القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

طرف الواقف.

نعم لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف تمليك للموقوف عليهم لكان حال الوقف حال البيع والهبة ، وقياسه في محلّه. ولكنّك عرفت أنّ حقيقة الوقف هو إيقاف العين لتسبيل ثمرتها ، أو هو مركّب من الأمرين.

نعم لو كان إعادة العنوان ممكنا بمقدار من غلّته ، كما إذا كانت إعادة البستان أو كونه حمّاما أو دكّانا أو خانا ، وهكذا بغرس الأشجار في الأوّل ، وبناء مثل ما انهدم في البقية بأن يواجره لمدّة ، خصوصا إذا كانت المدّة قليلة ، فلا يبعد عدم جواز بيعه ولزوم إعادة عنوانه ، مثلا الدكّان الذي وقع في محلّ مرغوب من البلد ـ ويستأجرونه بمقدار كثير من المال ـ لو انهدم ويمكن إعادة عنوانه بنصف إجارته السنويّة لا يصحّ بيعه وإبطال الوقف مع إمكان إبقائه عرفا ، وإن كان بتجديد بنائه. وهكذا الأمر والحال في سائر العناوين.

وقد تقدّم عدم بطلان وقفيّته بخرابه وانهدامه ، وكلامنا الآن في عدم جواز بيعه بعد الفراغ عن عدم بطلان وقفيّته.

وحاصل الكلام : أنّ ما ذكرنا في وجه جواز بيعه هو الذي أثبتنا فساده وبطلانه في مقام بيان عدم زوال وقفيّته بالخراب والانهدام ، فالحقّ أنّه لا يجوز بيعه بصرف زوال عنوانه مع بقاء منفعته بمقدار يعتنى به ، وخصوصا إذا كان إعادة عنوانه ممكنا بمقدار من غلّته.

الصورة الرابعة : أن يكون بيعها أنفع وأعود للموقوف عليهم ، بأن يبيعوها ويشترون بثمنها شيئا من أمثالها ، أو من غير أمثالها ، ويقفونه على من كان موقوفا عليه على النهج الوقف الأوّل ، وتكون غلّة الثاني أكثر بمقدار معتدّ به ، بل اتّفق في زماننا أنّه لو كان بيعها صحيحا في هذه الصورة يكون أعود عليهم بآلاف مرّة ، بل ليس قابلا للقياس عرفا ، مثلا : كانت مزرعة وقفا على مدرسة دينيّة تزرع فيها‌

٣٠١

الخضروات ، فصارت متّصلة بمكان مرغوب من بلد كبير مزدحمة بالسكّان ، يشترون كلّ متر من أرض تلك القرية بمقدار كثير من المال ، بحيث يمكن أن تكون منفعة ثمن هذا المتر الواحد لو يشترون به شيئا آخر مساويا لمنفعة تمام تلك القرية التي هي مئات ألوف من الأمتار ، فهذا شي‌ء غير قابل للقياس عرفا.

فهل يجوز بيعها في هذه الصورة ، أم لا؟

حكى عن المفيد ـ رضوان الله عليه ـ جواز بيعه ، (١) ولكن أنكر بعض صحّة هذه الحكاية ، والذي رأيته في المقنعة عبارته هكذا : « أو يكون تغيير الشرط في الوقف إلى غيره أعود عليهم وأنفع لهم » (٢).

وأنت خبير بأنّ هذه العبارة لا تدلّ على جواز بيع الوقف إن كان البيع أعود لهم ، بل راجع إلى تغيير الشرط إذا كان ذلك التغيير أنفع لهم ، كما إذا شرط أن يكون زرعه شعيرا ، وكانت الحنطة أعود وأنفع لهم ، أو شرط أن يشغل فيه خباز ، وكانت الصيدلة أنفع لهم ، وهكذا.

وعلى كلّ حال مقتضى أدلّة المنع التي تقدّم ذكرها عدم جواز بيعها ، وليس مخرج عنها إلاّ ما يتوهّم من دلالة بعض الروايات على الجواز.

منها : رواية جعفر بن حنّان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام إلى أن يقول : قلت : فللورثة من قرابة الميّت أن يبيعوا الأرض إن احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلّة؟ قال : « نعم إذا رضوا كلّهم وكان البيع خيرا لهم باعوا » (٣).

ومنها : خبر الحميري ، كتب إلى صاحب الزمان عجّل الله فرجه : روى عن‌

__________________

(١) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص ١٧٠ ، حكى عن المفيد.

(٢) « المقنعة » ص ٦٥٢ ، باب الوقوف والصدقات.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٥ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٢٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٣ ، ح ٥٦٥ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ١٢ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ٩٩ ، ح ٣٨٢ ، باب : لا يجوز بيع الوقف ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٦ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٨.

