق حذاق هذا الفنّ ترك مثل هذه الفقرة من الرواية وإسقاطها ، مع أنّها مدار الحكم ، وتترتّب عليه آثار مع أنّهم صرّحوا بأن الفقيه أضبط عند وقوع الاختلاف من التهذيب.

واحتمل الشيخ الأعظم قدس‌سره أنّ تكون هذه الزيادة من محمّد بن سنان ، لأنّه داخل في أسناد التهذيب ، وليس واقعا في سند الفقيه (٣).

وهناك اضطرابات أخر في المتن من حيث الاختلاف الواقع في لفظة « المجبور » ففي بعض النسخ بالحاء المهملة ، وفي البعض الآخر بالخاء المعجمة ، وفي نسخة الفقيه بالجيم (٤) ، ويرجحه ـ على الاحتمالين الآخرين ـ في الوافي (٥) ، ومن حيث مقابلة المجبور مع الخادم والظئر في بعض نسخ التهذيب ، وجعلهما قسما له في نسخة أخرى (٦).

ورابعا : من جهة ترك ظاهرها وعدم العمل به ، لأنّه لم يفت أحد بلزوم نوم الصبيّ بعد أن ارتضع وروى في التحريم ، فلذلك لا يبقى حجّية لهذه الرواية أصلا كي تكون مدركا ومستندا لهذا القول.

ولو لا ما ذكرنا من الإشكالات على هذه الرواية كان يمكن أن يقال : إنّ رواية فضيل بن يسار ـ بعد تخصيص عموم العشر رضعات بالمتواليات بواسطة منطوق‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٥٧ ، هامش رقم (١).

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٥ ، ح ١٣٠٥ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ١٣ ،

(٣) « كتاب المكاسب » ص ٣٨٠.

(٤) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٧ ، ح ٤٦٧٢ ، باب الرضاع ، ح ١٢.

(٥) « الوافي » ٢١ ، ص ٢٣٩ ، ح ٢١١٥٤ ، أبواب بدء النكاح والحثّ عليه ، ح ٢٣.

(٦) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٦ ، ح ١٣٠٥ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ١٣.

٣٦١

موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة ـ تكون أخصّ من الروايات الدالّة على عدم تحريم العشر ، لأنّ تلك الروايات تدلّ على عدم تحريمه ، سواء أكانت متواليات أو متفرّقات ، وهذه الرواية تدلّ على تحريمه إذا كانت متواليات بعد تخصيصها بما ذكرنا ، فتكون أخصّ من تلك.

ولكن مع ذلك أيضا لا يفيد ، لأنّه حتّى على فرض غضّ النظر عن هذه المناقشات تعارضها رواية زياد بن سوقة ، التي مضمونها عدم التحريم بما هو أقلّ من خمسة عشر متواليات (١) ، فهو صريح في أنّ العشرة المتوالية وما زاد عليها إلى أن يبلغ خمسة عشرة المتوالية لا تكون محرّما ، وعلى فرض التكافؤ يتساقطان ، فيرجع إلى الأخبار الدالّة على عدم تحريم العشرة المتقدّمة.

وهذا الوجه كما يجري في رواية فضيل بن يسار ، يجري في موثّق عمر بن يزيد وخبري عبيد بن زرارة ، لأنّها أيضا طرف المعارضة ، فتسقط أيضا بالمعارضة.

مضافا إلى أنّ دلالتها بالمفهوم والمنطوق أقوى من المفهوم ، مع أنّه يمكن الخدشة في أصل دلالتها ، لأنّه من الممكن أن تكون في مقام عدم تحريم ما هو أقلّ من العشرة ، لا في مقام تحريم العشرة.

هذا كلّه ، مع أنّ القول بالعشرة موافق لمذهب بعض أهل الخلاف ، بخلاف القول بالخمسة عشر ، فإنّه لا يقول به أحد منهم ، لأنّ التحديد بالعدد عند من يقول منهم بالعدد أربعة : الرضعة الواحدة ـ بناء على أن يكون الواحد من الأعداد ـ والثلاثة ، والخمسة ، وعشرة.

وممّا يؤيّد ورود هذه الأخبار في مورد التقيّة قوله عليه‌السلام في إحدى روايتي عبيد بن زرارة ، في بيان ما هو المحرّم ، كأن يقال « عشر » ومعلوم أنّ هذا التعبير يناسب التقية ، لا بيان حكم الله الواقعي ، خصوصا بضميمة قوله عليه‌السلام في جواب المسائل بقوله قلت :

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٥٢ ، هامش رقم (٢).

٣٦٢

فهل يحرم عشر رضعات؟ « دع ذا ، ما يحرم من النسب يحرم من الرضاع ».

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ القول بتحريم عشرة رضعات ليس له مستند يمكن الاعتماد عليه والركون إليه.

وقد ذكرنا أنّ الأمر يدور بين هذين القولين ، فإذا بطل أحدهما يتعيّن الآخر ، فيتعيّن قوله الخمسة عشر.

ثمَّ إنّهم اعتبروا في الرضاع المحرّم من حيث العدد ـ سواء قلنا بأنّه العشر أو الخمسة عشر ـ شروطا :

[ الشرط ] الأوّل : أن يكون كلّ رضعة من تلك الرضعات رضعة كاملة ، بمعنى أن يكون الطفل بعد أن جاع واشتهى وطلب يرتوي ويشبع بتلك الرضعة.

ولعلّ هذا مراد من حدّدها بأن يرتوي فيصدر من نفسه ، يعني يرتوي بعد أن جاع ، فيرفع اليد عن الثدي باختياره من دون أن يبعد عنه.

وذلك من جهة ظهور هذه الكلمة في هذا المعنى في متفاهم العرف الذي هو المناط في باب تشخيص الظهورات.

