القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

٣٧ ـ قاعدة الفراش‌

٢١
٢٢

قاعدة الفراش (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المعروفة قاعدة « الولد للفراش ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌

فنقول : وهو الحديث المشهور المعروف بين جميع الفرق والطوائف الإسلاميّة ، ولم ينكره أحد من المسلمين ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (١).

وقد روى هذا الحديث في الصحاح المعتبرة عندهم هكذا عن عائشة ، قالت : كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أنّ ابن وليدة زمعة مني فأقبضه. قالت : فلمّا كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقّاص ، وقال ابن أخي قد عهد إلىّ فيه ، فقام عبد بن زمعة ، فقال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فتساوقا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال سعد : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أخي كان قد عهد إلىّ فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هو لك يا عبد بن‌

__________________

(*) « القواعد » ص ١٨٩.

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٩٢ ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح ٣ ، « الكافي » ج ٧ ، ص ١٦٣ ، باب ميراث ولد الزنا ، ح ١ و ٣ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٨٠ ، ح ٥٨١٢ ، باب النوادر ( من ألفاظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، ح ٥٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٦٥ ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب ٥٦ ، ح ١ ، « سنن ابن ماجه » ج ١ ، ص ٦٤٧ ، ح ٢٠٠٦ و ٢٠٠٧ ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.

٢٣

زمعة » ثمَّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ». ثمَّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسودة ـ بنت زمعة زوج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ « احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة : فما رآها حتّى لقي الله تعالى » (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب معاوية : « وأمّا ما ذكرت من نفي زياد ، فإنّي لم أنفه بل نفاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (٢).

وكتب الحسن عليه‌السلام في جواب زياد ـ لمّا كتب زياد إليه عليه‌السلام : من زياد بن أبي سفيان إلى حسن بن فاطمة عليه‌السلام يريد بذلك إهانته عليه‌السلام ـ : من حسن بن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زياد بن سميّة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (٣).

ورواية حسن الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته ويسأل عن رجل اشترى جارية ، ثمَّ وقع عليها قبل أن يستبرأ رحمها ، قال عليه‌السلام : « بئس ما صنع يستغفر الله ولا يعد » قلت : فإن باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ، ثمَّ باعها الثاني من رجل آخر ، فوقع عليها ولم يستبرء رحمها فاستبان حملها عند الثالث؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (٤).

ورواية سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد ، لمن يكن الولد؟ قال : « للذي عند الجارية ، لقول رسول‌

__________________

(١) « صحيح البخاري » ج ٣ ، ص ٧٠ ، باب تفسير المشبّهات ، و: ( يا سودة ) غير موجودة في نص البخاري ، « صحيح مسلم » ج ٢ ، ص ١٠٨٠ ، ح ١٤٥٧ ، كتاب الرضاع ، ح ٣٦ ، باب الولد للفراش ، وتوقي الشبهات ، « سنن ابن ماجه » ج ١ ، ص ٦٤٦ ، ح ٢٠٠٤ ، باب الولد للفراش وللعاهر الحجر.

(٢) « الخصال » ص ٢١٣ ، باب : الأربعة ، عن ابن عباس.

(٣) « شرح نهج البلاغة » لابن أبى الحديد ، ج ١٦ ، ص ١٩٤ ، باب نسب زياد بن أبيه ..

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٩١ ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٥٠ ، ح ٤٥٥٧ ، باب أحكام المماليك والإماء ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٦٨ ، ح ٥٨٧ ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح ١١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٦٨ ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب ٥٨ ، ح ٢.

٢٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر » (١).

ولا ينبغي البحث عن صدور هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ صدوره قطعيّ.

وذلك من جهة أنّ إلحاق معاوية زياد بن سميّة بأبي سفيان صار سببا لاشتهار هذا الحديث بين المحدّثين والمؤرّخين ، إذ هذه القضية العجيبة التي كانت خلاف نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعت في زمان وجود جمع كثير من الصحابة الكرام ، وأنكروا كلّهم هذا الأمر على معاوية لمّا سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا النصّ الصريح ، ولذلك اشتهر ونقله المحدّثون وأغلب المؤرّخين ، وذكروا له المطاعن الأربعة المعروفة عند جميع المسلمين : بغيه على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقتله حجر بن عدي الذي كان من خيار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلحاق زياد ، ونصبه يزيد ابنه خليفة من بعده وأميرا على المسلمين.

ولما ذكرنا فمدّعى القطع بصدور هذا الحديث ليس بمجازف ، وعلى كلّ حال ثبوته وصدوره من المسلّمات بين المسلمين.

