القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

الظاهر هو الأوّل ، وذلك من جهة أنّ المناط الذي أوجب الخيار في تخلّف الشرط الصحيح أو تعذّره موجود ها هنا ، بناء على ما حقّقنا في وجه ثبوت الخيار عند تعذّر الشرط أو عدم العمل على طبقه وعدم الوفاء به ، لا بناء على ما استند إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره من الإجماع أو قاعدة الضرر في الشروط الصحيحة (١).

وذلك من جهة أنّ المناط في مجي‌ء الخيار عند التخلّف في الشروط الصحيحة هو أنّ دليل اللزوم لا يشمل مورد تخلّف الشرط أو تعذّره ، أو عدم الوفاء به ، لأنّ مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) الذي هو عمدة أدلّة لزوم العقود هو وجوب الوفاء بما التزم به والثبوت عند تعهّده ، فإذا لم يكن له التزام لا يبقى موضوع لوجوب الوفاء به ، فالعقد إن لم يكن شرط في ضمنه عبارة عن تعهّده والتزامه بما هو مضمون العقد ، فبمقتضى مفاد ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يجب عليه الوفاء بالتزامه بمضمون ذلك العقد والثبوت عنده وإبرامه ، وليس له حلّه وفسخه.

وأمّا إن كان مشروطا بشرط ، سواء أكان ذلك الشرط صحيحا أم فاسدا ، فالتزامه بمضمون ذلك العقد ليس مطلقا ، بل منوط بالعمل على طبق ذلك الشرط ووجوده في وعائه ، فإن تخلّف أو تعذّر ليس له التزام بالوفاء بذلك العقد في ظرف عدم وجود ذلك الشرط ، فموضوع وجوب الوفاء ودليل اللزوم يذهب من البين. وهذا هو المراد من عدم شمول دليل اللزوم لمورد تخلّف الشرط أو تعذّره.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مناط ثبوت الخيار في باب الشروط الصحيحة هو إناطة الالتزام بالوفاء بمضمون العقد بوجود ما اشترط ، فإذا تعذّر أو تخلّف المشروط عليه عن الوفاء به لا التزام من طرف المشروط له ، وعدم الوفاء قد يكون من جهة تعذّره عقلا وقد يكون من جهة فساده شرعا ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا.

__________________

(١) « كتاب المكاسب » ص ٢٨٥.

(٢) المائدة (٥) : ١.

٢٠١

وخلاصة الكلام : أنّ العقد المشروط بالشرط الفاسد إن لم يوجب ذلك الشرط اختلالا في أركان العقد يكون صحيحا ، غاية الأمر مع ثبوت الخيار. هذا هو القول الأوّل ، أي القول بعدم الإفساد.

وأمّا القول الآخر ـ أي القول بالإفساد ـ فاستدلّوا له بوجوه :

الأوّل : أنّ فساد الشرط يوجب سقوطه عن الاعتبار ، ولا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان حراما ، المشهور أنّ له قسطا من الثمن ، فبعد سقوطه يكون عوض المثمن مجهولا ، ولا يعلم أنّه أيّ مقدار من الثمن بإزاء المثمن ، فإذا صار عوض المثمن مجهولا تكون المعاملة باطلة ، لأنّه من شرائط صحّة المعاملة معلوميّة العوضين ، وإلاّ تكون غرريّة باطلة.

وفيه أوّلا : منع وقوع شي‌ء من الثمن بإزاء الشرط ، بل المبادلة والمعاوضة تقع بين الثمن ونفس المثمن في البيع مثلا. نعم الشرط أو الوصف يوجبان ازدياد ماليّة المثمن في البيع ـ مثلا ـ بدون أن يقسط عليهما وعلى المبيع مثلا ، وهذا أمر وجدانيّ ارتكازيّ للعرف والعقلاء في معاملاتهم في أسواقهم ، فيصفون سلعتهم بأوصاف مرغبة ، وربما يذكرون تلك الأوصاف بصورة الشرط لجلب المشتري ورغبته ، ولكن المبادلة تقع بين نفس المثمن وذلك العوض ، وليس الوصف والشرط مثل الجزء كي يقع شي‌ء من الثمن في مقابلهما.

نعم إجزاء المبيع كلّ واحد منها يقع مقابل جزء من الثمن ، خصوصا إذا كان متساوي الأجزاء من حيث القيمة كالحنطة والشعير ، وهذا مناط المثليّة في باب تعيين المثلي والقيمي ، ولكن الشرط أو الوصف ليسا كذلك ، ولا يوجبان إلاّ ازدياد قيمة نفس العوض.

نعم بعض الشروط ربما يكون كذلك ، أي له قسط من الثمن عند العرف والعقلاء ،

٢٠٢

كما إذا كان الشرط عملا يبذل بإذائه المال ، كخياطة ثوبه مثلا ، أو عمارة داره وأمثال ذلك ، ولكن عند التدقيق أيضا لم يقع شي‌ء من الثمن في مقابله في مقام الإنشاء ، وإن كان في مقام اللبّ للمشروط له نظر إلى ذلك الشرط في مقام تعيين الثمن قلّة وكثرة.

ولكن في مقام إنشاء المبادلة والمعاوضة لم تنشأ المبادلة إلاّ بين نفس العوضين ، والشروط خارجة عن دائرة المبادلة ، ففي عالم الإنشاء عوض تمام الثمن ـ مثلا ـ هو تمام المبيع ، وإن كان في مقام اللبّ يبذل مقدارا من الثمن بإزاء الشرط ، ولكن لا اعتبار في باب المعاوضات بأنظار المتعاملين ، بل المدار على إنشائهما ، وهو المتّبع.

نعم حيث أنّ التزامه بهذه المبادلة ـ أي بذله تمام الثمن بإزاء المبيع ـ كان منوطا بوجود ذلك الشرط ، فلو لم يوجد بأيّ سبب كان لا التزام له ، فلا لزوم ويكون له الخيار ، ولذلك قلنا في باب تخلّف الشروط الصحيحة ليس له أخذ الأرش ، بل له الخيار فقط.