مضافا إلى أنّه فسّر في الأخبار أيضا بهذا المعنى ، كقوله عليه‌السلام في رواية فضيل بن يسار ، « ثمَّ ترضع عشر رضعات يروى الصبيّ وينام » (١).

وكقوله عليه‌السلام في مضمرة ابن أبي يعفور : « إذا رضع حتّى يمتلئ بطنه ، فإنّ ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرم » (٢).

وكقوله عليه‌السلام في تفسير الرضاع المحرم « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٥٧ ، هامش رقم (١).

(٢) تقدم راجع ص ٣٤٥ ، هامش رقم (٥).

٣٦٣

يرضع حتّى يمتلئ ويتضلّع » (١).

وفي مرسلة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتّى يتضلّع ويمتلئ وينتهي من نفسه » (٢).

وأنت خبير بأنّ مفاد هذه الروايات مطابق مع ما يفهمه العرف من هذه اللفظة في هذا المقام ، أي في مقام التحديد بالعدد ، وبناء على هذا لو مص الثدي وأعرض عنه فتارة يكون إعراضه لارتوائه بعد أن كان جائعا ، فهذا هي الرضعة الكاملة. وأخرى يكون لإبعاده عن الثدي ، أو للسعال ، أو لغلبة الوجع. أو الانتقال من ثدي إلى ثدي ، أو للالتفات إلى ملاعب وأمثال ذلك ، فلا يعدّ رضعة من تلك الرضعات ، وإن عاد بغير فصل طويل فالمجموع يحسب رضعة ، وإلاّ فلا.

الشرط الثاني : توالي الرضعات ، بمعنى أن لا يكون رضاع امرأة أخرى يفصل بين تلك الرضعات.

والدليل عليه قوله عليه‌السلام في رواية زياد بن سوقة : « أو خمس عشر رضعات متواليات من امرأة واحدة » (٣).

في مرسل المقنع قوله عليه‌السلام : « أو خمسة عشر رضعات متواليات لا يفصّل بينهنّ » (٤).

هذا مع أنّه لو كان المناط الحقيقي لنشر الحرمة هو إنبات اللحم وشدّ العظم بمرتبة خاصّة تحصل من رضاع يوم وليلة ، أو من رضاع خمسة عشر رضعة ، فالفاصل مطلقا سواء أكان هو رضاع امرأة أخرى ، أو أيّ غذاء آخر يكون مضرّا بحصول ما هو الموضوع. نعم لو كان الغذاء الفاصل قليلا ، بحيث لا يكون مضرّا باستناد تلك المرتبة من إنبات اللحم وشدّ العظم إلى تلك الرضعات ، فلا بأس بذلك.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٤٦ ، هامش رقم (١).

(٢) تقدم راجع ص ٣٤٦ ، هامش رقم (١).

(٣) تقدم راجع ص ٣٥٢ ، هامش رقم (٢).

(٤) تقدم راجع ص ٣٥٢ ، هامش رقم (٣).

٣٦٤

وأمّا في خصوص رضاع امرأة أخرى حيث أنّه منصوص ، فإن كان فلا بدّ وأن يكون من القلّة ، بحيث لا يصدق أنّه فصل رضاع امرأة أخرى.

هذا مع احتمال أن يكون المراد من رضاع امرأة أخرى الرضعة الكاملة ، فغير الكاملة لا تكون بها بأس أصلا.

ولكن ادّعى في الحدائق الاتّفاق على أنّ الفصل بغير الرضاع لا يكون منافيا مع التوالي المعتبر فيها (١).

الشرط الثالث : أن تكون تلك الرضعات الكاملة المتوالية من امرأة واحدة ، فلو ارتضع من امرأة بعض العدد وكان لصاحب اللبن ـ أي : الفحل ـ امرأة أخرى ذات لبن لنفس ذلك الفحل ، فارتضع ما يبقي من العدد من هذه الأخرى لا يؤثّر في التحريم ، ولا يصير ابنا أو بنتا له ، أي لذلك الفحل.

وأمّا المرضعتان فكلّ واحدة منهما لا تصير أمّا بالضرورة ، لأنّ الأمومة لا تحصل إلاّ بذلك العدد من نفس الأمّ ، لا بعضه منها وبعضه من امرأة أخرى ، ولذلك لو لم يكن الفحل أيضا واحدا فالأمر أوضح.

والدليل على هذا الشرط قوله عليه‌السلام في موثّقة زياد المتقدّمة « أو خمسة عشر رضعة متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد » (٢).

وهناك روايات أخر تدلّ على هذا المعنى ، كقوله عليه‌السلام في صحيحة بريد العجلي : « كلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى » (٣) ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان : « ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام » (٤).

__________________

(١) « الحدائق الناضرة » ج ٢٣ ، ص ٣٥٨.

(٢) تقدم راجع ص ٣٥٨ ، هامش رقم (١).

(٣) تقدم راجع ص ٣٣٩ ، هامش رقم (٢).

(٤) تقدم راجع ص ٣٣٩ ، هامش رقم (١).

٣٦٥

ومعلوم أنّ المراد من إرضاع الامرأة بحسب العدد هو الخمسة عشر رضعة ، أو العشر رضعات.

فتدلّ هذه الروايات على أمرين : اتحاد المرضعة ، واتّحاد الفحل ، فنتيجة هذه الروايات هو أنّه لا بدّ في تحقّق الرضاع المحرّم من أن تكون المرضعة واحدة والفحل واحدا ، ففي صورة عدم اتّحاد كليهما لا تحريم ، كما إذا ارتضعت جارية مثلا من امرأة بعض العدد المعتبر في التحريم ، ومن امرأة أخرى لفحل آخر ما بقي من تمام العدد ، أو عدم اتّحاد الفحل فقط ، كما إذا أرضعت امرأة رجل ولدا ببعض العدد من لبن زوجها ، وبعد ذلك طلّقها زوجها أو وهبها أو باعها لو كانت أمته ، فتزوّجت من رجل آخر بعد انقضاء عدّتها ، وحبلت بعد ذلك من زوجها الثاني أو من مولاها الثاني ، ودرّ لبنها من الزوج الثاني أو من مولاها الثاني ، فكملت العدد من لبن الفحل الثاني.