[ الجهة ] الثانية

في بيان مدلول هذا الحديث والمتفاهم العرفي منه‌

فنقول : أوّلا : أنّ ألفاظ الحديث الشريف : فـ « الولد » عبارة عن أنّ النطفة بعد استقرارها في الرحم ونمائها إلى أن بلغ إلى قابليّتها لولوج الروح فيها ، أي بعد تكميل خلقتها البدنيّة ، فإذا ولج فيها الروح يسمّى ولدا ، سواء أكان وقت خروجه حيّا سويّا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٩١ ، باب الرجل يكون له جارية. ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٦٩ ، ح ٥٨٩ ، باب لحوق الأولاد بالآباء ، ح ١٣ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٣٦٨ ، ح ١٣١٧ ، باب القوم يتبايعون الجارية. ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٥٦٨ ، أبواب نكاح العبيد والإماء ، باب ٥٨ ، ح ٤.

٢٥

أم لا.

نعم بعض الآثار الشرعيّة يترتّب عليها بشرط خروجها حيّا ، وهذا الذي يسمّى بالولد له إضافة إلى من تولّدت النطفة منه ، وهذه الإضافة والنسبة خارجيّة ، لا أنّها صرف اعتبار تشريعي أو عرفي.

وهذه النسبة المكررة بين الوالد والولد ، وكذا بين الوالدة تكون من المحمولات بالضمائم ومن مقولة الإضافة ، وحالها حال سائر الأعراض التسعة الخارجيّة المقوليّة ، وهذه النسبة حيث أنّه لها طرفان ، بمعنى أنّه لكلّ واحد من الطرفين نسبة مقوليّة إلى الطرف الآخر.

وتسمّى هذه النسبة من الطرف الذي خرجت هذه النطفة من صلبه بـ « الأبوّة » ، ويسمّى ذلك الشخص باعتبار تولّد هذه النطفة منه بـ « الوالد » ، وتسمّى بالنسبة إلى نفس هذه النطفة بعد تكميلها وولوج الروح فيها بـ « البنوّة » إن كان ذكرا و « البنتيّة » إن كانت أنثى ، وموصوف هذه الإضافة والنسبة يسمّى بالابن إن كان ذكرا ، وبالبنت إن كانت أنثى.

كما أنّ الموصوف لتلك النسبة التي في الطرف يسمّى بالوالد أو الأب كما ذكرنا.

وأيضا لهذه النطفة نسبة مكرّرة إلى من استقرّت هي في رحمها ، وهي أيضا نسبة خارجيّة مقوليّة مكرّرة لها طرفان ، وليس فرق بين هذه النسبة وبين النسبة السابقة ، إلاّ أنّها من طرف من استقرّت في رحمها تسمّى بالأمومة ، وموصوفها تسمّى بالأمّ أو الوالدة ، فهذا هو معنى الولد ، والوالد ، والوالدة.

وأمّا « الفراش » فهي عبارة عمّا يفرش لنوم أو لغيره ، وها هنا كناية عن الزوج الشرعي أو المالك ، باعتبار أنّ من هو زوج شرعا أو كان مالكا لها له حقّ أن ينام معها فيه شرعا ويستمتع منها ، وأمثال هذه الكنايات كثيرة في لغة العرب وتعابيرهم وفي القرآن الكريم.

٢٦

وأمّا « العاهر » هو الزاني ، و « الحجر » معناه واضح.

وهذا الذي ذكرنا كان معنى مفردات الحديث.

وأمّا المتفاهم العرفي من هاتين الجملتين :

أمّا الجملة الأولى ، فهي عبارة عن أنّ الولد مخصوص بالزوج ، وليس لأحد غيره حقّ ونصيب فيه ، وهذا المعنى نتيجة حصر المبتدأ في الخبر الذي يقولون به في علم البلاغة إذا كان المبتدأ معرّفا بالألف واللام ، كقولهم : الكرم والفصاحة في العرب.

ولا شكّ في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام بيان الحكم الشرعي ، لا في مقام الإخبار عن أمر خارجي ، وظاهر القضايا الشرعيّة التي بصورة الأخبار كلّها من هذا القبيل ، أي وإن كانت بحسب الصورة جمل خبريّة ، لكنّها في الحقيقة إنشاءات بصورة الإخبار عن وقوعها في أحد الأزمنة الثلاثة.

مضافا إلى أنّها لو كانت إخبارات عن الأمور الخارجيّة تكون غير مطابق مع الواقع في كثير من الأحيان ، فقوله عليه‌السلام : « يغتسل » و « يعيد » وأمثال هذين في مقام بيان الأحكام الشرعيّة ، فربما لا يغتسل ولا يعيد.

وفي نفس محلّ الكلام لو كان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش » إخبارا عن أمر واقع ، ربما لا يكون كذلك ، أي يكون الولد واقعا لغير الفراش ، خصوصا في الأزمنة التي تشيع فيها الفجور ، ولا يمكن أن يصدر الكذب منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، فهذا وجه آخر لأنّها إنشاءات لا إخبارات.

فإذا كان الأمر كذلك ، فلا بدّ من القول بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام جعل الفراش أمارة معتبرة في مقام الإثبات لإثبات أنّ المولود في فراش شخص يكون له ، وليس لآخر نصيب فيه. ومن المعلوم أنّ جميع الأمارات الشرعيّة كالعرفيّة ـ بل هي أيضا عرفية في الأغلب أمضاها الشارع ـ قد تخطّى ، لكنّها غالب المطابقة ، وهذا مناط جعلها أمارة.

