القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

إيّاهم لا بقصد القربة ، خصوصا إذا كان في كفّارة ، لا مانع من القول بعدم وقوع الكفّارة ، بل عدم صحّة العتق بناء على اعتبار قصد القربة ، كما هو كان ظاهر قوله عليه‌السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى ».

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ القول بعدم اعتبار قصد القربة في الوقف لا يخلو من نظر وتأمّل ، بل الأحوط وجوبا مراعاته.

ومن جملة ما يعتبر في الوقف ـ في صحّته أو في لزومه ـ هو الإقباض ، وسنتكلّم عنه في شرائط الوقف ، وأنّه هل من شرائط صحّة الوقف أو من شرائط لزومه إن شاء الله تعالى.

ثمَّ إنّه بعد وقوع عقد الوقف مع القبول وقصد القربة من الأصيل أو الفضولي ، وأجاز المالك بناء على جريان الفضولي فيه واجدا لجميع شرائط الوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه يكون من المنجزات ، فيكون حاله حال سائر المنجّزات في دخوله في مفاد المسألة المعروفة ، وهي أنّ منجّزات المريض الذي يموت في ذلك المرض هل مثل الوصية ، ويكون نفوذها في الزائد على الثلث منوطا بإجازة الورثة أم لا ، بل يكون من أصل التركة وليس معلّقا على إجازتهم؟

وتحقيق الحقّ والمختار في تلك المسألة موكول إلى محلّه ، والغرض ها هنا بيان أنّ الوقف بعد وقوعه وتماميّته بشرائطه يكون مثل البيع والصلح وسائر العقود المنجّزة.

المطلب الثاني

في شرائط الوقف‌

وهي أمور أربعة :

[ الشرط ] الأوّل : القبض. ولا خلاف في أصل شرطيّته واعتباره في الوقف عندنا ،

٢٤١

وإنّما الخلاف في أنّه هو شرط الصحّة أو شرط اللزوم. وتظهر ثمرة القولين في النماء.

والدليل على اعتباره في لزومه الروايات الواردة الدالة عليه :

منها : صحيح صفوان بن يحيي ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يقف الضيعة ثمَّ يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : « إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثمَّ جعل لها قيّما لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » (١).

ومنها : ما روى عن محمّد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري ، عن صاحب الزمان عليه‌السلام : « وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثمَّ يحتاج إليه صاحبه ، فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلّما سلم فلا خيار فيه لصاحبه ، احتاج أو لم يحتج ، افتقر إليه أو استغنى عنه. وأمّا ما سألت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيّم يقوم فيها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومئونتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لناحيتنا ، فإنّ ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيّما عليها ، إنّما لا يجوز ذلك لغيره » (٢).

فقوله عليه‌السلام في رواية صفوان « لأنّهم لا يحوزونها عنه وقد بلغوا » يدلّ على أنّ علّة جواز الرجوع هو عدم حيازتهم وقبضهم للضيعة ، وهذه العلّة بمفهومها تدلّ على أنّ‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٧ ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٣٦ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٩ ، ح ٥٥٧٣ ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٤ ، ح ٥٦٦ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ١٣ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٠٢ ، ح ٣٩٢ ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٨ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٤ ، ح ٤.

(٢) الصدوق في « كمال الدين » ج ٢ ، ص ٥٢٠ ـ ٥٢١ ، ذكر التوقيعات ، ح ٤٩ ، « الطبرسي في « الاحتجاج » ج ٢ ، ص ٥٥٨ ـ ٥٦٠ ، في التوقيعات ، ح ٣٥١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٠ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٤ ، ح ٨.

٢٤٢

الحيازة والقبض موجب لعدم جواز الرجوع الذي هو من لوازم اللزوم.

وظهور هذا التعليل في هذا المفهوم عرفي ، وإنكاره مكابرة ، والفقرة السابقة على هذه الفقرة وهو قوله عليه‌السلام : « وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع » فعلّق عليه‌السلام عدم جواز رجوعه الذي هو كناية عن اللزوم على الحيازة لهم ، لأنّ حيازته حيازة لهم ، لأنّه وليّ عليهم ، فيكون القبض والحيازة علّة للزوم الوقف ، وهذا منطوق الرواية.

وأمّا رواية الأسدي ، الفقرة الأولى من تلك الرواية وهي قوله عليه‌السلام « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكلما سلم فلا خيار فيه لصاحبه » إلى آخر الرواية ، فصريحة في أنّه شرط اللزوم.

بيان ذلك : أنّه حكم بالخيار في صورة عدم التسليم الذي هو بمعنى عدم الإقباض ، وحكم بعدم الخيار في صورة التسليم ـ أي الإقباض ـ ولا شكّ في أنّ عدم الخيار كناية عن اللزوم ، فعلّق اللزوم على التسليم الذي هو بمعنى الإقباض الملازم للقبض. والإنصاف أنّ ظهور هاتين الروايتين في أنّ القبض موجب للزوم لا يمكن إنكاره.

وأمّا ما ربما يقال ، بل قال بعض الأعاظم قدس‌سرهم من أنّ بطلان الوقف بموت الواقف قبل إقباضه دليل على أنّ القبض شرط الصحّة لا شرط اللزوم.

ففيه : أنّه من الممكن أن يكون نفس الموت موجبا لبطلانه إن كان قبله صحيحا غير لازم. وتظهر ثمرة القولين في النماءات ، فبناء على أنّه شرط اللزوم تكون النماءات من زمان وقوع العقد للموقوف عليهم ، وبناء على أنّه شرط الصحّة تكون للواقف.