لكن صحّة هذا الفرض منوط بأن يكون الفاصل بين الرضعات بغير إرضاع امرأة أخرى ، أي : لو كان بسائر الأغذية لا يكون منافيا مع التوالي الذي اعتبر فيها ، ولو كان ذلك الفاصل من الأغذية الآخر مدّة طويلة ، فلا تحريم في هذه الصورة أيضا ، كما أنّه لو كان الفحل واحدا والمرضعة متعدّدة ، كأن تكونا زوجتين ، أو أمتين ، أو مختلفتين لشخص واحد ، ويكون كلا اللبنين له ، فلا تحريم أيضا.

ثمَّ إنّه يمكن تصوير تعدّد الفحل مع وحدة المرضعة بشكل لا يكون الفاصل في البين أصلا ، لا بالإرضاع من امرأة أخرى ، ولا بغذاء آخر. وهو فيما إذا طلّق امرأته وتزوّجت بعد انقضاء عدّتها من رجل آخر ، فحبلت من ذلك الرجل ، ولكنّ اللبن كان مستمرّا من زمان أنّها كانت زوجة للزوج الأوّل إلى زمان وضع الحمل الذي صار من الزوج الثاني وبعده أيضا.

فبناء على ما اخترناه ـ تبعا لجمع من المحقّقين ـ من أنّ اللبن قبل الوضع للزوج الأوّل وبعد الوضع للزوج الثاني ، فيمكن أن يكون بعض الرضعات العشر أو الخمسة‌

٣٦٦

عشر من لبن الزوج الأوّل ، أي ما كان قبل الوضع ، وبعضها الآخر من الزوج الثاني ، أي ما كان بعد الوضع ، فمجموع الرضعات حصلت من امرأة واحدة. ولكن اللبن لفحلين من دون فاصل في البين.

الشرط الرابع : أن تكون تلك الرضعات من الثدي لا بالوجور في حلقه.

وذلك لعدم صدق الرضاع والارتضاع عرفا إلاّ بامتصاص الثدي ، ولو شككنا في الصدق فقد تقدّم حكم الشبهة الحكميّة فراجع.

وأمّا ما يقال : من أنّ الغرض من الارتضاع هو شدّ العظم وإنبات اللحم حاصل من الوجور أيضا ، لأنّه لا فرق في حصول هذه النتيجة بين الامتصاص وبين الوجور.

ففيه : أنّ الموضوع في لسان الدليل هو عنوان الرضاع أو الإرضاع الذي يكون أثره إنبات اللحم أو الدم وشدّ العظم ، لا مطلق الإنبات ولو كان حاصلا من غير الرضاع ، فما ذهب إليه الإسكافي ـ من كفاية الوجور في حلقه في نشر الحرمة (١) ـ مضافا إلى أنّه مخالف لما ذهب إليه معظم الأصحاب ـ لا وجه له أصلا ، بل الوجه على خلافه كما عرفت.

وأمّا مرسل الفقيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وجور الصبي اللبن بمنزلة الرضاع » (٢) ، مع أنّه ضعيف فلا حجّية له في حدّ نفسه وأعرض المشهور عن العمل به ، معارض برواية زرارة عن الصادق عليه‌السلام : « لا يحرم من الرضاع إلاّ ما ارتضعنا من ثدي واحد حولين كاملين » (٣) بناء على أن لا يكون حولين كاملين تحديدا للرضاع بحسب مقدار الرضاع وكميّته بحسب الزمان ، بل يكون ظرفا لأصل الرضاع المقدّر بأحد التقديرات الثلاثة كي لا تكون معرضا عنها للأصحاب ، فلا تكون قابلة للمعارضة.

__________________

(١) ابن الجنيد الإسكافي في « الفتاوى » ص ٢٣٦.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٩ ، ح ٤٦٨٣ ، باب الرضاع ، ح ٢٣.

(٣) تقدم راجع ص ٣٥٣.

٣٦٧

هذا ، مضافا إلى أنّ الإعراض عن الذيل لا يلازم الإعراض عن صدر الرواية ، بل هو يبقى على حجيته.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الشرط ليس مختصّا بالتقدير بالعدد ، بل يعتبر في التقديرات الثلاثة ، ولذلك ينبغي أن يعدّ هذا من شرائط الرضاع ، لا من شرائط العدد.

الشرط الخامس : أن تكون المرضعة حيّة ، فلا اعتبار بما يرتضع الطفل منها بعد موتها. هذا ما ذهب إليه معظم الأصحاب.

واستدلّوا عليه : بأنّ لفظة « الإرضاع » في الآية والرواية ظاهر بحسب متفاهم العرف في الارتضاع من الحيّ ، فهو المحرّم ، وأمّا الارتضاع من الميّت فلا دليل على تحريمها ، فيبقى تحت أصالة الإباحة ، ولو كانت بمعنى استصحاب عدم حدوث الحرمة ، كما تقدّم في حكم الشكّ في الشبهة الحكميّة.