٢٧

وأيضا معلوم أنّ أماريّة الأمارة منوطة بعدم القطع على خلافها وعلى وفاقها أيضا ، إذ مع القطع بأحد الطرفين لا يبقى مجال للتعبّد.

أمّا في صورة كون القطع على وفاقها ، فحجّية الأمارة تكون من قبيل تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، الذي هو أسوء من تحصيل الحاصل المحال.

وأمّا في صورة كونه على خلافها ، فمن جهة عدم إمكان جعل الطريق والمثبت للذي خلافه ثابت لديه ، فالأمارة المعتبرة حجّة لمن يكن شاكّا في مؤدّاها ، فإذن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش » يكون أمارة في مورد الشكّ في أنّ الولد هل لصاحب الفراش أو لغيره ، وإلاّ فمع أنّه له أو لغيره لا يبقى مجال للتمسّك به في مقام الإثبات.

نعم حيث أنّه بناء على ما ذكرنا أمارة معتبرة لا يعتنى بالظنون غير المعتبرة على خلافها ، كما هو الحال في كلّ أمارة ، مثلا لو شهدت البيّنة العادلة على أنّ فلانة زوجة فلان مع عدم نفيه ، فالظنّ غير المعتبر على أنّها ليس زوجة له لا أثر له.

وفيما نحن فيه بعد ما جعل الشارع الفراش أمارة على أنّ الولد لصاحب الفراش ، فكونه شبيها بالزاني وإن كان يوجب الظنّ بأنّه له ، ولكنّ الشارع لم يعتبر هذا الظنّ ، فلا أثر له في مقابل الحجّة المعتبرة ، ولذلك هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعتبر ولم يعتن بالشبه الذي كان بين الولد وعتبة بن أبي وقّاص ، وردّ دعوى سعد بن أبي وقّاص ، وحكم بكون الولد لزمعة ، معلّلا بأنّه صاحب الفراش. وأمّا أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجته سودة أمّ المؤمنين بالاحتجاب عن ذلك الولد للشباهة التي كانت بينه وبين عتبة ـ مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بأنّه أخوها ـ فمن باب الاحتياط ، وقد تقرّر في الأصول أنّ الاحتياط حسن عقلا وشرعا ، حتّى مع وجود الحجّة المعتبرة على أحد الاحتمالين. وهذا الحديث أيضا أحد الأدلّة على حسنه شرعا ، بل استحبابه إن كان أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باحتجابها منه مولويّا ، لا إرشاديّا إلى حسن الاحتياط.

ومن جملة الظنون غير المعتبرة التي لا تقاوهم هذه الأمارة قول القافة بواسطة‌

٢٨

الأمارات التي عندهم ، ولا شكّ في أنّ قولهم يوجب الظنّ ، ولكنّ الشارع لم يعتبره.

وأمّا سرور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول القائف حينما رأى رجلي أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت إقدامها ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض.

وقد روى هذا الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة بعدّة طرق ، ومتن الحديث على ما رواه سفيان عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم مسرورا ، فقال : « يا عائشة ألم ترى أنّ مجزز السلمي المدلجي دخل علىّ فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت إقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض » (١) فلا يدلّ على حجّية قول القائف واعتباره.

وذلك أنّ سروره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على تقدير صحّة الرواية ـ كان من جهة أنّ أسامة كان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبيض ، وكانوا يقدحون في نسب أسامة ويطعنون من هذه الجهة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ زيدا وكذلك أسامة ، فلمّا أخبر القائف بصحّة نسبه وأن زيدا أبوه فرح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك.

ولا شكّ في أنّ الظنّ بوجود ما هو المطلوب والمحبوب يوجب السرور والفرح وإن لم يكن ذلك الظنّ حجّة شرعا ، فلو أخبر معلّم كافر مشرك بأنّ ابنك فلان ذكيّ ، سريع الفهم ، وفوق ذلك أنّه مشغول جدّا بالمطالعة والحفظ يسرّ الأب ، وان كان قول المعلّم ليس حجّة ، لأنّ قول المؤمن العادل الواحد ليس بحجة في الموضوعات ، فضلا عن قول الكافر المشرك.

هذا أوّلا.

وثانيا : في الجاهلية كانت العرب تعتبر قول القائفين ، وكانوا يرتّبون عليه الآثار ،

__________________

(١) « صحيح البخاري » ج ٨ ، ص ١٩٥ ، باب : القائف ، « صحيح مسلم » ج ٢ ، ص ١٠٨٢ ، ح ١٤٥٩ ، كتاب الرضاع ، ح ٣٩ ، باب العمل بإلحاق القائف الولد ، « سنن النسائي » ج ٦ ، ص ١٨٤ ، باب : القافة. في المصادر أعلاه : « أنّ مجزّزا المدلجي. ».