وها هنا فروع لا بأس بذكرها‌

الأوّل : لو مات الواقف قبل القبض بطل الوقف ، لخبر عبيد بن زرارة عن أبي‌

٢٤٣

عبد الله عليه‌السلام في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا ، قال عليه‌السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ، فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره » وقال عليه‌السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه الله » (١).

ودلالة الخبر على بطلان الوقف بموت الواقف واضح لا يحتاج إلى البيان ، لأنّ قوله « تصدّق على ولد له قد أدركوا » إمّا صريح في الوقف بالخصوص ، أو يشمله بالإطلاق.

واحتمال المدارك اختصاصه بالصدقة بالمعنى الأخصّ فلا يشمل الوقف ممّا لا شاهد له ، لعدم دليل على انصراف المطلق إلى أحد فرديه مع كثرة الاستعمال في الفرد الآخر أيضا.

وأمّا تأييده هذا الاحتمال بذيل الخبر « لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله » فلا وجه له أصلا ، لأنّه من المحتمل القريب أن تكون هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله عليه‌السلام : « فهو جائز » فيكون مفاده لا يرجع في الوقف إذا كان ابتغاء لوجه الله ، أو مطلق الصدقة ، وقفا كانت أو الصدقة الخاصّة ، حيث تصدّق بها ابتغاء وجه الله لا يجوز أن يرجع فيها.

هذا فيما إذا مات الواقف ، وأمّا إن مات الموقوف عليه قبل أن يقبض ، فبناء على ما اخترناه من أنّ القبض شرط اللزوم لا الصحّة ، فالوقف وقع صحيحا ولا وجه لخروجه عن ذلك. نعم للواقف أن يرجع قبل قبض الطبقة اللاحقة أو الشخص اللاحق ، ولا إشكال في البين.

وأمّا بناء على أنّه شرط الصحّة ، فالصحّة التأهليّة باقية ، فإذا قبض البطن اللاحق‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٧ ، ح ٥٥٨٥ ، باب الوقف والصدقة والنحل ، ح ١٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٧ ، ح ٥٧٧ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٢٤ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٠٢ ، ح ٣٩٠ ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح ٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٩ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٤ ، ح ٥.

٢٤٤

مثلا تصير فعليّة ، وإن شكّ في بقائها فيمكن إحرازها بالاستصحاب.

وأمّا الإشكال عليه بأنّه نظير قبول غير من خوطب به ، لأنّ ظاهر الاشتراط بالقبض هو القبض ممّن كان الطرف في إجراء الصيغة.

لا وجه له ، لأنّ المفروض أنّ العقد تمَّ من الإيجاب والقبول ممّن لهما أهليّة ذلك ، وإنّما الذي بقي حسب اشتراط الشارع صحّة الوقف هو قبض طبيعة الموقوف عليه ، وقبل موت الطبقة الأولى كان مصداق الطبيعة هو ذلك الشخص في الوقف الترتيبي ، وبعد موته صارت الطبقة المتأخّرة مصداقا.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الوقف على عنوان عامّ ، كأولادي ـ مثلا ـ نسلا بعد نسل ، أو كان على أشخاص معيّنين ، أو على شخص معيّن ثمَّ على أشخاص معيّنين أخر ، أو ثمَّ على شخص معيّن آخر.

الثاني : في أنّه هل يشترط في تحقّق القبض الذي هو شرط صحّة الوقف أو شرط لزومه أن يكون بإذن الواقف ، أم لا؟

أقول : مقتضى القاعدة عدم الاشتراط ، خصوصا بناء على أنّه شرط اللزوم لا الصحّة ، لأنّ العقد تمَّ من الطرفين بشرائطه ، غاية الأمر اشتراط الشارع شرطا للصحّة أو اللزوم ، وشرطيّة أصل القبض معلوم.

وأمّا كونه بإذن الواقف غير معلوم ، فيكون مجرى أصالة عدم الاشتراط ، وأصالة عدم تأثير العقد بدونه ـ المعبّر عنها بأصالة الفساد في أبواب المعاملات ـ محكوم بإطلاقات أدلّة الوقف ، لأنّ الوقف تحقّق عند العرف. وهذا اعتبار آخر زائد على تحقّق حقيقة الوقف عرفا ، وإثباته يحتاج إلى دليل معتبر ، وليس في البين شي‌ء يكون مانعا من جريان الإطلاقات.

فهذا من قبيل الشكّ في اعتبار بعض الخصوصيّات في عقد البيع شرعا بعد تحقّق ماهيّته عرفا ، كالعربيّة والماضويّة مثلا الذي قلنا بجريان إطلاقات أدلّة البيع ورفع‌

٢٤٥

الشكّ بها.

وأمّا الاستدلال لاعتبار اذن الواقف بقوله عليه‌السلام : « فكلّ ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار » بأنّه عليه‌السلام علّق الخيار على عدم التسليم لا عدم القبض ، فيستفاد منه اشتراط الصحّة أو اللزوم بالتسليم وإقباض الواقف ، فلا أثر لصرف قبض الموقوف عليه بدون إقباض الواقف وتسليمه.

ففيه : أنّ المراد من هذه الجملة هو وصول المال الموقوف إلى الموقوف عليه وصيرورته تحت يده ، ولذلك عبّر عنه عليه‌السلام في صحيح محمّد بن مسلم بقوله عليه‌السلام : « إذا لم يقبضوا فهو ميراث » (١).