وثانيا : على فرض تسليم وقوع مقدار من الثمن مقابل الشرط وبإزائه مطلقا ، أو في خصوص ما إذا كان الشرط ممّا يبذل بإزائه المال مستقلا بتعذّره أو عدم وفاء المشروط عليه بما التزم ، لا يصير العوض مجهولا ، إذ العرف وأهل الخبرة يعيّنون مقدار المقابل للشرط وما هو بإزاء أصل المبيع مثلا ، فلا يبقى جهالة في البين.

وهذا الإشكال يأتي في الشروط الصحيحة إذا تعذّرت أو لم يف المشروط بها ، وأيضا يأتي في باب تبعّض الصفقة ، فيلزم القول ببطلان المعاملة في الجميع ، ونفس المستشكل لا يقول به هناك.

والجواب في الجميع واحد ، وهو أوّلا : عدم وقوع شي‌ء من الثمن بإزاء الشرط. وثانيا على تقدير وقوعه ـ كما أنّه يقع قطعا مقدار منه مقابل الجزء الذي لا يملك أو الذي لا يملكه ، كما في باب تبعّض الصفقة ـ فبتعيين أهل الخبرة ترتفع الجهالة ، ومثل هذه الجهالة لا تكون غررا ، ولا تضرّ بصحّة المعاملة ، ولذلك لم يقولوا ببطلان المعاملة‌

٢٠٣

في باب تبعّض الصفقة مع وقوع مقدار من الثمن بإزاء الجزء الفائت قطعا.

الثاني : أنّ رضاء المشروط له بهذا العقد والمعاملة منوط بوجود هذا الشرط ووفاء المشروط عليه به ، وأمّا إذا لم يكن الوفاء لازما وواجبا ـ بل لم يكن جائزا فيما إذا كان الفساد لحرمته ـ فلا رضاء له ، ومن المعلوم أنّ المعاوضة والتجارة بدون الرضاء لا أثر لها ، بل الرضاء بمضمون العقد لازم في تأثيره ، ولو كان في غير باب المعاوضات كالنكاح.

وأجيب عنه حلاّ ونقضا :

أمّا النقض : فبالشروط الفاسدة في عقد النكاح ، فإنّه قد استفاضت الأخبار والروايات الصحيحة على فساد الشرط وصحّة العقد (١) ، وقد ذكرنا جملة من تلك الأخبار وتقدّمت ، ولا فرق فيما ذكرنا بين الشروط الفاسدة الراجعة إلى المهر ، أو إلى نفس مضمون العقد وحصول علاقة الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّه كما لا تحصل المبادلة والمعاوضة بينهما بدون رضاء الطرفين ، كذلك لا تحصل علاقة الزوجيّة بينهما بدون رضائهما.

نعم هناك بعض الشروط في باب النكاح يوجب فساد العقد وبطلانه ، كما إذا شرطت الزوجة عدم جميع الاستمتاعات ، فكون هذا الشرط وأمثاله موجبا لبطلان النكاح ليس لخصوصيّة في النكاح ، بل لأجل الاختلال في أركان العقد ، أو التناقض بين مفاد الشرط ومفاد العقد ولو بالالتزام ، كما في المثال المذكور.

وهذا يجري في جميع العقود ، فما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره في هذا المقام من أنّ المراد بالشروط الفاسدة في مورد النقض هي الشروط الراجعة إلى المهر لا إلى أصل عقد النكاح ، لا يخلو عن إشكال ، لما ذكرنا من ورود الأخبار الكثيرة في فساد بعض الشروط الراجعة إلى أصل النكاح ، مع صحّة أصل ذلك العقد.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٩٥ ـ ١٩٩.

٢٠٤

وأيضا النقض بصورة تعذّر الشرط ، أو عدم وفاء المشروط عليه وعدم إمكان إجباره ، وكذلك بصورة تخلّف الوصف ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان وفساد العقد في تلك الموارد.

نعم يقولون بالخيار للمشروط له ، وفي تخلّف الوصف أيضا ، كما أنّنا نقول ها هنا أيضا ، وكذلك النقض بصورة تبعّض الصفقة ، فإنّهم لا يقولون بالبطلان ، مع أنّ هذا الإشكال ـ أي إناطة الرضا بوجود الشرط ـ هناك أقوى ، من جهة أنّه في باب الشروط غالبا الغرض الأصلي يتعلّق بمبادلة نفس العوضين ، أو حصول علاقة الزوجيّة بين الطرفين ، والشروط الواقعة في ضمن تلك العقود مقاصد فرعيّة ، بخلاف باب تبعّض الصفقة ، فإنّ المقصود الأصلي الأوّلي هو وقوع المبادلة بين تمام كلّ واحد من العوضين مع تمام العوض الآخر ، فأمر إناطة الرضاء بمجموع كلّ واحد من العوضين أهمّ من إناطة الرضا بمضمون العقد بوجود الشرط ، فكلّ ما يجيبون عن هذا الإشكال في تلك الموارد ، فليكن الجواب في هذا المقام.

وأمّا الحلّ : فقد ذكرنا في مسألة تعذّر الشرط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب (١) ، ولا بأس بالإشارة إليه ها هنا أيضا إجمالا.

فنقول : إنّ المبادلة والمعاوضة وقعت بين العوضين مع التراضي ، أي بدون إكراه ولا إجبار ، والمراد في باب المعاوضة والتجارة من التراضي هو هذا المعنى ، لا طيب النفس ، وإلاّ لو كان المراد من التراضي هو هذا المعنى الأخير ، فلا بدّ وأن يقال ببطلان بيع المضطرّ إلى البيع لغرض عقلائيّ مع كمال كراهته لهذا البيع. مثلا لو اضطرّ إلى بيع داره التي يسكنها لأجل أداء دينه ، أو لأجل حاجة أخرى ، فهو غير راض بهذا البيع ، بل ربما يبكي ويبيع لأجل تلك الضرورة ، حيث لا حيلة له في رفع حاجته إلاّ بهذا‌

__________________

(١) راجع ، ج ٣ ، ص ٣٠٤.