٢٩

فأخبار القائف بصحّة نسب أسامة كان موجبا لارتداع القادحين عن قدحهم وطعنهم ، ولذلك سرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحبّه زيدا وولده أسامة.

وأمّا وجه سواد أسامة فهو من ناحية أمّه أمّ أيمن ، فإنّها كانت امرأة حبشيّة تزوّجها زيد بعد زوجها الأوّل ، وهو عبيد بن زيد من بني الحارث بن خزرج ، وكانت أمّ أيمن حاضنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وورثها من أبيه مع خمس جمال وقطيعة من غنم ، فأعتقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سرّه أن يتزوج امرأة من أهل الجنّة فليتزوّج أمّ أيمن ، فتزوّجها زيد ابن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد (١) ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ أسامة حبّا شديدا ، وقد صرّح بذلك حين أمره على الجيش المعروف بجيش أسامة.

ومن جملة الظنون التي لا تقاوم هذا الأمارة المعتبرة ، الأمارات الظنيّة غير المعتبرة شرعا ولكنّ العرف يعتمدون عليها ، من قبيل تحليل الدم وأمثاله الشائعة في هذه الأعصار عند الأطبّاء ، ولكن كلّ ما ذكرنا من عدم مقاومتها لهذه الأمارة المعتبرة يكون فيما إذا يوجب الظنّ.

وأمّا إذا أوجب القطع بأنّ الولد لغير صاحب الفراش ، فلا يبقى مجال لإجراء هذه القاعدة ، لأنّها أمارة عند الشكّ.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ نفي النسب عن الزاني أو عن غيره ممّن هو ليس بصاحب الفراش في صورة إمكان الانتساب إلى صاحب الفراش.

وأمّا إذا لم يكن ـ كما إذا كان الزوج في سفر طويل ، أو كان غيبته عنها لسبب آخر كالسجن الطويل مثلا وأمثال ذلك ـ فلا تجرى هذه القاعدة ، وبناء على هذا لو ولدت بعد الزواج بمدّة أقلّ من أقلّ الحمل ، أو ولدت بعد غياب الزوج بمدّة أكثر من أكثر الحمل فلا يجوز الإلحاق بهذه القاعدة.

هذا هو شرح الجملة الأولى من الحديث الشريف.

__________________

(١) « الطبقات الكبرى » ج ٨ ، ص ٢٢٤ ، باب تسمية النساء المسلمات المبايعات.

٣٠

وأمّا الجملة الثانية : فالعاهر هو الزاني ، والحجر معناه معلوم. وقيل في معنى هذه الجملة : أنّها كناية عن طرد الزاني وردّه عن دعواه الولد ، كما أنّ الكلب يطرد بالحجارة ، وقيل : بأنّ المراد من الزاني هو المحصن وهو لا يعطى له الولد ، بل يرمى بالحجارة حتّى يهلك ، أي يحدّ بهذا الحدّ الذي عيّنه الشارع للزاني المحصن.

والأوّل أولى ، وإن كان الذي يتبادر إلى الذهن أوّلا هو الثاني.

وجه الأولويّة : هو أنّ ظاهر الحديث الشريف أنّ أماريّة الفراش ليست مخصوصة بكونها في مقابل الزاني المحصن ، بل تكون أماريّته عامّة في قبال كلّ زان ، بل في قبال كلّ واطئ ليس بصاحب الفراش وإن لم يكن زانيا ، فحمله على المعنى الثاني خروج عمّا هو المتفاهم العرفي من ظاهر الحديث ، ويكون من قبيل التخصيص بلا مخصّص.

[ الجهة ] الثالثة

في بيان جملة من موارد تطبيقها‌

فنقول :

الأوّل : أن يكون في مقابل الفراش زناء فقط ، ويمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما خارجا أي ليس شي‌ء يمنع المنع عن إلحاقه بأحدهما لا شرعا ولا تكوينا لو لا معارضة أحدهما بالآخر ولو لا هذه القاعدة.

وهذا القسم هو القدر المتيقّن من موارد هذه القاعدة ، وكان هذا هو مورد الحديث الشريف في دعوى سعد بن أبي وقّاص ، ودعوى عبد بن زمعة ، حيث أنّ عبد بن زمعة يدّعى الولد لزمعة الذي هو صاحب الفراش ، لأنّه كان مالكا للجارية.