ولا شكّ في إطلاق جملة « فإذا لم يقبضوا » وشمولها لكلتا حالتي الإذن وعدمه ، وأزيد من هذا قوله عليه‌السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها » فإنّه يدلّ على أنّ أخذهم بالقوّة ورغما لأنف الواقف كاف في الصحّة أو اللزوم.

الثالث : هل يشترط في القبض أن يكون فورا أم لا؟

الظاهر عدم اشتراطه ، للأصل المتقدّم في الفرع السابق ، ويمكن أن يستظهر أيضا من قوله عليه‌السلام في صحيحة محمّد بن مسلم : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث ».

وإطلاقه يشمل حتّى فيما إذا كان بين العقد مدّة طويلة ، فإذا حصل القبض بعد العقد بمدّة ولكن قبل الموت بساعة مثلا فيؤثّر أثره.

الرابع : في أنّ الوقف يتمّ صحيحا ويصير لازما بقبض الطبقة الأولى ، ولا يحتاج صحّته أو لزومه بقبض الطبقة الثانية والثالثة ، وهذا لأنّه بعد ما تمَّ وصار لازما لا يخرج عن الصحّة أو اللزوم الاّ بدليل على ذلك.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣١ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٥ ، ح ٥٦٩ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ١٦ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٠١ ، ح ٣٨٧ ، باب : من تصدّق على ولده الصغار. ، ح ٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٧ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٤ ، ح ١.

٢٤٦

نعم يبقى كلام في أنّ قبض بعض الموقوف عليهم يكفي عن قبض الآخرين ، أم لا بل يقسط ، ويكون صحيحا أو لازما بالنسبة إلى حصّة ذلك البعض فقط؟

الظاهر أنّه يحتاج إلى قبض جميع الطبقة الأولى ، ولا يكفي قبض بعضهم عن الآخرين ، أمّا أوّلا : فلأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : « إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث » أنّ اللزوم أو الصحّة متوقّف على قبض الجميع ، وكذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة صفوان : « ولم يخاصموا حتّى يحوزوها ».

وثانيا : أنّ الموقوف عليه جميعهم ، فإذا كان قبض الموقوف عليه شرطا في صحّة الوقف أو في لزومه ، فيجب قبض الجميع.

إن قلت : إنّ الطبقات المتأخّرة أيضا هم الموقوف عليهم ، فبناء على هذا يجب أيضا قبضهم.

أقول : إنّ الطبقة الأولى إذا قبضوا كلّهم إمّا أن يتمّ الوقف ، فلا مجال لاشتراط قبض الباقين لحصول الصحّة أو اللزوم ، لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وإمّا أن لا يتمّ ، فلا يتمّ إلى الأبد فيما إذا كان وراء كلّ طبقة طبقة ، وهذا شي‌ء مستنكر ومخالف للضرورة الفقهيّة ، فلا بدّ من القول بأنّه يتمّ بقبض الطبقة الأولى ، فلا يحتاج إلى قبض سائر الطبقات.

نعم لو وقف على أولاد زيد نسلا بعد نسل ـ مثلا ـ وكان لزيد أولاد موجودين حال الوقف ، وقبضوا ، فتجدّد له أولاد أو ولد واحد مثلا ، لا يبعد أن يكون قبض الولد المتجدّد أيضا معتبرا في صحّة الوقف أو لزومه ، لأنّهم أيضا من الطبقة الأولى ، وإن كان القول بتماميّة الوقف بقبض الموجودين حال الوقف أيضا له وجه.

وأمّا الموجودين حال الوقف من الطبقة الأولى إن قبض بعضهم دون بعض ، فهل يصحّ الوقف أو يلزم في التمام ، أو لا يصحّ في التمام ، أو يصحّ بالنسبة إلى حصّة القابضين دون الباقين؟ وجوه ، والأظهر هو الوجه الأخير.

٢٤٧

الخامس : لو وقف على أولاده نسلا بعد نسل ، وكان الموجودون كلّهم صغارا ، فلا يحتاج إلى الإقباض ، لأنّ يد الأب والجدّ الأبي يدهم ، وقبضهما قبضهم ، وهذا الحكم جار في كلّ من هو وليّ شرعا بالنسبة إلى المولى عليه بلا كلام.

نعم الذي ينبغي أن يتكلّم فيه ، هو أنّه هل يحتاج إلى القصد عن قبلهم أم لا يحتاج؟ بل حكى عن كاشف الغطاء قدس‌سره أنّ قبض الوليّ هو قبض المولى عليه وان نوى الخلاف (١) ، مثلا لو اشترى شيئا للمولى عليه وقبضه وقصد أن لا يكون للمولى عليه ، بل لنفسه فتلف ، فليس هذا التلف من مصاديق تلف قبل القبض ، وليس ضمانه على البائع لحصول القبض بفعله له قهرا ، وإن قصد خلافه.

والظاهر : هو الأوّل ، لأنّ وقوع فعل شخص عن شخص آخر بحيث يصحّ استناده إلى ذلك الآخر ، لا بدّ وأن يكون بقصد أنّه عن قبله ، وإلاّ لا مصحّح للاستناد إليه ، بحيث أنّ يقال : إن قبض هذا الوليّ أو هذا الوكيل قبضه ، خصوصا مع قصد الخلاف.

وأمّا قوله عليه‌السلام في خبر عبيد بن زرارة : « فإن تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره ». (٢) فلا إطلاق فيه يشمل صورة عدم القصد ، لأنّ الظاهر منه أنّه لا يحتاج إلى قبض نفس المولى عليه ، إذ الوالد يلي أمره.