٢٠٥

الأمر ، مع أنّ صحّة بيع المضطرّ لرفع حاجته من المسلّمات.

فمن هذا يستكشف أنّ التراضي المعتبر في أبواب المعاملات والتجارات هو الاختيار المقابل للإكراه والإجبار ، بمعنى أنّه ليس هناك من يكرهه أو يجبره على المعاملة. وكذلك في باب النكاح المراد من رضاء الطرفين ليس طيب نفسيهما ، بل ربما يكون العقد الواقع بينهما لدواع أخر ، من إرضاء أبويهما ، أو شي‌ء آخر مع كمال كراهتهما ، أو كراهة أحدهما.

فإذا كان الأمر كذلك ، ففي مورد تخلّف الشرط أو الوصف تارة يكون الشرط المتخلّف أو وصفه من قبيل العنوان للموصوف والمشروط به ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط يكون من قبيل الصورة النوعيّة للموصوف والمشروط به ولو عند العرف ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة ليسا كذلك ، بمعنى أنّ ذلك الوصف أو الشرط ليسا إلاّ من قبيل الأعراض الضمنيّة للحقيقة النوعيّة المشتركة بين واجد الوصف أو الشرط ، وبين فاقدهما.

وذلك كالجارية الموصوفة أو المشروطة بكونها روميّة ، وهي حبشيّة ، فالجارية الروميّة والحبشيّة وإن كانتا بحسب الحقيقة النوعيّة واحدة ، ولكن عند العرف في مقام المعاملة حقيقتان مختلفتان.

وأخرى : ليسا كذلك ، بل يكون من العوارض والطواري التي لا توجب اختلاف حقيقة الواجد والفاقد حتّى عند العرف.

فإن كان من قبيل الأوّل ، فالمعاملة باطلة قطعا ، لأنّه لم يقع التراضي المعاملي ـ أي إنشاء النقل والانتقال ـ على هذا الفاقد للوصف أو الشرط ، وذلك لما قلنا من أنّ المبيع الموجود في هذه الصورة ـ مثلا ـ غير ما وقع عليه النقل والانتقال حقيقة ، فما أنشأ نقله ليس بموجود ، بل الموجود حقيقة أخرى ، ولو عند العرف الذي نظرهم هو المتّبع في أبواب المعاملات ، وما هو الموجود لم يقع عليه نقل وإنشاء.

٢٠٦

وأمّا إن كان من قبيل الثاني ، فإنشاء النقل والانتقال وقع على هذا الموجود بلا إكراه ولا إجبار ، فهذه المعاملة وقعت عن تراض معاملي ، ولا وجه لبطلانها.

نعم التزامه بالوفاء بهذه المعاملة منوط بوجود ذلك الوصف أو الشرط ، فعند تخلّفهما لا التزام له ، فلا يشملها دليل اللزوم.

وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بتعدّد المطلوب ، بأن يقال : إنّ كون طرف المبادلة هو الواجد للوصف أو الواجد للشرط هو مطلوب أوّلي ، وكون الفاقد لهما طرفا للمعاملة مطلوب آخر ، غاية الأمر أنّه مطلوب ثانوي ، بمعنى أنّه على تقدير فقد الوصف أو الشرط أيضا مطلوب ، لكن في طول الأوّل ، لا في عرضه.

فبناء على هذا ، العقد ينحلّ إلى عقدين ، وكلاهما صادران عن تراض بينهما ، حتّى ولو كان المراد من التراضي هو طيب النفس ، أي الحالة النفسانيّة التي يعبّر عنها بالرضاء الباطني ، فكأنّه في الدرجة الأولى يكون المشروط له رضاءه بهذه المعاملة مع وجود الشرط وعدم تخلّفه ، وكذلك الأمر في الوصف. وفي الدرجة الثانية يكون أيضا راضيا حتّى مع فقد الوصف أو الشرط.

وقد أفاد هذا المجيب أنّ المشخّص لذلك ـ أي أنّه من قبيل وحدة المطلوب كي تكون المعاملة فاسدة مع فقدهما ، أو من قبيل تعدّد المطلوب كي تكون صحيحة ـ هو العرف ، ثمَّ قال : هذا باب مطرد في العبادات والمعاملات والأوقاف والنذور ، ثمَّ استظهر اتّفاقهم على أنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود من قبيل تعدّد المطلوب ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ الشرط الخارج عن غرض العقلاء فاسد ، ولا يوجب فساده فساد العقد.

وهذا الجواب أفاده بعض الأجلّة من تلاميذ شيخنا الأعظم قدس‌سره.

وفي هذا الجواب نظر من وجوه عديدة :

الأوّل : أنّ العرف لا طريق لهم إلى تشخيص وحدة المطلوب أو تعدّده ، لاختلاف الناس بحسب الأغراض والموارد ، فربّ شخص يريد مبادلة ماله بمال آخر مشروطا‌

٢٠٧

بأمر ، وفي صورة عدم وجود ذلك الشرط لا يريد المبادلة أصلا ، وشخص آخر يريد مع وجود ذلك الشرط وعدمه ، غاية الأمر مع وجود الشرط مطلوب أوّلي ، وفي صورة عدمه مطلوب ثانويّ.

وكذلك الاختلاف بحسب الموارد ، حتّى بالنسبة إلى شخص واحد ، فذلك الشخص الواحد في مورد تكون مبادلته بالنسبة إلى ذلك الشرط من قبيل تعدّد المطلوب ، وفي مورد آخر تكون بنحو وحدة المطلوب ، فلا يمكن تعيين ضابط كلّي لتشخيص أنّ المعاملة المشروطة بشرط هل تكون بنحو وحدة المطلوب بالنسبة إلى ذلك الشرط ، كي يكون تخلّف ذلك الشرط موجبا لفسادها ، أو بنحو تعدّد المطلوب كي لا يكون موجبا لفسادها.

الثاني : أنّ الأغراض والدواعي في أبواب المعاملات والعقود ما لم تدخل في مرحلة الإنشاء ، لا يترتّب عليها أثر من الصحّة والفساد ، بل المدار فيهما على الإنشاء.