والفراش يتحقّق بأحد أمرين : إمّا أن يكون زوجا لها بالعقد الدائم أو الموقّت‌

٣١

المسمّى بالمتعة في اصطلاح الفقهاء وعند العرف أيضا ، أو يكون مالكا لها. وأمّا التحليل سنتكلّم فيها ، وسعد بن أبي وقّاص يدّعيه لأخيه بالزنا وقد عرفت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم لزمعة : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

وإلحاق الولد بصاحب الفراش قد عرفت أنّه فيما أن يكون له عقلا وشرعا. أمّا الإمكان العقلي العادي هو أنّه لا يلزم من الانتساب إليه محال بحسب العادة ، كأن يكون الزوج مسافرا مدّة طويلة لا يمكن وصوله إليها عادة ، أو كان غائبا لجهة أخرى غير المسافرة لا يمكن له الوصول إليها ، أو لا يكون للزوج أو المالك أمناء لمرض ، أو لشيخوخة ، أو لأيّ علّة أخرى.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يكون الانتساب إلى صاحب الفراش ـ سواء أكان زوجا لها بالعقد الدائم أو المنقطع ، أو كان مالكا لها ، أو كان مالكها حلّلها له بناء على أنّ التحليل أيضا يوجب صيرورة المحلّلة له صاحب فراش كما أنّه ليس ببعيد ـ من قبيل وجود المعلول بدون العلّة.

وأمّا الإمكان شرعا فذكر الفقهاء ـ قدّس الله أسرارهم ـ له شروط ثلاثة :

الأوّل : الدخول ولو دبرا ، وقال : بعضهم وإن لم ينزل ، فإن كان المراد عدم العلم بالإنزال مع احتماله فله وجه ، وأمّا إن كان مرادهم من عدم الإنزال هو العلم بعدمه فهذا عجيب ، لأنّ مرجعه إلى وجود المسبّب بدون السبب.

وأمّا ما أفاده صاحب الجواهر ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام بقوله : ولعلّه لتحرّك نطفة الامرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلّها ، أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلاّ ربّ العزّة (١) ، فهذا الذي قال من تحرّك النطفة إلى قوله « في محلّها » يشبه أن يكون أمرا خياليّا لا واقعيّا. وأمّا قوله ـ قدس‌سره ـ أو غير ذلك من الحكم إلى آخره.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٣.

٣٢

ففيه : أنّه حقّ لو جاء دليل قطعي على أنّه بدون إنزال صاحب الفراش يلحق به ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بل هنا قاعدة وأمارة شرعيّة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وبيّنّا أنّها أمارة لكون الولد لصاحب الفراش في ظرف إمكان ذلك عادة ، وبدون الإنزال لا يمكن ، ولذلك قال في الرياض ما خلاصته أنّ إلحاق الولد بصاحب الفراش مشروط بما إذا كان تولّده من مائه محتملا ولو باحتمال بعيد ، وفي غيره إشكال (١). وان حكى الإطلاق عن الأصحاب واحتمل الإجماع ، فاعتبار الدخول ليس لموضوعيّة فيه ، بل من جهة كونه مقدّمة لوصول الماء إلى رحمها ، ولذلك لو وصل الماء إلى رحمها من غير الدخول ، كما إذا لاعبها وأنزل على الفرج ووصل الماء إليها من غير الدخول يلحق بصاحب الفراش الملاعب قطعا ، وقد شاهدنا في عصرنا مواليد تكونوا من ماء أبيهم مع عدم زوال بكارة أمّهم ، وأولدتهم القوابل بالعلاج.

وروى في قرب الإسناد بإسناده عن أبي البختري عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام أنّ رجلا أتى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : إنّ امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة ، وهي عذراء ، وهي حامل في تسعة أشهر ، ولا أعلم إلاّ خيرا وأنا شيخ كبير ما افترعتها ، وأنّها لعلى حالها ، فقال له عليّ عليه‌السلام : « نشدتك الله هل كنت تهريق على فرجها؟ » إلى أن قال عليه‌السلام : « وقد ألحقت بك ولدها فشقّ عنها القوابل ، فجاءت بغلام فعاش » (٢).

ورواية أخرى بهذا المضمون نقلها في الوسائل عن المفيد ـ قدس‌سره ـ في الإرشاد (٣).

وظهر ممّا ذكرنا أنّ إدخال ماء الرجل بتوسّط الإبر في الرحم ـ كما يقولون لو‌

__________________

(١) « رياض المسائل » ج ٢ ، ص ١٥٤.

(٢) « قرب الإسناد » ص ١٤٩ ، ح ٥٤١ ، أحاديث متفرقة.

(٣) « الإرشاد » للمفيد ، ص ١١٢ و ١١٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٤ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٦ ، ح ٢.

٣٣

صحّ هذا ـ أيضا يوجب أن يلحق الولد بصاحب الماء ، وإن قلنا بأنّ هذا الفعل حرام ، وكذلك لو انجذب الماء إلى الفرج في الحمّام ودخل في الرحم ، وتكون الولد يلحق بصاحب الماء لو كان معلوما.

وحاصل الكلام : أنّ كون الولد لصاحب الماء أمر تكويني ، لأنّه هو نفس الماء ، غاية الأمر نما إلى أن جعله الله ولدا سويّا ، فهو في سياق الزرع ، كما أنّ البذر إذا وقع في الأرض ينمو إلى أن يصير سنبلا بإرادة الله وجعله ، كذلك النطفة بعد ما وصل إلى الرحم القابل ينمو إلى أن يجعله الله ولدا وينشأه خلقا آخر ، ( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ). نعم في خصوص الزنا ألغى الشارع هذا الانتساب التكويني من حيث بعض الآثار لبعض المصالح ، ولعلّ عمدتها حفظ الجامعة عن الفجور.