وأمّا كيفيّة ولايته لأمره ـ وأنّه هل مع القصد عن قبله أو بدون القصد ـ فليس في مقام بيان هذا ، فلا إطلاق لها. ومعلوم أنّ ما قلنا من كفاية قبض الولي فيما إذا كان في يده ، وأمّا إذا كان في يد غيره من غاصب ، أو آخذ بالعقد الفاسد أو غيرهما ، فيحتاج إلى قبض الولي وأخذه من يد غيره بعنوان الولاية على الموقوف عليهم.

والمراد من كونه في يد غير الوليّ خروجه عن تحت سيطرته ، فلا يضرّ كونه في‌

__________________

(١) الشيخ جعفر في « كشف الغطاء » ص ٣٧٢ ، كتاب الوقف.

(٢) تقدم راجع ص ٢٤٤.

٢٤٨

يد وكيله أو من استأجر أو استودع عنه ، بحيث لا ينافي كونه عند غيره مع سيطرته عليه وكونه في يد نفسه ، كما أنّه لو كان الوقف بيد الموقوف عليهم فلا يحتاج بعد الوقف إلى قبض جديد ، بأن يستردّه الواقف ويعطيهم ويقبضهم ثانيا ، لأنّ الشرط حاصل ، فتحصيله ثانيا من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم لو قلنا باعتبار إذن الواقف في القبض ، فيحتاج إلى الاذن في البقاء. ولا فرق في ما قلنا من كفاية كونه في يدهم وأنّه لا يحتاج إلى قبض جديد بين أن يكون يدهم يد عادية ، أو يد أمانة شرعيّة ، أو مالكيّة. ويكفي في قبض المسجد والمقبرة لكافّة المسلمين أو لطائفة خاصّة صلاة شخص واحد في الأوّل ، ودفن ميّت واحد في الثاني ، بقصد أنّه وقف المسجد في الأوّل ، وأنّه مقبرة وقف على كافّة المسلمين ، أو خصوص طائفة في الثانية.

وذلك بناء على اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، وقد تقدّم اعتباره ، وبناء على أنّ القبض لا بدّ وأن يكون بإذن الواقف ، فلا بدّ في تحقّق قبض المسجد بصلاة واحدة ، وقبض المقبرة بدفن رجل واحد أن تكون تلك الصلاة وذلك الدفن بإذن الواقف.

السادس : في أنّه هل يحتاج صحّة الوقف أو لزومه على القبض في الأوقاف العامّة ـ كالوقف على الجهات العامّة ، كالمساجد والقناطر والرباطات والآبار في الطرق العامّة وأمثالها ، وهكذا الوقف على العناوين العامّة ، كالعلماء والسادات والفقراء وأمثالهم ـ أم لا؟

والمشهور هو الأوّل. ويمكن أن يستدلّ له بقوله عليه‌السلام في صحيح صفوان : « فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها » (١) فعلّل عليه‌السلام جواز الرجوع بعدم حيازتهم لها ، فيستكشف من هذا التعليل أنّ حقيقة الوقف وطبيعته لا يصحّ ـ أو لا يلزم ـ إلاّ‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٤٢ ، هامش رقم (١).

٢٤٩

بحيازة الموقوف عليهم له.

وأمّا القول بأنّه ليس هناك في الوقف على الجهات العامّة من يقبضه. وقد تقدّم نظير هذا الكلام في اشتراط الوقف بالقبول ، وقد أجبنا عنه بأنّه إمّا أن يقبل الحاكم أو أحد مصاديق تلك العناوين.

ونقول ها هنا أيضا نظير ما تقدّم ، مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا هو اعتبار القبض فيه ، إذ ليس عموم يتمسّك به لعدم الاعتبار.

أمّا قوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (١) فلما ذكرنا من أنّ هذه الجملة ناظرة إلى أحكام الوقف بعد الفراغ عن تحقّق ماهيّته ، وفيما نحن فيه من المحتمل أن يكون القبض دخيلا في تحقّق ماهيّته بناء على أنّه شرط صحّته لا لزومه.

وأمّا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فلاحتمال عدم كونه عقدا ، بل يكون إيقاعا ، فيكون خارجا عن موضوع عموم الآية. ولكن تقدّم أنّه عقد ، فالتمسّك لاحتياج كلّ وقف إلى القبض لصحّته أو للزومه بالروايات أولى.

وعلى تقدير لزوم القبض حتّى في الوقف على الجهات ، يكفي قبض المتولّي ، أو الحاكم ، أو أحد المسلمين ممّن كان مصداقا لتلك الجهة إن كان قبضه بعنوان أنّه مصداق لتلك الجهة ، فلو عبّر أحد المسلمين من القنطرة التي وقفها لأجل عبور المسلمين بعنوان أنّه من مصاديق هذه الجهة ، فهذا يعتبر قبضا منه لتلك القنطرة.

الشرط الثاني من شرائط الوقف الدوام. فلو قال : وقفت هذا الخان ـ مثلا ـ على الزوّار مدّة عشر سنين ، فلا يصحّ ولا يقع وقفا.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط ، وتمسّكوا أيضا بوجوه أخر :

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٢٩ ، هامش رقم (١).

٢٥٠

منها : الروايات الواردة في كيفيّة وقف الأئمّة عليهم‌السلام ومن تعبيرهم عليهم‌السلام في تلك الروايات عن أوقافهم بالصدقة التي لا تباع ولا توهب ولا تورث (١).