نعم الإنشاء بلا قصد أيضا لا أثر له ، بل يكون صرف لقلقة لسان ، فصرف أنّ مطلوبه واحد أو متعدّد لا أثر له ما لم يقع على طبقه الإنشاء.

فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ العقد المنشأ ، فإن كان المنشأ مقيّدا بالوصف أو الشرط ، فالنقل والانتقال تعلّق بالمقيّد ، فمطلوبيّة نقل الذات بلا قيد لا أثر له ، لأنّه لم يقع تحت الإنشاء.

فالعمدة في موارد تخلّف الوصف والشرط علاج هذا الإشكال ، وهو لا يرتفع بتعدّد المطلوب ، لما قلنا من أنّه لا أثر للمطلوبيّة ما لم يقع ذلك المطلوب تحت الإنشاء ، والتراضي أيضا لا بدّ وأن يكون بما أنشأ. وإلاّ فصرف الرضاء بالمبادلة بدون الإنشاء ليس تجارة.

فالعقد المتعلّق بعوض موصوف كما أنّه إذا قال : بعتك هذا العبد الكاتب ، أو المشروط كما إذا قال في نفس المثال : بشرط أن يكون كاتبا ، تعلّق بالمقيّد ، وتحقّق‌

٢٠٨

الرضاء المعاملي أيضا به ، فلو كان هناك له رضاء آخر في الرتبة الثانية بفاقد القيد أيضا ، لا يصير بصرف هذا الرضاء الباطني ـ الذي لم يقع تحت الإنشاء ـ تجارة ومعاملة من بيع أو غيره ، ولا يمكن أن يقال بالنسبة إلى فاقد القيد : أنّه بيع صحيح بواسطة تعدّد المطلوب.

ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال إلاّ بما قلنا ، من أنّ إنشاء المبادلة والمعاوضة تعلّق بنفس هذه العين الخارجيّة ، والتزام الطرف بالشرط أمر آخر غير مربوط بنقل هذه العين ، بل هو التزام آخر في ضمن التزامه بهذا النقل ، فالتزامه بنقل هذه العين منوط بالتزام الطرف بالشرط أو الوصف ، لا أصل النقل.

نعم لو كان الشرط أو الوصف عنوانا ، ومن قبيل الصورة النوعيّة بالنسبة إلى ما وقع عليه إنشاء النقل ، فتخلّفه يوجب فساد النقل وبطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم يقع عليه الإنشاء ، وما وقع عليه الإنشاء ـ أي العين الخارجيّة ـ لم يقصد. ولا يمكن أن يقال : إنّ ما هو من قبيل الصورة النوعيّة للشي‌ء يكون من الدواعي والأغراض الخارجة عن حقيقة الشي‌ء.

الثالث : ممّا استدلّوا على فساد العقد بفساد الشرط طائفة من الأخبار.

منها : رواية عبد الملك بن عتبة ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل ابتاع منه طعاما ، أو ابتاع منه متاعا على أن ليس منه على وضيعة هل يستقيم هذا؟ وكيف يستقيم وجه ذلك؟ قال عليه‌السلام : « لا ينبغي » (١) فقالوا إنّ المراد من قوله عليه‌السلام : « لا ينبغي » هو أنّ مثل هذا البيع المشتمل على هذا الشرط الفاسد ـ أي كون الوضيعة والخسارة في البيع الثاني على البائع الأوّل ـ ممّا لا ينبغي صدوره من المؤمنين ، فلا بدّ وأن يكون البيع بواسطة ذلك الشرط الفاسد فاسدا كي يقول عليه‌السلام : « لا ينبغي » وإلاّ لو كان بيعا صحيحا لا وجه لنهيه.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٩٧ ، رقم (٣).

٢٠٩

وفيه : أنّه من الممكن أن يكون النهي عن هذه المعاملة مع صحّتها لحزازة فيها كسائر المعاملات المكروهة ، ولا إشكال في كون معاملة صحيحة يترتّب عليها الأثر ، ومع ذلك تكون مكروهة. ونظائرها في المعاملات كثيرة ، فهذه الرواية لا تدلّ على فساد الشرط ، فضلا عن فساد العقد.

وقد تقدّم أنّ القائلين بعدم كون الشرط الفاسد مفسدا للعقد أيضا تمسّكوا بهذه الرواية. والحقّ أنّها لا تدلّ على كلّ واحد من الطرفين ، كما بيّنّاه وشرحناه.

ومنها : ما رواه الحسين ابن منذر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في بيع العينة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة ، فاشترى له المتاع مرابحة ، ثمَّ أبيعه إيّاه ، ثمَّ أشتريه منه مكاني؟ قال : « إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر ، فلا بأس » فقلت : إنّ أهل المسجد يزعمون أنّ هذا فاسد ، ويقولون إن جاء به بعد أشهر صلح؟ قال : « إنّما هذا تقديم وتأخير فلا بأس » (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية ـ على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد ـ هو أنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة أنّه إن لم يكن بالخيار وكان ملزما بأن يبيع على البائع ، ففي هذه المعاملة بأس ، أي فاسد ، ومنشأ فسادها هو اشتراط البائع على المشتري أن يبيعه بعد اشترائه منه ، وهذا الشرط فاسد ، لما تقدّم في شرائط صحّة الشروط في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » (٢) ، فصار سببا لفساد العقد.

وبعبارة أخرى : البيّاع المذكورون في هذه الرواية ثلاثة : البائع الأوّل هو الذي يبيع المتاع مرابحة من هذا السائل عن الإمام قدس‌سره ، ولكن فرض هذا البائع أجنبيّ عن مسألتنا ، وإنّما فرض لأجل أنّ الجنس لم يكن عنده ، ففي الحقيقة البائع اثنان ، وظاهر‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٠٢ ، باب العينة ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٥١ ، ح ٢٢٣ ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، ح ٢٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٧٠ ، أبواب أحكام العقود ، باب ٥ ، ح ٤.

(٢) راجع : ج ٣ ، ص ٢٥٧.