وفيه أوّلا : أنّ هذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل البرهان على خلافه ، لأنّه لو كانت المرأة نائمة أو غافلة وسعى إليها الطفل والتقم ثديها من دون التفاتها إلى ذلك ، تحصل الحرمة إذا حصل أحد التقديرات الثلاثة كذلك ، مع أنّه لا فرق بين الميّت ومثل النائمة والغافلة بحسب الاعتبار ، لأنّ من يدّعي اعتبار الحياة من طريق ظهور لفظة « الإرضاع » في ذلك ، من جهة اعتبار الاختيار والمباشرة والالتفات والقصد إلى صدور هذا الفعل عنها ، وحيث أنّه ليس في الميّت مثل هذه العناوين ، فلا يصدق على الارتضاع منه أنّها أرضعت.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه العناوين مفقودة في المثال الذي فرضنا ، ففي النائمة أو الغافلة كلّ ذلك ليس ، فليس هناك مباشرة ولا اختيار ولا التفات إلى الفعل ولا قصد إلى صدوره ، فصدق الإرضاع مع ذلك يدلّ على عدم أخذ هذه الأمور في ذلك المفهوم ، بل لم تؤخذ هذه العناوين في مفهوم أيّ فعل من الأفعال ، لأنّ مادّتها موضوعة للحدث الكذائي ، وهيئاتها على اختلافها لأنحاء النسب التي بين المادّة‌

٣٦٨

والذات ، وليس شي‌ء آخر في البين كي يكون موضوعا لهذه العناوين ، أو تكون هذه العناوين مأخوذة فيه.

وثانيا : لو سلّمنا عدم شمول لفظة « الإرضاع » ـ الذي في الآية والرواية ـ للارتضاع من الميّت ، فمع ذلك لا تصل النوبة أيضا إلى أصالة الحلّ ، أو استصحاب عدم حدوث الحرمة ، أو قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (١) لأنّ لفظة « الرضاعة » في قوله تعالى ( وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) (٢) وهكذا لفظة « الرضاع » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (٣) ، وفي سائر الروايات ، لا مانع من شموله للميت أيضا.

وأمّا ما ربما يقال : من أنّ الميّت يخرج من كونه متعلّقا وموردا للأحكام بواسطة الموت ، فالرضاع منه لا يترتّب عليه ثمرة شرعيّة أصلا.

فعجيب إلى الغاية ، لأنّ عدم صلاحيّة الميّت لكونه متعلّقا وموردا للأحكام إنّما هو بالنسبة إلى تعلّق حكم بنفسه ، لأنّه ليس قابلا لتوجيه خطاب إليه.

وأمّا تعلّق الأحكام بشخص آخر ، أو أشخاص آخرين ـ لوجود إضافة ونسبة بينه ، أو بينهم وبين الميّت ـ فمما لا كلام فيه فمن ذلك إرثه منه ، وجواز تغسيله لو كان مماثلا أو محرّما ، وإجراء الحدّ عليه لو زنى به ، وأخذ الدية منه لو جنى عليه ، إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة.

وأمّا دعوى انصراف الأدلّة والإطلاقات عن الرضاع من الميتة ، فليس له وجه ، إلاّ قلّة وجود هذا القسم ، وندرة وقوعه ، ولو كان مثل هذا انصرافا ومضرّا بالإطلاق ففي جميع الإطلاقات يلزم أن تكون الأفراد النادرة الوجود خارجة عن تحت‌

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٤.

(٢) النساء (٤) : ٢٣.

(٣) تقدم راجع ص ٣٢٣ ، هامش رقم (٢).

٣٦٩

الإطلاقات ، ولا يلتزم به أحد.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الرضاع من الميتة لا يمكن فيه دعوى الانصراف ، كما إذا كان مثلا أربعة عشر رضعة في حال الحياة ورضعة واحدة ـ بناء على القول بالخمسة عشر ـ في حال الممات ، فمثل هذا المورد لا يمكن أن يقال بعدم شمول الإطلاقات له وانصرافها عنه ، فحينئذ بعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب.

إلاّ أن يقال بقلب هذا الدليل ، بأنّه في كثير من الصور تكون الإطلاقات منصرفة عنها ، فتدخل تلك الصور تحت آية التحليل ، أي قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (١) وبعدم القول بالفصل يتمّ المطلوب ، ولو سقط كلا الدليلين بواسطة التعارض عن الاعتبار ، فالمرجع أصالة الحل بالمعنى الذي ذكرنا.

ولكن أنت خبير بأنّ مسألة عدم القول بالفصل غير الاتّفاق والإجماع المركّب على عدم الفصل ، والذي موجود فيما نحن فيه هو الأوّل ، وهو غير مفيد ، والمفيد هو الثاني وليس بموجود فيما نحن فيه ، فلا مانع من الأخذ بالإطلاقات فيما تشمله ، والرجوع إلى أصالة الحلّ أو آية التحليل في موارد الانصراف.

الشرط السادس : ذهب معظم الأصحاب إلى أنّ الرضاع الذي يكون سببا لنشر الحرمة ، لا بدّ وأن يكون في حولي الرضاعة ، أي لا يكون الرضيع له أزيد من الحولين.

والدليل عليه ـ قبل الإجماع المدّعى في المقام ـ قوله عليه‌السلام فيما رواه الكافي عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا رضاع بعد فطام ». (٢)

وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا رضاع بعد فطام » (٣).

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٤.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩٠ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٥ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، باب : أنّه لإرضاع بعد فطام ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩١ ، أبواب

٣٧٠

ورواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا رضاع بعد فطام ». قلت : جعلت فداك وما الفطام؟ قال : « حولين الذين قال الله عزّ وجلّ » (١).

ورواية فضل بن عبد الملك ، قال : « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (٢).

هذه هي الروايات المرويّة الواردة في هذا المقام.