ولا شكّ أنّ نفي هذه الأمور الثلاثة معا ملازم للدوام ، بل نفي خصوص الإرث يكفي في إثبات شرطيّة الدوام لتحقّق حقيقة الوقف. مضافا إلى أنّ في بعضها : « حتّى يرثها وارث السماوات والأرض ». وفي وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام داره التي كانت في بني زريق هذه العبارة مرويّة « صدقة لا تباع ولا توهب حتّى يرثها الله الذي يرث السماوات والأرض » (٢).

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات هو أنّ الصدقة أنواع ، والوقف نوع من تلك الأنواع ، فهم عليهم‌السلام لتعيين هذا النوع من بين سائر الأنواع وصفوها بهذه الأوصاف ، وقيّدوها بهذه القيود ، وليست هذه الأوصاف من الشروط الضمنيّة الخارجة عن ماهيّة الوقف ، لأنّ ظاهر هذه الروايات حسب القواعد العربيّة أنّ الصدقة هو مفعول مطلق نوعيّ ويكون قوله عليه‌السلام : « لا تباع ولا توهب ولا تورث » صفة معيّنة لذلك النوع.

فيكون حاصل المعنى أنّه عليه‌السلام يتصدّق بهذه الدار ـ مثلا ـ صدقة كذائيّة التي متّصفة بكذا وكذا ، أي : هذا النوع من الصدقة التي من آثارها وأحكامها عدم جواز بيعها ولا هبتها ولا إرثها حتّى قيام القيامة ، فعيّن الوقف وعرّفه بهذه الأوصاف.

وأمّا القول بأنّ الصدقة مصدر ، فلا يتّصف بصفات العين.

ففيه : أنّها تتّصف بها باعتبار ما يتصدّق به ، فتدلّ هذه الروايات على أنّ الدوام والتأبيد داخلان في حقيقة الوقف وماهيّته.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٣٢ ، هامش رقم (٢).

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٨ ، ح ٥٥٨٨ ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح ٢٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣١ ، ح ٥٦٠ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٧ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ٩٨ ، ح ٣٨٠ ، باب : أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٤ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٤.

٢٥١

ومنها : أنّ الوقف من العقود المملّكة ، ومفادها تمليك الموقوف للموقوف عليه ، والتمليك لا يمكن بدون التأبيد ، فإنّ الملكيّة الموقّتة غير معهود في الشرع.

وفيه : أنّه ممنوع بكلتا مقدّمتيه : أمّا كون حقيقة الوقف تمليكا ، فمنقوض بالوقف على المساجد ، ووقف نفس المساجد ، حيث أنّ المشهور قالوا بأنّه فكّ ملك ، لا أنّه تمليك للمسلمين ، بل منقوض بجميع الأوقاف التي تقفها الملاّك على الجهات العامّة ، بل حقيقته ـ كما عرّفه أكثر القدماء ـ مأخوذ من النبوي المشهور بأنّه « تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة » (١).

وليس في هذه العبارة ما يفيد أنّه تمليك. وأمّا الملك الموقّت فلا مانع منه إذا دلّ الدليل عليه ، لأنّه أمر اعتباري قابل للتوقيت وللتأبيد ، فتابع للدليل واعتبار الشارع ، أو لاعتبار العقلاء.

وقد تقدّم الكلام فيه في بدل الحيلولة في قاعدة « وعلى اليد ما أخذت » من إمكان ردّه كون بدل الحيلولة ملكا موقّتا إلى زمان حصول المغصوب ، أو إمكان ، أو إلى زمان نفس الردّ. وأيضا لو وقف على زيد عشر سنين ثمَّ على الفقراء ، فملكيّة زيد عشرة سنين تكون موقّتا.

فظهر بطلان كلتا المقدّمتين ، أي : لا يكون حقيقة الوقف هو التمليك ، ولا يمتنع أيضا الملكيّة الموقّتة ، بل هو معهود من الشارع أيضا.

وقد حكى هذا الوجه لاعتبار التأبيد عن تقرير بحث شيخنا الأعظم قدس‌سره وهو من مثله لا يخلو عن غرابة.

ومنها : أنّ الوقف عبارة عن توقيف العين الموقوفة ، وحبسه عن التقلّبات والنقل والانتقال في عالم الاعتبار التشريعي ، ومثل هذا المعنى يلائم مع التأبيد بل ينافي التوقيت.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٣١ ، هامش رقم (١).

٢٥٢

وفيه : أنّ الحبس في عالم الاعتبار عن التقلبّات ، مثل الحبس الخارجي عن الانتقال من مكان إلى مكان ، يمكن أن يكون مؤبّدا ، ويمكن أن يكون موقّتا ، فالعمدة في دليله هو الإجماع.

ولكن فيه أنّ الإجماع أيضا يمكن أن يكون اتّكاء المجمعين على بعض هذه الوجوه المذكورة أو على جميعها ، فليس من الإجماع المصطلح الذي قلنا في الأصول بحجّيته ، ولكن مع ذلك كلّه الاتّفاق التامّ بحيث لم يوجد مخالف واحد في جميع الأعصار ممّا يوجب الاطمئنان باعتبار هذا الشرط في صحّة الوقف.

ثمَّ إنّه لو وقّت الوقف بسنة أو أكثر أو أقلّ مثلا ، فلا يقع الوقف بناء على اعتبار الدوام ، ولكن هل يكون هذا الإنشاء باطلا وبلا أثر ـ وكأنّه لم يكن ـ أو يكون حبسا يترتّب عليه آثار الحبس وأحكامه؟

وتحقيق الحقّ في هذا المقام هو أنّ الوقف والحبس إن قلنا بأنّهما مختلفتان بحسب الماهيّة والحقيقة ، فلو قصد الوقف بذلك الإنشاء فلا يقع شي‌ء منهما ، ويكون ذلك الإنشاء لغوا وبلا أثر ، أما عدم وقوع الوقف ، لانتفاء شرط الصحّة ، وأمّا عدم وقوع الحبس ، لعدم قصده ، والعقود تابعة للقصود.