٢١٠

الرواية أنّه حسين بن المنذر. والبائع الثاني هو نفس هذا السائل الذي اشتراه مرابحة عن البائع الأوّل. والبائع الثالث هو ذلك الرجل الذي يطلب العينة.

ومفاد الرواية ما هو ظاهرها هو أنّ البائع الثالث كان ملزما بالبيع من البائع الثاني ، بواسطة شرط البائع الثاني عليه أن يبيعه منه ، فهذا البيع الثاني باطل وفاسد لفساد شرطه. فبناء على هذا تدلّ الرواية على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ، وبيع العينة عبارة : عن بيع مال نسيئة بقيمة أزيد ممّا يباع نقدا ، فيكون الزائد مقابل ذلك الأجل الذي عينه في بيعه نسيئة ، ثمَّ يشتريه منه نقدا بقيمة أقلّ ممّا باعه ، وفي الواقع هذا القسم من البيع للفرار عن الرباء مع تحصيل ما هو نتيجتها من أخذ الزائد على ما يعطي بعد مضيّ مدّة.

ولكن يمكن الجواب عن دلالة هذه الرواية ـ على فساد العقد بواسطة فساد الشرط ـ بالبيان الذي تقدّم ، بأن يقال : بأنّ مفهوم القضيّة الشرطيّة وإن كان بطلان البيع الثاني إن كان البائع ألزم المشتري بالشرط أن يبيعه ثانيا منه ، فيكون سبب بطلانه وفساده هو فساد ذلك الشرط.

ولكن يمكن أن يكون جهة بطلانه أنّ هذا الشرط مستلزم للمحال ، أي : الدور ، كما ذكره العلاّمة قدس‌سره (١) فليس جهة الفساد فساد الشرط ، كما توهّمه المستدلّ ، بل الجهة أنّ البيع الثاني من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية باطل من جهة استلزامه للدور.

ولكن هذا الجواب غير تامّ ، وقد ذكرنا في شرائط صحّة الشروط في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » في الشرط السابع أنّ هذا الشرط لا يستلزم منه محال ، فلا يمكن حمل البطلان في الرواية على هذا المعنى ، وإن شئت فراجع هناك.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عن هذا الدليل ـ بعد أن قال : في هذا الاستدلال تكلّف واضح ـ بأنّ المراد من القضيّة الشرطيّة هو أن يكون البيع الأوّل ـ أي : البيع الثاني من‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٩٠.

٢١١

البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية ـ جدّيا لا صوريّا ومقدّمة للبيع الثاني ، أي البيع الثالث من البيوع الثلاثة المذكورة في الرواية.

ولا شكّ في أنّ البيع الأوّل إن كان صوريّا غير جدّي ، فلم يصير الثاني ـ أي الذي طلب العينة ـ مالكا ، فبيعه من البائع الأوّل باطل وفيه بأس ، لأنّه « لا بيع إلاّ في ملك » (١) فلا يكون لها ربط بمحلّ كلامنا ، أي كون الشرط الفاسد مفسدا.

ولكن أنت خبير بأنّ ما ذكره قدس‌سره أكثر تكلّفا من الاستدلال ، لأنّ ظاهر الرواية تعليق عدم البأس على اختيار البائع والمشتري في البيع والشراء ، وعدم كونهما ملزمين بواسطة التزامهما ، أو إلزام الغير إيّاهما على البيع والشراء شرعا ، ولا شكّ في أنّ التزامهما أو إلزامهما شرعا بالأمرين لا بدّ وأن يكون بواسطة الشرط ، فعدم البأس معلّق على عدم الشرط.

وأمّا في صورة وجود ذلك الشرط الفاسد ففيه بأس ، ومنشأ البأس ليس إلاّ فساد الشرط.

وأجيب : أيضا عن ذلك الدليل : بأنّ كون البيع فيه بأسا لا يدلّ على فساده ، إذ البأس يصدق مع الحرمة التكليفيّة وإن لم يكن فساد وضعا في البين.

وفيه : أنّ الحرمة وإن لم تكن ملازمة مع الفساد ، إلاّ أنّه لا وجه للحرمة التكليفيّة بدون الفساد ، وذلك من جهة أنّ الحرمة التكليفيّة لا بدّ وأن يتعلّق بفعل اختياري يكون فيه مفسدة ملزمة ، وأيّ مفسدة يمكن أن يكون في البيع الثاني كي يكون حراما.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم ، أيحلّ؟ قال : « إذا لم يشترط‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٢٤٧ ، ح ١٦ ، نحوه ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٥٢ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٢ ، ح ١ ، نحوه ، « المستدرك » للحاكم ، ج ٢ ، ص ١٧ ، نحوه.

٢١٢

ورضيا به فلا بأس » (١).

ورواه عليّ بن جعفر في كتابه ، إلاّ أنّه قال : بعشرة دراهم إلى أجل ثمَّ اشتراه بخمسة دراهم بنقد (٢).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مثل الرواية السابقة ، بل هي أوضح دلالة منها ، لأنّها صريحة مفهوما في أنّ البائع الأوّل إذا اشترط على المشتري أن يبيعه ما اشتراه ، ففي هذه المعاملة بأس ، وحيث علّق عليه‌السلام عدم البأس على عدم الاشتراط فيكون الاشتراط سببا للبأس ، ومعنى هذا هو فساد العقد لفساد الشرط.

وقد أجاب شيخنا الأعظم قدس‌سره عن هاتين الروايتين بأنّ غاية مدلوليهما فساد البيع المشروط فيه بيعه عليه ثانيا ، وهو ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن قال بعدم فساد العقد بفساد الشرط كالشيخ قدس‌سره في المبسوط ، فلا يتعدّى منه إلى غيره (٣).

وفيه : أنّ ما ذكره قدس‌سره لا بأس به إن لم يستظهر من الروايتين أنّ علّة فساد ذلك العقد هو فساد الشرط ، وإلاّ فيكون حكمه عليه‌السلام عامّا يشمل كلّ شرط فاسد ، ولا يقف على مورده.