والمراد من « الفطام » في هذه الروايات ظاهرا هي المدّة التي جعلها الشارع ظرفا للرضاع الكامل ، أي الحولين في قوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (٣) لا بمعنى الانقطاع عن الرضاع ، سواء أكان قبل انقضاء الحولين أو بعدهما ، كما ربما يظهر من هذه اللفظة حسب الوضع اللغوي ، وإن كان في بعض كتب اللغة فسّره بزمن الفطم ، وذلك لتفسير الصادق عليه‌السلام هذه الكلمة بما ذكرنا من الحولين في خبر حمّاد بن عثمان.

فبناء على هذا لو فطم الولد قبل تمام المدّة وتغذّى بغذاء آخر ، ثمَّ حصل الرضاع بعد انفطامه وقبل تمام الحولين تنشر الحرمة ، لأنّ مفاد هذه الروايات بناء على ذلك التفسير المروي ، عدم التحريم بعد انقضاء الحولين. فقبل ذلك لا تدلّ على عدم حصول الرضاع المحرّم ، فتشمله الإطلاقات ولو كان منفطما.

فما نسب إلى العمّاني من لزوم أمرين : أحدهما عدم تماميّة المدّة ، والثاني عدم الانفطام ، فكما أنّه بتماميّة المدّة لإرضاع ، كذلك بالانفطام ـ ولو كان قبل تماميّة المدّة ـ

__________________

ما يحرم بالرضاع ، ٥ ، ح ٢.

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، باب : أنه لا رضاع بعد فطام ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٨ ، ح ١٣١٣ ، باب : ما يحرم من النكاح في الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ٢١ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٩٨ ، ح ٧١٦ ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح ٢١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩١ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٥ ، ح ٥.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٣ ، باب : أنه لإرضاع بعد فطام ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٨ ، ح ١٣١٢ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ٢٠ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٩٨ ، ح ٧١٥ ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح ٢٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩١ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٥ ، ح ٤.

(٣) البقرة (٢) : ٢٣٣.

٣٧١

لا رضاع (١).

لا وجه له ، لما ذكرنا من أنّ المراد من الفطام هي مدّة الرضاع ، لا الفطم والقطع الخارجي.

ولا يتوهّم أنّ قوله عليه‌السلام في رواية فضل بن عبد الملك « الرضاع قبل الحولين قبل أن يفطم » (٢) يدل على ما ذهب إليه العماني ، لأنّه عليه‌السلام أخذ في موضوع الرضاع قيدين :

أحدهما أن يكون قبل الحولين. والثاني أن يكون قبل أن يفطم ، لأنّه بعد ما فسّر الإمام عليه‌السلام الفطام بما ذكرناه يكون المراد من القيد الثاني عين ما هو المراد من القيد الأوّل.

ولعلّ وجه ذكره مع الاستغناء عنه هو الإشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » (٣) وأنّ ما هو قبل الحولين قبل الفطام ، فالمراد من الفطام ليس إلاّ انقضاء الحولين ، ولذلك قال في الجواهر : بل لم نتحقّق خلاف الحسن ، أي : ابن أبي عقيل وهو العمّاني ، لأنّ المحكي عنه اعتبار الفطام ، ويمكن ارادته سنّ الفطام (٤).

ثمَّ إنّه نسب إلى الإسكافي قدس‌سره ثبوت التحريم قبل أن يفطم ، ولو كان الارتضاع بعد مضيّ حولين عن سنّ المرتضع. (٥)

ولعلّ مدركه رواية داود بن الحصين المرويّة في الفقيه والتهذيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرّم » (٦).

__________________

(١) « مختلف الشيعة » ج ٧ ، ص ٣٥ ـ ٣٦ ، مسألة : ٣ ، كتاب النكاح ، في الرضاع ، حكى قول ابن أبي عقيل العمّاني.

(٢) تقدم راجع ص ٣٧١ ، هامش رقم (٢).

(٣) تقدم راجع ص ٣٧١ ، هامش رقم (١).

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٢٩٦ ، في شروط الرضاع وأحكامه.

(٥) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٢٩٧ ، في شروط الرضاع وأحكامه ، حكى عن الإسكافي.

(٦) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٦ ، ح ٤٦٦٧ ، باب الرضاع ، ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٨ ، ح ١٣١٤ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع و

٣٧٢

وأنت خبير بأنّ هذا خبر شاذّ مخالف للإجماع والأخبار : ولا يمكن الركون إليه.

وقال الشهيد قدس‌سره إنّ هذه الفتوى ـ أي فتوى ابن الجنيد ، وهو أن يكون الارتضاع بعد مضيّ حولين من سنّ المرتضع وقبل أن يفطم يكون موجبا لنشر الحرمة ـ مسوقة بالإجماع على الخلاف وملحوقة به (١).

وربما قيل في توجيه هذه الرواية بأنّ المراد من « بعد الحولين » أي بعد مضي الحولين من عمر ولد المرضعة وقبل أن يفطم المرتضع ، ويكون المراد من هذه الرواية أنّه يمكن أن يقع الرضاع هكذا ، لا أنّه من شروط الرضاع أن يكون هكذا كي يكون منحصرا في كونه هكذا ، كما هو ظاهر الرواية لو كان المراد من الحولين صفة ولد المرضعة ، لا المرتضع كما ذكرنا ، فيكون ردّا على ابن بكير. ولكن هذا التوجيه عجيب.

ثمَّ إنّه هل يعتبر هذا الشرط ـ أي : عدم انقضاء الحولين ومضيهما عن عمره ـ في خصوص المرتضع ، أو يكون شرطا لولد المرضعة أيضا؟

فيه خلاف ، فالمشهور بين المحقّقين والفقهاء هو الأوّل ، وحكى عن أبي الصلاح (٢) وابن زهرة (٣) وابن حمزة (٤) بل ادّعى في الغنية الإجماع عليه (٥) كما حكى عنه في الجواهر (٦) هو الثاني.