٣٠٢

الصادق عليه‌السلام غير مأثور : إذا كان الوقف على قوم بأعيانهم وأعقابهم فاجتمع أهل الوقف على بيعه ، وكان ذلك أصلح ، لهم أن يبيعوه ، فهل يجوز أن يشتري من بعضهم ان لم يجتمعوا كلّهم على البيع ، أم لا يجوز إلاّ أن يجتمعوا كلّهم على ذلك؟ وعن الوقف الذي لا يجوز بيعه؟ فأجاب عليه‌السلام : « إذا كان الوقف على إمام المسلمين فلا يجوز بيعه ، وإذا كان على قوم من المسلمين فليبع كلّ قوم ما يقدرون على بيعه مجتمعين ومتفرّقين إن شاء الله تعالى » (١).

أمّا الرواية الأولى : فظاهر السؤال أنّه يجوز بيع الوقف عند احتياج الموقوف عليهم ، وعدم كفاية غلّته لهم ، فأجاب عليه‌السلام بالجواز مع رضائه كلّهم ، وكان البيع خيرا لهم ، وهذه الصورة غير التي الآن محلّ كلامنا ، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وأمّا رواية الحميري : فظاهرها جواز البيع مطلقا ، سواء أكان أعود أو لم يكن كذلك ، ولم يقل به أحد. وعلى كلّ حال خارج عمّا هو محلّ كلامنا.

الصورة الخامسة : أن يلحق الموقوف عليهم ضرورة شديدة وحاجة ولا يكفيهم غلّته.

فذهب جماعة إلى صحّة البيع وجوازه في هذه الصورة ، وحكى عن السيّدين المرتضى (٢) وابن زهرة قدس‌سرهم (٣) الإجماع على الجواز.

وعمدة الاستدلال على الجواز هو قوله عليه‌السلام في خبر جعفر بن حنّان قال : « نعم إذا رضوا كلّهم » في جواب السائل ، حيث يسأل عن جواز البيع إن احتاجوا ولم يكفهم غلّته.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ ظاهر الجواب هو جواز البيع مطلقا ، لأنّ العبرة بعموم‌

__________________

(١) « الاحتجاج » ص ٤٩٠ ، في توقيعات الناحية المقدسة ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٦ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٩.

(٢) « الانتصار » ص ٢٢٦.

(٣) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٤١.

٣٠٣

الجواب لا بخصوصيّة المورد ، ولا بالخصوصيّة التي تذكر في السؤال. مضافا إلى ضعف هاتين الروايتين وإعراض الأصحاب عنهما وعدم العمل بمضمونهما.

فالإنصاف عدم جواز البيع في هذه الصورة أيضا ، بملاحظة أدلّة المنع.

الصورة السادسة : أن يقع بين أرباب الوقف اختلاف ربما ينجرّ إلى تلف الأموال والنفوس.

فذهب جماعة إلى جواز بيعه في هذه الصورة ، وعمدة الدليل على هذا القول هو مكاتبة عليّ بن مهزيار قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : أنّ فلانا ابتاع ضيعة ، فأوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ، ويسأل عن رأيك في بيع حصّتك من الأرض ، أو تقويمها على نفسه بما أشتريها ، أو يدعها موقوفة؟ فكتب إليّ : « أعلم فلانا أنّي آمره ببيع حقّي من الضيعة ، وإيصال ثمن ذلك إليّ ، وإنّ ذلك رأيي إن شاء الله ، أو يقوّمها على نفسه إن كان ذلك أوفق له » (١).

وكتبت إليه : أنّ رجلا ذكر أنّ بين من وقف عليهم هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وأنّه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فإن كان ترى أن يبيع هذا الوقف ، ويدفع إلى كلّ إنسان منهم ما وقف له من ذلك أمرته؟ فكتب إليّ بخطّه : « وأعلمه أنّ رأيي له إن كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف أن يبيع الوقف أمثل ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف تلف الأموال والنفوس » (٢).

ودلالة هذه الرواية على جواز البيع ـ إذا كان بين الموقوف عليهم اختلافا يظنّ‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٦ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٣٠ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٠ ، ح ٥٥٧٥ ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح ٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٤ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٥.

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٠ ، ح ٥٥٧٥ ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح ٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٠ ، ح ٥٥٧ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٦ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٦.

٣٠٤

أنّه يوجب تلف الأموال أو النفوس ـ واضح لا ريب فيه.

ولكن من المحتمل القريب أن يكون تجويزه عليه‌السلام ذلك في الوقف المنقطع لا الدائم والمؤيّد الذي هو محلّ الكلام ، لأنّ الوقف المنقطع الآخر مثل الحبس إمّا لا يخرج عن ملك الواقف أصلا ، أو على فرض خروجه يكون خروجه موقّتا وما دام بقاء الموقوف عليهم ، فيجوز للواقف المالك أن يبيع ماله.