وممّا ذكرنا ظهر الإشكال في كفاية الدخول في الدبر إلاّ مع الإمناء واحتمال السبق وعدم الشعور به ، ولذلك حكى عن ابن إدريس في السرائر (١) وعن العلاّمة في التحرير (٢) ـ قدّس الله اسرارهما ـ عدم العبرة بالوطي دبرا ، وعدم اعتبارهما بالوطي في الدبر. إمّا في صورة عدم احتمال السبق ، أو لكون الاحتمال ضعيفا بدرجة يكون عند العقلاء بحكم العدم.

الثاني : مضىّ ستّة أشهر هلاليّة من زمان الوطي ، فلو كان أقلّ من ذلك وولدت تامّ الخلقة حيّا لا يلحق بصاحب الفراش ، وذلك من جهة أنّها أقلّ الحمل كتابا وسنّة ، مستفيضة بل متواترة ، ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب ، بل نسب الاتّفاق إلى علماء الإسلام ، وقد نسب في الجواهر (٣) إلى المفيد (٤) والشيخ (٥) ـ قدس سرّهما ـ التخيير‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٣.

(٣) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٣٠.

(٤) « المقنعة » ص ٥٣٨.

(٥) « النهاية » ص ٥٠٥.

٣٤

بين النفي والإقرار به.

وهذه الفتوى من هذين الشيخين الجليلين لا يخلو عن غرابة ، مع استفاضة الروايات واتّفاق الفقهاء على خلافهما.

ولكنّ الذي يظهر من عبارة المقنعة أنّه لو نفاه الزوج وخاصمته المرأة وادّعت أنّه منه واختلفا في زمان الحمل (١) ، لا أنّ المرأة مع اعترافها بأنّها وضعت لأقلّ من ستّة أشهر تدّعي أنّه له ، فيكون هذا من فروع اختلافهما في مدّة الحمل ، ويكون خارجا عن محلّ بحثنا ، وهو أن يكون معلوما مدّة الحمل وأنّها أقلّ من ستّة أشهر.

والشاهد على ذلك أنّه ـ قدس‌سره ـ يصرّح قبل هذا العبارة ، بأنّها إن ولدته حيّا تامّا لأقلّ من ستّة أشهر من يوم لامسها ، فليس له بولد بحكم العادة (٢).

وعبارة المبسوط أيضا صريح في أنّها إذا وضعت لأقلّ من ستّة أشهر من حين لامسها فالولد لا يلحق به ، وهذا عين عبارته : كما لو أتت بولد لدون ستّة أشهر ، فإنّه ينفي عن الزوج بلا لعان ، لأنّه لا يمكن أن يكون منه (٣).

فهذا الشرط أيضا مقدّمة لإثبات مورد القاعدة ، وهو احتمال أن يكون الولد لصاحب الفراش ، لأنّه قبل انقضاء ستّة أشهر من حين الوطي لو ولدت نفى الشارع كونه له ، فيكون احتمال كونه منه ملغى بحكم الشارع ، ويكون معلوم العدم ، فلا يبقى موضوع للقاعدة.

الثالث : أن لا يكون الوضع في أكثر من أكثر مدّة الحمل.

وفي تعيين أكثر مدّة الحمل خلاف ، فالمشهور يقولون بأنّه عبارة عن تسعة أشهر ، وبناء على هذا لو تجاوز مدّة الحمل ـ أي من زمان الوطي تسعة أشهر إلى‌

__________________

(١) « المقنعة » ص ٥٣٨.

(٢) « المقنعة » ص ٥٣٨.

(٣) « المبسوط » ج ٥ ، ص ١٨٥.

٣٥

زمان الوضع ـ فلا يلحق. والأخبار التي تدلّ على أنّ أكثر مدّة الحمل تسعة أشهر كثيرة.

وقول آخر بأنّه عشرة أشهر ، وهو الذي استحسنه في الشرائع (١) ، وحكى عن الشيخ ـ قدس‌سره ـ في المبسوط (٢) أيضا ، ونسب إلى العلاّمة (٣) ـ قدس‌سره ـ أيضا ، وصرّح العلاّمة في التبصرة بذلك (٤). وقول آخر بأنّه سنة ، وإليه ذهب المرتضى ـ قدس‌سره ـ في الانتصار مدّعيا عليه الإجماع (٥) ، وأبو الصلاح (٦) ، ومال إليه في المختلف (٧) على نقل صاحب الجواهر (٨) ـ قدس‌سره.

وقال الشهيد الثاني ـ قدس‌سره ـ إنّه أقرب إلى الصواب (٩). ولكن المحقق قال في الشرائع : إنّه متروك (١٠) ، وهناك رواية على أنّه سنتين (١١) ، ولكن لم يقل به أحد من الأصحاب ، وحملوها على التقيّة.