وهؤلاء الذين يقولون بالاشتراط حتّى في ولد المرضعة يتمسّكون بالإجماع وبإطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » حيث أطلق الفطام ولم يقيّده بفطام المرتضع ،

__________________

ما لا يحرم منه ، ح ٢٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩٢ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٥ ، ح ٧.

(١) الشيخ الأعظم في « كتاب المكاسب » ص ٣٧٨ ، في شروط انتشار الحرمة بالرضاع ، حكى قول الشهيد.

(٢) « الكافي في الفقه » ص ٢٨٥.

(٣) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٤٧.

(٤) « الوسيلة » ص ٣٠١.

(٥) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٤٧.

(٦) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٢٩٧.

٣٧٣

فيشمل فطام الاثنين ، فإذا انقضى فطام ولد المرضعة أيضا فلا فطام للأصل ، لأنّه بعد انقضاء فطام ولد المرضعة إذا شككنا في التحريم فمقتضى أصالة الحلّ أو عدم حدوث الحرمة عدم تأثير مثل ذلك الرضاع ، وبفهم ابن بكير من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » فطام ولد المرضعة أيضا.

وذلك حيث سأل ابن فضّال عن ابن بكير في المسجد فقال : ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما سنتين ، ثمَّ أرضعت صبيّة لها أقلّ من سنتين حتّى تمّت السنتان ، أيفسد ذلك بينهما؟ قال : « لا يفسد ذلك بينهما ، لأنّه رضاع بعد فطام » وإنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » أي : أنّه إذا تمَّ للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حدّ اللبن ، ولا يفسد بينه وبين من شرب من لبنه (١).

وفيه : أنّ حال هذا الإجماع ـ مع ذهاب الأكثر على خلافه ، مضافا إلى تمسّك المجمعين بهذه المدارك التي ذكروها ـ معلوم.

وأمّا إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » فممنوع شموله لولد المرضعة ، لأنّه خارج عن مورد البحث والكلام ، بل ظهور الحديث في فطام المرتضع فقط من الواضحات. وعلى فرض الشكّ فالمرجع هي الإطلاقات الواردة في باب تحريم الرضاع ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » لصدق الرضاع عليه يقينا ، والشكّ في تقييد الإطلاق لإجمال مفهوم المقيّد.

وأمّا فهم ابن بكير : فأوّلا هو اجتهاد منه ، وليس بحجّة. وثانيا معارض بفهم الصدوق (٢) والكليني خلاف ما فهمه.

وقال الأخير في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا رضاع بعد فطام » إنّ الولد إذا شرب لبن‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣١٧ ، ح ١٣١١ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ١٩ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٩٧ ، ح ٧١٤ ، باب : مقدار ما يحرم من الرضاع ، ح ١٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩١ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٥ ، ح ٦.

(٢) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٦ ، ح ٤٦٦٦ ، باب الرضاع ، ح ٦.

٣٧٤

المرأة بعد ما تفطمه لا يحرم ذلك الرضاع التناكح (١).

وحيث أنّه في مقام تفسير هذا الكلام فلا مجال لتوهّم أنّه بين إحدى الصورتين ، ولا ينافي ذلك وجود صورة أخرى ومصداق آخر ، وهو فيما إذا شرب الولد لبن المرأة بعد فطام ولد نفسها ، لا بعد فطام المرتضع.

وأمّا الأصل ، فلا أصل له أصلا ، لما ذكرنا من شمول الإطلاقات لصورة حصول الرضاع مع انقضاء الحولين ومضيّهما من عمر ولد المرضعة.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا أنّ الأقوى هو القول الأوّل.

ثمَّ إنّ المراد من الحولين هو أربعة وعشرين أشهر هلاليّة ، كما هو الحال في باب البلوغ وحلول الحول في الزكاة وأمثالهما من نظائر المقام. فإن كانت الولادة في أوّل الشهر فينتهي في آخر الشهر الرابع والعشرين ، وإن كانت في الأثناء فيكمّل مقدار النقص من الشهر الخامس والعشرين.

واحتمال العدد حينئذ في جميع الشهور ـ بأن يحسب من يوم الولادة إلى ثلاثين يوما شهرا وهكذا ـ بعيد إلى الغاية ، بل ممّا يقطع بخلافه ويزيد على سنتين قطعا ، لأنّ أشهر السنة الهلاليّة ليست كلّها ثلاثين يوما يقينا ، كما أنّ احتمال أن يكون مبدأ الحولين من أوّل الرضاع لا من أوّل الولادة معلوم العدم ، وذلك لأنّه عليه‌السلام فسّر الفطام بالحولين الذين قال الله عزّ وجلّ ، (٢) ومعلوم أنّهما في الآية الشريفة من حين الولادة ، لقوله تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (٣).

الشرط السابع : أن يكون اللبن خالصا غير ممزوج بشي‌ء جامد أو مائع ، وأن لا يصير جبنا ، كلّ ذلك لأجل عدم صدق اللبن أو انصرافه عنه ، مع ما تقدّم أنّ حقيقة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٤ ، باب : لا رضاع بعد فطام ، ح ٥.

(٢) تقدم راجع ص ٣٧١ ، هامش رقم (١).

(٣) الأحقاف (٤٦) : ١٥.

٣٧٥

الرضاع هو شرب اللبن بامتصاص الثدي ، فلا بدّ من تحقّق عنوان شرب اللبن ، لأنّه من مقوّماته ، فكلّما يخرجه عن هذا العنوان فتحقّق الرضاع يكون مشروطا عقلا بعدمه ، كامتزاجه بجسم آخر جامد أو مائع ، بحيث يخرجه عن كونه لبنا.