ويؤيّد هذا الاحتمال ظهور الرواية في كون الثمن للموجودين ، ولو كان مؤبّدا لكان منافيا مع حقّ البطون اللاحقة ، فلا بدّ من الحمل على الوقف المنقطع.

وأيضا من المحتمل أن يكون مورد السؤال هو الوقف بعد إجراء الصيغة وقبل القبض ، فيجوز رجوع الواقف وأن يبيعه.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ حصّة الإمام عليه‌السلام كانت قبل القبض يقينا ، لأنّه يخبره بأنّه جعل لك في الوقف الخمس ، والقبض فضولة لا معنى له ، وصاحب الوسائل قدس‌سره أيضا يدّعي ظهور الرواية في عدم القبض (١).

ويؤيّد كونه ، أي تجويزه عليه‌السلام للبيع في الوقف المنقطع ما عن دعائم الإسلام أنّه ذكر جواب الإمام هكذا : فكتب عليه‌السلام : « إنّ رأيي له إن لم يكن جعل آخر الوقف لله أن يبيع حقّي من الضيعة ويوصل ثمن ذلك إليّ ، وأن يبيع القوم إذا تشاجروا ، فإنّه ربما جاء في الاختلاف إتلاف الأموال والأنفس » (٢).

فبناء على صحّة هذا النقل جعل عليه‌السلام جواز البيع مشروطا بأن لم يجعل آخر الوقف لله تعالى ، وهذا عبارة عن الوقف المنقطع ، ولكن الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، فيكون هذا الشرط حسب فهمه واجتهاده في استظهار المراد من الرواية ، فلا اعتبار به ، وعلى فرض عدم كونه اجتهادا منه في فهم المراد ، بل كان نقلا للرواية ، فأيضا لا‌

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٦ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٥ و ٦.

(٢) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٤٤ ، ح ١٢٩٠ ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.

٣٠٥

اعتبار به ، لأنّه ليس قابلا للمعارضة مع ما رواه في الكافي (١) والتهذيب (٢).

مضافا إلى أنّ في أصل حجّية كتابه كلام بل إشكال ، فالأحسن حمل الرواية على عدم حصول القبض ، كما حمله في الوسائل.

وعلى كلّ حال مع وجود هذه الاحتمالات لا يبقى مجال لرفع اليد عن الأدلّة المانعة بهذه الرواية.

الصورة السابعة : فيما إذا اشترط الواقف بيعه لو خرب أو قلّ نفعه ، أو إذا كان بيعه أعود عليهم ، أو إذا وقع بينهم الاختلاف ، أو عند حدوث أمر آخر غير المذكورات ، فهل يجوز البيع ويكون الشرط نافذا ، أو يكون الشرط فاسدا ، أو يكون الشرط والوقف كلاهما باطلان بناء على أنّ الشرط الفاسد إذا وقع في ضمن عقد يكون مفسدا لذلك العقد؟

والظاهر صحّة الشرط والوقف جميعا ، وذلك لأنّه لا وجه لبطلانهما أو بطلان خصوص الشرط ، إلاّ ما يتوهّم من أنّ هذا الشرط خلاف مقتضي العقد ، أو خلاف الكتاب والسنّة وكلاهما ليس في محلّه.

أمّا توهّم الأوّل : فلأنّ مقتضى عقد الوقف لو كان عدم جواز البيع مطلقا ، لكان لهذا التوهّم وجه ، ولكنّ الظاهر أنّ عدم جواز البيع مقتضى إطلاق عقدة ، لا مقتضى عقده مطلقا ، ولذلك يصحّ وقف المنقطع الآخر.

وأيضا لذلك قلنا بعدم بطلان الوقف بجواز البيع ، وإنّما يذهب موضوعه بنفس البيع خارجا ، لأنّه بعد البيع خارجا لا يبقى شي‌ء في عالم الاعتبار كي يقال بأنّه موقوف ، والمناط في كون الشرط مخالفا لمقتضى ذات العقد لا لإطلاقه هو أن يكون بين الشرط وبين ما أنشأه مضادّة في عالم الاعتبار التشريعي.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٦ ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٣٠.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٠ ، ح ٥٥٧ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٤.

٣٠٦

كما إذا اشترط في عقد الإجارة عدم تصرّف المستأجر في الدار المستأجرة أصلا ، أو عدم استمتاع الزوج من الزوجة أصلا في عقد النكاح ولو بالنظر أو التقبيل ، فتجويز الشارع بيع الوقف في بعض الأحيان ـ كالصور المتقدّمة ـ دليل على عدم المضادّة بينهما.

وأما توهّم الثاني ـ أي : كونه خلاف الكتاب والسنّة لكونه مخالفا للأدلّة الشرعيّة المانعة عن بيع الوقف ـ ففيه أنّ مفاد تلك الأدلّة ليس عدم جواز بيع الوقف مطلقا ، بل عدم جوازه ما لم يكن دليل على الجواز ، ولذلك لا معارضة بين أدلّة الجواز وبين الأدلّة المانعة.