أقول : أمّا القول الأوّل الذي هو المشهور بين أصحابنا الإماميّة ـ قدّس الله أسرارهم ـ فمستنده قبل الإجماع روايات مستفيضة ذكر سبعة منها في الجواهر (١٢) ، ودلالة بعضها واضحة لا يمكن المناقشة فيها ، وذلك كمرسل عبد الرحمن ابن سيابة :

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٦.

(٣) « تحرير الأحكام » ج ٢ ، ص ٤٤.

(٤) « تبصرة المتعلمين » ص ١٤٣.

(٥) « الانتصار » ص ١٥٤.

(٦) « الكافي في الفقه » ص ٣١٤.

(٧) « مختلف الشيعة » ج ٧ ، ص ٣١٦.

(٨) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٦.

(٩) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٥٨.

(١٠) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(١١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥١١ ، ح ٤٧٩٣ ، باب : طلاق الحامل ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٨ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ١٥.

(١٢) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٥.

٣٦

« أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر ولا يزيد لحظة ، ولو زاد لحظة لقتل أمّه قبل أن يخرج » (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مضمون هذا الخبر معلوم البطلان بالوجدان ، فلا يمكن صدوره عن الامام عليه‌السلام.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ معلوميّة بطلانه بالوجدان غير معلوم ، لأنّ هذه أمور لا يعرفها غير ربّ العزّة جلّ جلاله ، هذا أوّلا.

وثانيا : صدر الرواية جملة مستقلّة لا إشكال في مضمونه ، وهو قوله عليه‌السلام : « أقصى مدّة الحمل تسعة أشهر » فلا مانع من التعبّد بصدوره ، وهو كاف في إثبات المطلوب.

وكرواية محمّد بن حكيم ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في حديث قال : قلت : فإنّها ادّعت الحمل بعد تسعة أشهر ، قال عليه‌السلام : « إنّما الحمل تسعة أشهر » (٢).

وأمّا رواية أبان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « إنّ مريم حملت بعيسى تسع ساعات كلّ ساعة شهر » (٣). فدلالتها على أنّ الحمل لا يزيد على تسعة أشهر غير واضحة ، ولا يخلو عن المناقشة.

وعلى كلّ حال هذا القول ـ أي : أنّ أكثر الحمل لا يزيد على تسعة أشهر ـ بحسب المدرك قويّ ، للروايات المستفيضة ، وادّعاء الإجماع فيه ، والشهرة المحقّقة.

وأمّا القول الثاني ـ أي كون أكثر الحمل عشرة أشهر الذي استحسنه المحقق في الشرائع وقال : يعضده الوجدان (٤) ـ فلا إجماع ولا رواية تدلّ عليه.

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٥٢ ، باب النوادر ( من كتاب العقيقة ) ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١١٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٥ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ٣.

(٢) « الكافي » ج ٦ ، ص ١٠١ ، باب المسترابة بالجميل ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٦ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ٥.

(٣) « الكافي » ج ٨ ، ص ٣٣٢ ، ح ٥١٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٦ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ٧.

(٤) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٤٠.

٣٧

وعمدة الوجه هو ادّعاؤهم الوجدان ، وأنّه كثيرا ما يزيد على تسعة أشهر.

ولكن فيه أنّ مبدأ الحقيقي للحمل غالبا غير معلوم ، وإن كان انتهاؤه بالولادة أمر محسوس ، وحكم القوابل أو النساء بالحمل إمّا بواسطة احتباس الحيض ، وإمّا بواسطة ظهور علامات الحمل. والأوّل ربما يكون لجهة أخرى غير الحمل ، بل يكون لعلّة ومرض فيها. والثاني غالبا يكون بعد مضيّ زمان من شهر أو شهرين بعد الحمل.

وأمّا القول الثالث ـ أي كون أكثر الحمل سنة ـ فادّعى المرتضى ـ قدس‌سره ـ عليه الإجماع (١) ، وقرّبه المسالك إلى الصواب (٢).

ولكن ليس في الروايات ما يدلّ على ذلك ، إلاّ ما نقل من خبر غياث ، عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : « أدنى ما تحمل المرأة لستّة أشهر ، وأكثر ما تحمل لسنة » (٣). لكن في الوسائل روى هذه الرواية عن غياث « وأكثر ما تحمل سنتين » (٤). وقلنا إنّه لم يقل به أحد من الأصحاب ، ولذلك حمله في الوسائل على التقيّة. ومع هذا الاختلاف في النقل لا يبقى مجال للاستدلال بها على السنة.

وأيضا ممّا يمكن أن يستدلّ به على هذا القول ما هو المروي عن نوادر المعجزات للراوندي عن سيّدة النساء عليها‌السلام أنّها ولدت الحسين عليه‌السلام عند تمام السنة (٥) لكنّه معارض بما هو المعروف والمشهور أنّها ولدته لستّة أشهر (٦).