وأمّا لو قصد الحبس فعدم وقوعه وقفا واضح ، لعدم قصده ، مضافا إلى انتفاء شرطه. وأمّا وقوعه حبسا فمبنيّ على أنّ إنشاء الحبس هل يلزم أن يكون بصيغة خاصّة ، أو يصحّ وإن كان بصيغة وقفت مثلا؟

وأمّا لو يعلم أنّه قصد أيّ واحد منهما ، بعد الفراغ عن أنّه ليس في مقام أداء هذا الكلام بلا قصد ، وأيضا لم يقصد المعنى الجنسي المشترك بينهما ـ وإلاّ فمن المعلوم أنّه لو كان أحد هذين الأمرين فلا يقع شي‌ء منهما ـ فهل التوقيت بمدّة معيّنة يكون قرينة على إرادة خصوص الحبس فتدخل المسألة حينئذ في ما ذكرنا من أنّ الحبس هل يصحّ بلفظ الوقف ، أم لا؟

٢٥٣

الظاهر : أنّه تكون قرينة على إرادة الحبس فيما إذا يعلم باشتراط التأبيد في الوقف ، وأمّا تعين المراد ـ وأنّه قصد الحبس ولم يقصد الوقف ـ بأصالة الصحّة ، فممّا لا ينبغي احتماله.

وأمّا إذا قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ، وكلاهما عبارة عن حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، غاية الأمر أنّ الواقف مشروط صحّته بأن يكون حبس الأصل دائميّا حتّى يرث الله السماوات والأرض ، فيكون حبسا بلا كلام ، لأنّ المفروض أنّه لا امتياز بينهما إلاّ بالتوقيت وعدمه ، فإنّ الوقف غير موقّت والحبس موقّت ، فإذا وقّته يكون حبسا ، ويكون حال هذه المسألة حال عقد الدوام والانقطاع وعدم ذكر الأجل.

فكما أنّه هناك بناء على أنّ الزوجيّة في الدائمة والمنقطعة حقيقة واحدة ، والفارق بينهما ليس إلاّ بذكر الأجل في المنقطعة دون الدائمة ، فإذا لم يذكر الأجل وإن كان نسيانا تقع دائمة وإن قصد الانقطاع ، لأنّهما حقيقة واحدة. فكذلك ها هنا إذا لم يذكر التأبيد بل وقّته بوقت معيّن قليلا كان أو كثيرا ، فلا محالة يكون حبسا.

ويمكن أن يستدلّ لكونه حبسا أيضا بصحيحة عليّ بن مهزيار ، قلت له عليه‌السلام :

روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أنّ كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكل وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام؟ فكتب عليه‌السلام : « هكذا هو عندي » (١).

وصحيح محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٦ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٣١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٧ ، ح ٥٥٦٩ ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٢ ، ح ٥٦١ ، باب : الوقوف والصدقات ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٧ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٧ ، ح ١.

٢٥٤

ومن عليها ، وقال آخرون : هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها إن شاء الله » (١).

أقول : ظاهر الصحيحة الأولى أنّ الوقف الموقّت بوقت معلوم صحيح ، والموقّت بوقت مجهول باطل ، فالظاهر أنّه يقع في الشقّ الأوّل وقفا صحيحا ، لا حبسا صحيحا ، ولذا استدلّ بعض بها على وقوع الموقّت المعلوم وقفا صحيحا.

اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّ الفرق بين الوقف والحبس بصرف التأبيد والتوقيت ، فالصحيحة تدلّ على صحّته حبسا ، وإن عبّر في السؤال بلفظ الوقف.

وظاهر الصحيحة الثانية هو أنّ الواقف بأيّ كيفيّة من الكيفيّات المذكورة وقف يكون صحيحا ، لأنّ الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها ، فعلى أيّ حال كلتا الصحيحتين تدلاّن على أنّ الوقف الموقّت يقع صحيحا ، غاية الأمر إمّا وقفا وإمّا حبسا. نعم تدلّ الأولى على أنّه إذا كان جهلا مجهولا فهو باطل ، ولذلك ترى أنّ الذي يقول بأنّ الموقّت حبس صحيح والذي يقول بأنّه وقف صحيح ، كلاهما استدلاّ بهاتين الصحيحتين.

الشرط الثالث : التنجيز ، بمعنى أنّه يلزم أن ينشأ الوقف منجّزا غير معلّق على شي‌ء ، وهذا الشرط لا اختصاص له بالوقف ، بل اعتبروه في جميع العقود ، وأنّ التعليق فيها مبطل لها.

وعمدة دليلهم على اعتبار التنجيز في العقود هو الإجماع المدعى في المقام ، وإلاّ ليس دليل عقليّ على تنافي التعليق مع العقد والعهد إذا كان التعليق في المنشأ.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٢٩ ، هامش رقم (١).