وإن شئت قلت : إنّ الأدلّة المانعة تدلّ على عدم الجواز بعنوانه الأوّلي ، وأدلّة الجواز عند طروّ حالة أو فيما إذا شرط الواقف ، فيكون قوله عليه‌السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١) يدلّ على نفوذ الشرط بلا معارض.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّه بناء على أنّه يجب أن يشتري بثمنه بعد بيعه بدله وجعله وقفا فلا إشكال قطعا ، وليس خلاف مقتضى العقد يقينا ، وذلك لأنّ كون البيع خلاف الكتاب والسنّة على فرض صحّته يكون فيما لو أتلف ثمنه ، وكذلك كونه خلاف مقتضى العقد ، أمّا لو اشترى بدله فالوقف باق ببقاء الجامع بينهما ، لأنّ عقد الوقف لم يتعلّق بالخصوصيّة العينيّة. هذا ما أفاده شيخنا الأستاذ (٢) تبعا لشيخنا الأعظم (٣) قدس‌سرهم.

ولكن أنت خبير بأنّ قوله : « وقفت هذا » يكون مثل قوله : « بعت هذا » وفي كليهما المشار إليهما هو هذا الشخص الخارجي ، فيتعلّق الوقف بخصوصيّتها العينيّة الشخصيّة ،

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٩١ ، هامش رقم (٤).

(٢) النائيني في « المكاسب والبيع » ج ٢ ، ص ٣٨٣.

(٣) « كتاب المكاسب » ص ١٦٨.

٣٠٧

فالجواب الصحيح هو الذي قلنا.

وربما يقال : بأنّ قضيّة وقف مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عين ينبع (١) يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى مع وجود البطن الأوّل وبصرف إرادة الحسن عليه‌السلام ومع عدم اشتراء بدله بثمنه.

ولذلك يقول شيخنا الأعظم قدس‌سره أنّ السند صحيح وتأويله مشكل والعمل به أشكل (٢).

وأفاد شيخنا الأستاذ قدس‌سره في توجيه الصحيحة بأنّه منزل علي أنّ مرجع الشرط إلى أنّ له أن يجعله وقف المنقطع ، وأن يبقيه على حاله (٣).

وفيه : أنّه عليه‌السلام أوقف تلك العين ، ولا يمكن أن يكون وقفه مردّدا بين المؤبّد والمنقطع وأن يكون المنشأ هو الجامع ، ويجعل اختيار أحدهما بيد الحسن عليه‌السلام بعد مدّة إذا أراد ، بل الظاهر ـ من الصحيحة ومن روايات أخر في قضيّة وقف عين ينبع ـ هو أنّه عليه‌السلام جعله وقفا مؤبّدا ، لقوله عليه‌السلام حين ما أوقفه « بتّا بتلا ».

ولا شكّ في ظهور هذه العبارة في الوقف المؤبّد ، فتجويز بيعه للحسن عليه‌السلام يدلّ على جواز اشتراط بيع الوقف مطلقا ، حتّى في الوقف المؤبّد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأعظم قدس‌سره أنّ العمل به أشكل (٤).

ففيه : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بعد ما عرفت أنّ هذا الشرط مناف لمقتضى إطلاق العقد ، لا لمقتضى ذاته.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٤٩ ، باب : صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة والأئمة عليهم‌السلام ووصاياهم ، ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٤٦ ، ح ٦٠٨ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٥٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣١٢ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٠ ، ح ٤.

(٢) « كتاب المكاسب » ص ١٧٢.

(٣) النائيني في « المكاسب والبيع » ج ٢ ، ص ٤٠٠ ، في بيع الوقف.

(٤) « كتاب المكاسب » ص ١٧٢.

٣٠٨

الصورة الثامنة : فيما لو ظنّ أنّ بقاءه يؤدّي إلى خرابه ، فيجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه بديله ويقفه. وذلك كما إذا كان وقف دارا قريبا من الشط ، فبواسطة تبدّل مجرى الشط لبعض العوارض والطواري صارت على حافة الشط ، فيظنّ أنّها تخرب في أيّام فيضان ماء الشط ، وذلك لأنّ إبقاءها لا طريق له إلاّ بهذا الشكل ، فيدور الأمر بين ذهابه عن البين بالمرّة ، أو بقائه بهذا الشكل ، ولا شكّ في أنّ الثاني أولى وأوفق بغرض الواقف.

ولكن هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بناء على لزوم إبقاء عين الموقوفة ، ولو كان بماليّتها وخصوصيّاتها الصنفيّة ، وهو مشكل جدّا.