ولا شكّ في أنّ ظاهر التعليق في القضيّة الشرطيّة في الروايتين هو علّيّة فساد الشرط لفساد العقد ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهرها علّيّة هذا الشرط الفاسد لفساد العقد ، لا كلّ شرط فاسد ، فافهم.

وأمّا الذي أفاده أوّلا من أنّ فساد البيع الثاني لعلّه من جهة عدم الرضا وعدم طيب النفس بواسطة التزامه في خارج العقد ، فهذا كلام عجيب ، من جهة أنّ في جميع الشروط يسلب اختيار المشروط عليه شرعا بالنسبة إلى ما اشترط عليه ، سواء أكان‌

__________________

(١) « قرب الإسناد » ص ٢٦٧ ، ح ١٠٦٢ ، باب ما يحل من البيوع ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٧١ ، أحكام العقود ، باب ٥ ، ح ٦.

(٢) « مسائل علي بن جعفر » ص ١٢٧ ، ح ١٠٠.

(٣) « كتاب المكاسب » ص ٢٨٩ ، « المبسوط » ج ٢ ، ص ١٤٨ ـ ١٤٩.

٢١٣

الاشتراط في ضمن العقد ، أو في خارجه.

ولازم هذا الكلام بطلان أيّ معاملة أو معاوضة اشترط عليه ، بل بطلان أيّ معاملة نذر أن يوجدها ، لأنّه ملزم في جميع ذلك بإيجادها شرعا.

والسرّ في عدم بطلان المذكورات أنّ الإلزام الآتي من قبل التزامه باختياره من قبل شرط أو نذر لا ينافي الرضا المعاملي ، ولا فرق في عدم تنافي الإلزام الآتي ـ من قبل التزامه مع الرضا المعاملي ـ بين أن يكون هذا الإلزام إلزاما واقعيّا ومن قبل الشارع ، أو كان إلزاما تخيليّا وهميّا.

فلو باع أو أوقع إحدى المعاملات الأخر بتوهّم أنّه نذر أو شرط ، وفي الواقع لم ينذر ولم يكن شرط في البين ، فهذه المعاملة صحيحة وإن لم يكن له الرضا الباطني وطيب النفس ، بل إنّما أوجدها باعتقاد أنّه واجب عليه من باب النذر أو الشرط.

فالأحسن أن يقال : إنّ هاتين الروايتين وإن كان لهما ظهور ما في علّيّة فساد مطلق الشرط للعقد الذي وقع هذا الشرط في ضمنه ، ولكن لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور وحمله على علّيّة خصوص هذا الشرط ـ أي شرط أن يبيع المشتري ثانيا ـ على البائع لتلك الأدلّة القطعيّة التي تقدّمت ، وكانت تدلّ على أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد.

خصوصا قضيّة بريرة التي أعتقها عائشة ، وكان بائعوها شرطوا عليها أن يكون ولائها لهم ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصحّة البيع وبطلان الشرط.

ولا يبعد ادّعاء القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما رواه الفريقان من غير نكير لأحد من الفريقين (١). ودلالته أيضا جليّة يشبه أن يكون نصّا ، مع ما في سند الروايتين من عدم الوثوق مع عدم جابر في البين ، والله الهادي إلى الصواب.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٩٥ ، رقم (١).

٢١٤

ها هنا أمور يجب أن يذكر‌

[ الأمر ] الأوّل : لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد ، فهل على القول بأنّه مفسد يصحّ العقد ، لأنّه بعد سقوطه بإسقاط المشروط له ليس شي‌ء في البين كي يكون مفسدا ، أم لا يصح؟ لأنّ الشي‌ء بعد ما وجد لا ينقلب عمّا هو عليه ، والمفروض أنّه وجد باطلا؟

أمّا أنّه قابل للإسقاط فقد تقدّم الكلام فيه في الجزء الثالث من هذا الكتاب في شرح قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » (١) وقد بيّنّا هناك أنّ ظاهر أدلّة وجوب الوفاء بالشروط ـ والثبوت والوقوف عندها ـ هو أنّ الشرط يحدث حقّا للمشروط له على المشروط عليه ، ومن هذه الجهة قابل للإسقاط ، وذلك من جهة القابليّة للإسقاط خاصّة شاملة للحقّ ، ولذلك عرفوا الحقّ بهذا الأمر.

ولكن هذا الكلام في الشروط الصحيحة ، ومحلّ بحثنا ليس فيها ، بل كلامنا فعلا في الشروط الفاسدة ، وتلك الشروط لا توجب ثبوت حقّ للمشروط له على المشروط عليه ، فالإسقاط لا معنى له ، إذ ليس شي‌ء في البين كي يسقطه.

فالمراد بالإسقاط ها هنا ليس بمعناه المعروف ، بل المراد به رضا المشروط له بالعقد والمعاملة بدون ذلك الشرط الفاسد ، وإذا كان الأمر كذلك ، فربما يقال : لو كان جهة بطلان العقد بالشرط الفاسد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد ـ لأنّ الشرط الفاسد لا يجب الوفاء به ، بل لا يجوز إذا كان محرّما ، فلو كان العقد مع ذلك صحيحا يجب الوفاء بالعقد المجرّد عن ذلك الشرط ، مع أنّ رضائه كان بالعقد المقيّد بذلك الشرط ، فبعد أن أسقط الشرط ـ يكون ذلك الإسقاط رضا بالعقد ، فيرتفع المانع من البين ، فيكون العقد صحيحا.

__________________

(١) راجع : ج ٣ ، ص ٣٠٣.

٢١٥

ولكن أنت خبير بأنّ العقد تعلّق بالمقيّد ، والرضاء المتجدّد تعلّق بالعقد المجرّد ، فما تعلّق به العقد ـ أي المقيّد ـ لم يتعلّق به الرضا ، وما تعلّق به الرضا المتجدّد ـ أي المجرّد ـ لم يتعلّق به العقد ، والمعتبر هو أن يكون ما تعلّق به العقد يكون متعلّقا للرضا كي يصدق عليه أنّه تجارة عن تراض.