__________________

(١) « الانتصار » ص ١٥٤.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٥٨.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥١١ ، ح ٤٧٩٣ ، باب طلاق الحامل ، ح ٧ ، وفيه : لسنتين بدل لسنة.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٨ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ١٥.

(٥) الراوندي في « الخرائج والجرائح » ج ٢ ، ص ٨٤٠ ، الباب (١٦) : في نوادر المعجزات ، وفيه : في تمام الستّة ، وفي نسخة « بحار الأنوار » ج ٤٣ ، ص ٢٧٣ ، فيه : فنزل تمام السنة.

(٦) « الكافي » ج ١ ، ص ٣٨٥ ، باب مولد الحسين بن علي عليهما‌السلام ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٦ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ٤.

٣٨

ففي الوسائل عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « حمل الحسين عليه‌السلام ستّة أشهر ، وأرضع سنتين ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (١) » (٢). هذا ، مضافا إلى أنّه معارض بما ورد من أنّ ولادته عليه‌السلام في ثالث شعبان ، وولادة الحسن عليه‌السلام في النصف من رمضان ، ومعلوم أنّ الفصل بينهما أقلّ من السنة بما لا يتسامح.

وأيضا ربما يستدلّ لهذا القول بما رواه حريز عمّن ذكره ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عز وجل ( يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ) (٣) قال عليه‌السلام : « الغيض : كلّ حمل دون تسعة أشهر. وما تزداد : كلّ شي‌ء يزداد على تسعة أشهر ، فلمّا رأت المرأة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد بعدد الأيّام التي رأت في حملها من الدم » (٤).

وظاهر هذه الرواية ـ على تقدير صحّة سندها والإغماض عن إرسالها ، ومع الإغماض عن معارضاتها الأقوى منها سندا ودلالة ـ هو أنّ المراد من الزيادة مقدار ما رأت الدم في حال حملها يزيد في مقدار الحمل ، فإن رأت الدم في حال الحمل خمسة أيّام يزيد في مدّة الحمل خمسة أيّام ، فلا تدلّ على المقصود أي كون مدّة أكثر الحمل سنة إلاّ على تقدير شاذّ في غاية الشذوذ.

بل يمكن أن يقال بأنّه حال عادة ، وهو أن ترى الدم في كلّ شهر عشرة أيّام كي يصير في مجموع تسعة أشهر الذي هو مدّة الحمل تسعين يوما ، فيزيد هذا المقدار على تسعة أشهر ، فيكون المجموع سنة كاملة.

__________________

(١) الأحقاف (٤٦) : ١٥.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٨ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ١٤.

(٣) الرعد (١٣) : ٨.

(٤) « الكافي » ج ٦ ، ص ١٢ ، باب بدء خلق الإنسان وتقلبه في بطن أمه ، ح ٢ ، « تفسير العياشي » ج ٢ ، ص ٢٠٤ ، ح ١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٦ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ٦.

٣٩

هذا حال الأخبار التي استدلّوا بها على هذا القول.

ولكن الشهيد الثاني ـ قدس‌سره ـ تمسّك لإثبات هذا القول بوجوه :

الأوّل : عدم دليل معتبر على الأقلّ من السنة (١).

وفيه : ما عرفت من وضوح دلالة بعض الروايات على أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر (٢) ، وقلنا لو كان ضعف في سندها فهو منجبر بعمل الأصحاب والشهرة المحقّقة ، وقد حكينا من جماعة الإجماع. وأمّا إجماع المرتضى ـ قدس‌سره (٣) ـ فوجّهه في الجواهر على أنّ مراده منه نفي أكثر من السنة ، لإثبات السنة به (٤). وهو توجيه حسن فلا يعارض هذا الإجماع.

الثاني : الوجدان ، وهو ما إذا سافر الزوج بعد الوطي مثلا إلى مكان بعيد لا يمكن وصوله عادة إليها ، وأيضا علم من الخارج من الأمارات الموجبة لليقين والمفيدة للعلم أنّه لم يصل إليها أجنبيّ ، ومع ذلك وضعت بعد مضيّ سنة من زمان الوطي.

وفيه : على فرض تسليم ما قيل ليس سبب الحمل منحصرا بوصول الزوج أو أجنبي إليها ، بل هناك احتمالات أخر معلومة لا يحتاج إلى الذكر.

الثالث : أمره بالاحتياط بعد انقضاء تسعة أشهر من حين الوطي في بعض الأخبار التي مفادها أنّ أكثر الحمل تسعة أشهر :

منها : خبر محمّد بن الحكيم ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قلت له : المرأة الشابّة التي مثلها تحيض يطلّقها زوجها ويرتفع حيضها كم عدّتها؟ قال : « ثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت الحبل بعد الثلاثة أشهر ، قال عليه‌السلام : « عدّتها تسعة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت‌

__________________

(١) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٠٨.

(٢) تقدم راجع ص ٣٧ ، هامش رقم (١).

(٣) « الانتصار » ص ١٥٤.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٣١ ، ص ٢٢٧.

٤٠