المطلب السابع

في المتولّي والناظر للعين الموقوفة‌

وهما بمعنى واحد ، والمراد بهما من ينظر في شؤون المال الموقوف ويدبّر أمره.

وربما يطلق المتولّي على المتصرّف والمباشر لتدبير أمور الوقف استقلالا ، أو مع شراكة الغير ، والناظر على من يلزم أن يكون تصرّفات المتولّي باطّلاعه ، أو باستصوابه وتصويبه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الناظر على قسمين :

أحدهما : أن يكون إعمال المتولّي باطّلاعه.

والثاني : أن يكون بنظره وتصويبه.

ووجه التسمية في كلتا الصورتين معلوم ، وقد عبّر عنهما في بعض الأخبار بالوالي ، وهي رواية عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام (١).

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٩ ، ح ٥٥٩٣ ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح ٢٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٤٩ ، ح ٦١٠ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٥٧ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣١٤ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٠ ، ح ٥.

٣٠٩

وعلى كل حال ففيه أمور :

[ الأمر ] الأوّل : لا شكّ في جواز جعل الواقف نفسه استقلالا أو مع شركة الغير ، وكذلك غيره ناظرا ومتولّيا على الوقف في ضمن العقد الذي يقف مالا ، وذلك للإجماع ، ولم ينقل خلاف إلاّ من ابن إدريس قدس‌سره وعبارته ليس صريحة في الخلاف ، كما ذكره صاحب الجواهر قدس‌سره ونقل عين عبارته (١) وأنا شاهدتها في كتابه السرائر (٢) ، وعلى كلّ حال مقتضى قوله عليه‌السلام « الوقف على حسب ما يوقفها أهلها » وسائر المطلقات صحّة هذا الجعل بجميع شقوقه التي ذكرناها.

نعم إذا جعل التولية لنفسه ، وجعل حقّ التولية من منافع العين الموقوفة أكثر من أجرة مثل عمله ، ربما يتوهّم أنّه يكون من قبيل الوقف على النفس الذي قلنا إنّه باطل إجماعا ، مضافا إلى عدم كونه تسبيلا للمنفعة الذي يعرف الوقف به ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ويجوز أن يجعل في ضمن عقد الوقف أمر جعل التولية بيده ، بأن يعيّن المتولّي والناظر متى شاء ، وكذلك له أن يجعل أمر عزل المتولّي بيده ، بأن يعزله متى شاء وأن ينصب غيره متى شاء ، ويجوز أن يجعل أمر جعل التولية بيد غيره ، بأن يجعل من يريد متوليّا متى شاء ، ويعزل هذا وينصب غيره متى شاء. ودليل جميع هذه الشقوق هو قوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » ويجوز أيضا أن يجعل لكلّ متولّ أن ينصب متوليّا بعده.

الأمر الثاني : لو لم يعيّن المتولّي في ضمن نفس العقد ، ومعلوم أنّه لا بدّ في الوقف من متولّ يلي أمره ويدبّر شؤونه ، فهل له أن يعيّن متوليّا على الوقف ، أو للموقوف‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٢٢.

(٢) « السرائر » ج ٣ ، ص ١٥٦ ، شروط صحة الوقف.

٣١٠

عليهم ، أو للحاكم ، أو يفصّل بين الوقف العامّ فللحاكم ، وبين الوقف الخاصّ فللموقوف عليهم؟ وجوه وأقوال :

أقول : أمّا الواقف بعد أن تمَّ الوقف يكون كسائر الأجانب ، بناء على ما تقدّم من زوال ملكه بالوقف ، فلو لم يعيّن في متن العقد فليس له أيّ مداخلة في شؤون الوقف. وأمّا ما يقال : من أنّه كان له النظر في شؤون هذه العين التي وقفها ، وأيضا كان له أن يعيّن غيره للنظر فيها ، والذي معلوم زواله بالوقف هو الملك لا كون النظر فيها وتدبير شؤونها بنفسه أو بتعيين الغير له ، فيستصحب.

ففيه : أنّ كون النظر له من شؤون الملكيّة ، فإذا زالت فيزول قطعا ، فلا يبقى مجال للاستصحاب.

فيدور الأمر بين أن يكون أمر التولية وتعيين الناظر بيد الحاكم أو الموقوف عليه ، وقد تقدّم الوقف على الجهات العامّة ـ كالمساجد والقناطر والخانات الموقوفة للمسافرين وأمثال ذلك ـ لا يملكه أحد ، ففي مثل هذه الأوقاف لا شبهة في أنّ أمر توليتها بيد الحاكم ، بأن يباشر تدبير شؤونها إمّا بنفسه ، وإمّا بأن يعيّن غيره.