٢٥٥

وأمّا الإنشاء فلا يمكن التعليق فيه ، سواء أكان الإنشاء والإيجاد متعلقه أمرا تكوينيّا وموجودا خارجيّا أو أمرا اعتباريّا ، وذلك من جهة أنّ الإنشاء والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم منجّزا ، لأنّه إن أوجد ذلك الشي‌ء الخارجي ، والموجود التكويني في عالم الخارج ، أو الموجود الذهني في الذهن ، أو الأمر الاعتباري كالملكيّة في عالم الاعتبار فقد تحقّق الإنشاء جزما بدون أيّ تعليق في البين ، وإن لم يوجد ذلك الشي‌ء فلم يتحقّق الإيجاد قطعا وجزما ، وعلى كلّ حال ليس تعليق في البين.

وأمّا تعليق المنشأ فلا مانع منه عقلا ، بل واقع في الشرعيّات كثيرا ، ففي الجعالة ـ مثلا ـ ينشأ الجاعل ملكيّة الجعل لكلّ من ردّ عليه ضالّته ، فالملكيّة المعلّقة على ردّ الضالّة هي التي تعلّق بها الإنشاء ، كما في قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ) (١) وهكذا الحال في الوصيّة ، فهو ينشأ الملكيّة المعلّقة على موته وفي التدبير ينشأ حرّية عبده معلّقا على موته.

وكذلك في النذر ينشأ ملكيّة المنذور للمنذور له معلّقا على برء مرضه مثلا ، أو قدوم ابنه عن سفره ، وأمثال ذلك ممّا يتداول بين الناس النذر لأجله.

وهذا معنى قولهم أنّ التعليق في الإنشاء محال ، وأمّا في المنشأ فلا مانع منه عقلا ، إلاّ أنّ الإجماع قام على بطلان العقود بالتعليق في منشآتها إلاّ ما خرج بالدليل ، فيكون ذلك الدليل مخصّصا للإجماع ، كما ورد في الوصيّة والجعالة والتدبير كما عرفت (٢).

وأمّا استدلال صاحب الجواهر قدس‌سره على بطلان التعليق في العقود ، لأنّه مناف مع ظاهر أدلّة تسبيب الأسباب لترتّب آثارها عليها ، (٣) وذلك لأنّ ظاهرها حسب‌

__________________

(١) يوسف (١٢) : ٧٢.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٩١ ، ح ٧٦٦ ، باب : الرجوع في الوصيّة ، ح ١٩ ، وكذلك ، ج ٨ ، ص ٢٦٤ ، ح ٩٦٥ ، باب : التدبير ، ح ٢٨ ، وكذلك ، ج ٧ ، ص ٣٤٤ ، ح ١٤٠٧ ، باب : العقود على الإماء. ، ح ٣٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٨٧ ، في أحكام الوصايا ، باب ١٨ ، ح ٨ ، وكذلك ، ج ١٦ ، ص ٩٦ ، من أبواب التدبير ، باب ١١ ، ح ١ و ٢.

(٣) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٦٣.

٢٥٦

المتفاهم العرفي آثارها عليها حال وقوعها ، فإنّ ظاهر قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ترتيب آثار العقد على كلّ واحد من العقود حال وقوع ذلك العقد ، لا أنّه يرتّب آثار البيع ـ مثلا ـ أو النكاح أو الصلح أو غيرها على تلك العقود بعد مضيّ زمان من وقوعها.

ففيه : أنّ ظواهر تلك الأدلّة هو العمل على طبق العقد أو الشرط الواقع ، ووجوب الوفاء بمضمونهما ، فإن كانا مطلقين فمطلقا ، وإن كانا معلّقين على أمر فعند حصول ذلك الأمر ، سواء أكان معلوم الحصول أو مشكوكه ، بل إن كان العقد أو الشرط معلّقا وعمل بهما قبل حصول المعلّق عليه لم يف بعقده أو بشرطه ، وعمل بخلاف ظاهر دليل ذلك العقد أو ذلك الشرط.

مضافا إلى أنّ هذا الكلام لا يأتي فيما إذا كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد أو الشرط ، فإنّه لا يتأخّر ترتيب الأثر عنهما في تلك الصورة.

فليس في البين إلاّ الإجماع وقد عرفت في هذا الكتاب مرارا حال هذه الإجماعات وأنّ أغلبها مستند إلى أصل أو رواية ضعيفة بحسب المسند ، أو الدلالة ، أو كلاهما ، أو اعتمد المجمعون على وجوه استحسانيّة التي أشبه بالقياس من الدليل الشرعي ، مع أنّ في بعض صور التعليق اختلاف كثير بينهم.

كما إذا كان التعليق على أمر محقّق الوقوع ، أو كان معلوم الحصول حال العقد ، فالأوّل كما إذا قال : وقفت هذه الدار على الفقراء ـ مثلا ـ إن طلعت الشمس غدا. والثاني كما إذا قال : وقفت هذه الدار على زيد ـ مثلا ـ إن كان عادلا ثمَّ على الفقراء ، وعدالة زيد معلوم عنده.

الشرط الرابع : إخراجه عن نفسه ، بمعنى أن لا يكون هو الموقوف عليه ولا‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

٢٥٧

داخلا فيه أو شريكا معه ، فبناء على هذا لا يصحّ الوقف على نفسه.

وقد ادّعى الإجماع على اعتبار هذا الشرط تارة ، وعدم إمكان الوقف على النفس أخرى ، لأنّ حقيقة الوقف هو إمّا تمليك المنافع للموقوف عليه وحده ، وإمّا مع العين ، ولا يمكن أن يملك الإنسان نفسه ، لأنّه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأجيب عن هذا الدليل بأنّ حقيقة الوقف ليس هو التمليك ، لا تمليك العين ولا تمليك المنفعة ، بل حقيقته تحبيس الأصل عن التقلّبات الاعتباريّة الواردة على المال ـ كبيعه وهبته وعتقه والصلح عليه وغيرهما ـ وتسبيل ثمرته ، وأيضا ليس التسبيل أيضا تمليك الثمرة والمنفعة ، بل إباحتها طلبا لمرضاة الله وفي سبيله ، فلا مانع عقلا من جعل نفسه موقوفا عليه أو شريكا معه.