وأمّا القول بأنّ العقد تعلّق بالذات وبالقيد أيضا ـ فهاهنا تعلّقان : تعلّق بالذات ، وتعلّق آخر بالقيد ، فلو قال : اشتريت منك هذا العنب بشرط أن تعصره لي خمرا ، والتزم الطرف بذلك ، فكان ها هنا تعهّدان من البائع : أحدهما نقل العنب إلى ذلك المشتري ، ثانيهما أن يعصره خمرا ، والمشتري قبل كذلك ورضى به ، فلما منع الشارع عن العمل بأحد التعهّدين ـ والممتنع الشرعي كالعقلي ـ بقي تعهّد نقل العنب فقط ، ولكن المشتري لم يرض بهذا التعهّد وحده ، أي بانتقال العنب إليه وحده من دون أن يعصره البائع خمرا ، فيبقى العقد المتعلّق بنقل العنب وحده ـ أي : تعهّده بذلك ـ موقوفا على رضا المشتري بذلك. والظاهر أنّ مراد العلاّمة قدس‌سره من الإيقاف هو هذا المعنى ـ فهو رجوع من القول بالإفساد إلى القول بعدمه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، وهو المختار.

هذا كلّه لو كان مدرك القائلين بالإفساد هو عدم الرضا بالعقد المجرّد عن الشرط ، وأمّا لو كان مدركهم جهالة عوض المبيع ، لأنّ للشرط قسط من الثمن ، وقد تقدّم تفصيل ذلك ، أو كان مدركهم الروايات ، فالرضا المتجدّد وإن كان يرتفع به جهالة الثمن ، لأنّه يرضى بكون تمام الثمن في مقابل نفس المبيع ـ مثلا ـ بدون ذلك الشرط ، ولكن صرف هذا لا يصدق عليه التجارة ، ولا بدّ من وقوع العقد عليه ، وقد عرفت عدم وقوعه عليه.

وأمّا بالنسبة إلى مفاد الروايات على تقدير دلالتها على الإفساد وصحّة سندها ، فمفادها أنّ ذلك العقد الذي وقع من حيث اشتماله على الشرط الفاسد باطل ، فكأنّه لم يكن ولم يوجد. وقلنا : إنّ صرف رضائه بالانتقال المجرّد عن الشرط لا يجعله معاملة وتجارة عن تراض بدون عقد جديد ، لأنّ العقد الأوّل بناء على هذا انعدم في عالم‌

٢١٦

التشريع ، والشارع في عالم اعتباره لا يرى له وجودا.

والمفروض أنّه ليس عقد جديد في البين ، فلا وجه للقول بصحّة تلك المعاملة ، فيكون العنب ـ بناء على القول بالإفساد في المثال المذكور ـ في يد المشتري ـ لو قبضه بعنوان أنّه ملكه بذلك العقد ، حتّى مع رضا الطرفين ـ من المقبوض بالعقد الفاسد الذي يجري مجرى الغصب عند المحصّلين بقول ابن إدريس قدس‌سره (١).

الأمر الثاني : لو ذكر الشرط الفاسد قبل العقد ولم يذكره في متنه ، فهل يكون مفسدا ـ بناء على القول بالإفساد ـ أم لا؟

فيه وجهان ، بل قولان : الإفساد مطلقا ، وعدمه أيضا كذلك.

وحكى عن الشهيد الثاني قدس‌سره في المسالك (٢) ـ التفصيل بين ما لو علما أنّ الشرط المتقدّم على العقد لا يؤثّر فلا يفسد ، وبين ما لو لم يعلما ذلك فيكون موجبا للفساد.

وذلك من جهة أنّه مع العلم بعدم تأثير الشرط المتقدّم على العقد لم يقدّما على ثبوت ذلك الشرط والوفاء به ، بخلاف ما إذا كان جاهلين ، فبنائهما على العمل بذلك الشرط ولزوم الوفاء به ، فهما أقدما على هذا الشرط الفاسد ، فيكون مفسدا في هذه الصورة.

إذا عرفت هذا فنقول : أمّا القول بالإفساد مطلقا ، فمبنيّ على أنّ الشرط الخارج عن العقد مطلقا ، سواء أكان صحيحا أم فاسدا ، لا أثر له ، لأنّ وجوده بالنسبة إلى العقد كالعدم ، إذ الالتزام بالوفاء بمضمون العقد غير مربوط بشي‌ء ، وكذلك تعهّده بالنقل والانتقال غير منوط بشي‌ء ، فيجب عليه الوفاء بتعهّده وعقده ، ويكون عقده مشمولا لأوفوا بالعقود.

وأمّا إن قلنا بأنّ الشرط المتقدّم يؤثّر أثره ، خصوصا إذا وقع العقد مبنيّا عليه ،

__________________

(١) « السرائر » ج ٢ ، ص ٤٨٨.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ١٤٢.

٢١٧

فيكون العقد فاسدا وباطلا ، لأنّه بناء على هذا يكون الشرط الخارج عن العقد مثل الداخل فيه في الآثار والأحكام ، فبناء على القول بالإفساد لا محالة يكون مفسدا ، لما قلنا من أنّ الشرط الخارج على هذا المبنى مثل الداخل ، ويجري فيه ما يجري في الداخل.

وأمّا إنّ أيّ واحد من المبنيين صحيح ، فالحقّ أنّ الشرط في خارج العقد لا أثر له كما عليه المشهور. وقد حقّقنا هذا الأمر في بعض شرائط صحّة الشروط الصحيحة في قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » في الجزء الثالث من هذا الكتاب وهو الشرط الثامن ، وهو عبارة عن التزام المشروط عليه بذلك الشرط في متن العقد.

وخلاصة ما ذكرنا هناك في وجه هذا الشرط هو أنّه بعد الفراغ عن أنّ الشروط الابتدائيّة ليس واجبة الوفاء ، فالشروط التي لم تذكر في متن العقد إن لم يقع العقد مبنيّا عليها ، فلا وجه لتوهّم وجوب ترتيب الأثر عليها ، لأنّها تكون من قبيل الشروط الابتدائيّة المحضة.