وأمّا بالنسبة إلى الأوقاف الخاصّة ـ كالوقف على أولاده وذراريه مثلا ـ والأوقاف على العناوين العامّة التي قابلة لأن تتملّك ، فبناء على كونهم مالكين للوقف وإن كان في بادئ النظر تأتي إلى الذهن قوّة احتمال أن يكون أمر النظر مباشرة أو تعيينا إليهم ، لكونهم ملاّك ولهم السلطنة على أموالهم بمباشرتهم بأنفسهم ، أو بتعيينهم شخصا آخر ، ولكن عند التأمّل حيث أنّ هذه الملكيّة ليست كسائر الأملاك المطلقة ليكون المالك مطلق العنان ـ بل لا بدّ من مراعاة حقوق البطون اللاحقة أيضا في جميع التصرّفات على أنحائها في هذا الملك ، وليست البطون اللاحقة بالنسبة إلى البطن السابق كالوارث ، لأنّ المورث مطلق العنان ، وملكه طلق ، بخلاف البطن السابق بالنسبة إلى اللاحق ـ فليس له ولاية التصرّف في هذا الملك الذي لا بدّ من ملاحظة‌

٣١١

حقوق آخرين ، فتكون الولاية في أمرهم للحاكم ، لأنّهم بمنزلة الغيّب والقصر ، بل أنزل منهم ، فالمتعيّن أن يكون المرجع في تعيين الناظر والمتولّي هو الحاكم حتّى في الأوقاف الخاصّة ، كالوقف على الذراري.

نعم بعض التصرّفات من طرف الموقوف عليهم التي لا يضرّ بحقوق البطون يجوز لهم ولا مانع عنه ، لأنّهم مالكون.

الأمر الثالث : هل تعتبر العدالة في الناظر ، أم لا؟ أو يفصّل بين من يجعله الواقف فلا تعتبر فيه ، ومن يجعله الحاكم فتعتبر فيه؟

ومقتضى الإطلاقات ـ مثل الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ـ عدم اعتبارها فيمن يعيّنه نفس الواقف من ضمن عقد الوقف.

وأمّا ما قيّده في وقف مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في قضيّة وقف عين ينبع من قوله عليه‌السلام : « فإن وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته ، فإنّه يجعله إليه إن شاء » (١) أي : يجعله ناظرا ، فلا يدلّ على اعتبار العدالة ، لأنّ الهدى والإسلام والأمانة غير العدالة. نعم جعل فاسق يفسد الوقف ويفنيه ربما يكون منافيا لجعله صدقة جارية ، فالإنصاف : أنّه لا تعتبر العدالة ، بل ولا الأمانة فيمن يجعله الواقف.

نعم لو عيّن الفاسق الذي لم يعمل بالوقف طبق ما جعله الواقف ، ويهمل شؤونه حتّى يحتمل فناؤه وخرابه ، فلا يبعد وجوب ضمّ الأمين إليه من طرف الحاكم ، وإن كان المتولّي والناظر المنصوص هو نفس الواقف ، فضلا عن أن يكون غيره.

وذلك من جهة أنّ حفظ الوقف مطلوب من قبل الشارع ، ولا يرضى بتركه ، فيكون أمره بيد الحاكم ، لأنّه من الحسبيّات ، وحيث أنّ عزله لا يجوز ـ لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ـ فلا بدّ من ضمّ أمين إليه بمنعه عن التعدّي وعن الإهمال جميعا.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٠٨ ، هامش رقم (١).

٣١٢

وأمّا من يعيّنه الحاكم فلا بدّ وأن يكون ثقة وأمينا ، لأنّه لا بدّ في جعله من مراعاة مصلحة الوقف ، فليس له أن يأتمن الخائن.

وأمّا الفاسق الذي يرتكب الذنب ـ وإن كان صغيرة ، فإن كان أمينا موثوقا في أعماله ، بحيث يطمئنّ بعدم إهماله شؤون الوقف وتدبير أمره ، ويعمل على طبق الوقف ولا يتعدّى عن مضمون الوقف ، فالقول بعدم جواز تعيينه متوليّا وناظرا مشكل ، لعدم دليل على اعتبار عدالة الناظر ، إلاّ كونها موجبة للاطمئنان بحفظ شؤون الوقف ، فإذا حصل من دونها فلا وجه لاعتبارها.

وأمّا ادّعاء الإجماع ـ من الكفاية (١) والرياض (٢) والحدائق (٣) فغير مسموع ، مع ذهاب جمع كثير إلى عدم الاعتبار.

الأمر الرابع : في أنّ الواقف لو جعل شخصا ناظرا على المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فلا ريب في جواز ذلك له ، لأنّ هذا ليس مخالفا للكتاب ، فبمقتضى « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » يكون جعله نافذا.