وثالثة دلالة الروايات على عدم جواز الوقف على نفسه ، ولزوم إخراج الواقف الوقف عن نفسه :

منها : مكاتبة علي بن سليمان بن رشيد قال : كتبت إليه ـ يعني أبا الحسن عليه‌السلام ـ جعلت فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فإن لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك لي أن أقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين ، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي؟ فإني أتخوّف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : « فهمت كتابك في أمر ضياعك ، فليس لك أن تأكل منها من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ إن كان لك ورثة ، وبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك ، وإن تصدّقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه‌السلام » (١).

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٧ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل. ، ح ٣٣ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٨ ، ح ٥٥٧٠ ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح ٤ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٢٩ ، ح ٥٥٤ ، باب : الوقوف والصدقات ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٦ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٣ ، ح ١.

٢٥٨

ومنها : خبر طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام أنّ رجلا تصدّق بدار له وهو ساكن فيها ، فقال عليه‌السلام : « الحين أخرج منها » (١).

وفيه : أنّ هاتين الروايتين أجنبيّتان عمّا هو محلّ الكلام.

أما الأولى منهما : فالسؤال فيه عن جواز أكله عنها بعد وقفه على الفقراء المفروض في الرواية ، فأجاب عليه‌السلام بالعدم ، لأنّه صدقة ووقف على الفقراء ، وهو ليس من الموقوف عليهم ، فلا يجوز له أن يأكل منها ، وهذا المعنى غير مربوط بجواز الوقف على نفسه وعدمه.

وأمّا الثانية : فالأمر فيه أوضح ، لأنّ السؤال عن أنّ الرجل تصدّق بداره التي يسكن فيها ، وظاهر هذه العبارة أنّه تصدّق بها على غيره ، فهو ليس من الموقوف عليه ، فيجب خروجه عنها فورا ، ولذلك أمر عليه‌السلام به.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل في المسألة يدلّ على عدم جواز الوقف على النفس استقلالا أو تشريكا إلاّ الإجماع ، وما ذكرنا من عدم صحّة الوقف على نفسه مستقلا أو تشريكا على فرض تسليمه فيما إذا كان الواقف بنفسه موقوفا عليه مستقلا أو تشريكا معهم.

وأمّا لو وقف على عنوان ينطبق عليه أيضا ، كعنوان الفقراء والفقهاء ، فالظاهر صحّة مثل هذا الوقف ودخوله فيهم ، وجواز أخذه من ثمرة المال الموقوف وانتفاعه بها ، وليس من قبيل الوقف على النفس ، لأنّ الموقوف عليه هي الطبيعة الكلّية ، لا الأشخاص.

ولذلك لا يملكون الثمرة إلاّ بعد الأخذ وتطبيق الطبيعة ، وذلك من جهة أنّ أخذ‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٨ ، ح ٥٨٢ ، باب : الوقوف والصدقات ، ح ٢٩ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٠٣ ، ح ٣٩٤ ، باب : من تصدّق بمسكن على غيره. ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٧ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٣ ، ح ٤.

٢٥٩

العنوان متعلّقا وموضوعا للوقف من قبيل القضايا الحقيقيّة ، لا من قبيل القضايا الخارجيّة.

نعم لو كان أخذ العنوان موضوعا للوقف من قبيل القضايا الخارجيّة ، بأن تكون مشيرة إلى أشخاص معيّنين وموجودين في الخارج ، والواقف أحدهم ، كما إذا قال :

وقفت داري على الجالسين تحت هذه الخيمة ، أو الساكنين في هذه الدار الساعة وهو أحدهم ، فلا يجوز ، لأنّه وقف على النفس.

ثمَّ اعلم : أنّه بعد ما تمَّ الوقف واجدا لهذه الشروط الأربعة وسائر الشروط التي نذكرها إن شاء الله تعالى يكون لازما ، ليس للواقف الرجوع إليه.

والدليل على ذلك مضافا إلى قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) وقوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » الروايات الواردة في القبض ، وأنّه بعده يلزم ولا يجوز الرجوع إليه.

منها : ما تقدّم من ذيل خبر عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا يرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه الله » (٢).

والظاهر أنّ المراد من الصدقة في هذه الرواية هو الوقف ، ولا أقلّ من شمولها له بالإطلاق.

ومنها : غيرها ممّا تقدّم في مسألة اشتراط القبض في صحّة الوقف أو لزومه ، كصحيح صفوان (٣) ورواية العمري (٤) وعلى كلّ تقدير لا شكّ في أنّ الوقف من العقود اللازمة عندنا ، خلافا لأبي حنيفة (٥).

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) تقدم راجع ص ٢٤٤.

(٣) تقدم راجع ص ٢٤٢ ، هامش رقم (١).

(٤) تقدم راجع ص ٢٤٢ ، هامش رقم (٢).

(٥) السرخسي في « المبسوط » ج ١٢ ، ص ٢٧ ، كتاب الوقف ، الميداني في « اللباب في شرح الكتاب » ج ٢ ، ص ١٨٠ ، كتاب الوقف ، الكاساني في « بدائع الصّنائع » ج ٦ ، ص ٢١٨ ، كتاب الوقف والصدقة.

٢٦٠