ومن هذا القبيل ما يصنع من اللبن ، كالمخبص والجبن ، وأمثال ذلك ممّا هو من فروع اللبن.

هذا تمام الكلام في الشرائط الرضاع.

الجهة الخامسة

في عموم المنزلة‌

والبحث فيه تارة بلحاظ عموم المنزّل عليه وخصوصه ، أي السعة والضيق في التنزيل باعتبار السعة والضيق في المنزّل عليه ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول : ليس التنزيل فقط باعتبار العناوين السبعة النسبيّة المعروفة ، أي الأمّ ، والبنت ، والأخت ، والعمّة ، والخالة ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، بل يشمل جميع العناوين النسبيّة التي تعرضها الحرمة ، ولو من جهة ملازمتها للعناوين النسبيّة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة ، كعنوان أمّ ولد البنت نسبا ، أو عنوان أمّ السبط نسبا المتلازمان مع البنتيّة في باب النسب ، أو عنوان أمّ الأخ للأبوين الملازم مع كونها أمّا له أيضا في النسب ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين الملازم لكونها أختا له أيضا ، وهكذا بالنسبة إلى سائر العناوين الملازمة للعناوين السبعة المعروفة التي جعلها الشارع موضوعا للحرمة في باب النسب.

ومن يقول بخصوص المنزلة يقول : المنزّل عليه هي العناوين السبعة فقط ، أي أنّ الشارع نزّل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » هذه العناوين السبعة الحاصلة من الرضاع منزلة نفس هذه العناوين الحاصلة من النسب ، لأنّها فقط‌

٣٧٦

موضوع الحرمة في لسان الدليل ، لا العناوين الملازمة لتلك العناوين وجودا.

وأخرى : يكون البحث فيه باعتبار عموم آثار المنزّل عليه ، أو خصوص بعض الآثار فمن يقول بالعموم من هذه الجهة يقول بأنّ كلّ أثر كان يترتّب على الأمّ النسبي ـ مثلا ـ يترتّب على الأمّ الرضاعي ، إلاّ ما خرج بالدليل ، كالإرث ، لأنّه من المسلم أنّه لا يرث من أمّه الرضاعيّة ، ولكنّه كما أنّ أمّه النسبيّة مثلا إذا كانت أمة واشتراها تنعتق عليه ، هل كذلك تكون أمّه الرضاعية إذا اشتراها تنعتق عليه ، أم لا؟

فمن يقول بعموم المنزلة بالنسبة إلى جميع الآثار إلاّ ما خرج يقول بالأوّل ، ومن يقول : إنّ التنزيل بلحاظ خصوص تحريم النكاح يقول بالثاني.

أمّا البحث الأوّل : أي عموم المنزلة بلحاظ عموم المنزّل عليه فالمشهور عدمه ، وأنّ التنزيل بلحاظ العناوين السبعة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة (١).

وذهب جملة من المتأخّرين منهم المحقّق الداماد ، ونسب إلى الشيخ الشهيد أيضا ـ ولو ناقش بعض في هذه النسبة ـ إلى عموم المنزلة ، وقالوا : إنّ كلّ امرأة تحرم من جهة وجود نسبة بينها وبين الرجل ـ سواء أكانت تلك النسبة من العناوين السبعة المعروفة أو لم تكن ، بل كانت من العناوين المستلزمة لأحد هذه العناوين المعروفة ـ إذا حصل مثل تلك النسبة من الرضاع يحرم أيضا ، سواء أكانت تلك النسبة الحاصلة من الرضاع أيضا من تلك العناوين السبعة المعروفة ، أو كان من غيرها ممّا هي مستلزمة لإحدى تلك العناوين السبعة إذا كانت حاصلة من النسب. مثلا أمّ ولد الولد في النسب محرّمة عليه من جهة أنّها إمّا بنته وإمّا زوجة ابنه ، وكلتاهما حرام عليه ، فلو أرضعت أجنبيّة ولد ولده فتصير أمّ ولد ولده ، ولكن لا تصير بنته من الرضاع ولا حليلة ابنه من الرضاعة.

فبناء على عدم عموم المنزلة بالمعنى الذي ذكرنا ، لا وجه لتحريم مثل هذه‌

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٣.

٣٧٧

المرضعة عليه ، لأنّه لم يحصل بينه وبينها أحد تلك العناوين السبعة لا من النسب ولا من الرضاع. وبناء على العموم ولو لم يحصل أحد هذه العناوين لا من النسب ولا من الرضاع ، ولكن حصل عنوان بالرضاع ، أعني عنوان أمّ ولد الولد الذي لو كان حاصلا من النسب لكانت تلك امرأة حراما عليه ، لملازمة ذلك العنوان مع أحد العنوانين الذين كلّ واحد منهما محرّم : أحدهما عنوان البنت ، والأخرى عنوان زوجة الولد.

هذا ، ولكن الحقّ ما ذهب إليه المشهور ، وذلك لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ظاهره كما بيّنّا في ما تقدّم أنّ كلّ عنوان جعله الشارع موضوعا للحرمة إذا كان حاصلا من النسب ، فعين ذلك العنوان يكون موضوعا للحرمة أيضا إذا كان حاصلا من الرضاع.

نعم هذا المعنى موقوف على أنّ العناوين السبعة المعروفة كما أنّها تحصل من النسب ، كذلك كانت حاصلة من الرضاع أيضا عند العرف ، كي يكون التنزيل بلحاظ الآثار والأحكام.