وحيث أنّ الناظر ـ على ما تقدّم ذكره ـ قسمان : اطّلاعيّ واستصوابيّ. والأوّل عبارة عن أنّ كلّ فعل يصدر من المتولّي يلزم أن يكون باطّلاعه. والثاني عبارة عن أن يكون بتصويبه ، لا صرف اطّلاعه عمّا فعل ، ففي القسم الأوّل للمتولّي أن يفعل بدون لزوم أخذ الإذن منه ، بل صرف اطّلاعه كاف. وأمّا في القسم الثاني فيحتاج نفوذ تصرّفاته إلى أخذ الإذن منه وتصويبه لذلك الفعل.

هذا في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فلا بدّ من مراجعة كلامه ، وأنّه ظاهر في أيّ واحد من القسمين فيؤخذ به ، وإن يستظهر منه شي‌ء من القسمين ، فلا بدّ‌

__________________

(١) « كفاية الأحكام » ص ١٤١.

(٢) « رياض المسائل » ج ٢ ، ص ٢٣.

(٣) « الحدائق الناضرة » ج ٢٢ ، ص ١٨٤.

٣١٣

للمتولّي في مقام العمل من الجمع بين الأمرين ، أي أخذ الإذن منه واطّلاعه على العمل أيضا ، وذلك من جهة أصالة عدم جواز عمله ونفوذ تصرّفاته إلاّ بالأمرين.

الأمر الخامس : لو جعل التولية لأكثر من واحد ، فتارة على وجه الشركة ، وأخرى على وجه الاستقلال.

فإن كان من القسم الأوّل فلا يجوز تصرّف كلّ واحد منهما على الانفراد بدون مداخلة الآخر ، لأنّ معنى الشركة أنّ كلاهما بمنزلة شخص واحد ، كما أنّ الشركة في المال أيضا ذلك ، ولذلك هناك أيضا ليس كلّ واحد منهما مستقلاّ في التصرّف ، فيجب اجتماعهما على تصرّف كي ينفذ ، وإن امتنعا أجبرهما الحاكم مع الإمكان ، وإن لم يمكن فالمرجع هو الحاكم.

وأمّا إن كان من القسم الثاني ، فإذا اجتمعا فلا إشكال ، وأيّ واحد منهما تصرّف بدون رضا الآخر نافذ. ولو تصرّف كلاهما ، مثلا آجر أحدهما من زيد ، والآخر من عمرو ، قدّم المقدّم ، ولو كانا في زمان واحد بطلا. والسرّ واضح.

الأمر السادس : في أنّ الواقف إذا عيّن وظيفة المتولّي في ضمن عقد الوقف ، فيعمل بما عيّن له من الوظيفة ، وإذا لم يعيّن وظيفة وجعله متوليّا من دون بيان عمل له ، فالظاهر من هذه العبارة والمتفاهم العرفي منه أنّه عليه تدبير شؤون الوقف ، من حفظه عن الخراب ، وإجارته ، وتحصيل مال الإجارة نقدا وجنسا ، وتقسيمه على الموقوف عليهم ، وإيصال حصّة كلّ واحد منهم إليهم ، وغير ذلك ممّا هو وظيفة المتولّي عند العرف.

وذلك من جهة أنّه بعد البناء على لزوم العمل بما أراده الواقف من لفظ المتولّي حال الجعل ، فطريق تشخيص مراده هو ظهور كلامه ، ففي أيّ معنى كان ظاهرا فيه فيحكم بأنّه مراده. وهذا معنى أصالة الظهور وحجّية الظواهر ، ومعنى الظهور هو ما يفهم العرف من الكلام عند إلقائه إليه ، ففيما نحن فيه إذا قال الواقف : وقف المال الفلاني‌

٣١٤

وجعلت فلانا ناظرا ومتوليّا عليه ، فما يفهمه العرف من لفظ « المتولّي » يحكم بأنّه مراده.

ولا ريب في أنّ العرف يفهم الذي يكون عليه ما ذكرنا من إدارة شؤون الوقف من عمارة ما انهدم منه ، أو ما يوجب حفظه عن الانهدام ، وجمع غلّته وتقسيمه على الموقوف عليهم. لا كلام في هذا.

إنّما الكلام في أنّه هل لغير المتولّي المنصوص ـ وإن كان موقوفا عليه ، أو وإن كان هو الحاكم ـ هذه التصرّفات ، أم لا؟

والظاهر أنّه مع وجود المتولّي المنصوص من طرف الواقف في ضمن عقد الوقف ليس لغيره هذه التصرّفات ، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ، ولما في التوقيع عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان عليه‌السلام وفيه : « وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (١).

فإنّ ظاهر التوقيع المبارك عدم جواز هذه التصرّفات لغير من جعله متوليّا وقيّما ، وعدم مزاحمة غيره له.

الجهة الثالثة

من جهات البحث في هذه القاعدة هي جهة

تطبيقها على مواردها‌

وقد عرفت أنّ موارد تطبيقها بعد ما صدق عليه الوقف عرفا وتحقّق مفهومه ،

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٤٢ ، هامش رقم (٢).