وأمّا إن وقع العقد مبنيّا عليها بدون أن تذكر في متن العقد ـ التي اصطلحوا على تسميتها بشروط التباني ـ ففي وجوب الوفاء بها ـ كالشروط المذكورة في ضمن العقد ، أو عدمه كالتي لم تذكر ولم يقع العقد مبنيّا عليها ـ فيه خلاف.

والقائلون بوجوب الوفاء بتلك الشروط ذكروا وجوها ذكرناها هناك مع ردّها ، وإن شئت فراجع.

والنتيجة أنّ شروط التباني لا يجب الوفاء بها ، فضلا عمّا ذكر في خارج العقد ولم يقع العقد مبنيّا عليها.

وممّا ذكرنا ظهر لك حال نسيان الشرط حال العقد ، بعد أن كان بناء الطرفين على ذكره ، وهو على كلّ حال حاله حال سائر شروط التباني ولا أثر له ، لأنّ العقد وقع بلا قيد ولا شرط ، وصرف نيّتهما بدون الإنشاء لا أثر لها.

٢١٨

وقد ذكرنا في هذا الكتاب ـ في قاعدة « العقود تابعة للقصود » ـ (١) أنّ وجوب الوفاء يحتاج إلى أمرين : الإنشاء باللفظ ، مع القصد ، وإنّ القصد بلا إنشاء أو الإنشاء بلا قصد لا أثر له ، فلا بدّ من اجتماع كلا الأمرين ، ففي صورة النسيان لا لفظ قطعا ، كما هو المفروض ، وقد لا يكون القصد أيضا ، كما إذا كان غافلا حال العقد عن أصل الشرط.

وقد فرّق شيخنا الأعظم قدس‌سره (٢) بين هذه الصورة فقال فيها بالصحّة لما ذكرنا من وقوع العقد مجرّدا عن كلّ قيد وشرط ، وبين الصورة التي لم يكن غافلا من أصل الشرط ، وإنّما غفل عن ذكره في محلّه ، فقال في هذه الصورة بأنّه كتارك ذكر الشرط عمدا ، تعويلا على تواطئهما.

ولكن أنت خبير بأنّ الشرط غير المذكور لا أثر له أصلا ، سواء أكان مغفولا بالمرّة ، أو كان ملتفتا إليه حال العقد ، غاية الأمر نسي ذكره في محلّه.

الأمر الثالث : لو كان فساد الشرط لأجل عدم تعلّق غرض عقلائي معتدّ به بذلك الشرط ، فقالوا بأنّ مثل هذا الشرط الفاسد لا يفسد به العقد ، وإن قيل بالإفساد في سائر أقسام الشروط الفاسدة ، فقد حكى على العلاّمة قدس‌سره (٣) التصريح بصحّة العقد ولغويّة الشرط.

وعمدة الوجه في نظرهم : أنّ مثل هذا الشرط لا يعتنى به عند العقلاء ، ويرون وجوده كالعدم ، فليس قابلا لأن يقيّد به العقد ، ويكون كالكلام اللغو والمهمل الذي يصدر عنه في أثناء العقد ، ولذلك ذكروا في باب السلم لغويّة بعض الشروط غير العقلائيّة ، وعدم لزوم ترتيب أثر عليها.

__________________

(١) راجع : ج ٣ ، ص ١٣٥.

(٢) « كتاب المكاسب » ص ٢٩٠.

(٣) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص ٢٧٧ ، حكى على العلاّمة.

٢١٩

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو قلنا بأنّ الشرط الفاسد يفسد العقد ، فجملة من الأدلّة التي استدلّوا بها يشمل المقام ، خصوصا مسألة الرضا بمضمون العقد ، فلا ريب في أنّ رضا المشروط له بمضمون هذا العقد مقيّد بوجود هذا الشرط ، وذلك لاختلاف الأنظار ، فربما يكون أمر عند نوع العقلاء لغوا ولا يعتنون به ولا يبذلون بإزائه المال ، بل إذا كان في ملكهم وأتلفه الغير لا يرونه ضامنا لعدم الاعتناء به ، ولكن مع ذلك كلّه هناك شخص يهتمّ به كلّ الاهتمام ، ويعتني به كلّ الاعتناء لغرض من الأغراض ، وإن كان ذلك الغرض غير عقلائي لا يعتني به نوع العقلاء.

الأمر الرابع : في الموارد التي خرجت عن تحت الكلّية التي اخترناها ، وهي أنّ كلّ شرط فاسد لا يوجب فساده فساد العقد :

فمنها : ما إذا كان الشرط مجهولا وسرى جهالته إلى أحد العوضين ، فالمعاملة فاسدة ، وإن قلنا بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد ، وذلك من جهة أنّه من شرائط صحّة المعاوضة أن يكون العوضان معلومين ، وجهالتهما أو أحدهما موجب لبطلان المعاملة ، لنهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر (١).

ومنها : أن يشترط البائع على المشتري أن يبيعه عليه بعد اشترائه ، فهذا البيع فاسد ، حتّى عند القائلين بأنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد.

وذكروا لذلك وجوها ذكرناها مفصّلا مع أجوبتها في الشرط السابع من شروط صحّة الشروط في الجزء الثالث من هذا الكتاب في مقام شرح « قاعدة المؤمنون عند شروطهم » (٢).

__________________

(١) « عيون أخبار الرضا » ج ٢ ، ص ٤٥ ، باب (٣١) فيما جاء عن الرضا عليه‌السلام من الأخبار المجموعة ، ح ١٦٨ ، « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٢٤٨ ، باب المتاجر ، ح ١٧ ، « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ٢٥٤ ، ح ٣٣٧٦ ، باب في بيع الغرر ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٣٠ ، أبواب آداب التجارة ، باب ٤٠ ، ح ٣ ، « صحيح مسلم » ج ٣ ، ص ١١٥٣ ، ح ١٥١٣ ، كتاب البيوع ، ح ٤ ، باب (٢) بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر ، « سنن الترمذي » ج ٣ ، ص ٥٣٢ ، ح ١٢٣٠ ، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر.

(٢) راجع : ج ٣ ، ص ٢٨١.

٢٢٠