بمعنى : أنّ عنوان الأمّ ـ مثلا ـ يكون عنوانا عاما ، يحصل تارة من النسب أي الولادة ، وأخرى من الرضاع ، فيكون الموصول كناية عن تلك العناوين السبعة ، لأنّها هي التي حكم الشارع عليها في الآية الشريفة بالتحريم ، لا العناوين المستلزمة لإحدى تلك العناوين ، فإنّ الشارع لم يجعل عنوان أمّ ولد الولد مثلا ، أو عنوان أخت الأخ للأبوين ، وهكذا غيرهما من العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين موضوعا للحرمة أصلا ، فلا يشمل عنوان ما يحرم مثل تلك العناوين ، فالمراد ممّا يحرم هي موضوعات الحرمة في لسان الدليل ، وملازم الموضوع ليس بموضوع ، فليست تلك العناوين المستلزمة لأحد تلك العناوين ممّا يحرم في النسب كي يكون مما يحرم في الرضاع. وهذا واضح جدّا ، وإن وقع جماعة من المحقّقين في الاشتباه.

ثمَّ إنّ هذه القاعدة وإن كانت لا تشمل بعض الموارد ، كعنوان أخت الابن ـ مثلا‌

٣٧٨

ـ ما لم تكن بنتا أو ربيبة ، ولكن وردت روايات تدلّ على عدم جواز نكاح أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، ولا في أولاد المرضعة (١) ، وإلاّ كان يجوز وإن كانت أختا للمرتضع من الرضاعة ، وبالنسبة إلى أبي المرتضع تكون أختا لابنه ، فلو لم تكن تلك الروايات كان مقتضى القاعدة ـ كما شرحنا ـ جواز نكاحها لأبي المرتضع ، لأنّها ليست بنتا له ولا ربيبة ، وقلنا : إنّ عنوان المحرّم هو البنت أو الربيبة ، لا عنوان أخت الابن ، وكانت حرمة أخت الابن في النسب من جهة ملازمتها مع عنوان البنت أو الربيبة ، وإلاّ فهو بنفسه ليس من المحرّمات.

وأمّا الروايات :

فمنها : صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : سأل عيسى ابن جعفر أبا جعفر الثاني عليه‌السلام : أنّ امرأة أرضعت لي صبيّا فهل يحلّ لي أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لي :

« ما أجود ما سألت من ها هنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل ، هذا هو لبن الفحل لا غيره ». فقلت له : الجارية ليست ابنة المرأة التي أرضعت لي هي ابنة غيرها؟ فقال : « لو كنّ عشرا متفرّقات ما حلّ لك شي‌ء منهنّ وكنّ في موضع بناتك ». (٢)

ومنها : في الصحيح عن أيّوب بن نوح ، قال : كتب عليّ بن شعيب إلى أبي الحسن عليه‌السلام : امرأة أرضعت بعض ولدي ، هل يجوز لي أن أتزوّج بعض ولدها؟ فكتب عليه‌السلام : « لا يجوز ذلك لك ، لأنّ ولدها صارت بمنزلة ولدك » (٣).

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤١ ، باب : صفة لبن الفحل ، ح ٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٢٠ ، ح ١٣٢٠ ، باب : ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ٢٨ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٩٩ ، ح ٧٢٣ ، باب : ان اللبن للفحل ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩٦ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٦ ، ح ١٠.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤١ ، باب صفة لبن الفحل ، ح ٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ص ٣٢٠ ، ح ١٣٢٠ ، باب ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ٢٨ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٩٩ ، ح ٧٢٣ ، باب انّ اللبن للفحل ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٢٩٦ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ٦ ، ح ١٠.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٦ ، ح ٤٦٦٨ ، باب الرضاع ، ح ٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٢١ ، ح ١٣٢٤ ، باب :

٣٧٩

ومنها : ما روى الكليني ـ في الصحيح ـ عن عبد الله بن جعفر ، قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام : امرأة أرضعت ولد الرجل ، هل يحلّ لذلك الرجل أن يتزوّج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : « لا تحلّ له » (١).

فبناء على العمل بهذه الروايات ، تحرم الزوجة على زوجها لو أرضعت أمّها ولدها الذي من هذا الزوج ، لأنّ الزوجة تكون من أولاد صاحب اللبن ، فتحرم على أبي المرتضع الذي هو زوجها.

وممّا ذكرنا ظهر عدم حرمة إخوة المرتضع على أولاد الفحل ، أي صاحب اللبن ، لأنّ إخوة المرتضع تكون بالنسبة إلى أولاد صاحب اللبن أخوات أخيهم.

وليس أخت الأخ من العناوين المحرّمة في النسب كي يكون الرضاع مثله ، وهكذا بنات صاحب اللبن ليس محرّمات على أولاد أبي المرتضع ، لأنّهنّ أيضا بالنسبة إلى أولاد أبي المرتضع أخوات أخيهم وهذا العنوان ليس من العناوين السبعة المعروفة التي يكون التنزيل بين حصول هذه العناوين بالرضاع وبين حصولها من النسب ، بمعنى : أنّ حرمة النكاح التي رتّبها الشارع على هذه العناوين عند حصولها من النسب يرتّب على مثل هذه العناوين إن حصلت من الرضاع ، الذي استظهرناه من مثل قوله عليه‌السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (٢).

فإنّ ظاهر الحديث النبوي ـ الذي رواه الفريقان ـ أنّ المراد من الموصول ، أي كلمة « ما » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما يحرم من النسب » هذه العناوين المعروفة التي جعلها الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز موضوعا لحرمة النكاح عليهنّ وتزويجهنّ من النسب ،

__________________

ما يحرم من النكاح من الرضاع وما لا يحرم منه ، ح ٣٢ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٢٠١ ، ح ٧٢٧ ، باب : ان اللبن للفحل ، ح ٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٣٠٦ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ١٦ ، ح ١.

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٧ ، باب نوادر في الرضاع ، ح ١٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٣٠٧ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ١٦ ، ح ٢.

(٢) تقدم راجع ص ٣٢٣ ، هامش رقم (٢).

٣٨٠