٣١٥

فعند ذلك كلّ شرط أو قيد اعتبر الواقف وجوده أو عدمه فهو نافذ وماض ، لقوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » وقد طبّقناها على مواردها في تضاعيف ما تقدّم ، فلا يحتاج إلى الإعادة.

وفي الحقيقة هذه القاعدة كسلاح للفقيه لدفع ما يتوهّم من عدم صحّة بعض الشروط ، أو القيود التي قيّد الواقف بها الموقف ، أو الوقوف عليه ، أو المتولّي ، أو الناظر وقد تقدّم موارد كلّ ذلك ، فعليك بالتتبّع التمام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

٣١٦

٤٥ ـ قاعدة

يحرم من الرضاع

ما يحرم من النسب‌

٣١٧
٣١٨

قاعدة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في شرح مفهوم هذه القاعدة‌

فنقول : الرضاع بفتح الراء وكسرها ، وهكذا الرضاعة بالفتح والكسر مصدر رضع عبارة عن امتصاص الثدي أو الضرع أو مطلق شرب اللبن ، سواء أكان منهما أو من غيرهما ، واللبن كان من إنسان أو حيوان.

ثمَّ إنّ الرضاع مثل الولادة يوجب وجود إضافة بين شخصين أو أشخاص ، والإضافة على قسمين : اعتباريّة ومقوليّة ، وذلك لأنّ حقيقة الإضافة عبارة عن نسبة متكرّرة بين شيئين ، بمعنى أنّ النسبة الموجودة في أحد الطرفين بالنسبة إلى الآخر موجودة أيضا في ذاك الطرف الآخر بالنسبة إلى هذا الطرف ، فإن كانت النسبتان الموجودتان في الطرفين من سنخ واحد ، تسمّى تلك الإضافة بالإضافة المتشابهة الأطراف ، كمحاذاة جسم مع جسم آخر ، حيث أنّ لكلّ واحد من الجسمين‌

__________________

(*) « عناوين الأصول » عنوان ٩٤ ، « بلغة الفقيه » ج ٣ ، ص ١١٩ و ١٣٠ و ٢٠٧ ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ١٦٩ ، « القواعد » ص ٣٢٥ ، « قواعد فقه » ص ١٧٥ ، « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » جعفر السبحاني.

٣١٩

المتحاذيين نسبة مع الآخر. والنسبة من الطرفين تسمّى بالمحاذاة أو المقابلة مثلا ، فهما من سنخ واحد ، وإن كانتا من سنخين تسمى تلك الإضافة بمخالفة الأطراف ، كالفوقيّة والتحتيّة.

فحينئذ إن كانت تلك النسبة المتكرّرة غير موجودة في عالم الأعيان ، بل صرف اعتبار اعتبرها العقلاء وأمضاها الشارع ، أو اعتبار من قبل نفس الشارع إحداثا لا إمضاء فقط كالملكيّة والزوجيّة ، فمثل هذه الإضافة تسمّى إضافة اعتباريّة لا حقيقة مقوليّة.

وأمّا إن كانت تلك النسبة خارجيّة حقيقيّة وموجودة في عالم الأعيان ، كالفوقيّة والتحتيّة ، فتسمّى تلك الإضافة إضافة مقوليّة.

والولادة التي هي عبارة عن انفصال قطعة من المني من شخص ، ثمَّ دخولها واستقرارها في رحم شخص آخر ، حتّى يصير بأمر الله جلّ جلاله إنسانا سويّا فتضعها وتنفصل عنها ، توجب حدوث إضافات حقيقيّة ونسب خارجيّة مقوليّة بين شخصين أو أشخاص.

فلتلك القطعة نسبة مع من انفصل عنه تسمّى بالبنوّة ، كما أنّ لمن انفصل عنه هذه القطعة نسبة معها تسمّى بالأبوّة. وأيضا لتلك القطعة نسبة مع من استقرّت في رحمها أيضا تسمّى بالبنوّة ، كما أنّه لمن استقرّت في رحمها نسبة مع تلك القطعة تسمّى بالأمومة وهكذا في سائر النسب التي تحصل من الولادة كالبنتيّة والأختيّة.

وهكذا العناوين الآخر ، كالجّد ، والجدّة ، والعمّ ، والعمّة ، والخال ، والخالة ، وابن الأخ وبنته ، وابن الأخت وبنتها ، وابن العمّ وبنته ، وابن العمّة وبنتها ، وابن الخال وبنته ، وابن الخالة وبنتها. وموضوع تحريم النكاح بالنسب سبعة من هذه العناوين الحاصلة من الولادة بصريح الآية الشريفة (١) وهي : الأمّهات والبنات ، والأخوات ، والعمّات ،

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٣.

٣٢٠